الجهاديون المغاربة: جدل المحلي والعالمي
فئة : قراءات في كتب
الجهاديون المغاربة: جدل المحلي والعالمي
عاش المغاربة صباح يوم الأربعاء 19 فبراير 2025 على وقع تفكيك خلية إرهابية مكونة من 12 متطرفا تتراوح أعمارهم ما بين 18 و40 سنة، أطلقوا على أنفسهم اسم "أسود الخلافة بالمغرب الأقصى" بعدما بايعوا داعش. وحسب المعطيات التي قدمها المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة للأمن الوطني كانت هذه الخلية على وشك تنفيذ أعمال إرهابية بالغة الخطورة، لولا تدخل المصالح الأمنية [1].
دفعنا هذا الحدث إلى الرجوع لهذا العمل المهم الذي حاول تتبع مسار بروز ظاهرة الجهاديين المغاربة ابتداء من سبعينيات القرن الماضي؛ فبعدما كان المغرب على الأقل إلى حدود الستينيات، يتميز عن باقي الدول "بإسلام تقليدي، طرقي المعالم" [2]، سيصبح في سنوات السبعينيات وما بعدها من الدول التي يهددها الإرهاب، مصدرًا للجهاديين. كيف حصل ذلك؟ هذا ما سنحاول معرفته من خلال هذا العمل.
افتتح الكاتب النقاش في مقدمة هذا العمل بالأحداث الإرهابية التي هزت المغرب في السادس عشر من شهر مايو 2003؛ ففي تلك الليلة انطلق 14 انتحاريا تتراوح أعمارهم ما بين 22 و31 سنة في الساعة التاسعة والنصف ليلا من هوامش المدينة يجمعهم العزم على تدشين مرحلة جديدة من تاريخ المغرب الدموي. مرحلة ستبقى راسخة في أذهان المغاربة، فلا أحد كان يتوقع ما حصل، الكل كان يعتقد أن المغرب في منأى عن ظاهرة الإرهاب نظرا لتميز نظامه السياسي باستقرار نسبي، حتى أظهرت هذه الأحداث الدموية العكس؛ فالإرهاب الذي كنا نسمع عنه في دول أخرى أصبح بيننا ويهددنا.
كانت هذه الأحداث إشارة على تحولات اجتماعية عميقة وتعبيرًا "انفجاريا" عن حالة الاحتجاج ضد الإقصاء الاجتماعي وحالات اليأس التي أصابت فئة من الشباب الذين لم يستفيدوا من تمار التنمية، ولعل ما يؤكد ذلك هو الخلفية الاجتماعية والاقتصادية لمنفذي هذه التفجيرات؛ فكلهم ينحدرون من الأحياء الفقيرة في الدار البيضاء، ولا سيما سيدي مومن [3]، وهي منطقة مهمشة جدًّا يعيش أغلب سكانها وضعا اجتماعيا واقتصاديا صعبا.
إلا أنه ورغم الأثر الذي خلفته أحداث 16 مايو 2003 على المغرب والمغاربة، إضافة إلى أحداث 2007 و2011، فإن الكاتب يرى أن هذه الأحداث ظلت محدودة جغرافيا وتأثيرا، ولعل هذا راجع إلى تمرس المخابرات المغربية في تفكيك العديد من الخلايا وإجهاض الكثير من المشاريع الإرهابية، فلم يستطع أي تنظيم إرهابي مسلح إلى حدود اليوم إيجاد قاعدة صلبة لانطلاق عملياته من داخل المغرب، على غرار ما حصل في دول عربية أخرى، مثل: الجزائر وتونس وليبيا.
بناء على هذا، يعرى صاحب العمل أن المشهد الإرهابي المغربي تؤسسه ظاهرة هجرة المقاتلين المغاربة نحو مناطق القتال في العالم الإسلامي، وهذا ما يؤكده التقرير الاستخباراتي الذي أعدته وكالة الاستشارات الأمنية والاستخباراتية سنة 2018، حيث أظهر أن المغرب من البلدان التي خرج منها عدد مهمّ من المتطوعين يقدر عددهم ب 1800 جهادي لتعزيز صفوف الجماعات الإرهابية في سوريا [4] وخاصة "داعش".
تأسيسا على ما سبق، تتجلى الإشكالية الرئيسة للكتاب في محاولة فهم سياقات ومبررات تحول المملكة المغربية مصدرًا للجهاديين، وفي نفس الوقت بقاؤها محصنة من تهديدات التنظيمات الجهادية! وتسعى أيضا (الإشكالية) لفهم وتفسير مبررات تحول بعض الأفراد نحو الفكر والممارسة الجهادية.
وقبل الشروع في حل لغز هذه الإشكالية، توقف مصباح عند بعض المقاربات النظرية التي اهتمت بالتطرف الديني والإرهاب؛ سميت إحدى هذه المقاربات بنظرية الحرمان الاقتصادي والاغتراب الثقافي، حيث ركزت على حالة الإحباط المزمنة في العالم الإسلامي نتيجة ظروف الفقر والحرمان والاغتراب الثقافي، ولذلك ترجع هذه المقاربة تمرد الإسلاميين إلى التفقير السوسيو-اقتصادي والاغتراب النفسي الذي يجد جذوره في فشل عملية التحديث، وكذا سيرورة التغريب القسري، لكن سرعان ما واجهت هذه المقاربة انتقادات عدة كونها أعطت أهمية كبيرة للجانب السوسيو-اقتصادي والجانب النفسي في تفسير ظاهرة التطرف الديني والإرهاب، لكنها أهملت الجوانب الأخرى؛ السياسية والثقافية والاجتماعية...
أشار مصباح إلى مقاربة أخرى يمثلها أوليفي روا، والتي ترجع بروز التيارات الأصولية الجديدة من خلال مقترب بنيوي يتجلى في العولمة، إلا أن هذه المقاربة أيضا واجهت انتقادات كثيرة كونها لم تعط أهمية للسياق المحلي...
عموما، إن هذا التنوع والاختلاف في المقاربات النظرية التي تفسر ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني، دفع صاحب الكتاب لاقتراح إطار تفسيري للصيرورة الجهادية المغربية تدمج ثلاثة عناصر؛ الأول: العنصر الدولي، ويشمل البيئة السياسية والدولية في علاقاتها بموضوع التطرف وعولمة الإرهاب. ومن جهة ثانية، البيئة السياسية الداخلية، وثالثا: التيارات الجهادية نفسها وقدرتها على الاشتغال ضمن بنية من الفرص ودور الأيديولوجيا كمحفز وإطار يضفي معنى على الفعل الجهادي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكاتب يركز على التيار السلفي الجهادي في المغرب، بينما لا يدخل ضمن نطاق هذا الكتاب موضوع التيار السلفي التقليدي الوهابي أو التيارات الإسلامية غير العنيفة التي تقبل المشاركة السياسية داخل المجتمع.
كان هذا ما تناوله محمد مصباح في مقدمة هذه الدراسة، لينتقل بعد ذلك إلى الفصل الأول، حيث تناول فيه الجذور التاريخية للسلفية الجهادية بالمنطقة العربية عامة، والمغرب خاصة، والتي أرجعها إلى سبعينيات القرن الماضي، معتمدًا في ذلك على آراء بعض الباحثين، الذين يرجعون ظهور تيارات العنف الديني لهزيمة يونيو 1967 وتراجع القومية العربية، حيث شكلت هذه الأحداث نكسة للعالم العربي بعد سقوط القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين في نظر المسلمين، في أيدي الإسرائيليين واحتلال غزة والضفة الغربية وصحراء سيناء.
إضافة إلى ذلك، كان لحدث الهجوم على الحرم المكي، سنة 1979، واغتيال الرئيس أنور السادات، سنة 1981، آثار أيضا في شد الانتباه إلى التيارات الراديكالية التي خرجت من رحم هذه الحركات الدينية وتطورها الذي تميز بمحاولة الخروج من الهامش في اتجاه المركز والعمل على الحضور في المجال العام بشكل أبرز [5]، وهو ما نجحت فيه بالكثير من الدول العربية، والمغرب لم يكن بمنأى عن هذه الدول.
تطرق مصباح إلى الصراعات السياسية التي عاشها المغرب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فقد كان الصراع على أشده بين الجناح اليساري من الحركة الوطنية الذي كان يسعى إلى الحد من صلاحيات المؤسسة الملكية، بينما كان جناحه الراديكالي يسعى للتخلص منها، هذا، إضافة إلى الغليان الاجتماعي الذي كان يعيشه المغرب، حيث كانت الأوضاع قابلة للانفجار في أي لحظة؛ وذلك لعدة أسباب: تنمية اقتصادية مهدورة، وتطور ديمغرافي هائل، وبيروقراطية فاسدة، ونظام تعليمي فاشل، وصعود اجتماعي معطل، وعجز عمومي، وبطالة وتضخم في ارتفاع، هذا الوضع المتأزم دفع بالعمال والموظفين والطلبة إلى خوض إضرابات كثيرة واجهتها الدولة بالعنف والاعتقال. في خضم هذا الوضع، سيعرف المغرب محاولتين انقلابيتين ضد الملكية سنتي 1971 و1972، كان وراءهما ضباط من الجيش، وبعدما تمت معاقبة المتورطين (اعتقالات، تصفيات...) وجد الحسن الثاني نفسه في مواجهة عدة أخطار: المعارضة اليسارية، الانقلابات العسكرية... ومن هنا كان الحسن الثاني بحاجة إلى دعم أيديولوجي لسياسته.
بناء على ذلك، عملت السلطات المغربية على تشجيع ضمني للتيار السلفي الوهابي، فقد ساعدت العلاقات الجيدة التي كانت تربط الرباط بالرياض في تصدير الوهابية للمغرب من خلال دعم شبكة واسعة من الجمعيات السلفية التي تنشط في مجال تحفيظ القرآن الكريم والدعوة السلفية [6]، وبطبيعة الحال لم تكن هذه السياسات تقصد تشجيع التطرف الديني، ولكنها أدت بشكل غير مقصود إلى توفير بيئة مناسبة لتصاعد التيارات الإسلامية بمختلف ألوانها [7]، بما في ذلك تيار السلفية الجهادية الذي ستظهر بوادره فيما بعد.
عنون الكاتب الفصل الثاني كالتالي: "من الوهابية إلى السلفية الجهادية"، حيث أكد وهذا مهم جدًّا، على عدم الخلط بين السلفية الوطنية التي ظهرت خلال بداية القرن العشرين، والسلفية الوهابية التي تصاعدت بعد السبعينيات من القرن الماضي؛ فالأولى تمتد جذورها ضمن الحركة الوطنية التي لعبت دورًا في مناهضة الهيمنة السياسية والثقافية الفرنسية، ودعت في الوقت نفسه إلى مناهضة الجمود الديني الذي تمثله الزوايا الصوفية المقلدة. والثانية استوردها النظام المغربي في سبعينيات القرن الماضي من العربية السعودية لمواجهة المد اليساري.
إذن، استفادت السلفية الوهابية من دعم معنوي من السلطات المغربية، ومن دعم مادي سخي من المملكة العربية السعودية. وقد مثل تقي الدين الهلالي الشخصية المركزية ضمن التيار السلفي الوهابي في المغرب؛ حيث نجح في تكوين قاعدة صلبة للتيار السلفي الوهابي بفضل كاريزميته ونشاطاته الدعوية الكثيفة [8].
بعد وفاة تقي الدين الهلالي، ظهر صراع على الزعامة بين أتباع التيار السلفي، نتج عنه انقسام وظهور عدة فعاليات سلفية أبرزها جمعية الدعوة للقرآن والسنة، التي أسسها محمد بن عبد الرحمان المغراوي، سنة 1976 [9]، حيث استفاد هذا الأخير من دعم الوهابية السعودية بشكل كبير [10].
عموما، ميز محمد مصباح بين تيارين داخل السلفية الوهابية في المغرب:
التيار الأول: موالٍ للسلطة وملتزم بمقولات ضرورة طاعة ولي الأمر، ومناهض للتيارات السلفية الأخرى، ويعدّ الشيخ ماء العينين أبرز نموذج لهذا التوجه الذي يطلق عليه إعلاميًّا: التيار المدخلي؛ نسبة إلى مؤسسه، ربيع المدخلي. والتيار الثاني: هو أيضا موال للسلطة، ولكنه يركز على العمل الدعوي انطلاقا من دور القرآن والحديث التي تعمل في إطار قانون الجمعيات، ويمثل الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي رمز هذا التيار.
أما بخصوص تيار السلفية الجهادية في المغرب، فولادته لم تكن حسب محمد مصباح، مجرد صدفة، بل هي مرتبطة أساسا بديناميات داخلية وخارجية معقدة. العنصر الرئيس مرتبط بالانقسام الذي حصل داخل التيار السلفي بعد سماح المملكة العربية السعودية للقوات الأمريكية بالدخول لأراضيها بعد اجتياح نظام صدام حسين للكويت، سنة 1992. أما بخصوص السياق الداخلي لنشأة التيار السلفي الجهادي في المغرب، فيرجعه صاحب العمل للتحولات العميقة التي عاشها المجتمع المغربي في المرحلة الأخيرة من حياة الملك الحسن الثاني، تحولات سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ديموغرافية وأمنية، أعطت الفرصة للتيار السلفي الجهادي للظهور، خاصة وأن تلك المرحلة عرفت رجوع المقاتلين المغاربة من بؤر التوتر في أفغانستان والشيشان والبوسنة، ومحاولة محاكاة تجارب مشابهة في دول إسلامية أخرى، مثل مصر والسعودية في فترة السبعينيات، إضافة إلى تأسيس الإمارة الإسلامية في أفغانستان منتصف التسعينيات التي شكلت نموذجا ملهما لعدد من الشباب السلفي.
عالج الكاتب في الفصل الثالث تطرف الهوامش، حيث أشار إلى أنه في منتصف التسعينيات، بدأت تتكون جماعات سلفية في هوامش المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وفاس وسلا، واضطلعت بوظيفة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وممارسة التعزير في المناطق الهامشية التي كانت تتميز بغياب الدولة أمنيا.
كانت تشتغل هذه الجماعات في إطار وداديات، حيث ظهرت في البداية بهوامش مدينة فاس خصوصا بحي عوينة الحجاج والنواحي المجاورة له، وقد أنشئت من طرف الساكنة المحلية وأغلبهم من المدرسين والموظفين البسطاء على شكل جمعيات للأحياء السكنية بهدف توفير بعض الخدمات داخل الحي [11]، وبعد ذلك تم إدماج بعض الملتحين ضمن الحراس في هذه الوداديات نظرًا للسمعة الطيبة ورباطة الجأش التي اكتسبها هؤلاء لدى الساكنة المحلية [12].
بدأت صيرورة ردكلة "الوداديات" نهاية التسعينيات؛ وذلك بعد دخول عناصر من التيار الجهادي المقرب من الشيخ محمد رفيقي أبو حفص [13]، حيث سيتم تأسيس مجموعات "للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كانت تمتلك خزانا تحفظ فيه الأسلحة البيضاء والعصي في مكان سري للقيام بوظيفتها التعزيزية [14]، خصوصا مواجهة مظاهر السرقة وبيع الخمور والمخدرات والدعارة [15]، وقاموا أيضا بممارسة التعزيز ضد الذكور والإناث الذين يمشون في الشارع سوية بدون وثائق تثبت علاقة زواج أو قرابة [16].
إذن، ونتيجة لذلك، بدأت تظهر في تلك المناطق تغيرات على مستوى السلوك واللباس الخارجي، حيث انتشرت في تلك الأحياء ظاهرة لباس القميص الأفغاني، والقلنسوات بين الشباب والأطفال، وحسب أحد السلفيين الذي كان ناشطا ضمن هذه المجموعات، فقد "انتشر تغيير المنكر عند الجميع بغير ضوابط"، وبدأت مع الوقت تظهر سلوكيات من قبيل إقامة الحدود على بعض شاربي الكحول، أو عاملات الجنس [17].
بالموازاة مع انتشار الوداديات السكنية "الراديكالية"، ظهر تيار أكثر راديكالية، وهو تيار الهجرة والتكفير، على يد الشيخ، ابن داود الخملي، الذي كان يشتغل بائعا للأعشاب المستعملة في الطب التقليدي في ضواحي مدينة الدار البيضاء قبل أن يتحول إلى أحد رموز تيار الهجرة والتكفير [18]. تجدر الإشارة إلى أن هذا التيار ظهر في البداية في مصر كرد فعل على إعدام سيد قطب سنة 1966، وحملة القمع الواسعة التي شملت حركة الإخوان المسلمين، حيث انشق عدد من أعضاء الجماعة وأسسوا تنظيم "جماعة المسلمين"، وعرفت على نطاق واسع باسم "جماعة التكفير والهجرة" [19].
أما في الحالة المغربية، فيرجع الكاتب بروز هذا التيار إلى عنصرين أساسيين: أولا: الحقد الطبقي، وثانيا: أيديولوجية التكفير. فسر ذلك بكون تيار الهجرة والتكفير في السياق المغربي هو تعبير عن حالة سخط على الأوضاع القائمة ورغبة في الانتقام من تهميش المجتمع، وهو أيضا تعبير عن حالة نفسية وذهنية معادية للمجتمع وحاقدة عليه طبقيا يتم تصريفها انطلاقا من مفاهيم مغلفة بالدين.
علاوة على تيار ابن داود الخملي، ظهرت تعبيرات تكفيرية أخرى في تلك الفترة، وكانت عبارة عن مجموعات صغيرة تشتغل بسرية ومنعزلة عن المجتمع العام، وهو توجه أسسه بشكل مستقل كل من ميلودي زكريا ويوسف فكري، اللذين يمكن اعتبارهما أبرز رموز التيار التكفيري؛ فكلاهما يعدّان نموذجين لسياسات الإقصاء والتهميش ودورها في إنتاج التطرف التكفيري "الحاقد" على المجتمع "طبقيا" [20].
عنون الكاتب الفصل الرابع على الشكل التالي: "من الهامش إلى المركز"، تطرق فيه للعلاقة بين تفجيرات 11 شتنبر 2001 التي ضربت أمريكا وبروز التيار الجهادي في المغرب، حيث أكد أن تلك التفجيرات بمنزلة شهادة الولادة الرسمية لهذا التيار بالمغرب. فخلال تلك الفترة، ارتفعت أسهم شيوخ التيار السلفي الجهادي نتيجة تعبيرهم الصريح عن أفكارهم المؤيدة للقاعدة ولأسامة بن لادن.
لقد أسهمت تفجيرات 11 شتنبر في إحداث تحول في طبيعة الخطاب الجهادي بالمغرب؛ فقد زودته بسجل نضالي سمح له بتأطير الناشطين المتطرفين. ومنذ تلك الفترة، ظهرت ملامح تغير في خطاب شيوخ التيار السلفي الجهادي في اتجاه التماهي مع الخطاب الجهادي العالمي، وتجلى ذلك في نوعية المواضيع وطبيعة تناولها، والتي تمحورت أساسا حول فقه الجهاد [21]. لكن بالرغم من أهمية الدور الذي لعبته أحداث 11 شتنبر في إعطاء دفعة للتيار الجهادي للبروز والنشاط بشكل كبير، إلا أن التحول الأكبر في مسار هذا التيار سيحصل سنة 2003 بعد تفجيرات الدار البيضاء.
تطرق الكاتب في الفصل الخامس الذي عنونه "بالجيل الثاني"، لمرحة ما بعد أحداث 16 مايو 2003، حيث سلط الضوء على الجيل الجديد من المتطوعين المغاربة في ساحات القتال في الخارج في الفترة ما بين 2003 و2011، لاسيما في الجزائر التي تربطها حدود مع المغرب، كما تعرض للتحولات التي عرفها الشرق الأوسط بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، ودورها في استقطاب الجهاديين المغاربة نحو بؤر التوتر التي صنعها التدخل الأمريكي.
أدى الغزو الأمريكي للعراق بالعديد من الشباب المتحمس لتلبية دعوة تنظيم القاعدة للالتحاق بساحات القتال في العراق. وقد بدأ تدفق المتطوعين المغاربة نحو العراق في مرحلة مبكرة من سنة 2003، عبر التحاق مجموعات من المتطوعين بالمقاومة العراقية المسلحة ضد الغزو الأمريكي [22]، حيث تشير بعض المؤشرات المتوفرة إلى أن المئات من الشباب سافروا فعلا، أو كانت لديهم الرغبة في الالتحاق بساحات القتال بالعراق، كما أفادت السلطات المغربية أيضا بأنها رصدت على الأقل خمسين شخصا انتقلوا إلى العراق منذ 2003 إلى حدود 2007، كما أنها أحبطت سفر خمسين آخرين خلال فترة أربعة أشهر بين نونبر 2006 وفبراير 2007. هذا، إضافة إلى أن الأجهزة الأمنية المغربية تمكنت، منذ 2003 إلى نهاية 2007، من تفكيك حوالي 30 شبكة لتجنيد مقاتلين مغاربة بهدف إرسالهم إلى العراق لمواجهة القوات الأمريكية وتنفيذ عمليات انتحارية [23].
تطرق الكاتب في الفصل السادس إلى الكيفية التي استطاعت من خلالها التيارات الجهادية التكيف مع أحداث الربيع العربي، حيث برزت عملية التكيف الأيديولوجي في مقاربات قدمها بعض قيادات القاعدة إضافة إلى سلوكيات الجهاديين في عدد من الدول العربية، بما فيها المغرب، لاسيما المشاركة في مسيرات واحتجاجات إما بشكل مستقل أو بالمشاركة مع الفعاليات الاجتماعية الأخرى، إضافة إلى مسارعة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وقيادات القاعدة المركزية وفروعها الإقليمية إلى الثناء على الثورات الشعبية واعتبارها نتيجة منطقية لوضعية الظلم التي عاشتها الشعوب العربية، وأنها تخدم الهدف نفسه الذي ناضلت من أجله التنظيمات الجهادية.
في الحالة المغربية، سيعرف نشاط التيار السلفي الجهادي تحولا في شهر مايو 2011 مع تأسيس اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين [24]؛ وذلك من خلال مشاركتها في احتجاجات حركة 20 فبراير، إلا أن حضورها اقتصر على طرح قضية المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب، حيث كان المطلب الأساسي للمشاركين في مسيرات الحركة يتجلى في أربع نقاط: إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين، وإسقاط قانون مكافحة الإرهاب، وإغلاق معتقل تمارة السري، وأخيرا محاسبة المسؤولين الأمنيين المتورطين في ادعاءات التعذيب [25].
وبعد الانتخابات ووصول حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية للحكومة، اعتقد الجميع بأنهم سيتوصلون لحل نهائي لهذا الملف، لكن الأمر كان أعقد من ذلك، خاصة بعد السفر المفاجئ لأنس الحلوي –الناطق الرسمي السابق باسم اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين- إلى سوريا [26] للقتال، إضافة إلى أكثر من 100 من السلفيين [27] الآخرين الذين سبق لهم أن سجنوا على خلفية الإرهاب.
عنون محمد مصباح الفصل السابع والأخير كالتالي: "الجيل الجديد من المقاتلين المغاربة في سوريا"، أكد فيه أن التحول من الحراك السلمي إلى العمل المسلح جذب المقاتلين المغاربة بوثيرة سريعة، حيث تم حصر العدد في حوالي 1500 مقاتل مغربي في سوريا بحدود سنة 2015.
أرجع الكاتب التحاق المقاتلين المغاربة بسوريا لثلاثة أسباب، وهي: أولا: الأيديولوجية المتطرفة والجذابة العابرة للحدود لداعش. ثانيا، يوفر داعش رواتب حوالي 400 دولار في الشهر وغيرها من الحوافز، مثل المنازل والسيارات، ويرتب الزواج للراغبين، وأحيانا عن طريق سبي النساء. أما السبب الثالث، فيرجعه الكاتب إلى أن الإنجازات العسكرية لداعش –ولاسيما الاستيلاء في صيف 2014 على مدينة الموصل ومساحات واسعة من الأراضي في العراق- أغرى الكثير من المقاتلين المغاربة وغيرهم من دول أخرى.
أما بخصوص العوامل التي دفعت بالعديد من المقاتلين المغاربة للهجرة إلى سوريا، فيرجعها محمد مصباح إلى خمسة عوامل مترابطة ذات طبيعة سياسية ولوجيستيكية وسوسيولوجية وأيديولوجية ونفسية.
سياسياً، يرى الكاتب أنه في حدود سنة 2013، عملت السلطات في المغرب على غض الطرف عن المغاربة المتوجهين نحو سوريا، وتعزى هذه السياسة بشكل واضح إلى رغبة السلطات في التخلص منهم، والعمل على تنفيس المشهد السلفي الجهادي المحلي. أما لوجيستيكياً، فإن السفر إلى سوريا يتميز بالسهولة والكلفة القليلة، حيث لا يتطلب الأمر سوى جواز سفر وتذكرة نحو تركيا والقليل من المال للدخول إلى سوريا.
وبخصوص الدافع الأيديولوجي وهو الأهم، فالحرب في سوريا أعطته روحا جديدة، حيث عمل الجهاديون على بناء سردية تعتمد على حجج دينية وغير دينية تتمحور حول ثلاث قضايا أساسية: مواجهة نظام بشار الأسد، وحماية الطائفة السنية في سوريا، وبناء الدولة الإسلامية. إضافة إلى ذلك، يرى الكاتب أن هناك اعتبارين آخرين يمكن إضافتهما لتفسير تطرف الجيل الجديد من الجهاديين المغاربة، وهما التهميش الاجتماعي والعامل النفسي.
بعد ذلك، أشار الكاتب إلى نقطة مهمة، وهي أن بعض المقاتلين المغاربة قرروا العودة إلى أرض الوطن، إلا أن السلطات المغربية عملت على إيداعهم السجن مباشرة بعد ولوجهم أرضية المطار، لهذا رفض العديد منهم الرجوع خشية الاعتقال. فمع الصعود المتزايد لداعش، بدأت السلطات المغربية تشعر بقلق متزايد من عودة المقاتلين المغاربة الموجودين في سوريا، هذا القلق الذي سيدفع المغرب سنة 2014 لإدخال تعديلات على قانون مكافحة الإرهاب لعام 2003. والمقترحة من قبل وزارة العدل والحريات. والتعديلات المنصوص عليها تتضمن عقوبات أكثر قوة من السابق، وتتضمن عقوبات سجنية تتراوح ما بين 5 و15 سنة وغرامات مالية تصل إلى 500 ألف درهم مغربي حوالي 45000 أورو لأي مغربي انضم أو يحاول الانضمام إلى أي نوع من التنظيمات المسلحة غير الحكومية، سواء داخل أو خارج المغرب.
خلص محمد مصباح في نهاية هذا العمل إلى أن التيار الجهادي في المغرب "يعيش حالة من الانكماش نسبيا في السنوات الأخيرة نتيجة الضربات الأمنية المتتالية وأيضا نتيجة التحولات الفكرية التي عاشها عدد من رموزه وأعضائه بعد تجربة السجن؛ فمن خلال المقاربة الأمنية الاستباقية نجحت السلطات الأمنية في تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية وإحباط عدد من الهجمات الإرهابية المحتملة، ولكن يبدو أنها لم تستطع تجفيف منابع التطرف، حيث لا تزال الظروف الموضوعية التي أنتجت ظاهرة التطرف هي نفسها، لاسيما التهميش الاقتصادي والاجتماعي وحالة الاختناق السياسي.
المراجع المعتمدة:
[1] حمادة، منتصر، الوهابية في المغرب، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب، 2012، ص: 22
[2] جريدة هسبريس: "المغرب ينجح في إحباط مخطط إرهابي بالغ الخطورة بتفكيك "خلية داعشية""، 19 فبراير 2025
تم الدخول بتاريخ 25 فبراير 2025
[3] Mouna, Khalid. Lahmidani, Marouan. Agudal, Jawad, Morocco: Country Report on National Approaches to Extremism, Published by the European Institute of the Mediterranean, December 2020, P: 4
[4] جريدة العمق المغربي: "تقرير استخباراتي يحذر من عودة المئات من الجهاديين إلى المغرب"، 2 فبراير، 2018
https://al3omk.com/267823.html
تم الدخول بتاريخ 25 فبراير 2025.
[5] مصباح، محمد، الجهاديون المغاربة: جدل المحلي والعالمي، مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى، الدوحة، قطر، 2021، ص: 16
[6] المرجع نفسه، ص: 20
[7] المرجع نفسه، ص: 20
[8] المرجع نفسه، ص: 49
[9] المرجع نفسه، ص: 49
[10] المرجع نفسه، ص: 49
[11] المرجع نفسه، ص: 70
[12] المرجع نفسه، ص ص: 70-71
[13] المرجع نفسه، ص: 71
[14] المرجع نفسه، ص: 72
[15] المرجع نفسه، ص: 71
[16] المرجع نفسه، ص: 72
[17] المرجع نفسه، ص: 72
[18] المرجع نفسه، ص: 74
[19] المرجع نفسه، ص: 75
[20] المرجع نفسه، ص: 82
[21] المرجع نفسه، ص: 89
[22] المرجع نفسه، ص: 127
[23] جريدة هسبريس: "الأمن المغربي يفكك 30 شبكة لتجنيد مقاتلين وإرسالهم للعراق"، 17 مايو 2008.
تم الدخول بتاريخ 26 فبراير 2025
[24] المرجع نفسه، ص: 147
[25] المرجع نفسه، ص: 149
[26] المرجع نفسه، ص: 157
[27]الموقع الإخباري اليوم 24، "بنكيران يبرر عدم اقترابه من ملف السلفيين بسبب القتال في سوريا"، 25 نونبر 2013
https://alyaoum24.com/168076.html
تم الدخول بتاريخ 16 فبراير 2025