أسئلة حول أديان ما قبل التاريخ
فئة : ترجمات
أسئلة حول أديان ما قبل التاريخ
جان فرانسوا دورتييه
ترجمة: الحسن علاج
للتفكير في ما كانت عليه الأديان في عصور ما قبل التاريخ، فإن المرء توجد تحت تصرفه العديد من المصادر: المقابر الأولى (التي تشير إلى الإيمان بالعالم الآخر)، الرسوم على جدران الكهوف (التي ترتبط ثيماتها بلا شك بشعائر سحرية دينية)، دراسة الأسطورة لعصر ما قبل التاريخ paléomythologie) ((التي تكشف عن البنية الأكثر قدما للأساطير)... أخيرًا، فإنه يتم اللجوء أيضا إلى مقارنة أديان شعوب ما قبل التاريخ ـ أرواحية، شامانية أو طوطمية ـ، شيدت على مصدر مشترك، مصدر أصلي لا غبار عليه.
1. كيفية معرفة أديان ما قبل التاريخ؟
ضمن كتيب كُرس لأديان ما قبل التاريخ، صدر سنة 1964، قام أندريه لوروا غورهان (André Leroi-Gourhan)، بابا علوم ما قبل التاريخ الفرنسية آنذاك، بتحذير القارئ منذ السطور الأولى: سوف نخوض " في ضباب كثيف جدا، على أرضية زلقة مليئة بوديان عميقة".
كانت العناصر التي كان يتوفر عليها في عصره بغاية تصور أديان ما قبل التاريخ فقيرة جدا: بعض المدافن والشهادات بخصوص "فن ديني" (بمعنى الرسوم التي تركها البشر في عصور ما قبل التاريخ، على جدران الكهوف). كما أن دلالة تلك الرسومات تظل غامضة بالنسبة إلينا. دعونا نتصور، يكتب لوروا غورهان، أنه، في المستقبل البعيد، قدوم "كائنات ذكية من نظام فلكي آخر" وهم يكتشفون إنشاءات معمارية (كاثدرائيات)تحتوي على تماثيل (على سبيل المثال، تمثال امرأة وهي تحمل بين يديها رضيعا)، صليب ووعاء مقدس. كيف سيكون بإمكانهم تقديم تفسير لذلك؟
نصف قرن فيما بعد، وإذا كان صحيحًا أن أصل الأديان يظل (وسيظل على الدوام) غامضا جزئيًّا، فإننا نتوفر في الوقت الراهن على العديد من عناصر الفهم.
إن دراسة المدافن الأولى بادئ ذي بدء، وفن الجدران ما قبل تاريخي، قد شهدت تطورًا ملحوظًا. لاحقا، ثمة طريقة جديدة، هي دراسة أساطير العصور القديمة، قد سمحت بإعادة بناء الأساطير الأكثر قدما، والتي تستحضر حياة بعد الموت وعالما آخر. كما أننا نتوفر على مصدر آخر، تم تهميشه، بشكل متعمد، من قبل لوروا غورهان: دراسة أديان الشعوب المسماة "أصلية "، حيث عاش البعض منها إلى حدود فترة حديثة، في ظروف أقرب من فترة عصور ما قبل التاريخ. قبل قدوم الأوروبيين، كان بوشمن Les San)) إفريقيا الجنوبية يعيشون في مجموعات صغيرة، من القناصين جامعي الثمار، الذين كانوا يمارسون، حتى ذلك العهد، الرسم على الجدران. لماذا لا يتم استغلال هذه المادة الثرية؟
تسمح تلك المؤشرات الأربعة ـ مدافن، أساطير، الرسم على جدران الكهوف والشعوب الأولى ـ بإزالة الغبار جزئيا عن الضباب الكثيف الذي يكتنف الأديان البشرية الأصلية.
2. ما الذي تعلمنا إياه المدافن الأولى؟
يعود تاريخ أول وأعظم اكتشاف لمدفن ما قبل تاريخي إلى عام 1908. قام الأخوان أميدي Amédée))، جان وبول بويوسوني Bouyssonie))، وهما عالما آثار هاويان (وقد كانا راهبين 1)، بالكشف في قرية لاشابيل الصغيرة، عن هيكل عظمي لإنسان ما قبل تاريخي تم دفنه على ما يبدو بشكل متعمد: تم وضع جسده في قبر، كان نائما على ظهره، وكانت رأسه مشدودة إلى حجارة وساقاه مطويتين. وعلى الرأس تم وضع ساق بقر وأحجار صوان بطريقة جيدة.
أحدث الخبر ضجة كبيرة. كان من الصعب القبول في ذلك العهد بأن "رجال الكهوف" (كما يُقال آنئذ) كانوا يدفنون موتاهم. كان يتم اعتبار بشر ما قبل التاريخ مخلوقات محبطة، في منتصف الطريق بين الحيوان والبشر. واقع آخر سيطرح نفسه تدريجيًّا: فإذا كان أولئك الأسلاف القدامى يدفنون موتاهم، فإن ذلك يفيد أن دوافعهم لم تكن تقتصر على الحاجيات المادية من الطعام والتكاثر. ربما كانوا يعتقدون أن الموتى يلتحقون بعالم آخر، مثلما كان حجر الصوان، الذي يتم وضعه إلى جانب الهيكل العظمي، بمتحف إنسان نياندرتال (متحف لاشابيل) (La Chapelle-aux-Saints).
منذ قرن من الزمن، ثمة اكتشافات أخرى كثيرة، أغنت معرفتنا بالمقابر الأولى. وقد تم العثور على المقابر الأولى في مكان عبور بين إفريقيا وأوروبا الذي هو الشرق الأوسط، وتحديدًا في إسرائيل، على موقعي مغارة قفزة والسخول؛ ويعود تاريخها إلى ما يقارب 100000 سنة. وتنتمي إحدى تلك المقابر إلى إنسان نياندرتال، والأخرى إلى الإنسان العاقل، كلاهما موجودان في المنطقة في ذلك العهد.
لم يتوقف العداد هنا. ففي بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (2000)، على موقع سيما دو لوس هويزوس (la sima de los huesos) ("مقبرة العظام")، بالقرب من مدينة أتابويركا (إسبانيا)، اكتشف علماء الآثار بقايا عظام حوالي ثلاثين رجلا، نساء وأطفال، تم وضعهم فيما يبدو وبشكل متعمد، ويعود تاريخهم من 300 إلى 400 000 سنة. لكن هل يتعلق الأمر في واقع الحال بمقبرة؟ لقد ناقش الباحثون ذلك ومن الصعوبة بمكان الحسم في الأمر.
1 ـ لقد مضى رجال الكنيسة بعلوم ما قبل التاريخ قُدُمًا. فقد شكل كبير الأساقفة هنري برويل (Henri Breuil) (1877ـ 1961) قامة علمية دولية في دراسة رسومات الكهوف؛ وكان الأب بيار تيلار دو شاردان (Pierre Teilhard de Chardin) (1881ـ 1955) عالما كبيرا للحفريات.
3. منذ متى كان البشر يؤمنون بالعالم الآخر؟
تنطوي معظم المجتمعات البشرية على معتقدات حول حياة ما بعد الموت. ولكن إلى متى يعود تاريخها؟ ولمعرفة ذلك، فإن ثمة منهجًا تم تطويره مؤخرًا: "إعادة بناء أساطير الأزمنة الغابرة" phylomythologie)) (أو نشأة وتطور الأساطير) phylogénétique)). ويعدّ المؤرخ جوليان هوي أحد المؤسسين للمنهج، الذي عرض مبادئه في مؤلفه نشأة الكون. أساطير ما قبل التاريخ1. وتكمن الخطوة في العودة إلى أساطير البشرية الأكثر قدما؛ وذلك بإعادة بناء شجرة نسبها. والتقنية هي كالتالي. لقد قام علماء الأعراف وعلماء الثقافة الشعبية في العالم قاطبة، بجمع ما يزيد عن قرن آلاف الأساطير الأصلية من كل القارات، التي تمت فهرستها وتبويبها وضمها إلى قاعدة بيانات. وتقوم تقنية الباحث الروسي يوري برزكين على جمع دراسات تزيد عن 6000 مؤلف ومقال. كل أسطورة يتم تقطيعها إلى "ثيمات" أولية، بنفس الطريقة التي يتم فيها تسلسل الجينوم إلى مورثة. ويفترض في أن الأساطير التي تتضمن موضوعات متطابقة تعتبر متشابهة: فإذا تضمنت أسطورتان ثيمات متعددة مشتركة، فبإمكاننا الافتراض أنها تصدر عن أسطورة مشتركة أكثر قدما.
قام جوليان دو هوي Julien d’Huy)) في كتاب فجر الأساطير2 بعرض أبحاثه حول الأساطير المتصلة بحياة بعد الموت.
ثمة تيمة ماثلة في العديد من الأساطير وتروي على سبيل المثال أنه في البدء كان البشر خالدين، لكن على إثر هفوة (أو خطأ) أصبحوا فانين. ثمة تيمة أخرى شائعة هي تيمة "موت مستاء": فحيثما يحدث موت في ظل شروط غير طبيعية، فإن روح الهالك تتردد على بعض الأمكنة ريثما يسمح لها طقس جنائزي ملائم بالالتحاق بالسماوات. بتوظيفه لمنهج إعادة تشكيل الأساطير في الأزمنة الغابرة، يشرح جوليان هوي بأن فكرة أن روحًا لا مرئية تنفصل عن الجسد بعد الموت، كانت قد ظهرت بإفريقيا ما يناهز 185 000 سنة، بمعنى قبل خروج الإنسان العاقل من إفريقيا! إحدى ثيمات تلك الأسطورة ضاربة في القدم، وهي تيمة سفر الروح إلى مجرة درب التبانة التي هي مملكة الموتى؛ وتبعا لتيمة أخرى، فإنه يكون باستطاعة بعض الأحياء بزيارة عالم الأموات في شروط استثنائية (ولاسيما في الأحلام)؛ أيضا فإن الأسطورة تتضمن فكرة أن روح الميت يمكنها العودة لدى الأحياء.
لذلك، فإن دمج تلك التيمات سهل على جوليان هوي إعادة صياغة الحبكة الأكثر قدما لأسطورة العالم الآخر.
1- La Découverte, 2020
2 ـ فجر الأساطير. عندما كان أفراد الإنسان العاقل يتحدثون عن عالم آخر. La Découverte, 2023
4. هل تعد المغارات المزخرفة مزارات دينية؟
هل يمكن للمغارات المزخرفة لعصر ما قبل التاريخ أن تكون دليلا آخر للديانات في تلك الحقبة؟ ويعود اكتشافها إلى اكتشاف رسوم مغارة ألتميرا Altamira)) عام 1879. لقد تم التخلي عن أطروحة "الفن للفن" على الفور: لم يقطن البشر في العصر الحجري القديم في تلك المغارات، وثمة سوء فهم لماذا كانوا يشعرون بالحاجة إلى التعبير عن مواهبهم في أعماق السراديب المعتمة التي يستعصي النفاذ إليها. منذ قرن، تلاحقت تأويلات مختلفة. إن الحضور القوي للحيوانات ـ الجاموس، ثيران، خيول ـ مرسومة على الجدران قد أفضت إلى افتراض وجود "سحر القنص". تلك النظرية، التي كانت تحظى بشعبية كبيرة في بداية القرن العشرين، لا يزال لديها مناصرون. لقد تم اقتراح نظرية "شامانية لما قبل التاريخ" في تسعينيات القرن المنصرم (1990): وكانت الموضوعات المصورة (حيوانات، أشكال مجردة) تمثل وجهات نظر الشامان أثناء سموهم الروحي1. ما لم تكن الحيوانات المرسومة على الجدران "حيوانات طوطمية" لقبائل محلية مختلفة؟ وتؤكد رسومهم على هوية جماعية على الأرض2. وبالنسبة إلى جان لويك لوكليك (Jean-Loic Le Quellec)، فإن الرسومات تعبر عن قصة الأصول، والتي تفيد أن الحيوانات والبشر كانوا يعيشون على الأرض قبل خروجهم من المغارة الأصلية3.
باشتغاله على الرسم، يعيد الإنسان تنشيط الخلق الأصلي كل سنة من أجل ـ كل سنة ـ أن الطيور المهاجرة تظهر من جديد ويسهل قنصها.
سحر القنص؟ شامانية؟ طوطمية؟ أسطورة ما قبل تاريخية؟ كان بشر ما قبل التاريخ أبعد ما يكونون عن الاتفاق حول تفسير الرسوم على جدران الكهوف. لكنهم يتفقون جميعهم على نقطة واحدة: أن تلك الصور المرسومة ذات بعد مقدس. قام عالم عصور ما قبل التاريخ، ميشال لور بلانشيه (Michel Lorblanchet) بمقارنة المغارات المزينة بالرسومات بالكنائس والكاثدرائيات في العصور الوسطى، التي كانت مؤلفة من قاعات كبرى حيث كانت تقام الاحتفالات الجماعية، طقوس العبور أو طقوس السحر، بين الجدران المرسومة برموز مقدسة. وكان سيكون بإمكان المغارات المزخرفة أن تمتلك نفس الوظائف.
1 ـ جان كلوتز، دافيد لويس وليامز، شامان ماقبل التاريخ، سوي، [1996] 2015.
2 ـ ألان تستارت، فن ودين من مغارة شوفيه إلى مغارة لاسكو، غاليمار، 2016.
3 ـ جان لويك لوكيليك، الكهف الأصلي. فن، أساطير والبشر الأولون، La Découverte,2022
5.ما الذي تتضمنه أديان الشعوب الأصلية؟
إن دراسة أديان الشعوب المسماة "أصلية"، التي تعيش بأمريكا، إفريقيا، آسيا أو بأوقيانوسيا قبل قدوم المستوطنين الأوروبيين، تعد مدخلا ممكنا آخر للأديان البشرية الأولى.
منذ ما يزيد عن 150 عاما، جمع علماء الإناسة مادة ثرية تتعلق بأساطيرهم، شعائرهم ومعتقداتهم. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف جيدا ديانة الأبوريجين، سكان أستراليا الأصليين: عدد مهم من الأعمال تم تكريسه لفائدة "زمن الحلم"، حيث تعيش الآلهة الحافظة، وحيث يأتي الأبطال المؤسسون وحيث تعود روح الموتى مرة أخرى. كما أننا نعرف جيدا الشعائر التي تميز حياتهم المشتركة: الشعائر السرية لتلقين الأطفال، الاحتفالات الجماعية التي تحيي فيها القبائل وحدتها، الشعائر السحرية التي يقصد بها معالجة أو طرد الحظ العاثر. علاوة على ذلك، وإلى حدود عهد قريب، فإن المراسيم القبلية شكلت مناسبة لتجديد العديد من رموز الحيوانات الأسطورية وكائنات غامضة تزين الجدران الصخرية، على مستوى آلاف المواقع الموزعة على كامل الأرض الأسترالية. وكان القدماء على دراية في بعض الأوقات بتفسير دلالة تلك الرسومات.
لماذا نحرم أنفسنا من هذه المادة بغية العودة إلى أصول الأديان1؟
كانت جل الشعوب الأصلية (أو تكاد) تمارس طقوسا من طبيعة سحرية دينية تعمل على حشد آلهة متميزة وشعائر مختلفة، رقص، ترنيمات وقصص. ومع ذلك، فليس بوسعنا إلا أن نندهش ببعض العوامل المشتركة: تشبه طقوس التلقين لدى الأبوريجين طقوس التلقين الإفريقية أو لبعض سكان أمريكا الأصليين. تقدم الاحتفالات الطوطمية للقبائل في أستراليا العديد من أوجه التشابه مع الاحتفالات الطوطمية لقبائل الإيروكواس Iroquois)). الشيء الذي لا يعني أن أول ديانة وحيدة وكونية كانت ستشكل بداية لجل الديانات الأخرى. ولتسليط الضوء على اختلافها وسماتها المشتركة، دعونا نستعرض بادئ ذي بدء، أنماط المعتقدات التي قام علماء الإناسة بوصفها تحت أسماء الأرواحية، الشمانية والطوطمية.
1 ـ من بين الأعمال حول سكان أستراليا الأصليين، الأبوريجين، نشير إلى أعمال باربارا غلوزفسكي (Baarbara Glowczewski)، الحالمون بالصحراء. شعب فالبيري لأستراليا، منشورات أكت سود، [1989] 2006 وكتاب أحلام ساخطة. مصاهرات الأبوريجين في الشمال الغربي الأسترالي، بلون، مجموعة « Terre humaine »، 2004
6. هل تعد الديانة الأولية "أرواحية"؟
تعود نظرية الـ"أرواحية" « animisme » إلى المؤلف الإنجليزي إدوارد تايلور Edward Tylor) ((1832 ـ 1917)، وهو يعد واحدًا من آباء الأنثربولوجيا1. وتعد الأرواحية بالنسبة إلى تايلور، الديانة الأصلية والنموذج الأصلي لكل دين. وقد تمت صياغة المصطلح انطلاقا من مفهوم الـ"روح" (أنيما باللاتينية). ويشير تايلور إلى المعتقد، ويعرف انتشارا واسعا في كل القارات، وتبعا له، سوف تكون الطبيعة "حية"، مزودة بـ"روح". وستشكل الشمس، القمر، الماء والنار شخصيات حية، وقد وهبت إرادة، وتمتلك القدرة على التنقل (مثل الشمس أو القمر)، الغروب أو البزوغ من جديد. تتوقف حياتنا على تلك المخلوقات، لا بد إذن من توقيرها، وخشيتها أو تبجيلها.
إنها روح لامرئية (تسمى مانا mana)) في أوقيانوسيا) التي تبث الحياة في الحيوانات والتي تعمل على نمو النباتات. تسكن تلك الأرواح (أو الـ"أنفس") أيضا العالم اللامرئي لعالم ما بعد الموت: أرواح الأجداد، أنفس الدغل، آلهة من كل الأصناف. تنبثق على شكل إنسان أو حيوان.
الـ"أرواح" تتجلى
كان شعب الهوبي Hopis)) بشمال شرق أريزونا، على سبيل المثال، يتقرب بعبادة إلى الكاشيناkachinas) (("أرواح") النار، الحيّة، الغيث، روح الدب أو الذئب. ففي فترة الزراعة (كان شعب الهوبي يزرع عادة "الأخوات الثلاث"، الذرة، اليقطين والفول) كانت تجري احتفالات زراعية وكان السكان يحتشدون طيلتها في الساحة المركزية بحضور الرقصات الشعائرية. كان يتم الشروع في الاحتفال خلال ولوج الكاشينا: ناس القرية وهم يلبسون سترات رائعة من الألوان، الأقنعة، ويغطون رؤوسهم بالريش، قلائد ومجوهرات. لا شيء لم يعد يشبه الكاشينا إلا أرواح "زمن الحلم" لدى الأبوريجين، سكان أستراليا الأصليين. فلدى هؤلاء، فإن الأشخاص المتدربين ينتقلون رقصا وغناء، وهم يلبسون أردية مثيرة للانتباه وأقنعة، بغية تمثيل الـ"أرواح" التي تتدخل في طقوس تلقين الصبية، الاحتفالات العشائرية أو طقوس الجنازات. وفي إفريقيا كذلك، بنيجيريا مثلا، فإن قبيلة اليوروبا Yorubas)) كانت تمارس بصورة تقليدية عبادة آلهة تسمى أوريشا orishas)) ظهرت أثناء احتفالات التلقين، شعائر الزراعة، الزواج أو المآتم.
إضافة إلى ذلك، ففي الغرب، يمتلك شعب الباولي Baoulés)) بساحل العاج مجمع آلهتهم. في إندونيسيا أو في المنطقة الجغرافية الشاسعة من سيبيريا، تحمل الأرواح أسماء أخرى ووجوها أخرى، لكن شعائرها متشابهة2.
1 ـ خصص جزء كبير من عمله ثقافة بدائية (1871) لدراسة الأرواحية.
2 ـ انظر المعجم الشامل للآلهة، الإلهات والشياطين، الضخم، والذي أشرف عليه باتريك جان بابتيست، سوي، 2016
مصير الأرواحية
بالنسبة إلى إدوارد تايلور، "مبتكر" الأرواحية، فإن هذا المفهوم كان يمكنه أن ينطبق على كافة الأديان البدائية، التي كانت ستدرك كلها، الطبيعة بوصفها أرواحًا وُهبت قوة خيرة أو شريرة، ينبغي خشيتها أو طلب حمايتها على مستوى شعائر تقديم القرابين.
لقد عرفت هذه النظرية تاريخا مضطربا. فقد عرفت فترة مجدها في بداية القرن العشرين، وقد تمت استعادتها من قبل علماء النفس (جان بياجيه) أو فلاسفة (لوسيان ليفي برول) الذين كانوا يرون فيها مرحلة لتطور الفكر: وتعدّ الأرواحية، في تصورهم، خاصة فكر البدائيين والأطفال الذين يعتقدون أن القمر والشمس هما كائنان يفيضان حياة. وطوال العصر، فقد تم التخلي عن نظرية الأرواحية من قبل علماء الإناسة لفائدة الطوطمية أو الشامانية. ولم يعد يتم استعمال مصطلح "أرواحية"، فترتئذ، إلا في موسوعات الأديان للإشارة إلى الأديان التقليدية بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وعند منعطف القرن الواحد والعشرين، فقد أعاد عالم الإناسة فليب دسكولا (Philippe Descola) الحياة إلى المفهوم. ففي مؤلفه الأساسي فيما وراء الطبيعة والثقافة (غاليمار، 2005)، فقد جعل منه واحدا من أربع "أنطولوجيات" (رؤية العالم) الحاسمة لنسقه.
7. ما الطوطمية؟
تعد الطوطمية من التيمات المحببة لعلماء الإناسة في بداية القرن العشرين، التي كانوا يرون فيها أثر ديانة البشر الأولى. مثال على هذا الشكل من الفكر، شعوب الأوجيباوا Ojibwas)) التي كانت تعيش في الأمس القريب في منطقة البحيرات الكبرى (جنوب كندا) فقد كانوا منظمين في قبائل كل قبيلة كانت تحمل اسم حيوان: قبيلة الدب، طائر الغرنوق، السلمون، إلخ. علاوة على ذلك، فإن الحيوان الطوطمي الذي كان يتم وضعه على الأسلحة أو على الجسد، فقد تم اعتباره مثل إله حافظ. ثمة بين أعضاء نفس القبيلة روابط وثيقة من التضامن.
الطوطمية، وهم علمي؟
وعلى الرغم من ذلك، فمنذ ثلاثينيات القرن الفارط (1930)، فقد شكلت فكرة " ديانة طوطمية " موضوعا للنقد. فقد لاحظ عالم الإناسة الأمريكي من أصل ألماني فرانتز بواس (Franz Boas) (1858 ـ 1942) أولا أنه، على سبيل المثال، لا وجود لدى هنود أمريكا الحمر ـ الإيروكواس ـ، أي تطابق بين الحيوان الطوطم وعبادته (على نفس المنوال فإن الفرنسيين لم يكرسوا أبدا عبادة للديك الغالي). لقد أشار عالم الإناسة الأسترالي أدولفوس بيتر إلكاين Adolphus P. Elkin))، من جانبه، انطلاقا من حالة الأبوريجين، سكان أستراليا الأصليين، وجزر المحيط الهادي، بأن الطوطم كان بإمكانه أن يحدد تارة قبيلة، إقليما، وتارة أخرى روحا شخصية (كل فرد بمستطاعه الارتباط بطوطم شخصي). انتهى المطاف بالغالبية العظمى لعلماء الإناسة في القرن العشرين (روبيرت لوفي Robert Lowie))، ألفريد رادكليف براون (Alfred Radcliffe-Brwn) أو إدوارد إيفان إفانس بريتشار (Edward Evan Evans-Pritchard) برفض المفهوم، الذي أطلق عليه كلود ليفي ستراوس رصاصة الرحمة عام 1962 في كتابه الطوطمية في الوقت الراهن puf)). وفيه استعاد عالم الإناسة انتقادات أسلافه معترضا على أي تشابه بين الحيوان الطوطم وشعيرة دينية. وبالنسبة إليه، فإن الرموز (أسماء الحيوانات أو النباتات) لم تكن إلا وسيلة بالنسبة لعشيرة ما، للتميز عن بعضها البعض، مثل فرق رياضية تحب الارتباط بتميمة، أو شعار.
إعادة تقييم الطوطمية
عاد مفهوم الطوطمية من جديد منذ عهد قريب مع فليب ديسكولا في كتابه (فيما وراء الطبيعة والثقافة) أو ألان تستارت Alain Testart)) في كتاب (فن ودين من مغارة شوفي إلى مغارات لاسكو). وتظل الطوطمية، بالنسبة لأولئك الباحثين، رؤية للعالم خاصة ببعض الشعوب المنظمة في قبائل يمثلها حيوان ـ تصور أقرب بكثير، إجمالا، من تعريفه الكلاسيكي.
انظر: فرانسوا دورتييه، "الطوطم وعالم الأعراف. تاريخ خدعة علمية" Sciences Humaines n 127 ,mai 2002
8. ما هي الشامانية؟
ظهر مصطلح "شامان"chamane » « في الأدب في كتابات كبير الكهنة أففاكوم Avvakoum)) (1682 ـ 1620)، رائد الانشقاق التقليدي الروسي لـ"المؤمنين القدامى". بعد إقامته في سيبيريا، روى أففاكوم في سيرته الذاتية، حضوره حفل عرافة. استدعى الشامان من قبل قائد عسكري، ليفتي في ما إذا كانت حملة عسكرية لدى الماغول مواتية؛ فامتثل الشامان: "في المساء، أحضر [الشامان] كبشا حيا ثم شرع في ممارسة سحره عليه: فبعد أن قام بتدويره وإعادة تدويره، قام بدق عنقه ورمى بالرأس بعيدا. بعد ذلك شرع في القفز والرقص والمناداة على الشياطين؛ وفي الأخير، ارتمى أرضا وهو يصرخ صراخا هائلا والرذاذ يتطاير من فمه. استعجلته الشياطين، ثم استفسرها في الأمر قائلا: "هل ستحقق الحملة العسكرية الظفر؟ وردت الشياطين بالقول: "ستحقق انتصارا ساحقا وثروة لدى عودتكم"1."
في اللغة السيبيرية التي يشير إليها أففاكوم، يربط الشامان رجلا ـ أو امرأة ـ اتصالا متميزا مع الأرواح. ويكمن دوره في التوسط لدى روح حيوان بهدف الحصول على عونه: ولجعل الصيد مثمرا، معالجة المرضى، استعادة خصوبته على الأرض، العمل على إنزال المطر، طرد سوء الطالع، العثور على شيء مفقود أو التنبؤ بالمستقبل.
يحدث الاتصال بالأرواح أثناء احتفال ما. وعلى إيقاع الطبل، يرقص الشامان ويغني، ثم يدخل في غيبوبة. يستولي عليه الارتجاف، يأخذ في الصراخ ثم يخر فجأة على الأرض، كما لو أنه فقد الوعي. خلال فترة "الاستحواذ" تلك، يقوم الشامان بـ"رحلة" في عالم الأرواح ـ الحيوانات باتصاله معها.
ترتبط الشامانية إذن بالإيمان بعالم آخر لا مرئي تقطنه أرواح ـ حيوانات تبعث الحياة في الطبيعة، وتساعد على نمو النباتات، وتكاثر الحيوانات، ونزول الأمطار. وبما أنها مسؤولة عن الحياة (وبالتالي عن الموت)، فإن المرء يسعى إلى ترضيتها للقضاء على الأمراض، ونزول الأمطار أو تيسير الصيد.
هل الشامانية ذات طابع كوني؟
اقتصر مصطلح " شامان" في بادئ الأمر على سيبيريا وتم استعماله فيما بعد من قبل علماء الإناسة للإشارة إلى الممارسات السحرية الدينية المماثلة في مناطق أخرى من العالم، مثل ممارسات العراف الطبيب médecin men))، أطباء سحرة، مزارات، معالجين. الشيء الذي لا يتم من دون طرح مشاكل في التعريف. ويمكن أيضا للشامانية أن تتمدد في معناها المقيد أو الواسع.
والشامان في معناه المحدد هو ذلك الذي يدخل في اتصال مع أرواح حيوانات أثناء احتفالات الغشية؛ وجها لوجه أمام الطائفة. إنه في نفس الوقت معالج ووسيط. وضمن هذا المعنى المحدد، فإن مجال انتشار الشامانية يقتصر على المساحة الشاسعة من القطب الشمالي (سيبيريا، لابونيا، غرينيلاند)، في آسيا بجبال الهيملايا (نيبال والتيبت) والسكان ما قبل كولومبوس بأمريكا. ثمة نماذج متشابهة، هجينة من الشامانية حاضرة بآسيا (الصين، كوريا، اليابان، الهند).
وبالمعنى العريض للكلمة، فإن المصطلح يتم استعماله من قبل بعض علماء الإناسة للإشارة إلى كافة أنواع المعالجين الذين يلجؤون إلى الأرواح، من دون اللجوء إلى الغيبوبة. إنها حالة "المعالجين" بأستراليا أو لدى المعالجين السحرة لطائفة كناوة بالمغرب2. مع الإشارة إلى أنه، في ديانة الفودو vaudou))، فإن المريض هو الذي يدخل في غيبوبة وليس الساحر المعالج.
1ـ تمت الإشارة إلى ذلك في جريمي ناربيJeremy Narby) (وفرانسيس هاكسلي (Francis Huxley)، أنثربولوجيا الشامانية، ألبان ميشال، [2001] 2009.
2 ـ برتران هيل (Bertrand Hell)، استحواذ وشامانية. سادة الفوضى، فلاماريون، 1999
9. كيف كانت ديانة ما قبل التاريخ؟
وفي نهاية المطاف، هل تعد الديانة ما قبل تاريخية إحيائية، طوطمية أو شامانية؟ فبدلا من الفصل بينها، فإن مقارنتها توحي بفرضية أخرى. وإذا ما كانت تلك الديانات الثلاث لا تشكل سوى ديانة واحدة؟ وبفحصها بالتناوب، فإن سمة مشتركة تظهر.
أولا، الاعتقاد بأرواح لا مرئية: إنها خاصية كل دين. وتكمن خصوصية الأديان الأولية في ربط تلك الآلهة بأشكال نصف بشرية، نصف حيوانية، ربطها بقوى طبيعية أو أرواح السلف. تعد الأرواحية سمة مشتركة لكافة الأديان الأولية. السمة المشتركة الثانية: تلجأ كافة الشعوب الأولية إلى شعائر تكرس لضمان حماية الأرواح، لتعزيز الصيد والحصاد، لمداواة المرضى، إبطال السحر أو للتعبير عن طقوس العبور (شعائر الدفن والتلقينات).
ختامًا، ثمة نمطان من المتخصصين في المقدس موجودان في كل مكان: رؤساء المراسم، مؤتمنون على معارف السلف ومسؤولون عن الشعائر الجمعية، والشامان، وهم شخصيات يضطلعون بدور المعالجين والكهنة.
فإذا كانت الأديان الأولى تتشابه كثيرا، فمن المنطقي إذن التفكير في أن ديانة فترة مغارة لاسكو أو شوفي قد شيدتا بحسب نفس معمار المعتقدات والطقوس.
ــ
مصدر النص: مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines عدد ممتاز رقم 31 يناير ـ فبراير 2025