أزمة الإسلام السني المعاصر


فئة :  مقالات

أزمة الإسلام السني المعاصر

أزمة الإسلام السني المعاصر

نعي جيدا صعوبة تقديم جواب كاف وشاف لسؤال "أزمة الإسلام السني" في وقتنا الراهن، ليس بالنظر لتعقد الموضوع واستحالة الخوض فيه من النواحي العلمية والإبستمولوجية، ولكن تحديدا باعتبار ضخامة المسألة وحاجتها إلى بحث معمق ومستفيض يدقق ويفصل في مختلف جوانبها وارتباطاتها المعرفية والعملية. ومع ذلك؛ فإن دور هاته المساهمة هو تقديم بعض عناصر الجواب التي بإمكانها أن تفتح مسالك أخرى للتفكير في الموضوع بعمق، بشكل يتجاوز التابوهات المعرفية والاجتماعية المصنوعة لوأد حرية التفكير والبحث.

لقد قُدم النموذج الإسلامي السني منذ "صدمة الحداثة" (أي منذ أواخر القرن التاسع عشر)، باعتباره دواء لكل داء. لم يجهد "السنيون" أنفسهم عناء تفكيك أسباب ومسببات تراجع المشروع السني، سواء في شكله السياسي أو الدعوي، أو بمعنى آخر أكثر تدقيقا، فقد تم التفنن في تقديم الأجوبة والوصفات الجاهزة دون الإبداع في طرح الأسئلة المزعجة؛ وذلك بالقدر الذي يعين على فهم عوامل الأزمة الحالية.

منذ زمن بعيد؛ تعددت التسميات المعبرة عن نموذج الإسلام السني، فمن أهل السنة مرورا بأهل السنة الجماعة وأهل الحديث والأثر، وصولا إلى السلفية بتعدد مظاهرها وتعبيراتها. ظل الهدف ثابتا، وهو إسقاط الماضي على الحاضر دون استحضار لتقلبات الأحوال الاجتماعية والثقافية والسياسية.

ما يعيشه الإسلام السني من أزمات ورجات ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج تراكمات تاريخية متوالية، لقد كانت الأزمة بالأمس في نطاق المسكوت عنه، ولكن التطورات والتحولات الجارية كشفت المستور. وإذا أردنا تفكيك عناصر تلك الأزمة، فهي: أزمة فكر ومعرفة، أزمة منهج، ثم أزمة مشروع. وفيما يلي سيتم عرض بعض مظاهر الأزمة المزعومة في هاته المساهمة.

العقل أم العقيدة؟ ... ما العمل؟!

في كتابه "نقد الفكر الديني"، يعالج صادق جلال العظم واحدة من أخطر الإشكاليات وأكثرها جرأة، وهي النزاع القائم بين الخطاب الديني والعلم، حيث ينطلق من فرضية الخلاف في التعاطي مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بين منهجية الدين الجامدة والميتافيزيقية، والمنهج العلمي المتسم بالتغير المستمر، يقول في هذا السياق: "... العلم لا يعترف بوجود نصوص لا تخضع للنقد الموضوعي والدراسة الجدية. ولأن من أبرز سمات النشاط العلمي فكرة الاكتشاف، إن الاكتشاف هو الذي يجعل من العلم نشاطا حركيا يتخطى دائما منجزاته السابقة. وفي اللحظة التي تضعف هذه الروح الحركية في العالم، ويبدأ منطق الاكتشاف في الانحراف، فمن اليقيني عندئذ أن العلم والمنهج العلمي قد بدءا يحتضران. أما الدين، فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية وينظر إلى الوراء ليستلم مهده، ولذلك كان يشكل دائما التبرير الميتافيزيقي والغيبي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، وكان دائما ولا يزال يشكل أحصن قلعة ضد الذين يبذلون الجهود لتغيير الأوضاع تغييرا ثوريا ... "[1].

حاول الشيوخ السنيون منذ زمن بعيد طمس معالم الصدام بين الخطاب الإسلامي والعلم؛ وذلك من خلال الزعم أن الحقائق العقلية لا تتناقض مع الدين في شيء، وإذا بدا أن هناك تناقضا فعلا، فيجب تعديل تلك الحقائق العلمية وتصويبها لتصبح متوافقة مع الدين. وقد جسد هذا التوجه الفقيه السني المحافظ "ابن تيمية" في كتابه "درء التعارض بين العقل والنقل".

وفق العقيدة الإسلامية السنية، فإن التطور الإنساني عرف أوجه وختامه مع العهود الأولى التي تلت نزول الرسالة على نبي الإسلام محمد؛ ففي كتاب صحيح البخاري نقرأ شيئا من هذا في الحديث الذي يقول: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، فانطلاقا من هذا الحديث المنسوب إلى الرسول محمد؛ أعلن السنيون المتشددون "نهاية التاريخ"، ومن تم الحكم على كل الأجيال الإنسانية بالسعي الدائم إلى إحياء أسطورة "القرون المفضلة".

لا يمكن لعاقل أن ينازع اليوم في التطورات والتحولات النوعية التي تعرفها البشرية بفضل الحقائق العلمية وجهود العقل الإنساني، ثم كذلك بفضل التأسيس لمفهوم القطيعة مع الأساطير والمبادئ الدينية المطلقة غير القادرة على مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية المتسمة بالنسبية، فمحاولة إحياء الماضي في الحاضر غير ممكنة بسبب تقدمية التاريخ وسيره إلى الأمام.

أما الاستمرار في إعاقة حركة التاريخ وترقيع الخطاب السني بإخفاء عيوبه الجوهرية وتناقضاته الأساسية مع المنظومة العلمية الحديثة، والقول إن ذلك الخلاف لا يمس روح الدين وأصوله الكبرى، فيعني أن الخطاب المذكور يسهم في إنضاج شروط سقوطه وموته الحتمي، وحتى إذا حصل ذلك سيدعي "الفكر السني العنيد" أن نهايته حصلت بإرادته فقط وليس بحكم التاريخ...!

لا خيار أمام الخطاب السني إن هو أراد الاستمرار إلا الانخراط في مسلسل التقدم الإنساني، وفي مقدمة ذلك إخضاع العقائد واليقينيات المطلقة لشروط إنتاج المعرفة العلمية الموضوعية، والتي تنطلق من فكرة التعامل مع جميع القضايا الإنسانية بوصفها "مشكلات" مما يقتضي إيجاد "حلول مؤقتة" لها، تلك الحلول التي تخضع لمعيار "القابلية للتكذيب" من أجل تمييز سليمها من سقيمها، فكل قناعة أو فكرة لا تقبل الدحض خرجت من إطار العلم ودخلت مجال اللاعلم[2].

بداية انهيار "صنم البخاري"

في العام 2017؛ أصدر الباحث المغربي رشيد أيلال كتابه "صحيح البخاري نهاية أسطورة"، ليثير كثير من الجدل في الأوساط السنية، سواء المتشددة منها أو تلك الموصوفة عادة بالاعتدال، فلم يكن عنوان الكتاب وحده من أثار حفيظة الإسلاميين السنيين، بل كذلك المواضيع التي ناقشها الباحث أيلال في مؤلفه، والتي نحت كلها منحى انتقاد "ثوابت" المذهب السني من قبيل: التشكيك في مؤلف كتاب صحيح البخاري، ونقد مناهج علم الحديث وتدوين الحديث[3].

جرى الترويج طيلة القرون الماضية لفكرة أن كتاب صحيح البخاري هو "أصح كتاب بعد كتاب الله"، ليتم إضفاء نوع من الهالة والقداسة المطلقة على المؤلف، تلك الفكرة تلقفها السنيون لينشروها وسط الجماهير السنية الكثيرة والمنتشرة في معظم الدول العربية والإسلامية، ليحققوا بذلك هدفا أساسيا هو تحصين التيار السني من "الشقاق" و"الانشقاق" المؤدي إلى تفككه وتشرذمه.

لعب الشيوخ دورا أساسيا في تحصين كتاب صحيح البخاري وحمايته من النقد؛ وذلك بالنظر لما يتضمنه من أحكام ومضامين تتلاقى وتتناغم مع توجهات "شيوخ السنة" وأتباعهم الكثر، فكانوا يلجؤون في أحيان كثيرة إلى الأساليب اللفظية العنيفة في مواجهة منتقدي البخاري، من قبيل التكفير والتفسيق. وكانت الدول والحكومات الإسلامية المعتنقة للمذهب السني تشاطر الشيوخ في ذلك، سواء عبر متابعة "خصوم البخاري" وملاحقتهم قضائيا تحت ذريعة "المس بالأمن الروحي"، أو من خلال منع أي نقاش فكري من شأنه إثارة موضوع نقد أحاديث السنة.

يبدو اليوم أنه من الصعب محاصرة النقاشات الجارية حول صحيح البخاري لعدة أسباب من بينها: تطور وسائل التواصل الاجتماعي وصعوبة الحد من النقاشات التي تطلقها وتنطلق منها، كذلك تطور العقل العربي والإسلامي ووعيه بحتمية تطوير أنماط تفكيره وتمثله للواقع المعيش، دون أن ننسى أيضا عقم التيار السني في استيعاب مختلف التحولات الجارية مما يفرض عليه التجديد في وسائل وآليات الاجتهاد.

بغض النظر عن بعض "المضامين الغريبة" لكتاب صحيح البخاري والمناهج المتحكمة فيه (أسوة بأقرانه من كتب السنة كصحيح مسلم مثلا)، والتي ليست موضوع هاته المساهمة، فإن ما يمكن التأكيد عليه هو أنه صار عسيرا إيقاف موجة نقد كتاب البخاري[4] الذي لا يعدو أن يكون اجتهادا بشريا يخضع لنفس ما تخضع له كل الاجتهادات الإنسانية من حيث المراجعة والنقد، وحتى القطيعة والتأسيس لاجتهادات أخرى تضع حدا نهائيا لأي "صنم فكري" يقبر مصير عدة أجيال إنسانية ويضيع فرص تقدمها وازدهارها.

تراجع الوهابية وهزيمة تنظيمات الجهاد العالمي

ارتبطت الوهابية تاريخيا بنشوء الدولة السعودية قبل قرنين من الزمن، فقد جرى اتفاق بين قبيلة "آل سعود" وعائلة "محمد ابن عبد الوهاب" من أجل تقاسم تدبير السلطة بالبلاد، حيث أنيطت بالطرف الأول تدبير السلطة السياسية، بينما منحت للطرف الثاني مهمة الإشراف على السلطة الدينية، وهو ما ضمن للوهابية منذ توقيع الاتفاق حضورا قويا ليس في داخل السعودية فقط، بل كذلك في أغلب دول العالم.

بفضل الأموال الطائلة التي تجنيها السعودية من عائدات البترول والسياحة الدينية (الأموال المتأتية من نفقات الحجاج والمعتمرين) تم الترويج بكثافة لمبادئ المنهج الوهابي منذ الربع الأخير من القرن الفارط، والذي تم تسويقه بداية تحت مسمى "السلفية" في الجزيرة العربية وشمال افريقيا، قبل أن يتمدد إلى مختلف الدول الأوروبية من جراء الدعم السعودي للصحوات الدعوية وتأسيس المعاهد الإسلامية بالدول الغربية.

شهدت العلاقة بين العقيدة الوهابية والمذهب السني كثير امن الوئام، فقد منحت الوهابية بفضل جاذبيتها ومفاهيمها الحماسية القوة اللازمة للمذهب السني، وهو ما عجزت عن تحقيقه مختلف التيارات الإسلامية المعاصرة مثل الصوفية والأشعرية...إلخ. تلك القوة التي جعلت أحد رواد الفكر العربي المعاصر[5] يشبه الثورة الوهابية بالثورة الفرنسية من حيث امتداداتها وتأثيرها الفكري والسياسي.

انخرطت الوهابية بقوة في الحرب الباردة التي دارت بين المعسكرين الغربي والشرقي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد كان الغزو السوفياتي لأفغانستان سببا كافيا لتحرك الهمة الجهادية للوهابيين، فقامت العربية السعودية بإنشاء وتمويل العديد من الجهاديين العرب والأفغان من أجل مواجهة زحف الاتحاد السوفياتي والإطاحة به بأفغانستان. وهو ما تحقق في النهاية، حيث انهزمت القوات الغازية وعادت أدراجها من جراء القوة والصمود الذي أبداه الوهابيون (يرفض الوهابيون أن يطلق عليهم هذا الاسم) في ساحة المعارك، مما أثار إعجاب الأمريكيين والغربيين الذين نوهوا ببطولات وشراسة المقاتلين المدعومين من طرف السعودية.

في 11 شتنبر /أيلول من العام 2001، تمكن الوهابيون من اختراق الأراضي الأمريكية وضرب رموز سيادة أحد أقوى الدول بالعالم المعاصر، فقد نفدوا أخطر وأبشع جريمة إرهابية في التاريخ المعاصر من خلال ضرب برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك بطائرتين مدنيتين كان على متنها العديد من الركاب، وهي الفاجعة التي أسالت الكثير من مداد النقد للحكومة الأمريكية وصانعي القرار، لتعلن أمريكا في النهاية إعلان محاربة المنظمات الوهابية المسلحة تحت مسمى "الحرب على الإرهاب".

منذ الإعلان الأمريكي عن الحرب على الإرهاب، نشأت عدة منظمات مسلحة تدين بالولاء الفكري للوهابية، الشيء الذي أشعر العربية السعودية بالخطر على أمنها ومصالحها، وحتى مكانتها وحضورها بالعالم العربي والإسلامي، باعتبارها "زعيمة المذهب السني"، لكل ذلك؛ انخرط الحكم السعودي في محاربة "أصدقائه سابقا" من الوهابيين المتشددين وتجفيف منابعهم والحد من قوتهم وانتشارهم، لا سيما في العراق وسوريا.

ابتداء من العام 2017، ستعرف تنظيمات الجهاد العالمي المصنفة ضمن التيار الوهابي (على رأسها تنظيم داعش والقاعدة) تراجعا كبيرا في مختلف المناطق التي كانت تهيمن عليها، فقد تراجعت جاذبية الجهاديين وقدرتهم على استقطاب المقاتلين من مختلف بقاع العالم، مما أجهض حلمهم الأكبر في إقامة "دولة الخلافة الكبرى".

أسهمت هاته التطورات في تسرب الإحباط إلى نفوس الشباب السني المتعطش إلى رؤية "الخلافة الإسلامية على منهج النبوة" كما يقع تسميتها في كتب التراث السني، وهو ما أعاد طرح عديد الأسئلة في الاوساط السنية الشعبية حول مدى قدرة الفكر السلفي الوهابي الذي يروج له الشيوخ على مواجهة الواقع الحالي؟!

في العام 2018، جاهر الأمير السعودي الشاب محمد بن سلمان برؤيته المستقبلية "للإصلاح الديني"، وهي رؤية تتجاوز الوهابية وترميها في "ردهات التاريخ"، معتبرا الترويج للوهابية خطأ تاريخي وقعت فيه الحكومات السعودية المتعاقبة، ومحملا في الوقت ذاته الولايات المتحدة الامريكية مسؤولية دفع السعودية إلى نشر العقيدة الوهابية خلال القرن الماضي من أجل التصدي لخصومها السوفيات، وداعيا أيضا إلى تدشين عهد سعودي جديد تكون فيه المملكة رائدة للأمة الإسلامية على المستويات الاقتصادية والسياسية والتنموية[6].

إن تصريحات الأمير الشاب التي حملت الكثير من الجدل في الداخل السعودي وخارجه، تستبطن في العمق مراجعة الاتفاق التاريخي بين عائلة آل سعود وعائلة محمد بن عبد الوهاب، وبالتالي إبعاد الأخيرة عن المشاركة في تدبير الشأن الديني والتقليص من نفوذها في البلاد، كما أن ذلك يعني أيضا تخلي السعودية عن نشر ودعم المذهب السني والسلفي بالعالم.

يبدو أن سقوط الأركان الأساسية لقوة الوهابية والمتمثلة في: دعم الحكم السعودي، وقوة المنظمات الجهادية المسلحة، سيعني أن الوهابية تخوض أحد أصعب معاركها منذ بزوغها قبل قرنين. إن الأمر يتعلق بمعركة الوجود والبقاء على قيد الحياة.

تعثر نماذج الإسلام السياسي

على خلاف التيارات السنية التقليدية التي تؤسس لمفهوم الدولة الإسلامية وفق النماذج التي سادت منذ عهد الرسول محمد وأصحابه وتابعيهم؛ فقد آمن دعاة الإسلام السياسي بالنماذج المعاصرة للحكم الديمقراطي، ودافعوا عن فكرة الوصول للسلطة بالوسائل السلمية التي تتيحها الديمقراطية، ومن تم انطلقوا من فكرة تأسيس الدولة الإسلامية من داخل المنظومة الديمقراطية الحديثة وليس خارجها.

جرى التسويق لهاته الأفكار منذ منتصف القرن الماضي، وكان حامل هاته الفكرة ومؤسسها تيار يدعى "الإخوان المسلمون" تأسس بمصر على يد زعيمه حسن البنا، قبل أن يتمدد نفوذه إلى مختلف الدول العربية.

سيعرف تيار "الإخوان المسلمون" ذروته وقوته خلال أحداث ما سمي إعلاميا ب "الربيع العربي"؛ فقد انخرط سنة 2011 بكثافة في التظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت من تونس لتمر عبر مصر وليبيا، ثم اليمن وسوريا. الشيء الذي أكسب الإخوان شعبية قوية وشرعية سياسية كبيرة سيتم استدعاؤها خلال الانتخابات التي جرت بتونس ومصر والمغرب.

تصدر حزب الحرية والعدالة بمصر الانتخابات البرلمانية، ومثلها الانتخابات الرئاسية التي أوصلت القيادي الإخواني محمد مرسي إلى منصب رئيس الدولة، الأمر ذاته حصل بتونس من خلال حركة النهضة، ثم حزب العدالة والتنمية بالمغرب الذي تصدر الانتخابات التشريعية والمحلية.

كان تاريخا مشهودا حقا أن تصل "أحزاب إخوانية" إلى السلطة بالوسائل السلمية، ولا سيما أن خصومهم الموصوفين عادة ب "الليبراليين" أو "العلمانيين" أو حتى "اليساريين" يتحفظون من نموذج الإسلام السياسي في الحكم، فقد حدث منذ الأيام القليلة التي تلت وصول "الإخوانيين" إلى الحكم شن حملة إعلامية ضدهم بذريعة أنهم سيستغلون الدولة لتحقيق طموحهم الأكبر، وهو تأسيس الخلافة الإسلامية ومحاربة كل مظاهر التعددية والمكتسبات الأخرى القليلة الموروثة من نماذج الأنظمة الاستبدادية التي كانت قبل اندلاع أحداث الربيع العربي.

حقيقة لم يتعاط حكام الإخوان مع تحذيرات خصومهم بذكاء ودهاء، فقد بدا منذ الوهلة الأولى أن هناك خلطا في طريقة تدبير أولئك الحكام الجدد بين مفهوم الدولة ومفهوم الجماعة، ولم يتم وعي التمفصلات القائمة بينهما، الأمر الذي تم استثماره من طرف خصومهم في تأليب الجماهير الشعبية ضدهم، حيث جرى "إسقاط" الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013 والحكم عليه فيما بعد بالإعدام سنة 2015، كما تمت "الإطاحة سياسيا" بحركة النهضة بتونس عام 2021، بينما تم "إجهاد" حزب العدالة والتنمية بالمغرب خلال عقد من الزمن تقريبا (2012-2021).

لقد كان واضحا أن الرهان على شعار "الإسلام هو الحل" الذي حمله تيار "الإخوان المسلمون" لن يكون له أي معنى؛ وذلك لأنه يفتقد إلى العمق النظري، وكذا إلى الآليات الإجرائية الكفيلة بتنزيله وضمان استدامته حتى بعد الوصول للسلطة، فالوصول للسلطة لا يعني بالضرورة ممارستها، وهو الدرس الذي لم يستوعبه "الإخوانيون".

هذا التعثر أو النكسة التي أصابت تيارات الإسلام السياسي، أسهمت بدورها في انكماش تلك التيارات وتراجع صيتها العالمي، وهي قد تعود في أي لحظة إلى التواجد القوي، لكنها على كل حال ليس ممكنا ان تعود بنفس صورتها السابقة، فلا بد أن تجري مراجعات نقدية وفكرية إن هي أرادت فعلا أن تسترجع شيئا من قوتها الدعوية والسياسية المفقودة.

أي سيناريوهات مستقبلية؟

كثيرة هي السيناريوهات المطروحة بخصوص مستقبل الإسلام السني بالبلدان العربية والإسلامية، ولعل أولها هو أن يتحول احتكار الإسلام السني من يد النخب والشيوخ إلى الجماهير الشعبية، وهو ما يعني الانتقال من السنة المعيارية إلى السنة الممارساتية. ثاني السيناريوهات أن يعود السنيون إلى التواجد بقوة في المشهد الإسلامي بسبب غياب منافس قوي لهم، وبسبب انتشار مظاهر الفساد والاستبداد وغياب الديمقراطية والعدل، ثم كذلك بالنظر لوجود من يحضن المشروع السني بشكل رسمي مثل تركيا وقطر وحكومة طالبان بأفغانستان. وآخر السيناريوهات يتجلى في إقامة "وحدة سنية" بين مختلف المذاهب في ظل مخاطر التمددين الليبرالي والشيعي بالبلاد الإسلامية، ولعل هذا السيناريو من الصعب حدوثه بسبب وجود "حواجز عقائدية" تعيق إمكانية رؤية مختلف المذاهب السنية في خندق واحد.

[1] صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ص: 23

[2] كارل بوبر، منطق الكشف العلمي، ترجمة: ماهر عبد القادر محمد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، يناير 1986، ص ص: 26-27

[3] تمت مصادرة كتاب صحيح البخاري نهاية أسطورة بحكم قضائي من المكاتب والمعارض الثقافية بذريعة "مسه بالأمن الروحي للمواطنين ومخالفة الثوابت الدينية المتفق عليها"، ينظر في هذا السياق الرابط الإلكتروني التالي:

بعد مصادرة كتابه “صحيح البخاري نهاية أسطورة”.. أيلال يرد عبر “الأيام 24 ”(alayam24.com)

تاريخ المشاهدة: 04/08/2023

[4] عرفت مصر كذلك عدة نقاشات حول سلامة كتاب صحيح البخاري ونقد المناهج المعتمدة في بلورة الأحاديث المنسوبة للنبي محمد.

[5] ينظر: حسن حنفي ومحمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1990، ص: 114

[6] للمزيد حول الموضوع، ينظر الرابط الإلكتروني التالي:

تصريحات بن سلمان تكشف فضيحة كبيرة عن مساعدة امريكا للوهابية (burathanews.com)

تاريخ المشاهدة: 04/08/2023