أكسيولوجيا الكرامة بين الرفاعي وفوكوياما


فئة :  قراءات في كتب

أكسيولوجيا الكرامة بين الرفاعي وفوكوياما

أكسيولوجيا الكرامة بين الرفاعي وفوكوياما

قراءة في كتاب الدين والكرامة الإنسانية للدكتور عبد الجبار الرفاعي

د. ياسر عبد الحسين

باحث عراقي

(لا سعادة بلا كرامة) نجيب محفوظ

بات مجرد الحديث عن مفردة الكرامة في الخطاب السياسي العام بعالم اليوم، تعني الاستعداد لتحمل كميات من التنمر السياسي، وكأنها مفردة من الزمن الجميل التي تستدعي مقولات الأخلاق والحرية ومنظومة القيم، لكن في ظل الفوضى العارمة والأوبئة والتفاهة، أجبرت العالم أن يستعيد الحديث عن العودة إلى القيم الإنسانية وبعض معالمها المفقودة على مذبح العنف والدمار وسلوكيات العنصرية والتجهيل.

قيمة الكرامة التي تعيد دور الفرد في التراتبية الاجتماعية التي انطلقت بتأسيس ديني بشكل عام تستدعي المنظومة الأخلاقية والدينية إلى الواجهة العالمية من جديد، وحتى على مستوى عالم فن الممكن، حيث تقول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت في كتابها The Mighty and the Almighty: Reflections on America، God، and World: (عندما بدأت أمعن النظر في قضايا السياسة الخارجية ... وجدت بزوغ العنصر الديني في صراعات اندلعت في مجتمعات تضم مسلمين ومسيحيين، .... وهكذا اتَضح لي أكثر فأكثر، أن كثيرا من الصراعات التي أعقبت الحرب الباردة، كانت لها علاقة بالدِين، ولذلك أصبح يتعين على المهتمِّين بشؤون السياسة الخارجية أن يتفهّموا دور الدين كقوة في قضايا السياسة الخارجية وكيفية استخدام البعد الديني في العثور على العناصر التي تجمع بين أطراف النزاع، وإذا درس المرء الديانات الإبراهيمية الثلاث، سيجد فيها مفاهِيم مشتركة عن السلام والعدل والخير).

وهكذا، فإنه لا يمكن إهمال الدين بشكل عام، كعامل حاسم في المجتمعات، حتى إذا كانت البنى الاجتماعية لهذه المجتمعات تتبنى محاولات جادة لإهمال الدور الديني في حياتهم، ومحاولة صناعة مسارات أخرى مختلفة تبعد هذا العامل عن سياقه التاريخي، وكيف إذا ما تعلق الأمر بارتباطه بالكرامة الإنسانية، التي تمثل القيمة الممنوحة إلى الشخص الإنساني في حد ذاته بغض النظر عن تفاصيله الأخرى.

وتناسقا مع الهزات الكبيرة التي يتعرض لها الفكر الغربي عبر تسونامي الوباء والشعبوية وأمراض أخرى، يبدو الآن، ثمة تيار واسع على مستوى الأدبيات السياسية والاجتماعية يعيد إنتاج مقولات الأخلاق إلى الواجهة، مثل كتاب Do Morals Matter (هل تساوي الأخلاق شيئاً؟) لمنظر القوة الناعمة جوزيف ناي Joseph Nye الذي يبحث مفهومي الأخلاق Ethics والقيم Morals بوصفهما مترادفين في السياسة، وكتب أخرى.

مع إيماني واتفاقي مع الكثير أن المحافظة على قيم الكرامة هو أهم تحدٍّ يواجه البشر في العصر الحديث، فإني لا زلت مؤمنا أن هذه الأفكار المتعلقة بها يجب أن تؤخذ في إطار فهم المجتمعات ذاتها، واستصحاب دور الدين في تلك المجتمعات، ولهذا وقفت أمام كاتبين مهمين.

للوهلة الأولى إن مقارنة فكرية بين مفكرين؛ الأول هو فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama وهو عالم سياسة واقتصاد أمريكي من أنصار المدرسة الليبرالية، بل منظرها الأساس بأنها المنتصرة في نهاية التاريخ، والثاني المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وهو متخصص في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وله رؤية فلسفية في التجديد وبناء مناهج التفكير الديني. قد تكون هذه المقارنة محسومة في الميزان الإيديولوجي كما تبدو، على اعتبار كونها لا تعدو أكثر من مناظرة فكرية بين الفكر الإسلامي والليبرالي، لكن بعد دخول عالم الأفكار لديهما في مفهوم الكرامة تحديدا، وجدت أنني أقف على مقارنات مختلفة وناضجة بين الرؤية الغربية والمشرقية للكرامة ودورها في حياة الشعوب والمجتمعات، بل كانت أبعد من المقاسات الفكرية الروحية أو المادية، ولا أخفي عشقي لهذين المفكرين؛ فالرفاعي وضع مؤسسة مهمة تنويرية لم تحظ بالاهتمام البالغ إعلاميا واجتماعيا، وهي مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، الذي كان له الأثر البالغ في صناعة تفكير ديني معطر بنكهة عرفانية، وفوكوياما الذي حكموا على كل أفكاره المهمة ظلما على قارعة نهاية التاريخ، وكأنه لم ينتج أو يقدم غيرها. الرحلة التي قدمها الاثنان في تفسير الكرامة كانت جميلة ومبتكرة، رغم الفارق الشاسع بين مدرستيهما.

فلسفة الكرامة عند الرفاعي

صدر مؤخرا كتاب للدكتور عبد الجبار الرفاعي بعنوان (الدين والكرامة الإنسانية) عن دار التنوير في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد 2021، يحمل الكتاب في طياته أطروحات مهمة لدراسة وتحليل مفهوم الكرامة.

يقول الرفاعي في مقدمته: الدين يتغلغل في كل شيء في حياتنا بصورة ظاهرة وخفية. وكل محاولة لإعادة البناء التربوي والثقافي والتعليمي وإعادة بناء المجتمع، لا تبدأ بإعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين وبناء فهم جديد لنصوصه، تموت لحظة ولادتها، كما يعبر. ويرى الرفاعي بأن قراءة نصوص الدين برؤية تنتمي للتراث هي أهم أسباب انسداد الآفاق المضيئة لفهم الدين، وتعطيل حضوره الإيجابي (ص5)، وحيث إن الإنسان غاية كل دين، وكل دين لا تكون غايته الإنسان ليس إنسانيا، فإن جوهر إنسانية الدين هو حماية الكرامة ورفض كل إشكال التمييز بين الناس، لكون الكرامة قيمة أصيلة، ولا تعني الكرامة عدم الإهانة فقط، بل إن عدم الإهانة هي أحد الآثار المترتبة على حضور الكرامة، وثمرة من ثمرات تحققها في الحياة البشرية، بكون الكرامة قيمة كونية (ص7).

ثم يلج الرفاعي عالم (الإيمان الذي يتكلم لغة واحدة) كما يعبر في الفصل الأول من الكتاب، حيث يؤكد أن السلام يولد بين الأديان في فضاء الإيمان؛ لأن الإيمان يتكلم لغة واحدة؛ فالمؤمنون في كل الأديان يستوحون إيمانهم من منبع مشترك هو الحق، وأن تجلى لكل منهم في صورة، حيث تتنوع صور الحق بتنوع دياناتهم وبصمة ذواتهم وبيئاتهم. وهذه التفاته ذكية تدعم دعوات حوار الحضارات وإمكانية الحوار، لكونهم يتكلمون لغة واحدة كما يعبر.

ويخلص الرفاعي إلى أنه في الإيمان تتناغم الأديان وتتعايش، بعد أن تكتشف شفرة اللغة الروحية الواحدة المشتركة (ص14)، كما يقول ابن عربي: (وتنوعت المشارب واختلفت المذاهب وتميزت المراتب وظهرت الأسماء الإلهية والآثار الكونية وكثرت الأسماء والآلهة في العالم) في سياق شرحه لمقولة الإمام علي بن أبي طالب: (الإخلاص نفي الصفات عن الحق تعالى)، يقول ابن عربي: (وأما عند التجلي، فأن يتجلى لكل واحد بصوره معتقده). الرفاعي يشير إلى حقيقة مهمة جدا ومؤشر خطير بأن دعاة ومبشري الأديان يخافون على الله أكثر من خوفهم على الإنسان (ص15)، لكن الحاجة الحقيقة كما يقول ابن عربي: (واعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله)، كما أن ليس هناك ديانة تستأثر وحدها بالمحبة والحريات والحقوق واحترام كرامة الإنسان، وليس هناك دين منزه من التعصب والعنف وانتهاك الكرامة في التاريخ (ص17).

مقاس الرفاعي التراثي مستوحى من نصوص إسلامية أضفى عليها طابع روحاني؛ ففي مسرى عرفاني رائع يدخل الرفاعي عالم القلب في الفصل الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان (القلب هو الطريق)، حيث يرى بأن الإيمان ليس فكرة نتأملها أو معرفة نتعلمها، بل هي حالة روحية، وكل حالة روحية تمثل تجربة وجودية تفشل اللغة في التعبير عنها (ص22)، كما جاء في قصة النبي موسى والراعي.

وحيث إن الحياة والموت هي ألغاز للإنسان، يرى الرفاعي أن الكائن البشري لايصنع حاجته للدين؛ لأنها مستودعة في أعماق الكينونة الوجودية لهذا الكائن (ص 28)، وأن السلام الباطني هو المنبع للحياة الهادئة المطمئنة، السلام الباطني هو مفتاح سلام المجتمع. ويقول في المدخل الرابع للكتاب: من لا يعرف الإنسان لا يعرف الله، ومن يعرف شيئا عن غرابة الإنسان وغربته الوجودية وفقره وهشاشته، ويعرف شيئا من الطبيعة الإنسانية يمكنه أن يصل إلى الله (ص32).

ينتقد الرفاعي التفسير السايكولوجي للدين الذي تحدث به المهندس المعماري الراحل رفعت الجادرجي، الذي أعلن إلحاده في مقابلة تلفزيونية، يجيب الرفاعي: (إعلانُ الإلحاد ضربٌ من الجواب الميتافيزيقي، الإلحادُ يعكسُ ضراوةَ القلق الوجودي، وأقصى مديات ‏حيرة الجواب الميتافيزيقي. لحظةَ يعلن أحدٌ عن إلحادِه ينتقل من التفكير العلمي إلى التفكير الفلسفي، من دون أن يتنبه لذلك. نفيُ عالَم ماوراء الطبيعة كإثباته، الإثباتُ حكمٌ فلسفي، والنفيُ حكمٌ فلسفي. التفكيرُ في ماهية العلوم الطبيعية وماهية أيّ علمٍ هو تفكيرٌ فلسفي، العلمُ لا يُفكّر في ماهيته، التفكيرُ في ماهية العلوم خارجَ مجال العلوم، كلُّ تفكيرٍ من هذا النوع تفكيرٌ فلسفي)، (ص32). وحيث إن مناهج وأدوات العلم هي تجريبية، فإنه تصح مقولة هايدغر في عبارته المشهورة: "العلم لايفكر".

ثم يربط الرفاعي بين الدين والهوية الوجودية بقوله: الحاجة للدين وجودية بوصفها حاجة لكينونة الكائن البشري؛ أي إنها تعكس الفقر الذاتي للهوية الوجودية لهذا الكائن (ص41). وأمام التفسيرات المتعددة لأصل وجود الدين مثل الجهل والخوف والصراع الطبقي، فإن الرفاعي لا ينكرها ابتداء، لكنه يرى بأنها لا تقدم لنا تفسيرا جديدا للدين يكشف لنا الحاجة العميقة للدين وراء كل ذلك، ولا تدلنا على الجذور البعيدة للدين والمتوغلة في الطبيعة الإنسانية (ص42). يقول الأديب الشهير ديستوفيسكي: (إن جوهر العاطفة الدينية مستقل عن جميعِ البراهين، وجميع الأفعال السيئة وجميع الجرائم وجميع مذاهب الإلحاد، إن في هذه العاطفة شيئًا لا يمكن أن تناله أدلّةُ الملحدين في يوم مِن الأيام، وسيظل الأمر على هذا النحو أبد الدهر)، ثم يدخل الدكتور الرفاعي في قراءة متلازمة الدين والمقدس بالقول: إن ليس كل مقدس دينا، وليس كل ما في الدين مقدسا، في كل دين ماهو مقدس وما هو غير مقدس؛ فالمقدس الحقيقي يتوالد بالتدريج تبعا لتوالد الميثولوجيا وتضخم المخيلة لدى أتباع الدين، فكلما اتسع فضاء الميثولوجيا في الدين اتسع فضاء المقدس (ص 43)، وهذه نقطة مهمة جدا في معالجة التراث الديني والمقدس تحسب للدكتور الرفاعي، وسبق أن طرح هذه الفكرة في كتبه السابقة.

يدخل الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان: (الحب والأضداد في الطبيعة الإنسانية) معبرا بأن الطبيعة الإنسانية هي عميقة ومركبة ومتضادة، كما يقول ابن عربي: (إن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقربان الأكرم)، وحيث إن مشكلات الإنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة الإنسان، ومن الصعوبة للوصول إلى ذلك كما يقول فرويد: (كل شخص هاوية ستصاب بالدوار لو أنك نظرت إلى أعماقه) (ص 54)، ثم يتحدث في مفاصل عالم النفس الإيجابي حول مكامن القوة الشخصية، منتقدا بأن ليس هناك وصفة جاهزة تنطبق على كل الناس، حيث إن كل إنسان نسخة خاصة لا تتطابق مع غيرها بشكل تام.

هل هناك حاجة للكراهية، يقول الدكتور الرفاعي في مقدمة عرفانية: (عندما أنظر إلى أعماق النفس الإنسانية بمجهر علماء النفس، لا أرى في الكائن البشري ما يغويني بمحبته، وعندما أنظر إلى روح الإنسان بمهجر العرفاء أرى شيئا من النور يغويني بمحبته) ص (67)، ثم يسرد قصة تعامل أطفال المدينة مع أطفال الريف والتهكم عليهم أيام الامتحانات في العراق قبل أكثر من نصف قرن، ليدرس أنماط الحياة وتأثيرها الاجتماعي، حيث إن طبيعة الإنسان ووقائع الحياة والعلاقات الاجتماعية تخبرنا أن الكائن البشري مثلما يحتاج المحبة يحتاج الكراهية أيضا، وربما يحتاج الكراهية أكثر، لكن تبقى قدرة الإنسان في السيطرة على تلك النزعة كما يقول الإمام علي بن أبي طالب: (اكره نفسك على الفضائل، فإن الرذائل أنت مطبوع عليها) (ص70)، بل كما يقول جمال الدين الأفغاني: (التسفل أسهل من الترفع).

وعلى الرغم من أن الحب شحيح في حياتنا والكراهية كثيرة في مجتمعنا، ينشد الناس الحزن أكثر من الفرح، كما أن تراث الفرق وعلم الكلام ومقولات فتاوى التكفير مشبعة بالكراهية، وظاهر كثير من العلاقات لا يشبه باطنها. يدعو الرفاعي بلغة الكتاب الجميلة إلى الاستثمار بالحب، وهو يعترف بأنه أصعب أشكال الاستثمار في مجتمعنا. يهتم الرفاعي بالرؤية الجمالية للعالم، ويؤكد أن الفن رديف للدين في التاريخ، حيثما عاش إنسان في أي مكان وزمان تظهر في حياته تعبيرات للدين وتعبيرات للفن، ولهذا لا تضاد بين جوهر الدين وما ينشده الفن الأصيل كلاهما ينشد فضح ظلام العالم (ص 78)، ثم يدخل في عالم الحب وتفسيراته، وكأنه يرسم لوحة جمالية مملوءة بالأدب والعرفان والجمال.

يؤكد الرفاعي في كتابه وعبر الفصل الثالث، أن الدين كان مع آدم الأول، وسيبقى مع آدم الأخير في الأرض، الدين كائن حي لن يموت مادام هناك إنسان يعيش على الأرض، داعيا إلى ضرورة التمييز بين مفهوم الدين ومفهوم الإيديولوجيا، الأخيرة ليست دين، وليس كل من يعتقد بدين هو إنسان ايديولوجي، (ص 104)، ويدعو لما يسميه بالتدين العقلاني الأخلاقي الذي يسعى إلى تحقيق حياة روحية ملهمة وضمير أخلاقي يقظ، وتذوق لجماليات الوجود (ص 106)، حيث إن أخطر ما يهدد وجود الدين في المجتمع هو ضمور الحس الأخلاقي في حياة الفرد والمجتمع، وتفشي التبريرات والحيل التي تتخفى بنصوص دينية وتتخذها ذريعة لتسويغ انتهاك كرامة الإنسان، ثم يصف نوعا آخر من الدين هو التدين الرحماني الذي يربط بين الدين والأخلاق كحالة ديناميكية حي، ويصف الرفاعي بأن هذا النوع من الدين هو تدين نادر، وإن كانت أمثلته موجودة في كل الأديان، ثم يقول في (ص 114) بأن المؤسف في بعض رجال الدين بأنهم منهمكون في رسم صورة مرعبة لله، وترسيخ اليأس من رحمته، وخلق صراع مفتعل بين الله والإنسان.

ثم ينتقل الرفاعي إلى النوع الآخر من أنواع الدين وهو التدين الشعبي، وهو تدين بريء يظهر فيه شيء من التدين الرحماني، وهو معروف في حياة الأفراد والمجتمعات، يتوارثه جيل بعد جيل منذ عصر الرسالة، وهو عفوي متصالح مع المؤسسات الدينية التقليدية والمرجعيات الفقهية، ثم ينتقل الرفاعي للحديث عن التدين الشعبوي، وهو نوع من التدين الذرائعي يظهر في مختلف الأديان، ولكنه ينشط كلما تلبد العقل أكثر، واشتد تزييف الوعي، بعد أن يحدث انزياح التدين عن مجاله (ص118)، والذي يصنع لاحقا التدين الشكلي، وهو الشكل السطحي المجوف من التدين، والمفرغ من نبض الحياة الروحية (ص 120)، إلى أن يبتكر مفاهيم جديدة تعالج أشد أنواع التدين وهو التدين المرضي؛ أي مرض نفسي بقناع ديني، ويؤكد ذلك عندما يتخذ المرض النفسي شكل تدين، ثم التدين السياسي، وهو من الأنواع التي تعني استغلال الدين للاستحواذ على السلطة والدولة والثروة في كل العصور، عبر مرجعيات دينية غير متخصصة في علوم الدين (ص 130)، ثم يسبر الرفاعي غور الحركات السياسية الدينية في أدبياتها ونصوصها منتقدا سلوكها بعد استلامها للسلطة، ثم يقول الرفاعي عبارة لافتة (ص 140): (كل دين يتحول إلى إيديولوجيا سياسية لا يلتقي بالديمقراطية، لكن الدين خارج توظيفه كإيديولوجية سياسية؛ أي الدين بمضمونه الروحي والأخلاقي والجمالي، لا تضاد بينه وبين الدولة الديمقراطية الحديثة).

يتحدث الدكتور الرفاعي في الفصل الرابع من الكتاب عن الكرامة كجوهر لإنسانية الدين، وفي مقدمة لهذا الفصل كتب عن النزعة الإنسانية كمقدمة مهمة وأسباب ظهورها كردة فعل في أوروبا على تأميم الدين ومؤسساته للفهم البشري، واحتكار تفسير كل شيء يتصل بحياة الإنسان وعلومه ومعارفه ورفض الاعتراف بدور العقل والعلم، ورغم أن مصطلح الإنسانية لم يولد في العصر الحديث إلا في مطلع القرن التاسع عشر كحركة فكرية تدعو إلى رفع كرامة الفكر البشري، ثم ليتسع لاحقا إلى مفاهيم أخرى لتمثل تصورا عاما للحياة، لكي تصبح أمام الدين في مسارين؛ الأول مسار متصالح مع الدين، وإن كان لا يقبل تأميم الدين ومصادرته لكافة أشكال المعرفة البشرية، والمسار الثاني ليس له صلة بالدين، وهو الذي اكتسب شهرة واسعة (ص 154).

يرى الرفاعي أن النزعة الإنسانية هي الجوهر الواحد الذي يشترك فيه كل كائن بشري مع غيره، والمتمثل في ما يصير كل إنسان إنسانا، بمعنى ما يكون به الإنسان إنسانا بغض النظر عن أي شيء آخر يتدخل في تصنيفه عرقيا أو جغرافيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو دينيا، ويرى أن النزعة الإنسانية تعني (إنسانية إيمانية) قائمة على إيقاظ العقل، وإعادة تعريف الإنسان، مشيرا لإريك فروم تمييزه بين نمط الحياة الامتلاكي ونمط الحياة الوجودي.

يرى الرفاعي أن الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية، وحيث إن كل رسالة تحررية في التاريخ البشري تستمد قيمتها ومشروعيتها من قدرتها على استرداد الكرامة البشرية المهدورة، بل إن المعيار الكلي لاختبار إنسانية أي دين هي كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتله منظومة الكرامة لديه (ص 183)، ولهذا فهي قيمة أصيلة، وتبدأ الكرامة بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة. ويعتقد الرفاعي أن التيارات اليسارية والقومية والأصولية تورطت في مفارقة استغفلت فيها بأن كرامة الأمة تتقدم على كرامة الفرد، وفي مرحلة لاحقة اختزلت كرامة الأمة بكرامة الزعيم وحده. الرفاعي يعتقد بعلوية وتقدم كرامة الفرد، لا كرامة لأمة لا كرامة لأفرادها، ويعرفها بأنها تمثل وعي الإنسان بالحرية، ويراها تمثل مقاما وجوديا، معتمدا على صورة الإنسان التي ترسمها آيات القرآن الكريم، ويضعها في مخططات ترسم تلك المعالم الأساسية.

ثم يرى بأن المصير المشترك للعالم يفرض قيما واحدة، مع العولمة التي جعلت مصائر المجتمعات واحدة، وحيث لم تعد الجغرافيا تمثل تحديا أو خطا فاصلا للمحلي والعالمي، أصبحت منظومة الأخلاق الشرعية غير كافية لمواجهة فضاء التحديات، ويرى مثل تحدي وباء كورونا يمثل قصة لبكاء الأرض بعد أن استباحها الإنسان وبدد غطاءها الأخضر (ص210)، وفضح هشاشة العالم وأعلن الحاجات العميقة للقيم في الحياة وضروراتها الأبدية لحماية مصير البشرية المشترك. يرى الرفاعي الكرامة والكونية هما المعيار الذي تتحدد على أساسه القيم الأخلاقية، بمعنى أن هذه القيم شاملة، وأنها قانون يصلح للتعميم، ويرى أن جميع هذه المجتمعات أمام هذا التحدي.

ويؤكد أن كرامة الإنسان تهدر حيثما تهدر حريته، التكفير في الأديان يصادر كل الحريات، إذ لا حرية لمكره على دين مثلا (ص 221). تقديم السُّنة على القرآن، والتركيز على الفقه على حساب الدين، فضلا عن التطبيق الميكانيكي لقواعد الاستنباط الفقهي، أدى إلى ضعف حضور المرجعية الأخلاقية في الاستنباط الفقهي، الذي أنتج بعض الأحكام التي تهدر كرامة البشر، مثل التكفير، (ص 234).

كما يتحدث الدكتور الرفاعي في الفصل السادس في مقاربة مهمة جدا بأن الاستعباد أبشع انتهاك للكرامة الإنسانية، حيث يرى الرفاعي وفق المنظور المعاصر بأن الاستعباد غير العبودية الطوعية، حيث أكثر ما يتفشى في المجتمعات العبودية الطوعية، التي يرضخ فيها الناس باختيارهم بعد تدجينهم لبشر يستعبدونهم (ص241). الكرامة هي القيمة المركزية في حياة البشرية، ولهذا فإن الإنسان يرفض بطبيعته الاستعباد؛ لأن جوهر إنسانية الإنسان هي كرامته، وجوهر كرامته هي الحرية، وجوهر الحرية هي المسؤولية (ص 249)، وكما يعبر زيجمونت باومان بأنه: لا غنى عن حياة الكرامة، لا البقاء بأي ثمن.

ويدعو الرفاعي بدعوة جريئة إلى أن احترام الكرامة الإنسانية هي مقصد من مقاصد الدين و أسمى أهدافه؛ وذلك يفرض أن يعاد كل تفسير ديني بما لا ينقض الكرامة أو ينتقص منها، ويعاد تفسير كل نص يتعارض مع هذا المقصد الكلي (ص 252). ويتحدث عن الحق في الاختلاف وتشكل مفهوم الفرد، ويضرب أمثلة على ذلك في العمل السياسي أو الحزبي، وأنه لا معنى لمجتمع تعددي من دون بناء لمعنى الفرد، وتذهب مباحث من الكتاب إلى الدعوة إلى حفظ الكرامة من خلال بناء السياقات التربوية للشخصية البشرية، وحيث يرى أن أسوأ أخطاء التربية التوبيخ على الخطأ، وكذلك الحث على الإذعان والانقياد والطاعة العمياء، وتخادم الاستبداد الديني مع الاستبداد السياسي (ص266).

الرفاعي يقدم في هذا الكتاب حلا لمشاكل قيمية في الحياة البشرية المعاصرة، لمواجهة الصراع والصدام الانحطاط القيمي والوباء عبر الدعوة لإعادة كرامة الإنسان، تلك القيمة المهدورة التي تحتاج إلى إعادة هذه المفاهيم وجعلها القيمة الأسمى التي ترتقي ببنيان الله كرامة وحرية.

فلسفة الكرامة عند فوكوياما

سبق أن قرات لفرانسيس فوكاياما كتابه (الهوية مطلب الكرامة وسياسات الاستياء الصادر) عن منتدى العلاقات العربية والدولية، ترجمة: مجاب الإمام، الذي يفسر الأحداث في العالم من منظار الهويات والكرامة، مرورا بما يعرف بالربيع العربي، والذي يرى فيه أن الذات الداخلية اساس الكرامة الإنسانية، بيد أن طبيعة تلك الكرامة متحولة ومتغيرة مرارا مع الزمن، حيث كانت الكرامة في العديد من الثقافات المبكرة حكرا على قلة من الناس، غالبا طبقة المحاربين المستعدين للمخاطرة بحياتهم في المعارك، في مجتمعات أخرى كانت الكرامة سمة كل البشر على أساس قيمتهم المتأصلة كبشر، وفي حالة ثالثة كانت الكرامة شرطا واجبا لعضوية المرء في مجموعة أكبر من التجارب والذاكرة المشتركة (ص 31).

ويربط هذا السياق بأجمعه في مفهوم الكرامة، عندما يؤكد أن مفهوم الهوية الحديث له ثلاثة مظاهر مختلفة هي الأول الثايموس، وهو يمثل الجانب الكوني من الشخصية الإنسانية التواق أبدا إلى الاعتراف، والثاني هو التمييز بين النفسين الداخلية والخارجية، والثالث هو تنامي الكرامة (ص57).

فيما يؤكد الرفاعي الجانب الإنساني في الكرامة عند كل الأديان، يحدد فوكويما مفهوم الكرامة المسيحي حول هذه القدرة على الاختيار الأخلاقي يستطيع البشر التمييز بين الخير والشر، ويمكنهم اختيار فعل الخير حتى ولو كان في أغلب الأحيان مثل آدم وحواء لا يفعلونه، كما ورد في سياق فكر لوثر (ص 58).

حيث يرى القس المعمداني مارتن لوثر كينغ مركزية الخيار الأخلاقي للكرامة الانسانية، اذ قال: (لدي حلم بان يعيش اطفالي الاربعة يوما في أمة لا تحكم عليهم بلون بشرتهم، بل بمحتوى شخصهم)، وهذه الأفكار حول الكرامة بنسختها العلمانية وردت على لسان إيمانويل كانط وردت في كتابه نقد العقل العملي، حيث يؤكد بأننا لا نستطيع الإشارة إلى شيء، باعتباره خيرا محضا وغير مشروط باستتثناء الإرادة الخيرة؛ أي القدرة على اتخاذ الخيار الأخلاقي الملائم، وأيد هيغل هذا الخيار الأخلاقي بالربط بين الخيار الأخلاقي والكرامة الإنسانية (ص 59).

ويرى فوكوياما بأن مطلب الاعتراف المتساوي بالكرامة قد حرك الثورة الفرنسية، وما زال مستمرا وفاعلا في تحريك الثورات حتى يومنا الحالي، ويضرب مثالا على ذلك الثورة التونسية عام 2011، عندما صادرت الشرطة عربة خضار لبائع جوال اسمه محمد بو عزيزي؛ لأنه لم يكن يحمل ترخيصا حسب أسرته. ولهذا صفعته الشرطية فائدة حمدي أمام الملأ، فذهب بوعزيزي إلى مكتب المحافظ لتقديم شكوى واستعادة ميزانه لكن المحافظ رفض مقابلته، فصب بوعزيزي البنزين وأحرق نفسه صائحا: كيف تتوقعون مني أن أكسب عيشي!، (ص61) وصولا إلى ثورة باتت تعرف بثورة الكرامة في أوكرانيا عام 2013، ويتفق الرفاعي مع فوكوياما على ربط مفهوم الكرامة مع جانب الحرية (ص 65).

لكن يختلف معه في شرح هذا الربط، عندما يقول فوكوياما: (إن التقليد المسيحي الذي يرى أن الكرامة متجذرة في الفاعليه الأخلاقية الإنسانية مع أنه لم ينظر إلى تلك الفاعلية بمعنى ديني الآن)، فالرفاعي أثبت في كتابه إمكانية المزج بينهما (ص 65)، حيث بقيت الرغبة في أن تعترف الدولة بكرامة الفرد الأساس كجوهر كل الحركات الديممقراطية، وبناء على زاوية هيغل، فإن الحقوق السياسية المتساوية لمواطنيها هي الحل العقلاني لكل التناقضات في العلاقة بين السيد والعبد (ص 68)، الذي يعالجها فوكوياما لاحقا من زاوية الدستور والقوانيين، حيث يقول معترفا: (لا يعرف أي من هذه الدساتير "الغربية" بدقة ماهية الكرامة الإنسانية وقلما يستطيع سياسي في العالم الغربي تفسير أساسها النظري) (ص 70).

وتاريخيا، فقد تفرع مفهوم الكرامة في القرن التاسع عشر في اتجاهين؛ الأول نحو الفردانية الليبرالية التي ترسخت في الحقوق السياسية للديمقراطيات الليبرالية الحديثة، والثاني نحو الهويات الجمعية التي يمكن تعريفها بالأمة والدين، والتي ركز عليها الرفاعي في كتابه، فيما يعتقد فوكوياما أن الكرامة قد تعرفت إلى عملية أسماها (دمقرطة الكرامة) في المجتمعات والدول (ص107)، فيما يركز على البعد المسيحي للكرامة، كانت رؤية الرفاعي أشمل بكثير، فلم يقتصر مفهوم الكرامة لديه عند حد التفسير الإسلامي، وهذه مفارقة بين عالمية الرؤية وشموليتها عند الرفاعي، فيما ظل فوكوياما متحدثا عن التقليد المسيحي في فكرة الكرامة، ومحاولة علمنتها، وإن كانت تنتمي لجذور متعلقة بالقواعد الأخلاقية، لكن مع انحسار الأفق الأخلاقي المشترك الذي أقامه الدين السائد في الدول الغربية، أصبح منح الكرامة حصرا للأفراد الملتزمين بقواعد المسيحية الأخلاقية (ص 108).

ختاما، قدم الرفاعي رؤية مفيدة جدا لمعالجة مشكلات عصرننا الراهن، ويصلح أن يخضع هذا الكتاب لحلقات نقاش مستمرة، وخصوصا للجيل الراهن، بات بأمسّ الحاجة إلى توجيه إنساني نحو الحب والسلام في زمن الدمار والعنف.