البلاغة السامية في تحليل القرآن

فئة :  مقالات

البلاغة السامية في تحليل القرآن

البلاغة السامية في تحليل القرآن

يرى ميشيل كويبرس أن الاستشراق الغربي في مجال الدراسات القرآنية، منذ ظهور الدراسة الشهيرة لتيودور نولديكيه عام 1860م بعنوان "تأريخ القرآن" قد هيمن عليه منهج النقد التاريخي على البحث في هذا المجال، مما يعني تفكيك النص القرآني إلى وحدات صغيرة على افتراض اختلافها في التاريخ. وقد أقدم المنهج التاريخي على إدخال تغييرات على الترتيب المعروف للقرآن عبر نقل آيات أو أجزاء من آيات من مواضعها كي يصير النص منطقيا بدرجة أكبر. لقد رأى أصحاب تلك المدرسة النص القرآني على شكل تركيبة من مقتطفات قيلت في أوقات مختلفة من حياة النبي ثم جمعت بعد ذلك بطريقة اعتباطية على يد جماعة من الكتاب في خلافة عثمان ولذلك "فإن شغل مدرسة النقد التاريخي الشاغل هو إبراز شذوذ النص وعدم تناسقه والتركيبات العشوائية التي يحتوي عليها... إلخ؛ وذلك من أجل تحديد المقتطفات المختلفة التي يتألف منها ووضعها في ترتيب تاريخي وإعادة بنائها في شكل منطقي ومقنع من وجهة نظر تاريخية."[1]

هذا الموقف الذي أبداه ميشيل كويبرس من مدرسة النقد التاريخي في فهم القرآن يفيد بأنه لا يتفق مع الاتجاه الذي شغل نفسه لوقت طويل بسؤال الترتيب التاريخي للقرآن الكريم، في مجال الدراسات القرآنية في الغرب. وقد نحا منحى آخر، مفاده التعاطي مع بنية النص القرآني كبنية متكاملة، فعلى القارئ أو الدارس أن يهتم بقراءتها في بعدها الداخلي بدرجة أولى مع مراعاة واستحضار جانب النظم في القرآن الكريم، من جهة البعد البلاغي في ترابط مختلف المواضيع والقضايا التي عبر عنها، بشكل فريد. فإذا كان مدرسة النقد التاريخي ترى في القرآن بكونه فقرات مبعثرة وغير متناسقة، فما يبدأ في بداية سورة من السور لا ينتهي الحديث عنه، وينتقل الحديث لموضوع آخر، وقد ينتهي في مكان آخر من نفس السورة، وما يبدأ في آخر سورة معينة، قد تجد له استمرارية في السورة الموالية، أو في مكان آخر من القرآن، وقد تجد له صلة وطيدة بمكان آخر في سورة أخرى، فالقرآن مواضيعه متفرقة ومتعددة ومتداخلة فيما بينها... فمن البديهي أن يتساءل أي قارئ للقرآن عن غياب السرد الخطي المتتابع في الحديث عن قضية ما، أو موضوع من الموضوعات؟ لماذا يتصف القرآن بطبيعة متداخلة في عرضه لمختلف المواضيع التي تطرق إليها؟ هل هي مسألة تتعلق بعفوية حدثت عند جمع القرآن؟ أم هي مسألة بلاغية ومعرفية تميز بها القرآن؟ والحقيقة أن البحث في موضوع الترتيب التاريخي للقرآن الكريم، مسألة معروفة في الثقافة الإسلامية في مجال علوم القرآن، إن نظرنا لعلم أسباب النزول، وهي الحوادث أو الأسئلة التي نزلت الآيات القرآنية تبيّن حكمها أو توضحها، وعندما نتحدث عن الحوادث فإنها جرت وحدثت في زمن معين، ففيها ما هو سابق وما هو تابع، فعلم أسباب النزول يلامس البعد التاريخي من حيث نزول القرآن، طبعا ليس بالشكل والمغزى الكامن من وراء ذوي نزعة النقد التاريخي في الدراسات القرآنية في الغرب، مع العلم ما قدمه مدرسة النقد التاريخي التي اعتنت بترتيب القرآن تاريخيًّا، قد استقته وأخذه من مختلف أمهات الكتب في علوم القرآن في الثقافة الاسلامية وغيرها. وأكبر ثغرة توجه لذوي النزعة التي اعتنت بترتيب القرآن تاريخيًّا، هي أنهم لم يلتفتوا لداخل القرآن ونظمه وفحوى رسالته الداخلية. فكل ما قاموا به يدور في دائرة ما هو خارج عن نص القرآن. فضلا عن أنهم يميلون إلى فكرة مفادها، أن القرآن تم جمعه وترتيبه بشكل عشوائي، ولذا ينبغي إعادة ترتيبه تاريخيا.

صحيح بأن القراءة التاريخية لتاريخ القرآن والسعي نحو ترتيب تاريخي لسوره وآياته، مسألة في غاية الأهمية لكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب فهم دواخل القرآن، وهذا ما تنبه إليه ميشيل كويبرس الذي اعتنى بموضوع بلاغة القرآن ونظمه، ومسألة النظم هذه في القرآن ليست بالجديدة، فقد سبق إليها مفكري الإسلام مع الجاحظ، وأبو بكر الباقلاني الذي يرى أن إعجاز القرآن يكمن في نظمه الفريد الذي لا مثيل له في كلام العرب، وهو ما يجعله خارجًا عن المألوف في أساليبه. عبد القاهر الجرجاني، حيث يرى أن النظم هو أساس الإعجاز، وهو عبارة عن علاقة الكلمات المفردة ببعضها البعض في الجمل، وعلاقة الجمل ببعضها البعض في السور، مما يؤدي إلى تماسك النص وانسجامه وتكامله. ورغم أن ميشيل كويبرس يعترف لهؤلاء بفضل السبق في طرق موضوع نظم القرآن، فإنه يرى أن محاولاتهم بقيت في مجال الفكرة دون التطبيق الكلي على القرآن، فعملهم بقي منحصرا في وحدات نصية أو آيات معدودة.[2] والحقيقة أن موضوع نظرية النظم شائعة ومعروفة في الثقافة الإسلامية، لكن ليست هناك تفاسير عملت على تطبيق كلي وشامل لنظرية النظم كما هي عند الجرجاني، صاحب كتاب "دلائل الاعجاز في القرآن" في فهم القرآن من خلال بنيته الداخلية، دون التوسل بمختلف الروايات والأثر. مع الأسف تم التعاطي فيما هو عام مع نظرية النظم في القرآن وكتاب "دلائل الاعجاز في القرآن" بشكل ينحصر في مجال الحديث عن الإعجاز في القرآن، دون تطوير هذا المنهج الى عمل تطبيقي في قراءة وفهم القرآن من داخله. وهي مسألة ساهمت في اتساع مجال القراءة والتفاسير الذرية والتجزيئية للقرآن الكريم.

الجديد بالنسبة إلـى ميشيل كويبرس يتجسد في نظرته إلى موضوع البلاغة ما بين البلاغة اليونانية والبلاغة السامية و"لأحل اكتشاف نظم الخطاب القرآني، لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار - قبل كل شيء - حقيقة انتمائه إلى الثقافة السامية وتبنيه لأساليب التفكير والتعبير فيها. مما يقتضي تغيير المشهد بالتخلي تماما عن نظرة البلاغة الكلاسيكية اليونانية التي توارثناها جميعا بما في ذلك العرب. في هذه النظرة، يتبع ترتيب أجزاء الخطاب نظاما منطقيا خطيا، وهي: الاستهلال السرد، البرهنة الحجاج، الخاتمة. يمكننا أن نتعرف من خلالها على ما درسناه بالمدرسة: نص مُصاغ بطريقة جيدة ينبغي أن يبدأ بمقدمة، يليها عرض متواصل للموضوع ليخلص إلى خاتمة. أما النصوص السامية القديمة، فلا تسير على هذا المنوال. لذا كثيرا ما تحيرنا وتجعل فهمها عسيرا، فهي لا تخضع لعاداتنا الذهنية مبدؤها الأساس هو بالفعل ليس الخطية التدريجية ولكنه "التناظر". وهو تناظر يمكن أن يأخذ أشكالاً مختلفة، ويخضع لقواعد محددة، يمكن للمؤلّف أو المحرر من خلالها أن يتصرف بحرية لبناء نصه بحسب ذوقه وطبقا لنواياه. فلا يتعلق الأمر بأشكال ثابتة ومعدة مسبقا على طريقة الشعر الكلاسيكي اليوناني أو اللاتيني أو العربي أو الفارسي أو غيره، ولكنها جملة من طرائق الكتابة أو «صور النظم» تقدم إمكانات نظمية متعددة قابلة تماما للتقعيد."[3]

البلاغة اليونانية غايتها هي البرهان، بينما البلاغة السامية غايتها البيان، فالقرآن يصف نفسه بالبيان في أكثر من موضع قال تعالى: "هذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ"(آل عمران/138) لا يتوقف ميشيل كويبرس عند التنظير لموضوع البلاغة السامية، وطبعة اختلافها مع البلاغة اليونانية؛ إذ شغل نفسه بما هو تطبيقي وما هو يتصل بالجانب الآليات والقواعد التي تعود للبلاغة السامية؛ إذ نجده في كتبه قدم قراءات تطبيقية لكثير من سور القرآن الكريم، على رأسها سورة المائدة التي خصص لها كتابا "في نظم سورة المائدة؛ نظم آي القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي" فمن الواضح أن الغاية الكبرى الي يسعى من أجلها ميشيل كويبرس هي التحليل بدرجة أولى وليس ما هو تاريخي.

يبقى السؤال هنا ما هي ملامح البلاغة السامية؟ "البلاغة السامية، تتأسس كلية على مبدأ التناظر، مما يعطى النظم شكلا هندسيا أو فضائيًا أكثر منه خطياً. يمكن التناظر أن يأخذ ثلاثة أشكال أو ثلاث صور من النظم: النظم المتوازي، عندما تكون العناصر ذات الصلة معروضة بالترتيب نفسه: مثلاً ا ب ا ب. النظم المعكوس، عندما تكون العناصر ذات الصلة مقدمة بطريقة عكسية: أب / ب. النظم المحوري، عندما يتوسط عنصر محوري طرقي التوازي (أ ب ج / x / ا ب ج) أو طرقي البنية المعكوسة (أ ب ج / × / ج ب).

تتواجد صور النظم الثلاث هذه على مستويات نصية مختلفة: فعلى المستوى الأدنى يمكن أن يتألف الفرع من مفصلين أو ثلاثة (بالتطابق في الغالب مع الوحدات الدلالية) بحسب صورة النظم؛ على المستوى الأعلى منه مباشرة، يتألف القسم بدوره من أفرع؛ وهكذا دواليك بشأن المستويات التالية التي تسمى على الترتيب: جزء، مقطع، سلسلة، شعبة، وأخيرا كامل الكتاب، أخذين بعين الاعتبار إمكانية وجود أجزاء فرعية، وسلاسل فرعية، وشعب فرعية، وأن نصا طويلاً كسورة المائدة (الخامسة في ترتيب المصحف) يمكن أن يحتوي إلى غاية عشرة مستويات نصية!. أما مؤشرات التناظر قد تكون مجرد التكرار، أو الترادف، أو التضاد، أو التماثل الصوتي، أو الجناس التام أو الجناس الناقص)، أو التجانس الإملائي (ففي الكتابة العربية البدائية، الخالية من التنقيط، نجد أشكالا متطابقة لحروف مختلفة النطق، كما يمكن أن يكون التطابق بين الأشكال النحوية: كفعلي أمر مثلا، أو جملتين بالبنية النحوية نفسها. عندما تتحقق معظم عناصر التناظر، يكون لدينا تناظر تام، ولكن في أغلب الأحيان تتحقق فقط بعض العناصر، فيتعلق الأمر بتناظر جزئي."[4]

مسألة التناظر هذه حاضرة في القرآن بشكل لافت، مثلا في سورة الفجر هي كالتالي:

أ/ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ

ب/ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَمَهُ

ج/ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ

أ/ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ

ب/ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ

ج/ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن

القارئ لمؤلفات ميشيل كويبرس سيقف عند جانب مهم يراعي البعد التحليلي الداخلي لسور القرآن الكريم، لكن بالرغم أنه يعترف للقرآن بمستوى إحكامه الفريد لسوره وآياته، فهناك مسألة منهجية تتعلق بموضوع التناص في علاقة القرآن بما سبقه من الكتاب، فالقرآن ينظر إلى هذه المسألة من زاوية منهج التصديق والهيمنة الذي قال به في سورة المائدة، وهي السورة التي درسها كويبرس، ويحق لنا القول إن كويبرس يعترف للقرآن بخاصية التصديق من زاوية التناص؛ فالقرآن يشترك مع ما سبقه من الكتاب أي الكتاب المقدس [التوراة والإنجيل] في كثير من الموضوعات، لكن يغفل خاصية الهيمنة التي تجعل من القرآن نصا يعيد بناء تلك النصوص وينفي عليها حالة من التنافي الداخلي في ما بينها، قال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة/48)، وهي مسألة منهجية تقتضي مقارنة البنى النصية كل واحدة على حدى في نظرتها الى مختلف الموضوعات التي تشترك فيها، فالصورة الأكثر إحكاما والأكثر إنسانية وانفتاحا على العالم أولى بالأخذ بها. فمسألة التناص ينبغي ألا تنسينا الصورة التي رسمها القرآن لموسى، مقابل الصورة التي عنه في العهد القديم، والصورة التي ليوسف في العهد القديم، مقابل الصورة التي منحه إياها القرآن وكذلك الأمر مع عيسى وهكذا، والمسألة هنا لا تتعلق بالتخلي عن تصورات الكتب التي سبقت القرآن، بل بغاية معرفة ما هي الآفاق الإنسانية والكونية التي فتحها القرآن في قراءته لتجارب وإرث الأنبياء وغيرهم. فضلا على الخدمة التي قدمها القرآن لتلك الكتب التي سبقته؛ إذ ساهم في تثبيتها وإعطائها استمرارية في الزمن والحد من تفككها وتناثرها، الذي كانت غليه قبل ظهور القرآن.

[1] في نظم سورة المائدة، ميشيل كويبرس، ترجمة عمرو عبد العاطي صالح، دار المشرق، بيروت، ط.1، 2016م، ص.21

[2] نفسه، ص. 12

[3] في نظم القرآن، ميشيل كويبرس، ترجمة عدنان المقراني وطارق منزو، دار المشرق، بيروت، ط.1، 2017م ص. ص.5-6

[4] في نظم القرآن، ميشيل كويبرس، ترجمة عدنان المقراني وطارق منزو، دار المشرق، بيروت، ط.1، 2017م ص. 18


مقالات ذات صلة

المزيد