الكبرياء الاستعمارية


فئة :  مقالات

الكبرياء الاستعمارية

+ + +

يرجّح أن "جون فيلبي" ضابط الاستخبارات في مكتب المستعمرات البريطاني، المعروف باسم "الحاج عبدالله فيلبي" ترك أكبر مدوّنة وصفية عن شبه الجزيرة العربية، وخصّ أهل الصحراء بمعظمها، لكنه توغّل في التاريخين القديم والحديث، وغاص في الجغرافية الطبيعية والبشرية، وبحث في الأنساب القبلية والدينية، وطاف في معظم أرجاء شبه الجزيرة، ومكث فيها عقودا عدة برعاية مباشرة من الملك عبد العزيز بن سعود الذي وجد فيه مستشارا داعما لتثبيت أركان مملكته، ولهذا اعتبر "أحسن مستكشف للعربية السعودية في الزمن المعاصر". ولم يبخل في النصح والإرشاد؛ بل العمل على جعل رغبة الملك أمرا واقعا، وعلى هذا فرحلاته تتواطأ مع الأحوال الإمبراطورية البريطانية قبل أفولها عن المسرح العالمي. وبمقدار ما كانت رحلاته بمجلّداتها الكبيرة عملية استكشاف مفصّل للبنيات القبلية والطبيعية، فقد كانت تقريرا ذا أهداف سياسية غايتها حصر المعرفة في إطار معرفة تخدم الإمبراطورية، لكنها لا تتعارض مع تطلّعات المملكة.

اعترف "فيلبي" بأن السير "بيرسي كوكس" المندوب السامي البريطاني في العراق هو الذي أمر بإرساله إلى شبه الجزيرة العربية لمعرفة الأحوال في "نَجْد" عشية اندلاع الثورة العربية خلال الحرب العالمية الأولى، ولتهدئة الصراع القبلي فيها ما يسهم في إنجاح الحملة البريطانية لتفكيك السلطنة العثمانية، وكثيرا ما تعرّفه المصادر بأنه مكتشف، وعميل مخابرات، أسهم في تقويض النفوذ العثماني، وقد اكتنف وجوده في الجزيرة العربية، مدة طويلة، حال من الغموض، إذ تداخلت أدواره كرحّالة ومكتشف بأدواره السياسية كونه أحد رجالات الإدارة الاستعمارية الإنجليزية، ومستشارا مقرّبا من الملك ابن سعود، ومصاهرا لعائلة من نجد، ومُسلما حرص على ممارسة الطقوس الدينية خلال وجوده بين العرب، وأدّى دورا كبيرا في إزاحة الأشراف من الحجاز، وتثبيت مُلك السعوديين فيها.

على أنه ينبغي القول بأن "فيلبي" ترك مسارد وصفية مسهبة عن أحوال عرب شبه الجزيرة لا يكاد يضارعه أحد فيها من الرحّالة، وقد أصاب "كونزاك ريكمان" في وصفه له بأنه "البدوي التربية، ووريث الثقافة الغربية الأكثر صفاء" لما تميّز به من حب للمغامرة في صحاري منقطعة، وجبال عصيّة، والحكم على العالم الذي يستكشفه بعين غربية. وطوال ثلاثين عاما من العيش في مجتمع الصحراء ظل "محافظا على القيم الخاصة بالأوروبيين التي تتميز بقوة الملاحظة، والإكثار من العمل المضبوط، والاهتمام العلمي".

اعتاد "فيلبي" أن يسمّي رحلاته في شبه جزيرة العرب بـ "الحَمْلات"، فهو يرتحل بكتيبة من الحرس والأدلاء والمساعدين والخدم والسائقين، ويتوغّل في مناطق نائية، فيُقابل بالاهتمام حيثما حلّ، وتُقدّم له الذبائح، ويبني معسكره إلى جوار القرى أو المدن، فيصبح موضع اهتمام الجميع، بما في ذلك أمراء المناطق. وقد رسم لنفسه صورة الغازي– المكتشف الذى يستعين بالقوة لتحقيق أغراضه، ويجهر بسلطته ضد المخالفين، ولا يتردّد في اللجوء إلى العقاب، وما كان قادرا على ذلك لولا الرعاية الملكية التي دشّنت له الطرق كافة، فحينما يؤدّي ظهور حملته في مناطق نائية إلى خلاف بين القبائل يهدّئ الأمور برويّة بوصفه وسيطا غايته جمع المتخاصمين، ولا يأتي على ذكر أن حضوره المسلّح قد تسبّب بذلك. على الرغم من أنه لا يلبث أن يتصرّف بوصفه عالما غامضا يهتم بالحجارة المهملة، والطيور، والنجوم، والكهوف، مما يثير سخرية ضمنية من طرف البدو الذين تعايشوا مع ذلك العالم إلى درجة أنه لا يثير اهتمامهم، ناهيك ذهولهم.

على أن التعجّب من تصرّفاته الغريبة التي لا يستحقّ أن يبذل لها المرء كل هذا الجهد، تصطدم بالهيبة المسلّحة للزائر الغريب، وهو يعيد تعريف الأشياء كما يحلو له، فلا قيمة لها قبل أن تندرج في مدوّناته، ويكثر من التبجّح في أنه أول من خطا في هذه البوادي، وصاحب أول عين أوروبية وقعت على هذه الجبال، ويعرض شعوبا وقبائل منذهلة به تحار عجبا من السيارة التي يركبها، والمصابيح، والقوارير التي يحتفظ بالحشرات فيها، وجهاز الراديو المصاحب له الذي "يتمسّك به كما يتمسّك ببؤبؤ عينيه"، فضلا عن الغليون الذي أدمنه في مجتمع ارتقى حظر التدخين فيه إلى مستوى التحريم، وذلك يثير عجب البدو، بل استنكارهم. وربما تصل حيرتهم مداها الأقصى، حينما ينكفئ على نفسه وحيدا، وهو يسجّل كل ما رأى وما سمع في يومياته، مسمّيا كشوفاته بأسماء سيدات إنجليزيات، فلكي يمضي لتحقيق أهدافه بين جماعات يراها بدائية، لابد من هيبة شخصية مدعمة بقوة مسلحة.

ومن التمحّل الانتقاص من جهود "فيلبي" الكشفية الكبيرة، والمناطق الشاسعة التي مخرها، والخرائط التي رسمها، والنقوش التي نقلها، والآثار التي وصفها، فضلا عن الحدود الدولية التي ثبّتها للدولة السعودية، فقد توفّرت له أسباب جعلته يمضي عقودا في كشوفاته في ظل ملك يريد معرفة الأرض التي بسط عليها مملكته، ولكن عجرفة شخصية لاحت في بعض من مواقفه، وانتقاصا أخلّ بالشرط الإنساني، واضطرابا في مزاجه أثار حفيظة العاملين معه، وهو ما أقرّ به في نهاية رحلاته، ففيما كان متّجها من نجران إلى حضرموت في رحلة خطرة، انزلق بها عن مسار رحلة كبيره قام بها لتثبيت الحدود مع اليمن، شغل باختيار جماعة من الأدلاء العارفين بالطرق الصحراوية والجبلية، قد ضمت حملته ثمانية من النجديين الذين كُلّفوا بحمايته الشخصية وتأمين سلامته، وفضلا عن ذلك، فقد ألحقَ به اثني عشر رجلا يوفّرون لحملته قوة مضافة، آخذا في اعتباره أنه سوف يستعين بأدلاء جُدد كلما تقدّم شاقا طريقه ناحية هدفه.

بعد انطلاقه بأيام، بدأت جماعات بدوية تتودّد إليه ليضمّها إلى حملته في اكتشاف تلك المناطق النائية، وتكشف طبيعة علاقته ببعض الرجال المرافقين له مجمل نظرته إلى أهل شبه الجزيرة خلال مدة وجوده فيها، فلطالما وضع نفسه في موضع المتبوع ووضعهم في منزلة التابع، فأسفاره كشفت عن نرجسية في تقويم أخلاق مرافقيه وسلوكهم وصفاتهم، وكل ما لا يتطابق مع معاييره غير المعلنة تلحق به كثيرا مواصفات السوء. من الصحيح أنه وضع نفسه في خدمة الملك، ورسم الحدود الجنوبية لمملكته، لكنه مع كل مظاهر السخط التي أبداها ضد الإدارة البريطانية، ظل موظفا استعماريا غير منقطع عن الأحلام الإمبراطورية يتقاضى راتبه منها حتى نهاية حياته، وقد شغله هاجس صنع مملكة جديدة في ظروف تاريخية صعبة خلال النصف الأول من القرن العشرين، فانهمك بوضع نفسه في المقام الاستعماري ذاته الذي كان للورنس في الأردن، ومس بيل في العراق. وفي النهاية، يريد كلٌّ منهم الادّعاء بأنه صانع ممالك مشرقية في ظل الحقبة الاستعمارية، وأظهرته رؤيته للعالم رجلا عارفا وسط جماعة جاهلة.

لا تغفل الكبرياء الاستعمارية التي جعلها "فيلبي" جزءا من سلوكه في الصحراء العربية؛ فقد كان ينتقي مواقف يستعرض فيها نفسه أمام جماعات من الأهالي الذين ترسخت سجاياهم بمرور الزمن، فعرفوا التواضع وليس الجبن، ومع أنهم حذرون من الغريب لكنهم مرحبون به، باعتباره موفدا ملكيا، وقد غاب عنه كثير من ذلك، وربما أساء تفسيره، فقد توهّم أن السلطة التي اكتسبها بمصاحبة الملك لا بد أن تمتد في الصحراء حيثما يكون، وحينما يقابل ببرود يشهر الدعم الملكي، وهو سلوك فيه من الالتواء بمقدار ما فيه من سوء النية.