الدين في ميزان الجسم السياسي التّعاقدي من خلال كتاب "في العقد الاجتماعي"
فئة : مقالات
مدخل: من ميتافيزيقا الدين إلى الوظيفة العملية للدين
يعمل اللاهوت جاهدا على وضع الدين في خانة القداسة، والتي تستمد مشروعيتها من الإطار النظري للاعتقاد، وما يصحبه من وحي ومعجزة ونبوة... كقضايا لزومية للإيمان منطقيا في تجاهل تام لطبيعته العملية، التي من شأنها حل مجموع الإشكالات، والتي تنخر الجسم السياسي من صراع وعنف يتولد بالأساس من المنطلقات النظرية للدين. أرسى هذا الغياب (غياب البعد العملي في تصور الدين) دعائم نظرة مدرسية- تقليدية تجعل التأمل الفلسفي في الدين محكوما بالسّجال الجدلي الكلامي الذي يحتج لهذا القول أو ذاك، رغم ما يحمله من طبيعة ظنية. ومن ثم كان تجديد الخطاب الفلسفي في المسألة الدينية ومدخل الحداثة فيه مشروطا بالانزياح من الدلالة النظرية للدين إلى الدلالة العملية له. ولعل هذا الإنزياح هو ما يجد تعبيره في الفلسفة الحديثة الذي تكشف عنه المشاريع الكبرى لفلاسفتها أمثال اسبينوزا وكانط وروسو الذي يهمنا في هذا المقام، نظرا لما يتضمنه الدين عنده من حمولة عملية تتجذر في تثبيت دعائم الجسم السياسي التعاقدي.
يقتضي الكشف عن الرهان العملي للدين تتبع دلالته، لكونه لا يحضر في ذهن روسو بمعنى واحد؛ فهو محكوم بالإحالة الدائمة إلى طبيعة الإشكال والموضوع الذي يحمل عليه والغاية التي توجهه. فحديثه مثلا عن الدين في كتابه "إميل" هو غير حديثه في "دين الفطرة" أو "العقد الاجتماعي"، إذ يعالج في الأول إشكال التربية، بينما يحمل الثاني على إشكال التدين وإعادة تأسيس الاعتقاد على الفطرة. في حين أن بحثه للمسألة الدينية في "العقد الاجتماعي"، وهو القصد من هذا المقال تم بالإحالة إلى الجسم السياسي. وعليه، يكون الدين بمثابة محمول تتعدد معانيه ومضامينه بالنظر إلى الموضوعات التي يحمل عليها.
ليس الدين في فكر روسو غاية في ذاته أو موضوعا مستقلا، بقدر ما هو وسيلة لحل مجموعة من الإشكالات كالتربية والاعتقاد والوحدة السياسية. وهكذا، فإن كل قراءة للمسألة الدينية لن تكون ذات جدوى وأهمية إلا من خلال الإحالة للإشكالية التي تعالجها. من ثم يكون الجسم السياسي هو الأفق الذي ينتظم فيه الفهم الروسوي للدين. كيف لا؟ وغاية "روسو" فيه هي تأسيس العقد الاجتماعي بشكل يكفل الاجتماع الفاضل واستمراريته عبر تثبيت سلطة العقد والإرادة العامة التي تشكل جوهره. فكيف إذن يكون الدين المدني تثبيتا لمكتسبات الجسم السياسي ووحدته؟
إن بحث هذا الإشكال الذي يكون فيه الدين المدني تثبيتا للعقد الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا بالكشف عن الأسس التي تؤطر فهم روسو للدين المدني؛ الشيء الذي يقتضي منا توضيح طبيعة التناول الروسوي للمسألة الدينية، سواء من حيث الفهم الفلسفي لها أو من حيث الموضوع والإشكال والغاية، وهو ما حاولنا توضيحه في النقطة الأولى من هذا البحث، والمعنونة بـ "مقدمات لفهم الدين المدني عند روسو". أما السؤال عن طبيعة العلاقة الممكنة بين مفهوم الدين المدني والجسم السياسي، فلا يستقيم القول فيها إلا عبر بحث مختلف أشكال الدين التي ترتبط بالجسم السياسي كماهية له، وفحص طبيعة الاجتماع المترتب عن هذا الشكل الديني أو ذاك بين فساد الاجتماع وصلاحه، وهو ما تم تضمينه في السؤال عن "أشكال الدين المتعددة وطبيعة علاقتها بالجسم السياسي". أما الشق الأخير من هذا المقال، فخصصناه للدين المدني ووظيفته العملية في تثبيت مبادئ المجتمع التعاقدي عبر بحث طبيعته وخصائصه، وما يجب على صاحب السيادة فعله لضبط بنوده وضمان صلاح الاجتماع واستمراريته. أما ما يوحد هذه النقاط على تعددها، فهي وحدة الإشكال التي تجد أصلها الفلسفي عند هوبز من خلال "التوحيد بين رأسي النسر"؛ أي بين السلطة الدينية والسلطة المدنية عبر رد الأولى للثانية بما تقتضيه الوحدة السياسية. فهذا المعطى الذي يفهم المسألة الدينية على ضوء متطلبات الجسم السياسي واستمراره هو الأفق العام الذي يشكل جوهر الفهم الروسوي للدين المدني كدين يضبط بنوده صاحب السيادة، حيث تكون غايته تثبيت العقد الاجتماعي وسلامة الجسم السياسي.
1. مقدمات لفهم الدين المدني عند روسو
إذا كان روسو يفهم الدين بالإحالة إلى الموضوع والإشكال الذي يحمل عليهما، فإن مثل هذا التحديد الأولي الذي لا يكون فيه الدين غاية ذاته (فهم النص المقدس)، بل مجرد وسيلة لحل الإشكالات المتعلقة بالموضوع الذي يقال عليه (التربية، الاعتقاد...)؛ معناه أن فهم الدين المدني من داخل "العقد الاجتماعي" يتطلب إدراك طبيعة الإشكال الذي يقرأ من خلاله، وعلى ضوء التحديد الإشكالي يتضح الموضوع والغاية منه. لذلك، فإن المقدمات النظرية لفهم الدين المدني تتوزع بين: الإشكال، والموضوع، والغاية. فكيف تعكس هذه المقدمات تصور روسو للدين المدني؟
- على مستوى الإشكال:
لم يعد الإشكال الأساسي للمسألة الدينية مع جون جاك روسو قائما في بحث قداسة النص الديني عبر تطبيق النقد التاريخي كما هو الحال مع "اسبينوزا"[1] في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة. فسؤال القداسة عند روسو سؤال مغيب، ولعل ذلك مرده إلى كونه لا يفهم الدين من حيث طبيعة الاعتقادات أو مصدرها، بل من حيث الوظيفة المجتمعية للدين. فليس الدين كما قلنا غاية في ذاته أو موضوعا قائما بذاته، فهو محمول على موضوعاته وإشكالاته. ولما كان الإشكال الأساسي الذي يشغل "روسو" هو تأسيس الاجتماع المدني على مقتضيات العقد الاجتماعي، فإن اهتمامه انصب بالأساس على بحث الأسس التي من شأنها الحفاظ على الجسم السياسي. ومن ثم، كان للدين وظيفة اجتماعية، فروسو يربط بين الدين والمجتمع ربطا وثيقا "فأما الدين، منظور إليه في نسبته إلى المجتمع، وهو الذي يكون عاما أو جزئيا"[2]؛ فالدين إذن آلية للحفاظ على الاجتماع بغض النظر عن طبيعة هذا الدين وقداسته. ولا تعني هذه الوظيفة الاجتماعية للدين أن روسو يتناول مفهوم الدين في علاقته بالدولة على ضوء السلطة، سواء في صورة الإشكال التقليدي الذي يجعل الدين دعامة الدولة، أو ذاك المتعلق بوجوب الفصل بين ما هو روحي وما هو سياسي، يقول: "ويذهب في اعتقادي أنه لو بلورنا الوقائع التاريخية من هذا المنظور، لدحضنا بيسر الظنون المتضادة بين بايل وواربورتن، فأحدهما يزعم أن ليس في الدين أي نفع للجسم السياسي؛ وخلافا لذلك يقول الآخر بأن المسيحية هي دعامته الأرسخ. ومن الجائز أن نقيم للأول الدليل على أن ما من دولة قد حدث أن تأسست يوما إلا واستخدم الدين كقاعدة لها؛ وأن نقيم للثاني الدليل على أن القانون المسيحي إنما، في الصميم، ضره أكثر من نفعه في تكوين الدولة تكوينا قويا."[3] فمن الواضح إذن أن روسو لا يهتم ببحث طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة من حيث وجوب التأسيس أو الترك. فمثل هذا البحث يسقطنا في دور منطقي. ومن ثم، فإن إشكال روسو لا يرتبط بهذه المعطيات، بل يرتبط أساسا ببحث نفع الدين للجسم السياسي والعقد الاجتماعي. لذا، يمكن صياغة الإشكال الروسوي فيما يتعلق بالدين على الشكل التالي: كيف يمكن للدين تحقيق نفع للجسم السياسي عبر تثبيت مبادئ العقد الاجتماعي، حيث يصير راعيا له وحافظا لاستمراره؟
- على مستوى الموضوع:
إنّ موضوع الدين في ذهن روسو لا يرتبط بالآراء النظرية أو الاعتقادات الميتافيزيقية أو السجالات اللاهوتية. فجميع هاته المعطيات ترتبط بالفرد، وما يدخل في دائرة الفرد يشكل حريته التي يجب ألا تمس بأية حجة، سواء كانت هذه الحجة هي الخلاص أو القداسة، فالفرد من حقه الاعتقاد فيما يراه مناسبا له. وعليه إذن؛ فإن روسو لا يبحث الدين على مستوى الاعتقاد الفردي، لأن الدين هنا يكون مجموع اعتقادات نظرية، بل هو يبحثه من حيث دلالته الاجتماعية والسياسية؛ ذلك أن الغاية القصوى للدين هي الحفاظ على الاجتماع التعاقدي القائم على الإرادة العامة، لذا كان "روسو" يفهم الدين بالإحالة للجسم السياسي الذي يسعى إلى تثبيته والحفاظ على وحدته واستمراره. [4] وعليه، فالموضوع الأساس للدين ليس هو مجال الاعتقاد، بل هو مجال الوظائف المجتمعية التي يمكن أن يلعبها الدين في صيانة الاجتماع التعاقدي، في صورة يكون فيها روسو أقرب للسوسيولوجي منه إلى الفيلسوف المنبهر بمتاهة الأسئلة الميتافزيقية. لذا، نجده يستند إلى الواقع الاجتماعي التعاقدي الذي يسعى إلى تثبيته دون الانشغال بسؤال القداسة. من ثم يماهي روسو بين الدين المدني والجسم السياسي الذي يكفل الحرية للجميع، حيث يتأطر الدين داخل مملكة الحرية. لكن شريطة ألا يهدد الدين نفسه هذه الحرية كاضطهاد الآخر بحجة أنه مختلف دينيا، أو أن الخلاص يحتم علينا تعذيبه من أجل خلاص نفسه الآثمة.
- على مستوى الغاية:
تكمن الغاية القصوى للدين في تصور روسو في الحفاظ على ثمرات الاجتماع المتحقق بفضل العقد الاجتماعي. وذلك لكونه اجتماعا يحفظ لجميع أفراده الحرية والمساواة، بل ويجعلهم مصدر السيادة وأساسها، فغاية روسو هي حفظ امتيازات الحياة التعاقدية، ولعل تحقق هذه الغاية رهين بأمرين:
أولا؛ لا يجب أن ننظر للدين من زاوية الاعتقاد أو القداسة؛ فتلك المسائل متروكة للفرد دون غيره، ولا يحق للجسم السياسي التدخل في ذلك، بل إن هذا الجسم يهتم بالأمور العلائقية بين الأفراد، وبين صاحب السيادة.
ثانيا؛ غاية الدين ليست غاية ميتافزيقية، بل إنها أساسا غاية اجتماعية-سياسية القصد منها الحفاظ على مجتمع التعاقد. لذا كان معيار الاهتمام بالدين الذي يدين به الفرد هو البحث فيما إذا كان هذا الدين يدفعه لأداء واجباته تجاه القانون وتحقيق الألفة الاجتماعية[5] داخل الجسم السياسي التي تضمن استمراريته.
إن سؤال الغاية يكشف عن نقطة مهمة في تصور الدين في ذهن روسو، وهي أن الدين وسيلة لتثبيت العقد الاجتماعي والحفاظ عليه، وهذا معناه أن الدين مسألة بعدية في تصوره للعقد، فهو لا يتحدث عنه كأساس قبلي أو كشرط من شروط العقد الاجتماعي، فهو معطى بعدي لكونه مطبوعا بتعدد الآراء والتصورات النظرية. لذا، فإن جعل الدين شرطا قبليا للاجتماع معناه انتفاء إمكانية تأسيس الجسم السياسي؛ لأنه يدخلنا في منطق الصراع والاعتقاد، وبذلك يعيدنا للإشكال الكلاسيكي لشكل العلاقة الممكنة بين الديني والسياسي. ولعل هذا الحضور البعدي للدين يعود بالأساس لكونه يشتغل كآلية للضبط، إذ يعمل على تضييق تصورنا للأشياء، ويجعلها مجرد أثر لصرح الاعتقاد المطلق الثابت. ومن ثم، فإن مثل هذا التأجيل تنصيص على الحرية الدينية التي قد تصير مهددة، إذا كان الدين شرطا من شروط العقد.
2. في أشكال الدين المتعددة وطبيعة علاقتها بالجسم السياسي
يقتضي سؤال الغاية الذي رسمه روسو كإطار لفهم المسألة الدينية في ضوء النفع الممكن للجسم السياسي عرض مجموع الأشكال والصور التي يحضر بها الدين داخل هذا الجسم، وامتحان إمكانية ملاءمته لطبيعة الجسم السياسي القائم على المرجعية التعاقدية؛ ذلك أن نظرته للدين محكومة بالاستعمال الاجتماعي له؛ لا بصور القداسة فيه. وعليه، فلنبحث في مختلف الأشكال الدينية التي يعرض لها روسو في علاقتها بالجسم السياسي موضحين في الآن نفسه طبيعة هذا الدين نفسه، وما إذا كان ملائما للمجتمع التعاقدي.
تكشف التجمعات البشرية على اختلاف طبيعتها عن حضور المعطى الديني، سواء كأساس ينبني عليه الاجتماع. كالتجمع القائم على الحكم التيولوجي، حيث يستمد سلطته من السماء أو النص، أو كآلية جوهرية للحفاظ على العلاقات بين الأفراد داخل الاجتماع، حيث يكون الدين أساس استمرار الجسم السياسي. وبعيدا عن طبيعة هذا الحضور، فإن روسو لا يجعل من الدين مفهوما عاما يصلح لجميع التجمعات البشرية؛ ذلك أنه يبحث عن نموذج محدد للدين يمكن أن يثبت العقد الاجتماعي ويحافظ على استمرار الاجتماع فيه، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا ببحث الأشكال التي تهدد وحدته واستمراريته.
يعرض روسو لثلاثة أشكال دينية تشكل خطرا على الجسم السياسي التعاقدي، ذلك أنها تقود لفساده، سواء من حيث النزاعات الدينية التي تفضي للتعصب، أو إخلال الفرد في القيام بواجبه تجاه القوانين النابعة من ذاته، أو تلك التي تضع الفرد أمام انفصام سلطة الولاء بين سلطة السماء وسلطة الأرض، ويمكن أن نجمل هذه الأشكال في النماذج التالية: دين الإنسان، ودين المواطن، ودين الكاهن.[6]
يتأسس الشكل الديني الأول في ماهيته على الطابع الأخلاقي؛ فهو في عمقه مجموع من المفاهيم الأخلاقية، التي تجعل من الدين مطبوعا بطابع البساطة، حيث لا تجعل من الطقوس والعبادات الشكلية الخارجية علامة القداسة. فالعبادة فيه ذات بعد باطني فردي يتجاوز الانتماءات الدينية، وهو ما يعرض له روسو بالقول: "فأما الأول، وهو الذي لا معابد له ولا مذابح ولا طقوس، والمقصور على عبادة الرب الأعلى عبادة باطنية خالصة، وعلى الواجبات الأخلاقية الخالدة، فإنما هو دين الإنجيل الطهور والبسيط، وهو التأليه الحق، أو ما يجوز نعته بالحق الإلهي الطبيعي."[7] فهل يصلح مثل هذا الشكل الديني، لتثبيت مجتمع التعاقد في تصور روسو؟
صحيح أن دين الإنسان في عمقه ذو طبيعة فلسفية تسمح بتأسيس التسامح بين جميع الأفراد، حيث لا يكون هذا الدين مشروطا بالانتماءات العقدية أو الطقوسية، ومعنى هذا أن إشكالات الهرطقة والتكفير والاضطهاد بحجة القداسة أو الخلاص لا يصبح لها أي اعتبار، ما دام هذا الدين لا ينبع من سلطة النص أو الطقوس. إنه يجعل من الاعتراف قاعدة له، فالجميع أبناء الرب دون استثناء، فـ "إن كانوا أبناء الرب الواحد عينه تيسر لهم جميعا أن يعترف بعضهم ببعض إخوانا؛ وهكذا لا تنحل رابطة المجتمع الذي يوحد بينهم ولو بعد الموت."[8] ومن ثم لا سبيل لتهميش الآخر بحجة الانتماء لهذا الدين أو ذاك. لكن روسو يرفض أن يكون استمرار الجسم السياسي التعاقدي مرتبطا بهذا الشكل الديني. لماذا؟
أولا؛ لأن هذا الشكل من الدين يعزل الفرد عن الجسم السياسي، فدين الإنسان لا يرتبط بالقضايا الجزئية ذات الطابع الدنيوي بالنظر إلى الإغراق التام في الروحانية. الشيء الذي لا يجعل من هذا الاجتماع ذا طبيعة بشرية "ومما يقوله لنا بعضهم إن شعبا من المسيحيين الحقيقيين يمكنه أن يؤلف أفضل مجتمع من الجائز لخيالنا أن يتصوره. وإني لا أرى لهذا الزعم من صعوبة جسيمة سوى واحدة: ألا وهي أن مجتمعا من المسيحيين الحقيقيين ليس على الأرجح مجتمعا من البشر"[9] إن دين الإنسان بهذا المعنى، من حيث هو مغرق في الروحانية يشكل تهديدا للجسم السياسي، ما دام يعزل اهتمام الفرد عن وجوده السياسي الذي تشكل إرادته الدافع لوجوده "ولكن إذ لم يكن لهذا الدين، البتة، من صلة خصوصية بالجسم السياسي... فإن رابطة كبرى من روابط المجتمع الجزئي تظل بلا نتيجة. زد على ذلك، فشتان ما بين هذا الدين، وبين ما يشد قلوب المواطنين إلى الدولة، فإنما هو يعزلها عنها كما يعزلها عن سائر شؤون الدنيا كلها. وما عرفت شيئا أكثر من هذا الدين منافاة للروح الاجتماعية."[10]
من الواضح أن روسو يعترض على هذا الدين كنموذج للجسم السياسي التعاقدي من زاوية وظائفه الاجتماعية، وليس من حيث طابعه الاعتقادي. ولعل جوهر هذا الاستنتاج كامن في الطابع الروحي الذي يعزل الفرد عن الجسم السياسي والقانون. فهذا الانفصال يهيئ أرضية ملائمة للاستبداد والطغيان نظرا للانشغال التام بالسماء دون الأرض "فالمسيحية لا تعظ إلا بعظة العبودية والتبعية. ولها روح ملائم للطغيان غاية الملاءمة، فلا يسعنا إلا أن نربح من جرائه دائما. لقد قيض للمسيحيين الحقيقيين أن يكونوا عبيدا."[11] فأن يكون المرء مغرقا في أمور السماء لهو أكبر تهديد للوجود السياسي التعاقدي، خصوصا إذا وجد شخص له من الدهاء ما يمكنه من استغلال سذاجة الأفراد المتدينين المنشغلين بخطاب السماء، فيفرض ما يخدم مصلحته دون مراعاة لهم، فهم منفصلون عن الجسم السياسي، ولا يراقبون صلاحه أو فساده. بالإضافة إلى أن الفرد في هذا النموذج، لا هو مفتخر بوطنه، ولا هو مدافع عنه إذا ما تعرض لعدوان خارجي، فكل ما يقع هو مشيئة إلهية؛ أي إن الفرد يقف هنا موقف المتفرج. [12] ومن ثم، فإن اعتماد هذا الشكل سيقود حتما إلى دمار الجسم السياسي التعاقدي؛ لأنه قائم على غياب رقابة الأفراد لصاحب السيادة، حيث يكون دوام الاجتماع محكوما بالحفاظ على حرية الأفراد وطاعة القوانين، وهو الأمر الغائب في دين الإنسان.
أما الشكل الثاني من الدين؛ وأقصد بذلك دين المواطن، فإنه على النقيض من دين الإنسان، فهو ذو طابع محلي لكونه محدودا بحدود البلاد التي يقطنها أهله، وهو بهذا المعنى يتعدد بتعدد الأوطان والبقاع، وما دام التعدد جوهره، فهو يستند على التنظيم الطقوسي كتعبير عن قداسته. ويعبر روسو عن مجموع هاته الخصائص التي تميزه بالقول: "وأما الثاني، فمستقر أمره في بلاد واحدة يهبها آلهتها وأولياءها حماة لها مخصوصين عليها. ولهذا الدين عقائده، وطقوسه وشعائره الدينية الظاهرة المسنونة بمقتضى القوانين: وهكذا، عدا الأمة الوحيدة التي تتبع هذا الدين، ما من أحد إلا ويعد في نظره كافرا وأجنبيا وهمجيا؛ وهو لا يشيع واجبات الإنسان وحقوقه إلى مدى أبعد من نطاق قرابينه المقدسة."[13]
إن المتأمل في هذا الشكل الديني، يجد فيه حلّا لنقائص دين الإنسان، فهو يعيد وصل العلاقة بين الفرد والجسم السياسي، حيث يصير الفرد مطيعا لقوانين الدولة. والأكثر من ذلك أنه يجعل من الفرد مدافعا عن وطنه واستمراره، على خلاف المتدين في الشكل الأول الذي لا يأبه به، فيكون بذلك الدين هو طاعة للقوانين. ومن ثم يكون هذا الشكل الديني صالحا للجسم السياسي "لجهة جمعه بين عبادة الله وحب القوانين: وإذ هو يجعل من الوطن معبود المواطنين، فإنه يعلمهم كيف أن من يخدم الدولة إنما يخدم ربها الذي يحميها"[14] إلا أن العيب الأساسي في مثل هذا الشكل، والذي يرفض بموجبه روسو أن يكون نموذجا للجسم السياسي التعاقدي، فهو طابع التعصب الكامن فيه، إذ إنه يقوم على نظرة إقصائية وتكفيرية للآخر المختلف عن أهل هاته البلاد، فيجعل من التكفير والتعذيب والقتل سبيلا له معتقدا في أن ما يقوم به له صبغة القداسة التي ينتصر بها لطقوسه ودينه ووطنه. إلا أن حقيقة هذا الدين هو أنه يهدد الاجتماع ويقود بشكل حتمي إلى فساده وزواله، لكونه يجعل أفراده في حالة حرب دائمة تهدد استقرارهم واستمرار وجودهم السياسي نظرا للطابع الطقوسي- الوثوقي للدين الذي يجعل الفرد آلة للقتل في سبيل إثبات القداسة المزعومة، الأمر الذي يؤبد حالة الصراع السياسي بين التجمعات المختلفة. وفيه يوضح روسو بالقول: "ومتى صار هذا الدين إقصائيا وطاغيا، ازداد طلاحه بأن يجعل شعبا من شعوب هذا الدين سفاحا ولا متسامحا، فلا هواء يتنفس إلا هواء الاغتيالات والمجازر ظنا منه، إنما يأتي عملا مقدسا بأن يقتل أيّا كان لا يعبد الآلهة التي هو يعبد. وإن لفي هذا الأمر ما يجعل شعبا كهذا الشعب في حالة حرب طبيعية مع جميع الشعوب الأخرى، وهي حالة ضارة ضررا بالغا بأمنه هو بالذات."[15]
أما الضرب الثالث من هذه الأديان؛ فهو دين الكاهن، وهو دين بين فساده من حيث صلته بالجسم السياسي والعلة في ذلك بينة؛ إذ إنه يضع الفرد في صراع مع صاحب السيادة داخل الاجتماع؛ ذلك أنه يجد نفسه أمام سلطتين اثنتين؛ الأولى روحية والثانية زمنية مطبوعة بالتناقض من حيث القوانين والواجبات. الشيء الذي يجعل الاجتماع مهددا نظرا للتنازع النظري في تأسيس مفهوم السيادة بين الإحالة للمرجعية التعاقدية (التي تنبع من إرادة الأفراد الحرة)، وبين المرجعية الدينية التي تستمد وهم هالتها من سلطة النص. إن الخطير في هذا النموذج هو أنه يهدم وحدة الجسم السياسي نتيجة التناقض الحاصل في ذهن الفرد بين السماء والأرض، وهو ما دفع بروسو إلى رفضه. "فأما ثالثها، ففساده بين بنفسه بيانا شديدا حتى ليكون من قبيل تبديد الوقت أن يتلهى المرء بالبرهنة عليه؛ ذلك أن ما يكسر الوحدة الإجتماعية جميعه لا يساوي شيئا؛ وهكذا هي المؤسسات التي تضع الإنسان موضع تناقض مع نفسه، فهي لا تساوي شيئا."[16]
نستشف إذن؛ أن الرفض الروسوي لتأسيس الجسم السياسي-التعاقدي على هاته الأشكال الدينية علته قائمة في الفساد الذي تلحقه بالاجتماع، سواء من حيث فصل الفرد عن الجسم السياسي الذي يتيح إمكانية الاستبداد في دين الإنسان، أو التهديد الناجم عن الحرب مع الآخر، باعتباره عدوّا بموجب الطقوس التي تجعل وجود الاجتماع في دين المواطن دائم التهديد، أو حتى داخل الجسم السياسي نفسه، حيث تتهدد الوحدة السياسية بموجب التناقض بين التشريعين الذي يوضع داخلهما الفرد في الدين الطقوسي. إن الشكل الذي يمكن أن يكون ضامنا للجسم السياسي التعاقدي هو الدين المدني الخالص.
3. الدين المدني كتثبيت للعقد الاجتماعي
لا يبحث روسو الدين وأشكاله المتعددة إلا من زاوية الغاية التي تتحدد أساسا في تثبيت مبادئ المجتمع التعاقدي. وعليه، فإن فساد الأشكال السالفة ورفض روسو لها لا يعني أنها فاقدة للقداسة؛ لأن قبول روسو أو رفضه لها رهين بما تحققه من إيجابيات للجسم السياسي، والأمر عينه يعني أن جعل الدين المدني الخالص أساسا لتثبيت الجسم السياسي التعاقدي، لا يعني أفضلية على مستوى القداسة أو اليقين، بقدر ما يعني أفضلية على مستوى النفع العملي للجسم السياسي.
إن فهم هذا الاعتبار الروسوي الذي يجعل من خلاله الدين المدني الخالص نموذج الجسم السياسي التعاقدي رهين بالنظر له من زاوية الجسم السياسي. فالدولة في ذهن روسو غير مكلفة بالرقابة على الاعتقادات النظرية الفردية للأفراد، أو بتصوراتهم الدينية، أو اختياراتهم المذهبية. فالدولة لا تهتم بالدين إلا من حيث مساهمته في المنفعة العمومية، وهكذا إذا كان صاحب السيادة لا حق له في مساءلة الأفراد عن اعتقاداتهم، لأنها نابعة من حريتهم، فإن كل اهتمامه ينصب لأن يكون الدين كيفما كان شكله الذي يعتنقه الفرد حافزا في أداء الواجبات وطاعة الأوامر، وهو ما يوضحه بالقول: "ليس هناك ما يلزم الرعايا بتقديم حساب عن آرائهم أمام صاحب السيادة، إلا بقدر ما لهذه الآراء من صلة بشأن الجماعة؛ بيد أنه من شأن الدولة أن يكون لكل مواطن دين يحبب إليه واجباته؛ ولكن عقائد هذا الدين ليست من شأن الدولة ولا من شأن أعضائها إلا بقدر ما لهذه العقائد من صلة بالأخلاق والواجبات التي ينبغي على معتنقها أن يؤديها تجاه غيره. عدا ذلك، يمكن لكل شخص أن يتخذ لنفسه من الآراء ما يروقه. عدا ذلك، يمكن لكل شخص أن يتخذ لنفسه من الآراء ما يروقه."[17]
من الواضح أن الدين المدني الخالص، يتأسس على حرية الأفراد في الاعتقاد بما يشاؤون، دون تضييق أو تدخل من صاحب السيادة، والذي تكمن وظيفته في حفظ مصالح الاجتماع "ذلك أن صاحب السيادة، وهو الذي لا كفاءة له البتة في الآخرة، كائنا ما كان مصير الرعايا في الدار الآخرة."[18] فهو بهذا المعنى، يولي كل اهتمامه لتدبير الجسم السّياسي وحفظ المنفعة العمومية. لكن هل يعني هذا أن الدين في استقلال تام عن الدولة أو صاحب السيادة؟
يجيب روسو عن ذلك بالنفي؛ إن اهتمام صاحب السيادة هو اهتمام من زاوية ما يحققه الدين من انسجام داخل الجسم السياسي وطاعة القوانين. وهكذا، فإذا تعارض الدين مع مبادئ الاجتماع، فإن صاحب السيادة، هو من يتدخل للحسم في أمره. على اعتبار أن "إعلان دين مدني خالص يعود لصاحب السيادة أن يضبط بنوده لا على جهة أنها، بالتدقيق، عقائد دينية، بل على أنها شعور بالألفة الاجتماعية."[19] وعليه، فإذا ما وجد دين في جوهره لا يتضمن قابلية الاجتماع عند معتنقه، فإن صاحب السيادة يجب عليه التدخل للحفاظ على وحدة الجسم السياسي وقابلية الاجتماع فيه. لذا، فإنه في "مستطاعه أن ينفي إلى خارج الدولة شخصا، كائنا من كان، لا يصدق بها: بإمكانه أن ينفيه لا على أنه كافر، وإنما على أنه غير قابل للاجتماع، وعاجز عن حب القوانين والعدل بإخلاص، وعن نذر حياته لواجبه، إذا دعا الداعي."[20] هذا ويجب على صاحب السيادة الذي يضبط بنود الدين المدني "أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة وقليلة العدد ومنطوقا بها بدقة، بلا تفاسير ولا شروح"[21]، حتى يكون بذلك تثبيت لمبادئ الجسم السياسي التعاقدي.
تعليق:
يشكل سؤال روسو عن الدين من داخل العقد الاجتماعي وعدا جديدا للإنسانية قوامه الحرية والقانون والإرادة، حيث تصير الحرية مطلقة عقائديا ومقيدة قانونيا، إذ يضبط صاحب السيادة عناصرها، حتى يؤدي الاعتقاد وظيفته الدينية التي تتمثل في تعزيز شعور المحبة والألفة داخل المجتمع التعاقدي. وبذلك يبصم روسو على ملامح ثورة فلسفية تنتقل فيها المسألة الدينية من مجال الميتافيزيقا واللاهوت إلى البعد العملي، الذي لا ننظر فيه لصحة الاعتقاد وقداسته بقدر ما نهتم بالأدوار والوظائف الاجتماعية التي يمكن أن يلعبها في تعزيز الجسم السياسي ومكاسبه.
يبدو من خلال هذا الانزياح، أن روسو يقترب من سوسيولوجيا الدين أكثر من حضوره كفيلسوف، فهو ينظر للدين انطلاقا من حضوره الواقعي على المستوى الاجتماعي، والذي يؤدي لفساده أو صلاحه. كيف لا والمدخل الأساس للدين مدخل سياسي (نظرية العقد الاجتماعي) يتغيا الحصول على النموذج الملائم للتعبد، حتى يصير الدين قيمة مضافة تبرز أصالة الجسم السياسي.
عند هذا الحد يبدو أن التصور الروسوي يحمل أصالته الفلسفية في تجديد سؤال الدين وانتشاله من الميتافيزيقا التقليدية، لكن السؤال الملح هنا هو مدى قدرة مثل هذا التصور على حلّ معضلات الحاضر، خصوصا تلك التي تتعلق بالاجتماع السياسي وشكل التعبد الديني المناسب له، والذي ينخر فكرنا العربي المعاصر تنظيرا وممارسة. فهل يسعفنا روسو بمفاهيم الجسم التعاقدي والدين المدني في ذلك؟
دين الفطرة؛ الدين المدني... كلها تلوينات فلسفية تسعى لتجاوز إشكالات دين الوحي- التقليدي على المستوى السياسي. إن التأمل في معمار "العقد الاجتماعي" لروسو ليجد أن الثابت فيه هو مفهوم العقد كأفق للخلاص من مشكلة فساد الاجتماع التي يعمل روسو على تجاوزها، حتى يستعيد الإنسان طبيعته، بينما يكون الدين تابعا أو متغيرا يلحقه. لذا، فإن تشريح الدين المدني يقتضي تصويب النقد نحو مفهوم الجسم السياسي التعاقدي. وفيه يمكن أن نحدد هذه الملامح من خلال العناصر التالية:
أولا؛ من الناحية النظرية لا يجعل روسو الدين شرطا مؤسسا للعقد الاجتماعي، بل مجرد قيمة مضافة تعزز مكتسباته السياسية، وهو قول فيه من الإشكالات الشيء الكثير. فالمجتمع الذي ينظر فيه روسو للدين المدني يبدأ من حالة الصفر. لذا، استبعد الدين فيه وكأنه معطى ثقافي. هذا في حين أن تركيبة المجتمع ليست واحدة تنطبق شروط العقد الاجتماعي عليها، فمنها ما يكون الدين فيها جوهر كل تعاقد ممكن (كما هو الحال في لبنان). من هذا المنطلق، يبدو التصور الروسوي يتناسب مع المجتمعات ذات التعددية الدينية والثقافية لا مع المجتمعات ذات التمثيلية الدينية الأحادية. وبذلك، لا يصبح الدين مجرد قيمة مضافة كما صوره روسو، بل هو الأساس الذي يقوم عليه التنظيم الاجتماعي، فالثورة الإيرانية مثلا، والتي أفضت لشروط جديدة للاجتماع السياسي كان الدين فيها عنصرا مؤسّسا له.
ثانيا؛ إن العقد الاجتماعي لا يمكن أن ينفصل عن الواقع الذي يشرطه. لذا، لا سبيل للحديث عن شروط ثابتة فيه، ومن ثم ليس هناك عقد اجتماعي، بل أشكال متعددة له تختلف باختلاف بنوده ووقائعه، وهو ما يقره روسو نفسه حينما يعرض لدين المواطن، إذ رغم مزاياه التي تربط الفرد بواجبه السياسي، إلا أنه دائم التهديد له نظرا لحالة الصراع مع باقي المجتمعات الأخرى. فلو كان العقد الاجتماعي إذن، يحمل شروط تحققه بالمبادئ نفسها، لاهتدت التنظيمات السياسية جميعها للدين المدني، وانتفى الصراع فيها.
ثالثا؛ المجتمع سابق من الناحية المنطقية على مفهوم العقد لغياب حالة الطبيعة تاريخيا. لذا، فإن صياغته تنهل من بنية الواقع التي يكون الدين عنصرا أساسيا فيه، هذا بالإضافة إلى أن الأطراف التي تبرمه لا يمكنها التزام الحياد نظرا لخلفياتها المتعددة.
إن ما يمكن أن نستفيده من درس روسو هو ضرورة انزياح تفكيرنا من دائرة الاعتقاد إلى سؤال العمل، حيث يكون فيه الدين موضوع تفكير سوسيولوجي- فلسفي نهتم فيه بوظائفه التي تعزز المشترك الإنساني. لكن الوصول لهذه الغاية لا يمكن أن يتم بنفس الوسائل التي نهجها روسو لعدم تناسبها مع الوضع التاريخي والسياسي العربي. إن ما نحتاجه في صياغة الصورة المدنية للدين هو تجديده من الداخل حتى يتناسب مع الاجتماع السياسي الحداثي؛ وذلك بقراءة علومه كالفقه والحديث والسيرة والتصوف... قراءة حداثية تتناسب مع الوضع التاريخي للإنسان العربي المعاصر، حتى إذا ما تحقق ذلك تشكلت المظاهر العامة للحداثة السياسية والدينية.
على سبيل الختم:
حاصل القول؛ إن المسألة الدينية في فكر روسو ليست مستقلة عن الموضوعات والإشكالات التي تحمل عليها، لذا كان قوله في الدين متفاوتا بحسب الغاية منه. ومن ثم، جعل روسو من الدين مسألة بعدية، حيث لا تدخل ضمن شروط العقد، بل ضمن الوسائل التي تكفل استمراره، وعليه يقتضي الفهم السليم للدين المدني عند روسو، النظر إليه لا من زاوية الاعتقاد أو القداسة، بل من زاوية النفع للجسم السياسي، أو ما يطلق عليه روسو بالألفة الاجتماعية، وهو من أجل ذلك يبحث في العلاقة الممكنة بين الجسم السياسي والأشكال المتعددة للدين في بحث عن النموذج الذي يؤدي لاستمرار المجتمع ذي الخلفية التعاقدية. فنجده يعرض لنماذج متعددة كدين الإنسان، ودين المواطن، ودين الكاهن. فيبين فساد الاستناد عليها، وكيف يؤدي وجودها داخل الجسم السياسي إلى فساده، ليستقر في النهاية على الدين المدني الخالص الذي تكون عقائده بسيطة وقليلة العدد، حيث يتأسس على الاختيار الحر للفرد دون رقابة على الآراء أو الاعتقادات، لكن شريطة أن يكون هذا الدين محفزا لاحترام القوانين والواجبات بين الأفراد داخل المجتمع، وأن يكون محققا لفكرة القابلية للاجتماع.
[1]- اهتم التراث الفلسفي الحديث ببحث قداسة النص الديني عبر تطبيق النقد التاريخي. ويبدو ذلك واضحا مع اسبينوزا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" ، حيث يجعل قداسة النص قداسة مؤجلة إلى أن يثبتها النقد التاريخي. وكانت الغاية من هذا البث الرجوع إلى النسخة الأولى للنص، إلا أن اسبينوزا تجاوز ذلك إلى بحث ونقد الأسس اللاهوتية التي تتأسس عليها الدولة؛ بمعنى أن نقده للنص الديني كان بمثابة هدم للقاعدة التي يتأسس عليها النظام التيوقراطي (العبراني) لذلك فليس غريبا أن نجد اسبينوزا في كتابه الرسالة يتناول المسائل السياسية بعد البث في قداسة النص.
[2]- جان جاك روسو. "في التعاقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي". فضاء الفن والثقافة. ترجمة وتقديم وتعليق: عبد العزيز لبيب. ص: 243
[3]- نفسه. ص ص: 242-243
[4]- لعل جعل الدين أساسا للوحدة السياسية يجد صداه عند هوبز، غير أنه تجدر الإشارة إلى اختلاف بسيط ففي الوقت الذي يجعل من الاعتقاد أمرا بيد السلطة، فإن الاعتقاد عند روسو من اختصاص الفرد. أما الدولة أو صاحب السيادة فهو يهتم فقط بالحرص على أن يكون الدين تحقيقا لمبادئ العقد الاجتماعي، حيث يضمن ألا يكون الدين عائقا أمام مجتمع التعاقد.
[5]- يجعل جون جاك روسو من الألفة الاجتماعية الغاية القصوى للدين. فحين يتم استبعاد شخص ما بموجب دينه، فإن هذا الاستبعاد لا يرتبط بما يعتقده، بل لكون دينه لا يحقق الألفة الاجتماعية. الأمر الذي يهدد التماسك داخل الجسم السياسي.
[6]- "فأما الدين، منظورا إليه في نسبته إلى المجتمع، وهو الذي يكون إما عاما أو جزئيا (خاصا)، فيجوز أيضا أن يتفرع إلى نوعين، ألا وهما: دين الإنسان ودين المواطن.... وهناك ضرب ثالث من الأديان أكثر غرابة... ويجوز ان ننعت هذه الديانة الأخيرة بديانة الكاهن". نفسه. ص ص: 243-244
[7]- نفسه. ص: 243
[8]- نفسه. ص: 245
[9]- نفسه
[10]- نفسه
[11]- نفسه. ص: 247
[12]- انظر المصدر نفسه. ص: 246-247. حينما يتحدث روسو عن وضع الفرد المسيحي المتسم بالكمال الروحي والمترفع عن كل ما هو دنيوي، سواء في استبداد الأشخاص بالحكم أو عدم الاكتراث بالعدوان الخارجي.
[13]- نفسه. ص: 243
[14]- نفسه. ص: 244
[15]- نفسه. ص ص: 244-245
[16]- نفسه. ص: 244
[17]- نفسه. ص ص: 248-249
[18]- نفسه. ص: 249
[19]- نفسه
[20]- نفسه
[21]- نفسه. ص: 250