كتاب: الله والإنسان في القرآن


فئة :  قراءات في كتب

كتاب: الله والإنسان في القرآن

تختلف أهداف الباحثين والدارسين والمهتمين في اليابان بحقل الثقافة الإسلامية عن أهداف الدراسات الاستشراقية، إذ تميزت عن غيرها بالموضوعية وبدراسة وفهم الثقافة الإسلامية بمعزل عن الخلفية الإيديولوجية أو الاستعمارية أو ما شابه ذلك. وعليه، فكتاب الله والإنسان في القرآن لليابانيتوشيهيكو إيزوتسو يتميز بنوع فريد من الموضوعية في نظرته وتحليله للقرآن. الكتاب في أصله باللغة الإنجليزية، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها المؤلف بجامعة مكجيل بمونتريال في كندا ما بين ( 1962و1963) تم نشره سنة 1964 عن معهد كيو للدراسات الثقافية، وقدم له المفكر الباكستاني فضل الرحمن، وقد كان يدرس في الجامعة نفسها، ترجمه إلى العربية محمد الجهاد، ونشرته المنظمة العربية للترجمة، بيروت ط أولى 2007.

الهدف الأساسي الذي ألف الكاتب من أجله هذا الكتاب هو المساهمة في فهم أفضل لرسالة القرآن لدى عصره الأول، ولدينا نحن في الوقت الحاضر[1]؛ بمعنى أن هذا الكتاب يسعى لتجديد وتحديث فهم القرآن من خلال الكشف عن منظوره الدلالي للعالم، مع العلم أن إزوتسو يرى أن علم الدلالة، باعتباره ينكب على دراسة المعنى، يشكل فلسفة من نوع جديد تنبني على تصور جديد للكون وللوجود؛ فكل بنية لغوية أو نصية تحمل تصورا معينا للوجود والكون؛ فالقرآن كبنية نصية وحده يحمل تصورا خاصا به عن الوجود والكون والعالم، وهذا ما كرس إزوتسو كل جهده ليكشفه ويقف عنده[2]. فهو يرى أن علم دلالة القرآن بالضرورة أن يبحث بشكل رئيس في مسألة عالم الوجود ومكونات ذلك العالم من منظور القرآن، فيمكن لعلم دلالة القرآن أن يتحول إلى نوع من الأنطولوجيا التي تبحث في الوجود بشكل حي وحركي، بدل التفكير في الوجود بشكل ساكن كما هو الأمر مع بعض الفلاسفة، لكون دلالة القرآن تعكس حركية الوجود وديناميكيته، ولا شك بأن القرآن غني باصطلاحات ومدلولات تعكس الرؤية القرآنية للكون.[3]

لقد عمد إزوتسو إلى الوقوف عند ما سماه بالمفاهيم المفتاحية في النص القرآني، مثل: الله، إسلام، نبي، إيمان، كافر، ... بتحديد معناها في السياق القرآني، رغم أن هذه المهمة ليست بالسهلة، نظرا لطبيعة التداخل بين هذه المصطلحات مع غيرها في النسيج المكون للنص القرآني، إذ تستمد معناها من تلك العلاقات المترابطة؛ فكلمة "الله" كانت مستعملة من قبل ومتداولة في الشعر الجاهلي قبل نزول القرآن، ولكن طبيعة توظيف القرآن لهذه الكلمة، ولطبيعة العلاقة التي تشكلت بينها وبين الكثير من المصطلحات داخل النص القرآني، جعلها تأخذ معنى مخالفا لما كانت عليه من قبل؛ فالسياق العام الذي وظفت فيه هذه الكلمة داخل القرآن كمصطلح مفتاحي أساسي ومركزي داخل القرآن، والحقيقة أنّ كلمة "الله" هي أسمى كلمة صميميّة في المعجم اللغويّ للقرآن، مهيمنةً على الميدان كلّه. وما هذا سوى المظهر الدّلاليّ لما نعنيه عموماً بالقول إنّ عالَم القرآن مرتكزٌ أساساً على الله، وهذا ما صدم المشركين وأثر فيهم[4]، لكونهم أدركوا معنى غير مألوف لديهم، رغم أنهم كانوا يعرفون هذه الكلمة، والشيء نفسه مع الكثير من الكلمات والمصطلحات الأخرى، مثل: الملائكة، النبي، الجن...؛ فالكلمات هي نفسها ولكن المتغير هو طبيعة العلاقة التي تنحو منحى النظام المفهومي الكلي[5]، الذي يقتضي الوقوف عند شبكة المفهومات في القرآن؛ بمعنى أن القرآن يحمل هيكلا مفهوميا بمعنى كل موحد، وهو ما يسمى (الجشتالت).

يميز إزوتسو بين معنيين للكلمة الأول أساسي والثاني علاقي، بوصفهما اثنين من المفاهيم المنهجية والرئيسة لعلم الدلالة، المعنى الأساسي هو الذي تأخذه الكلمة معها، وهو محتواها المفهومي الخاص بها ككلمة كتاب مثلا،تعني الشيء نفسه حتى لو فصلناها على القرآن؛ فهي تحمل معها المعنى نفسه، في الوقت الذي يكون المعنى العلاقي شيئا إضافيا يتم إلحاقه بالمعنى الأساسي، وذلك باتخاذ الكلمة معنى خاصا في حقل خاص، في ارتباط بعلاقات متعددة الأشكال بكل الكلمات الأخرى في ذلك النظام[6]، ومن هنا يستمد المعنى العلاقي أهميته المنهجية بخلق حقول دلالية متعددة. ومن باب المثال، نجد كلمة يوم بمعناها الأساسي تعني اليوم أي ليل ونهار، ولكن في المنظومة الدلالية القرآنية، فهي تعني اليوم نفسه، كمعنى أساسي، ولكن لفهم المعنى العلاقي المتعلق باليوم الآخر بالضرورة الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الكلمات التي ينطبق عليها ما ينطبق على كلمة يوم، ككلمة الساعة والبعث...، يعني أن الموضوع يأخذنا إلى حقول دلالية أخرى؛ فلفهم دلالة الكلمات المفتاحية بالضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار هذه المراحل.

وبهذا فالقرآن عبارة عن حقول دلالية، ويقصد بالحقل الدلالي مجموعة من الصلات الدلالية ذات طابع نمطي بين كلمات محددة؛ فـحقول الدلالة التي شكلتها العلاقات المختلفة للكلمات فيما بينها، يمثل كل حقل دلالي منها مجالا مفهوميّا مستقِلا نسبيا مشابهاً تماماً في الطبيعة للمعجم اللغويّ. والاختلاف بين "المعجم" و"الحقل الدّلالي" اختلافٌ نسبي، ومن الناحية الجوهريّة، لا يمكن أن يكون هناك اختلاف البتّة فيما بينها، لأنّه في الأحوال كلّها، ليس "الحقْل الدّلالي" كُلاًّ أقلَّ تنظيماً من "المعجم اللغويّ "؛ لأنه كتلةٌ كاملة من كلماتٍ مرتّبة في نمط دال ممثّلٍ لمنظومة مفهوماتٍ مرتَّبة ومبنيّة وفقاً لمبدأ التنظيم المفهوميّ.[7]

إن الشعر الجاهلي شكل معجما لغويا قائما بذاته، وشكل إلى جانبه القرآن حقلا دلاليا، ومع أن الشعر سابق على القرآن، فإن تتبع الحقل الدلالي والمعجمي لهذا الأخير، سيساعدنا ويمكننا من أن نرى بالضبط كيف برزت الأفكار الجديدة، وكيف تحولت الأفكار القديمة في الجزيرة العربية في تلك المرحلة الحرجة الممتدة من الجاهلية المتأخرة إلى العصر الإسلامي الأول[8]، كما أن هذا العمل سيمكننا من فهم تصور القرآن ورؤيته للكثير من المواضيع بمعزل عن الشعر الجاهلي، وهذا سيحررنا من نظرة جمهور المفسرين الذين فسروا القرآن من خلال دلالة الشعر الجاهلي في أغلب الأحيان.

من خلال هذه الخطوات المنهجية يكون إزوتسو، قد قدم عملا غير مسبوق له، في التعاطي مع النص القرآني كحقل دلالي قائم بذاته، متوسلا في ذلك بالمنهج البنيوي، الذي يفترض دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة للبنية.


[1]- توشيهيكو إيزيتسو، الله و الإنسان في القرآن، ترجمة محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ط الأولى 2007. ص .27

[2]- نفسه، ص.31-32

[3]- نفسه.

[4]- نفسه، ص.34

[5]- نفسه، ص.42

[6]- نفسه، ص.45

[7]- نفسه. ص 55 وما بعدها

[8]- نفسه. ص 75