إخاء الأديان


فئة :  مقالات

إخاء الأديان

إخاء الأديان

د. محمد حبش

هل يتقبل المسلم وجود أديان أخرى على سبيل من الاحترام والتقدير لمبادئها ورموزها وأتباعها؟ أم إنه يلزم الاعتقاد ببطلان كل الأديان والعقائد، واعتبار الإسلام نسخة نهائية ووحيدة للصواب والحق والنجاة؟

الجواب إيجابي عن هذا التساؤل، موجزه أن الإسلام قادر أن يتقبّل الأديان الأخرى على قاعدة الاحترام، وأن جهود إلغاء الأديان وإبطالها، ومنع نشرها كان شأناً سياسياً ارتبط بأحداث التاريخ، وأن بإمكاننا أن نقدم موقفاً مختلفاً مزّزاً بالأدلة البرهانية والروائية، أن الإسلام مصدق لما بين يديه من النبوات السابقة والحكمة اللاحقة والخبرة الناجحة.

ولا يستلزم هذا الموقف القول بصواب كل ما تعتقده الأديان؛ فالقول بصواب المتناقضات لا يقول به إلا مجنون، ولكن فضاء المنطق يتسع لرأيين ودينين ومذهبين مختلفين على قاعدة الاحترام والتقدير، وفق القانون القرآني الكريم: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} [الأحقاف: 16].

لقد تعززت قناعتي التي قدمتها في الخطاب الإسلامي بأننا نواجه الحقيقة إياها في خطاب كل دين؛ ففي تراث كل دين نصوص من التسامح ونصوص من التعصب، وصيغ تفيد قبول الإيمان من كل الأمم وأخرى تحكم ببطلان الإيمان والعمل الصالح كله، إلا إذا صدر من أتباع الديانة تحديداً، وهو الجدل الذي نعتبره مركزياً في نشر ثقافة الكراهية والريب، ويؤدي تالياً لأشكال مختلفة من الصراع.

إن الديانات عموماً تستند إلى نصوص أدبية وتربوية وأخلاقية، وطبيعة هذا النوع من النصوص عدم الحسم والجزم كما هو الحال في النصوص الحقوقية والقانونية، وسيتبع ذلك بكل تأكيد تعدد التفاسير والتأويلات، وهو أمر يمكن ملاحظته بكل وضوح في كل دين، وهو سبب جوهري لقيام المذاهب المتعددة ضمن الديانة الواحدة، على الرغم من اتحاد الأصول والرموز الأولى، ولا خيار لمن يبتغي بناء ثقافة الوداد والإخاء بين الديانات من اتباع انتقائية بصيرة قائمة على ترجيح ما يتصل بالقيم العليا للدين، أو على اعتبار الاتصال بالمقاصد سبباً جوهرياً للترجيح، وكذلك لرد ما لا يستقيم مع المقاصد العليا للدين.

ويجب التأكيد أننا وإن كنا نشجع بحماس مبادرات رجال الدين في إخاء الأديان، ونعتبرها أمراً جوهرياً ومهماً، على أنّ الجمهور الذي نستهدفه يتجاوز طبقة المتدينين والتراثيين في الأديان، بل نبحث عن الجمهور العريض لهذه الديانات بغض النظر إن كانوا ملتزمين لاهوتياً بالنصوص والطقوس، أو كانوا يحملون موقفاً نقدياً وشكّياً بهذه الديانات، ولكنهم لا يخرجون ضرورة عن دين الآباء.

إن تصوّر أن الأمة الهندية العظيمة أو الأمة الصينية العظيمة تصدر في وعيها عن رجال الدين الهندوسي أو البوذي، وكذلك تصور أنّ الأوروبيّين والأمريكيين يصدرون عن رأي الكنيسة هو تجنّ كبير على الحقيقة، ولا يؤدي الغاية التي نريد، بل إنّه من المؤكد أنّ الشعوب تجاوزت رجال الدين فيها، ولكن يجب التأكيد دوماً أنّ الجمهور الذي لا يعبأ عادة بتراثه الديني يرتدّ في لحظة المواجهة مع الآخر الديني إلى نصوص الكهنوت، وهذا ما يجعل البحث في اللاهوت الديني أمراً ضرورياً لبناء إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

ليس المقصود الأديان بل الإنسان، وإخاء الأديان هو في النهاية إخاء الإنسان، أو هو التعامل إيجابياً مع الهيئة الأكثر ممارسة للقطيعة والإقصاء بين الناس، لتدرك خطأها وتعود إلى الخطاب الإلهي الغامر لسائر الخلق بالمحبّة والعناية، فالخلق كلّهم عيال الله.

مصطلح إخاء الأديان

يستخدم الحوار المشترك في الحقل الديني عدداً من المصطلحات: صراع الأديان، مقارنة الأديان، حوار الأديان، حوار أتباع الأديان، وحدة الأديان، توحيد الأديان، ولكن من المناسب أن نحدّد الفوارق في الاستخدام بين هذه المصطلحات ومعنى اختيارنا لإخاء الأديان.

صراع الأديان:

تمر الأديان، دوماً، خلال تأسيسها بلحظة فارقة توجب تميز الأتباع عن الآخرين، وفي الأديان نصوص كثيرة مثل ما ورد في القرآن الكريم {كَذَلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذّاريَات: 52]، ويستلزم هذا الشقاق موقفاً حاداً من التمييز بين الأتباع وغير الأتباع، وتعيش الحركات الأصولية في الأديان كلّها لحظة الصدام هذه وتبني عليها موقفاً مستمرّاً من العداء والتنازع، بوصفه صراع الحق والباطل، وصراع الخير والشر، وعادة ما يتم تداوله على أنه صراع وجود لا صراع حدود. وفي هذا السبيل وقعت الحروب الضارية بين الأديان، وأشهرها بطبيعة الحال الحروب الصليبية التي استمرت مئتي عام وأنهكت الشرق والغرب، ورسمت حدوداً دموية للعلاقات لم تنته إلا بولادة الدولة الحديثة، وإعلان حقوق الإنسان، ولكنها لا زالت عند شريحة كبيرة من أتباع الأديان أصلاً من أصول العقيدة، ويعبّر عنها في الأصولية الإسلامية بعقيدة الولاء والبراء، التي تقتضي محبّة المؤمنين، وبغض غيرهم، وهو بغض تعبّدي لا بد من أن يفضي في النهاية إلى مزيد من الفوضى والدماء.

حرب الأديان:

يمكن نسبة هذا المصطلح للمستشرق برنارد لويس، وهي نزعة تظهر باستمرار في الغرب والشرق وبشكل خاص في منعطفات الصراع والمواجهة، وتغذّيها الأحزاب العنصرية والمتطرفة. وفي هذا السياق، يمكن إدراج عدد من الكتاب منهم صموئيل هنتنغتون في كتابه (صدام الحضارات)، وفرنسيس فوكوياما في (نهاية التاريخ)، ويرى هؤلاء أنّ المواجهة بين الأديان حتمية، وأنّها قد تتخذ صورة حربية وعسكرية مدمّرة، وأنّ الأديان جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحلّ، ويمكن القول: إنّ هذه النظرة السلبية توجّه بشكل أساسي ضد الإسلام الذي يحمل عقيدة الجهاد والولاء والبراء.

مقارنة الأديان:

وهو جهد علمي يهدف إلى التعريف بعدد من الأديان في سياق واحد والنظر في تفضيل بعضها على بعض، وقد تم استخدام هذا المصطلح دوماً في سياق صراع الديانات، وتورطت فيه جهود استشراقية عملت على خدمة التبشير والاستعمار، قبل أن تظهر الدراسات الموسوعية المحايدة التي تحدثت بموضوعية وعمق عن اختلاف الأديان وشرحت، بدقة وحياد، عقائد أتباعها.

ومن المؤسف أنني لا أعرف دراسة محايدة بالعربية تتناول بالبحث العلمي لاهوت الأديان وطقوسها في سياق إيجابي بناء، بل تنتهي كتب المقارنة دوماً بإثبات صحة الإسلام وفساد الأديان الأخرى، ومن أشهر الأعمال في ذلك كتب الشهرستاني في (الملل والنحل)، وابن حزم في (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل) و(تهافت الفلاسفة) للغزالي وكتب ابن تيمية في الرد على النصارى واليهود، وفي العصر الحديث (موسوعة مقارنة الأديان) للدكتور أحمد شلبي، و(موسوعة الأديان والمذاهب في العالم)، وسنشير إليها بعد قليل.

حوار الأديان:

يهدف حوار الأديان إلى تبادل المعرفة عن الديانات، ويحمل عادة حمولة تبشيرية، حيث كل محاور يظهر أجود ما في دينه، وينهال على خصمه فيما يعتبره نقصاً وقصوراً في ديانته.

وتندرج في هذا السياق، الحوارات الصاخبة للشيخ أحمد ديدات مع الكهنة المسيحيين، وكذلك الواعظ المسلم الهندي الشهير ذاكر نايك، وهي حوارات ذات طابع سلبي على إخاء الأديان، وتؤدي تلقائياً إلى مزيد من الكراهية.

وعلى الرغم من المعنى النقدي في المصطلح، فقد شاع استخدامه اليوم على المستوى الرسمي في البلدان الإسلامية، وهناك مؤسسات رسمية قائمة في مصر والمغرب وماليزيا وقطر ولبنان والسعودية وإيران تحت عنوان حوار الأديان، تهدف إلى بناء علاقات إيجابية بين أتباع الأديان، وتحقيق إصلاح اجتماعي من خلال التعارف بين الأديان.

حوار أتباع الأديان:

تفضّل السعودية استخدام هذا المصطلح، وذلك تجاوباً مع مطالب الهيئات الدينية التي تعتبر أنّ الحوار بين الأديان بدعة، وأنّه لا يوجد دين حق إلّا دين واحد، وأنّ مجرّد الحوار مع الأديان هو اعتراف بلاهوتهم. وهنا يتم استخدام مصطلح حوار أتباع الأديان، ويتم التأكيد أنّ الحوار لا يتناول اللاهوت، وإنّما يتناول المسائل الاجتماعية والقضايا المشتركة كالعفاف والأسرة ووقف الحروب.

وحدة الأديان:

ويختار أصحاب هذا المنهج منهج الأصل الواحد للأديان؛ فالأديان في أصولها من المصدر نفسه، وعلينا أن نبحث عن المشترك بين هذه الأديان، ونؤسس منها قيماً مشتركة وفضائل موحدة. وعادة ما يبحث أصحاب هذا الاتجاه عن الجذور المشتركة لكل الممارسات الدينية، وتشابه ما دعت إليه الأديان في الصلاة والصوم والأخلاق، ومن أشهر من نادى بوحدة الأديان بهذا المعنى الإمام ابن عربي وعبد الكريم الجيلي والإمام ابن الفارض.

توحيد الأديان:

ويهدف هذا التوجه إلى جمع الأديان كلها، واستخراج دين جديد يتقبل منها أحسن ما فيها، ويتخلى عن أسباب الخصام والنزاع والصراع، ويبني المستقبل على أساس الوعي بالدين العالمي الإلهي، ويمكن أن ندرج في هذا التفكير أصحاب الدين الطبيعي كما قدّمه ديفيد هيوم وأوغست كونت وجون ديوي وإيرك فروم وجون هيك، ويجب التوكيد أنّ ما طرحه هؤلاء الفلاسفة لا يعدو أن يكون فلسفة نظرية وليس توليد دين جديد. أما المحاولة المباشرة لإطلاق هذه الفكرة، فقد نسبت للسلطان المغولي أكبر شاه الذي كان أبرز من قام بمحاولات حقيقية لبناء دين عالمي إنساني يتوحد فيه المسلمون والهندوس والمسيحيون، وقد سمي فيما بعد (din i ilahi)، وسنناقش ذلك في فصل مستقل.

إخاء الأديان:

يهدف المصطلح إخاء الأديان إلى بناء أجود علاقات الأخوّة والمحبة بين أتباع الأديان، بواقعها الحالي، باعتبار أنّ الأديان الحالية هي واقع مجتمعي راسخ، وهي وفق كل الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية تتخذ هيئات ومؤسسات وتقاليد مستقرة وراسخة، وهي تسهم في تشكيل الوعي لدى معظم سكان هذا الكوكب الذي صار قرية عالمية.

ويتبنى مصطلح إخاء الأديان منطق البناء على الإيجابي في علاقات أهل الأديان، والاعتراف بالأديان جميعاً على أنّها جهود نبيلة وعظيمة تهدف لبناء السعادة في الأرض سواء كان مصدرها أرضياً أم سماوياً، وسواء ذكرت في القرآن الكريم أو لم تذكر.

وبناء عليه فإنّ إخاء الأديان لا يفترض حواراً تبشيرياً، ولا يفرض تعديلات على المتحاورين للوصول إلى منطقة وسطى، بل يقبل الجميع كما هم، ويتقبل أنّ وراء كل سلوك ديني هدفاً نبيلاً، ويشجّع التيارات الإصلاحية والتجديدية في الأديان كلّها، لتتقبّل فكرة الإخاء الإنساني بغض النظر عن الخلاف في المعتقدات والطقوس، ويؤسّس لبناء الأخوة والمحبّة بين الإنسان والإنسان، ولكم دينكم ولي دين.

وإذا كان هناك اتجاه نستهدفه ونواجهه، فهو تيار الإقصاء والاستعلاء وإلغاء الآخرين الذي يمكن أن نجده في كل دين، فلكل أمّة متشدّدوها، ولكل أمة متسامحوها، وغنيّ عن القول إنّ الحلف المأمول هو حلف مع أهل التسامح في الأديان، وسيكون بالضرورة ضد التيارات المتشدّدة فيها.

وحتى نكون أكثر دقة، فإنّ إخاء الأديان لا يمكنه أن يكون محايداً في كل ما تطرحه الأديان، بل سيختار الجانب الإيجابي في السلم والحب والرحمة في تراث الديانات، فيما سيواجه ثقافة البغضاء التي تسربت إلى التراث الديني في ظروف وشروط مختلفة، وسيسعى إلى اكتشاف سفراء الإخاء الإنساني في كل ديانة وسيبني على تجاربهم واختياراتهم وفلسفتهم، كما سيشير بوضوح إلى أعداء الإخاء الإنساني مهما نالوا من رتب القداسة في محيطهم الديني.

وأجد هنا ضرورة للتأكيد مرة أخرى، أنّ إخاء الديانات لا يستهدف إقصاء اللّادينيين، حيث نؤمن بأنّ الأهداف النبيلة في الإخاء موجودة بالفطرة لدى كل إنسان، ونؤمن بأنّ الخلق جميعاً يحملون فطرة النقاء الروحي والطهر النفسي، ولكنّنا نعالج المشكلة مباشرة في حقل الديانات؛ لأنها تشكّل الغالبية الساحقة للوعي الإنساني في العالم من جانب، ومن جانب آخر لأنّ ثقافة الكراهية تجد جذورها في التراث الديني، وعلينا أن نقوم بما نستطيع لنوقظ الجانب الإيجابي الداعي للمحبّة في تراث الأديان، وأن نواجه السلبية المدمّرة في التراث نفسه التي أفرزت تاريخياً أشد الحروب مرارة وقسوة.

ويمكن الإشارة إلى الإمام الجليل مولانا جلال الدين الرومي على أنّه أبرز دعاة إخاء الأديان، ونعتبره في الواقع أفضل من عبّر عن هذه الحقيقة، ومارسها ودافع عنها في التاريخ الإسلامي.

الدراسات السابقة

يمكن القول: إن خطاب إخاء الأديان موجود في الواقع في النصوص الدينية في الإنجيل والقرآن الكريم كما سنبين، وهو كذلك موجود في الخطاب التأسيسي للديانات وبشكل خاص الهندوسية والبوذية والسيخية والبهائية، وبسط هذه الأدلة ومناقشتها هو جوهر هذا الكتاب.

وعلينا، بالقدر نفسه، أن نشير إلى أنّ النصوص الدينية طافحة أيضاً برفض دعوات الإخاء، واعتبار الدين صراطاً مستقيماً وحيداً إلى الله والحقيقة، وأنّ أيّ انحراف عنه أو موادة لغيره هو انتهاك لجوهر النص الديني.

ويمكن القول: إنّ الجدل كله سيكون في هذه الدائرة تحديداً، فالنص الديني كله حمّال أوجه، ولا زال الناس يختلفون فيه تنزيلاً وتأويلاً، ويبدو أنّ هذا قدَر الأديان إلى الأبد.

من جانب آخر، قدّم علماء الحضارة الإسلامية كثيراً من الدراسات النقدية للأديان، ومن هذه الكتب: (الملل والنحل) للشهرستاني، و(الفِصَل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي، و(هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى) لابن القيّم، وكتب الردود وهي كثيرة ولا تخرج في مجملها عن موقف واحد وهو إثبات حقيقة الإسلام وزيف الأديان الأخرى، ووجوب انتصار الإسلام على الأديان الأخرى، وهي مشابهة في الأصل والفرع لكتب النصارى في العصور الوسطى التي وُضعتْ لاتهام الإسلام بالهرطقة والفساد والانحراف، وحتمية الصراع بين الديانتين، وانتصار المسيحية على الإسلام.

وفي السياق نفسه، ما كتب في العصر الحديث من موسوعات الحوار بين الأديان كما نجدها في موسوعة الدكتور أحمد شلبي (مقارنة الأديان)، وكذلك كتب مقارنة الأديان وهي كثيرة، ومنها كتاب (مقارنة الأديان) لمحمد أحمد الخطيب، و(موسوعة الأديان والفرق والمذاهب) التي أصدرتها هيئة حكومة سعودية بإشراف مانع حمود الجهني، وكذلك كتاب أحمد ديدات الذي يتم توزيعه على النت بعنوان (خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس)، وكتاب (حوار الأديان نشأته وتطوره) للباحث الأستاذ عبد الحليم آيت، وكتاب (الحوار بين أتباع الأديان والثقافات) للدكتور عادل بن علي الشندي، وكتاب (الحوار بين الأديان أسراره وخفاياه) للدكتور عبد الودود شلبي، وغيرها كثير، فهي في الواقع تكرّس لغة العصور الوسطى القائمة على إثبات انحراف الآخرين وزيغهم وبطلان معتقداتهم وممارساتهم، وتلتزم عموماً الموقف المشهور عند رجال الدين، وهو التعامل مع حوار الأديان كمنبر للتعريف بالإسلام، والرد على الأديان الأخرى وبيان تهافتها وانقضاء آمادها ونسخها بالشريعة الخاتمة.

أما مواقف إخاء الأديان في التراث الإسلامي، فلا نجدها في كتب مستقلة، ولكنّنا نجد جذوراً علمية وموضوعية لها في أعمال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي وابن سبعين والعفيف التلمساني وصدر الدين القونوي وشمس تبريز، وأعمال مولانا جلال الدين الرومي، وكذلك ما كتبه ابن سينا والبيروني في دراساتهما في الديانات المقارنة.

أما الدراسات الأوروبية في العصور الوسطى، فلا تخرج عن نسق سياقاتها في التراث الإسلامي، ولم تصدر عن الأوروبيين دراسة جدية في الإخاء بين الإسلام والمسيحية. وقد طبعت العلاقات بين الإسلام والغرب الحروب الصليبية ثم الحروب التركية في أوروبا ثم الحروب الاستعمارية، ومن المؤكد أنّ هذه الأجواء الطاحنة لن تخلق فرصاً للحوار الإيجابي البنّاء.

ولكن مع قيام عصر الأنوار ظهرت دراسات نقدية مهمة تناولت التعريف بالدين كقيمة روحية واجتماعية، بعيداً عن روح التبشير والوعظ، وقد كتب هيوم وديكارت وكانط دراسات نقدية مهمّة لأداء الكنيسة، في سلسلة دراسات سندرسها في فصل خاص، قدّمها جان جاك روسو وفولتير وإميل دوركهايم وسانتيانا وإمانويل كانط، وتولى جون هيك في النهاية صياغة مشروع التعدد الديني الذي يؤكد وحدة مصادر الأديان وغاياتها وتشابه مفاهيمها في الاعتقاد والسلوك.

وفي المكتبة العربية، ظهرت بعض الأعمال المهمة التي تناولت حوار الأديان بإيجابية موضوعية، وقدمت تصورات متعددة لإمكانية بناء إخاء حقيقي بين الأديان، ومما صدر في هذا الشأن:

صدر بالفرنسية كتاب (تاريخ مقارن للأديان التوحيدية) للكاتب الجزائري محمد أركون، وقد ترجم إلى العربية، التزم فيه صاحبه حياداً أكاديمياً، وفيه أرّخ للديانات التوحيدية الثلاث، كما صدر عن دار الأهلية كتاب (الوحدة في الاختلاف) شارك فيه كل من محمد أبو نمر وأمل خوري وإيميلي ويلتي بالإنجليزية وترجم إلى العربية.

وكتب سليمان مظهر (قصة الديانات) في قراءة إيجابية لتجليات الأديان وقيمها الروحية، وتبدو فيه بوضوح الرغبة التوفيقية بين مقاصد الأديان.

وصدر عن المركز الديمقراطي العربي في ألمانيا كتاب (الفن في حوار الأديان الأزلي) للكاتب عبد الرحمن جعفر الكناني، وتناول فيه جوانب من الرمزية في الفن للتعبير عن القيم المشتركة بين الأديان بأسلوب فني بعيد عن اللاهوت والسياسة.

كما نشير إلى كتاب مهم صدر عن دار نيوبوك في القاهرة للباحث الأستاذ محمد ثروت، وقد قدّم له الدكتور يوسف عامر نائب رئيس جامعة الأزهر بعنوان (حوار الأديان وأثره على التعايش السلمي)، تناول فيه حوار الأديان برؤية إيجابية، وتطرق للنموذج الماليزي، وقدم سجلاً تاريخياً لنشاطات حوار الأديان من وثيقة المدينة إلى وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها البابا وشيخ الأزهر في أبو ظبي (2019م).

ونشير إلى كتاب (المشترك أكثر مما تعتقد) للكاتب الأمريكي وليم بيكر، وقد ترجمناه للعربية، وكتبتُ مقدّمة مهمّة عليه.

ويمكن اعتبار هذه الدراسات إيجابية في التعامل مع الحوار الديني، ولكنها اقتصرت على الجانب الاجتماعي ولم تمس اللاهوت، فيما يمكن أن نشير إلى دراسات أكثر تقدماً. وفي هذا السياق، نشير إلى كتاب (الصراطات المستقيمة) للدكتور عبد الكريم سروش، وهي دراسة عميقة تستخدم الأدلة التراثية والتفكير الغربي في إثبات إمكان وجود وئام حقيقي بين الديانات، وأكثر من صراط مستقيم، وأنّ قدر هذا العالم التشارك والتفاهم والتكامل، وتدعو بوضوح إلى اكتشاف المشترك بين الأديان والبناء عليه.

ومن هذه الدراسات ما كتبه بالألمانية الدكتور مهنّد خورشيد عميد كلية الدراسات الإسلامية بجامعة مونستر بعنوان: (الإسلام رحمة- السمات الأساسية للتحديث الديني) وفيه يتناول وعياً آخر بالنص الديني قائم على المقاصد الإنسانية، يؤسس لاعتراف كامل بإيمان الآخرين، وقد أثار الكتاب جدلاً في المجتمع الألماني.

ومنها كتاب عبد الجبار الرفاعي: (الدين والنزعة الإنسانية)، وهو جزء من ثلاثية كتبها بعنوان (الدين والظمأ الأنطولوجي) و(الدين والاغتراب الميتافيزيقي).

الخلاصة

لست أدري في الواقع ما الذي يدفعنا للاعتقاد أن الأصل في الإنسانية العذاب والنار والفشل والخيبة، وأن عدداً محدوداً من الناس سينالون الخلاص، وهذه الفكرة في الواقع سائدة في الديانات الإبراهيمية والفيدية جميعاً، وهي في سياقها الظاهر تتضمن إساءة بالغة لمقام المولى سبحانه، إذ نفترضه يتربص بخلقه ويتوعدهم بعذابه، ويذكرهم بوضاعتهم، وأنهم ليسوا إلا خطيئة وفاحشة وأنهم مستحقون منذ الخلق لغضب الله، وليملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، وأنه سبق منه القول بذلك، وأن علينا دوام الضراعة والتوسل والبكاء لننال الخلاص من المولى الذي قد يرحم ويغفر.

ولكن التيارات العقلانية في هذه الأديان جميعاً تعارض هذه الفكرة، وكان يمكن أن نرصد ذلك على مستوى الأديان، ولكنني أكتفي بالقول هنا إن الفكرة بحد ذاتها في الإسلام تعرض لها الأدلة المتقابلة أيضاً، فهناك نصوص تفيد أن سائر الخلق سيردون جهنم وينجو من شاء الله منهم أن ينجو، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً *ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّاً} [مَريَم: 71-72] ومع أن ظاهر الآية العموم ولكن من الواضح أن العذاب سيكون على الظالمين، وهذا يجعل الآية في باب العموم المراد به الخصوص، ولا يليق أن ينسحب هذا المعنى على سائر البشر، بل على الظالمين الأشرار، وهو ما يتسق مع روح البلاغة القرآنية.

وهناك نصوص أخرى تشير إلى أن الأصل في الناس الرحمة والسعادة والتوفيق، {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبيَاء: 107]، وكذلك وصفه للإنسان بأنه خليفة الله في الأرض وسجود الملائكة له، وقد وصف المؤمنين بأنه يحبهم ويحبونه، وقوله فيما رواه الرسول الكريم عن ربه: «إذا تقرب مني عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»[1]، وكذلك حديث «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها»[2].

إن الإنسان خلق في الجنة والفردوس والنعيم، سيداً مطاعاً تسجد له الكائنات بإرادة إلهية مباشرة وهدف كريم، وهبط إلى الأرض ليس على سبيل الطرد والغضب، بل نزل إليها خليفة لله، ولديه رسالة نبيلة وعظيمة في إعمارها والإحسان فيها، وسبيله العودة إلى داره الأولى، وهذه كلها مفاهيم إسلامية أساسية يمكن البناء عليها لجحد فكرة عموم الهلكة والحاجة إلى الخلاص.

وهكذا، فإن فكرة الأصل التالف أو الهالك، وإنسان الخطيئة، والذات الهابطة التي أوبقها وعيد الله، ووجوب البحث عن نجاة وخلاص ليست فكرة محسومة في الإيمان الإسلامي، وهناك تيار كبير يرى أن الخلق خلقوا سعداء أهلاً للفردوس والنعيم، وأنهم يتنافسون لمراتب المعارج، وأنهم أهل للرضوان، إلا من اختار الجريمة والشر، فيطهرهم الله ليكونوا أهلاً لصحبة الأبرار في النعيم المقيم، وأن الله تعالى خلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، وخلقهم على صورته لتظهر فيهم عجائبه وإحسانه ورضوانه.

وخير تعبير لهذه الحقيقة، ما روي عن علي بن أبي طالب في نهج البلاغة، وفي المعنى نفسه للرائدة الإنسانية الرائعة رابعة العدوية: إن قوماً عبدوك رجاء جنتك فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوك خوف نارك فتلك عبادة العبيد، ولكنني عبدتك ابتغاء الحب، إنك أنت الله[3].

[1] - رواه البخاري عن أنس بن مالك، ج6، ص741

[2] - رواه البخاري عن أبي هريرة، ج8، ص105

[3] - ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج1، ص68