المجتمعات التأثيمية


فئة :  مقالات

المجتمعات التأثيمية

المجتمعات التأثيمية*


أقصدُ بـ"المجتمعات التأثيمية" تلك المجتمعات التي يُؤثَّم أفرادها حينما يقدّمون تصورات مغايرة لما هي عليه في حياتهم الدنيوية، فكلُّ جديد بالنسبة لتلك المجتمعات هو نوع من الإثم غايته الانحراف بها عن الطريق القويم، لأنها أخذت بهويّة ثابتة، فلا تعترف بالتحوّل، ولا تقرّ بالتغيير، وقد لاذت بتفسير شبه مغلق للنصوص الدينية، وأمست بمرور الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيم الأخلاقية والروحيّة الكامنة في النصوص الدينية الأصلية.

والمجتمعات التأثيمية هي المجموعات البشرية الخاضعة لنسق من القيم الساكنة، أو شبه الساكنة، والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، وتتحكّم بها روابط عشائرية أو مذهبية، ولم تفلح بعدُ في صوغ تصورات شاملة ومرنة عن نفسها وعن الآخر، فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تراه تمسّكاً بالأصالة، وتعلّقاً بالهداية، وهي المجتمعات التي اعتصمت بذاتها، وراحت تعيد إنتاج نظمها الخاصة باعتبارها نوعاً من المقاومة الذاتية في عالم انزلق إلى حال من التغيير.

يتحقّق في "المجتمعات التأثيمية" دورٌ خاصٌ للأب، يبدأ من الأسرة، وينتهي بالأمّة، مروراً بالقبيلة والدولة، فيرى كلّ ذلك امتداداً له، وقوة داعمة لنفوذه، وملكاً خالصاً من أملاكه، فهو عاهل أبوي يبسط هيبته على ما حوله، ولا يقبل المنافسة، ناهيك عن المشاركة، فهو صاحب الرشد، ومكمن الصلاح. لا أقصد بذلك الأب بوصفه كائناً إنسانياً يتولّى شأناً عائلياً مخصوصاً، إنّما أقصده باعتباره رمزاً للهيمنة والسطوة والتملّك، وبسبب ذلك لا تتوفر في تلك المجتمعات الشروط الأوليّة للشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات، فالأبوية تخشى أيّ تغيير في البنيات الاجتماعية، وتعتبره فتنة ومعصية، وتحول دون ذلك؛ لأنّها تراه مهدّداً لموقعها ومخرّباً لدورها، فلا يقبل تغيير العلاقات بين الأفراد، ولا بين المكونات الاجتماعية الكبرى. وفي العموم فثمّة حدود دينية ومذهبية وعرقية وجنسية وقبلية وطبقية وفئوية تحول دون اندماج الأفراد فيما بينهم؛ فيتعذّر ظهور فكرة "المواطنة" التي هي تشكيل متنوّع من الانتماءات الداعمة للهوية الكبرى: الهوية الوطنية.

ولم تنجح "المجتمعات التأثيميّة" في التمييز بين الظاهرة الدينية من جانب، والشروح والتفاسير والتأويلات التي دارت حولها من جانب آخر، فتوهّمت أنّ تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه، فأضفت قدسيّة عليها، وصارت تفكّر بها وتتصرّف في ضوئها، فحالت بذلك دون ظهور مفهومي الحرية والمشاركة، فمفهوم الحرية ليس مشروطاً بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة، إنّما هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكلّ خروج على مبدأ الطاعة، مهما كان هدفه، يُعدّ اعوجاجاً يلزم تعديلاً بالقوة، لأنّه لا يهدف إلى الإصطلاح وإنما التخريب، والمرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهمّيتها وجدواها مشتقة من تصوّرات محكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير لاهوتي ضيّق للظاهرة الدينية بدلالتها الأبوية.

ويُعدّ التسامح، في المجتمعات التأثيميّة، نزعة منكرة وطارئة، بل مستهجنة، فلا يُحتفى بالحوار ومبادلة الرأي، ومبدأ الحق شاحبٌ يكاد لا يعرفه أحد، ويُخشى منه كأنّه جناية تسبّب الهلاك، وتذهب بالجماعة في طريق لا تُحمد عقباها. ولذلك يسقط المجتمع في منطقة فراغ تتصادم فيها الآراء والمواقف بدون ضوابط، فلا يتمّ هضمها، ولا تدخل النسيج العام للتداول الفكري، وتهيمن التواريخ المدرسية، ولا تعتمد المناهج الحديثة الملمّة بالظواهر الفكرية والاجتماعية والدينية، وثمّة عزل صارم بين المفاهيم الجديدة وسياقاتها الثقافية، فالمجتمع التأثيمي لا يقرّ بالتغيّرات الكبرى في حياته، ويتمسّك بأهداب مسلّمات متخيّلة تؤمّن له الركود والسكون؛ فيحرص على الأخذ بأسباب اليقين بصورة تكرارية ولانهائية، ولم يزل دون الرغبة العقلية في إثارة السؤال والشك بالمطلقات.

لا قيمة للمفاهيم الحيّة في المجتمعات التأثيميّة، وبخاصّة مفهومي الشراكة والتسامح، وبسبب ذلك تتزايد الخلاصات التعليمية للتواريخ في المدارس والجامعات والمكتبات، فيما يتكالب الوّعاظ فيقدّمون وصفات جاهزة من وعود النجاة التي تعارض في جوهرها القيم الدينية كالعدالة والحق والصدق والعمل والواجب والمشاركة، فتتوهّم تلك المجتمعات أنّها، بوساطتهم، قد خطت نحو الحقيقة، وفازت بحسن العاقبة، فذلك منتهى ما تتطلّع إليه، لكنها في الواقع ارتكست في مستنقع لا سبيل للنجاة منه. ويعود كلّ ذلك إلى أنّ المجتمعات التأثيميّة مازالت رهينة حالة التباس معقدة، إذ وقعت في المنطقة السرابية التي تضخّم الوعود، وتنفخ في المطلقات، ولا تلتفت لأيّ صوت يدعو لإعمال الفكر، إذ لا تتوفر للتفكير الشروط المناسبة ليأخذ معناه، وليؤدي وظيفته، ويخفق العاملون في أداء أدوارهم حينما يطفون عائمين في مجال زاخر بعلامات العداء ضد زحزحة المسلّمات الكبرى، فتضيع الجهود لأنّها لا تنخرط في فعالية التغيير المطلوبة.

لا يُسمح في المجتمعات التأثيميّة بالاختلاف، ولا بطرح السؤال الحقيقي عن واقع حال تلك المجتمعات ومستقبلها، وغير متاح لأحد القول بالشراكة، وفيها يتعذر التسامح، ولأنّه لا تسامح بدون اختلاف، فليس له دعم يؤيده، ويقوّي من أمره في مجتمعات غزتها العدوانية والبغي، ولم تتمثل بالإنصاف وقبول الاختلاف، وإلى ذلك فمن طبيعة التسامح أنّه ليس هبة يتفضّل بها طرف على الآخرين، إنّما هو حق تنتزعه المجتمعات بالتساوي حينما تنخرط بفعّالية لقبول اختلافات متعددة المستويات والمعاني، وهو ثمرة مران طويل على قبول الحراك الدائم في العلاقات الاجتماعية، وقبول استئناف النظر الدائم بكل شيء، وعدم الارتماء في متاهة المطلقات، وكلّ هذا خارج تفكير المجتمعات التأثيميّة، فلا يلقى التسامح صدى في أوساطها لأنّها لم تتعرف إليه، ويكاد يرتقي إلى درجة المحذور فيها، لأنّه دليل ضعف وارتخاء، إن لم يكن علامة خور وعجز.


* نشرت هذه المقالة في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6