الأخلاق الكونية: قراءة في كتاب "المشترك بين الأديان والفلسفة" لمحمد عثمان الخشت


فئة :  قراءات في كتب

الأخلاق الكونية:  قراءة في كتاب "المشترك بين الأديان والفلسفة"  لمحمد عثمان الخشت

الأخلاق الكونية:

قراءة في كتاب "المشترك بين الأديان والفلسفة"[1]

لقد مرّ تاريخ الفلسفة الإسلامية بمراحل متعددة كان هدف كلّ منها محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين، وقد بدأت هذه المحاولات في بواكير دخول الفلسفة اليونانية أرض المشرق الإسلامي، وعلى الرغم مما شاب تلك المحاولات – في الغالب – من مساوئ أدت إلى إظهار الدين بمظهر التابع للفلسفة، وانتقصته كثيرًا من حقه، متغافلة عما فيه من فلسفة قرآنية نستطيع – من خلالها – بناء نسق فلسفي يفوق في جدته الفلسفات الوافدة على كثرتها، فإننا نجد محاولة عصرية يقودها الدكتور الخشت لإظهار نوع من التوافق بين الفلسفة الأخلاقية والدين.

ويعد هذا الكتاب الذي بين أيدينا – المشترك بين الأديان والفلسفة الذي كانت طبعته الأولى بـ "دار غريب" بالقاهرة 2011، ثم توالت طباعته بعد ذلك - إحدى المحاولات العصرية التي تتشوف نقاط الالتقاء بين الدين والفلسفة في مسألة الأخلاق، مما يجعله يعبر – بحق – عن محاولة توفيقية جدية وهادفة بينهما، وهي من المحاولات التي نفتقدها في عصرنا الراهن، خاصة وقد وجه الباحثون جل اهتمامهم ناحية أحد أمرين: إما الانغماس في القديم بكل قوة، أو مسايرة الحديث بكل قوة، دونما أدنى محاولة للكشف عن الوشائج التي قد تجمع بينهما من خلال النقد والمقارنة والتحليل، ومع هذا فلا يمكن إغفال جهود عدد من الباحثين في الكشف عن هذه الوشائج بين التيارين القديم والحديث، من ثم كان الدكتور الخشت هنا أحد هؤلاء الباحثين الذين قامت جهودهم على ربط الفكر الفلسفي الوافد بالفكر العقدي الموروث لا بهدف التعصب للمذهب، أو الدين، ولكن إيمانًا منه بقيمة الفكر العقدي الديني، وعمقه وجدة فكره، وقدرته على التواصل مع الفلسفات الهادفة.

وقد نأى الدكتور الخشت بنفسه عن الخلافات التي توجد بين الأديان والخلافات التي توجد في الفلسفات الأخلاقية حول طبيعة الخير، وماهية الأخلاق، وأصلها، ومسوغاتها، ومصادر الإلزام الخلقي، والغاية من السلوك الأخلاقي؛ إيمانًا منه بأن تلك الاختلافات متنوعة في جانب مما سبق مع اتسامها بالعمق، وعلى الرغم من تلك الاختلافات العميقة بين الفلسفات الأخلاقية والأديان، فإن الدكتور الخشت كان يحدوه الأمل في التوصل إلى الحد الأدنى المشترك بينها جميعًا.

ومن ثم، فقد أثبت الخشت في كتابه القيم أن فلسفات الأخلاق في عصر الحداثة لم تقدم أخلاق الحد الأدنى المشترك، كما لم تقد توضيحًا يذكر للوسائل والآليات العملية التي يمكن أن تكون وسيلة لبلوغ الخير، أو أن تكون وسيلة تساعده على أن يصبح أخلاقيًا خيرًا، إلا أن أستاذنا قد استثنى بعض المحاولات في الأخلاق المهنية وأخلاق الأعمال التجارية في الأونة الأخيرة، إلا أنها تعد من قبيل الأخلاق المنغلقة – في رأيي – لأنها تختص بمجال محدد، لا بالأخلاق على العموم.

ومن ثم، فإن الكتاب يمثل نقدًا لفلسفات أخلاق عصر الحداثة في عدم تحديدها وتوضيحها للشروط الأولية لأخلاق الحد الأدنى المشترك، فضلاً عن أنها لم تقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق الفضيلة والسعادة، حيث يكون الفضلاء سعداء، والأشرار تعساء أشقياء في هذه الحياة الدنيا. ومن ثم، فالكتاب يمثل صرخة قوية ضد الفلسفات الأخلاقية في عصر الحداثة؛ لأنها تركت عملية إحداث التطابق بين الفضيلة والسعادة إلى قوى غيبية أحيانًا، ولم تعبأ بها أحيانًا أخرى، فضلاً عن أن أغلب فلاسفتها غرقوا في التأملات النظرية، وابتعدوا عن الواقع والحياة الإيجابية.

ولئن كان الدكتور الخشت في كتابه يرى أن فلسفات الأديان لم تقدم لنا إلا الضمانات الأخروية في التطابق بين الفضيلة والسعادة، فإنني أرى أن فلسفة الأخلاق المستنبطة من الكتاب والسنة، لتؤكد على ما كان يبحث عنه الدكتور الخشت؛ إذ جمعت – في رأيي – بين الضمانات الدنيوية والضمانات الأخروية، وطابقت بين الفضيلة والسعادة في الدنيا والآخرة، بل لقد جمع الإسلام بين الجزاء في صورة مادية عاجلة في الدنيا، وصورة آجلة في الآخرة.

لقد أراد الخشت إذن تقديم الضمانات الدنيوية التي تكفل التطابق بين الخير والسعادة، وتنقل الفضلاء إلى مرحلة السعادة، وتبقي الأشقياء في تعاسة دائمة. لقد أراد الانخراط في سلك الواقع والحياة الإيجابية دون الانكفاء على التأمل النظري فقط، كما أراد من خلال كتابه أن يربط سعادة الفرد بسعادة المجتمع، بل بسعادة الإنسانية عامة.

لقد نقد المشكلات الشكلية التي غرقت فيها الفلسفات القديمة، ومنها مشكلة التمييز بين الخير والشر؛ استنادًا إلى أن الخير عنده واضح بذاته والشر واضح بذاته، بما يعني أن الخشت في فلسفته الأخلاقية يؤمن بأن الخير والشر أمران ذاتيان في الفعل يستطيع العقل المنطقي تحديد وجه الحسن والقبح فيهما، باعتبار العقل السليم لا يناقض الشرع. كما يمثل الكتاب نقدًا غير مباشر للاتجاهات النفعية والتجريبية – وأقول غير مباشر؛ لأن الخشت لم يخصص كتابه لنقضها أولا؛ ولأنه نقدها في كتبه المخصصة لذلك وهي كثيرة ثانيًا، ولأن المجال في كتابه هنا ليس مجال نقد بقدر ما هو مجال بحث عن نقاط الالتقاء ومظاهر التوافق ثالثًا – في عصر ما بعد الحداثة، والتي كانت تتحايل على تبرير الأهواء والمصالح الشخصية أو العامة، فتفسر الخير تفسيرًا تحاول به إيهام أنفسهم أو إيهام الآخرين بأن ما يفعلونه من شر هو خير.

ولما كان الدكتور الخشت مدركًا لصعوبة تقصي كل الأديان، خاصة أن الدين ليس واحدًا بل متعددًا، كما أن الأديان محتلفة ومتباينة، فإنه لم يحدد فلسفة الدين التي ارتآها لبناء بحثه في دين بعينه، وإنما حددها في الدين عامة، فنظر للدين بعامة من حيث هو دين. ولما كان الفلاسفة لا يتفقون حول ماهية الدين، فقد ارتأى الدكتور الخشت أن يقف على معنى مشترك بين الأديان ييسر له معالجتها ككيان واحد يمكن مقارنته بفلسفة الأخلاق، ومن ثم كان هذا هو المسوغ الذي الذي اكتسب لبحثه به المشروعية في الكشف عن الحد الأدنى المشترك بين الدين وفلسفة الأخلاق.

كما أنه كان عليه أن يواجه مشكلة من نوع آخر تتعلق بكيفية التعامل مع فلسفات الأخلاق، خاصة أنه من المتعذر تعقب كل هذه الفلسفات تفصيليًا، ومن ثم فقد وجه اهتمامه إلى أهمها في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بما لا يخل بالتأصيل الفلسفي والتحليل العلمي، ومن ثم فقد حلل ناقدًا أهم النظريات الأخلاقية الفلسفية في ضوء الفكرة التي يدور حولها كتابه، محاولاً من خلالها تحديد مفهوم أخلاق الحد الأدنى أو نواة الأخلاق بين الدين وفلسفة الأخلاق في ضوء فلسفات جون رولز ويورغن هابرماس ووالزر وكونج.

ومن ثم، فقد حدد الخشت طريقه عن طريق تساؤلات طرحها البحث هي - في الحق – لبنات بنى عليها كتابه أو بحثه الأخلاقي وتعبر عن تحديد واضح للمشكلات التي تمثل أفكارًا رئيسة يجب عليه معالجتها، وكان من ضمن هذه التساؤلات: كيف يمكن صوغ واجبات هذه الأخلاق في مصطلحات محددة؟ وعلى أيّ أسس يتم إصدار أحكام معيارية ملموسة يخضع لها الجميع دون استثناء بسبب المال أو السلطة؟ هل يجب على المرء البدء من الصفر مع الاحتكام إلى العقل النقدي المستقل؟ أم يمكن للتقاليد الدينية والأخلاقية والفلسفية العظيمة طرح نقاط التقاء من أجل صياغة أخلاق الحد الأدنى أو نواة الأخلاق؟ وهذه التساؤلات عالجها في إطار منهج تحليلي نقدي مقارن، تحرك من خلاله في إطار فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق في عصر الحداثة؛ ليتبين المنطقة الوسطى بينها، والتي تسمح بنشوء نواة الأخلاق التي يقيم عليها بحثه.

ومن ثم، فقد احتوى الكتاب على مقدمة وثلاثة مباحث:

المبحث الأول، العلاقة بين الدين والأخلاق.

المبحث الثاني، غياب الحد الأدنى الأخلاقي.

المبحث الثالث، الحد الأدنى الأخلاقي عند الفلاسفة المتأخرين.

وقد تناول أستاذنا المبحث الأول بكثير من التفصيل موضحًا العلاقة التي تربط بين الدين والأخلاق، عارضًا للتفرقة بين مصطلح أخلاق ومصطلح علم الأخلاق أو فلسفة الأخلاق، مميزًا بجلاء ما يشير إليه المصطلحان، وما يجب أن تكون عليه دراسة البحث الأخلاقي الآن، ولما كان بحث أستاذنا فلسفيًا صرفًا فقد نأى عن الأخلاق العملية؛ أي عن مجموعة المبادئ والقواعد السلوكية، واختار لمنهجه في البحث دراسة فلسفة الأخلاق؛ لأنها المادة الخصبة التي تجول فيها دراسته أو بحثه بحيوية للكشف عن نواة الأخلاق.

ففلسفة الأخلاق تعني دراسة الأخلاق لدراسة ماهيتها وأصلها ومسوغاتها ودوافعها ومعيارها الأخلاقي وإلزامها الأخلاقي، وعلاقتها بالطبع والاكتساب، والغاية الأخلاقية المرادة من وراء أداء الفعل الخلقي، وهذه كلها الأفكار الخصبة التي جال فيها الدكتور الخشت بفكره محاولاً استشراف أدوات الالتقاء والتواصل بينها وبين الدين. وقد كانت الأخلاق السائدة بالفعل في الواقع عنده هي المادة الخصبة التي استخلصت منها فلسفة الأخلاق وقواعدها التنظيرية التي تحدد ماهية الخير والمعيار الأخلاقي، وغيرها من الموضوعات التي تندرج تحت ما اصطلح عليه فلسفة الأخلاق.

غير أن الدكتور الخشت، وإن كان قد استخلص في كتابه معنى الأخلاق وفلسفة الأخلاق من العديد من الآراء التي ساقتها أقلام الفلاسفة – على كثرتها – في كتبهم وأبحاثهم، فقد استخلص مفهوم مصطلح فلسفة الأخلاق سهلاً ميسورًا، وكأنه يضع القارئ أمام اختيار واحد، وهو أنه لما كان الأمر على هذا الوضوح فليس لدي ما يمنعني من قراءة الكتاب إلى نهايته – فإنه في وقوفه على معنى الدين وجد الفلاسفة، وكأنهم قد عانوا في عرض المراد منه؛ وذلك نتيجة ضرورية لما ينتاب آراء الفلاسفة من اختلاف في تحديده، غير أنه كان أكثر فطنة لهذا، فلم يكره نفسه على الانتقال بين الفلاسفة للبحث عن هذا المعنى، وإنما أراد – تأكيدًا على ما يذهب إليه – أن يختار المعاني والتعريفات التي تكفل له بناء فكرته عن نواة الأخلاق أو المشترك الأدنى من الأخلاق، ولذا فقد عرض للمصطلح من خلال نموذجين إسلاميين هما: جابر بن حيان، وإخوان الصفا، ثم عرض لنموذجين من عصر الحداثة، فعرض للمصطلح عند كانط وهيجل، وختم بعرض آراء أو تعريفات لالاند الثلاثة عن الدين، ولعل في ختامه بلالاند ما يدل على أنه رأى تعريفه أكثر شمولاً من التعريفات الغربية السابقة عليه؛ لأنه نظر إلى الدين من أغلب زواياه؛ فقد عالج الدين من زواياه الاجتماعية والنفسية والأخلاقية، كما أبرز الجانبين: الاعتقادي والشعائري في الدين.

وعلى الرغم من تعدد تعريفات الفلاسفة لمفهوم الأخلاق وتنوعها فقد انتهى الدكتور الخشت إلى وجود حد أدنى بينها وبين الدين قوامه التأكيد – في معظمها – على ضرورة توافق السلوك الإنساني مع مجموع التعاليم الأخلاقية والقوانين التشريعية بوصفها مطلبًا إلهيًا، فلا دين بدون أخلاق، لكن ربما تتفق أو تختلف طريقة تحقق الأخلاقيات في الواقع من دين إلى آخر، أو من مجموعة دينية إلى أخرى؛ بسبب اختلاف مناهج تفكير أتباع كل دين أو جماعة بالنسبة إلى المعنى النهائي للحياة؛ تبعًا لاختلاف تصور كل منها للخير بناءً على رؤيتها العامة للوجود والإنسان والألوهية ووسائل النجاة أو الخلاص.

وإذا كان الخشت يلح في كتابه على التأكيد على فكرته المحورية متسائلاً: ما العلاقة بين الأخلاق كسلوك وكعلم بالدين؟ فإنه لم يجد في الفلسفة ما يقدم له إجابة واحدة شافية على هذا السؤال؛ لأن الفلسفة بطبيعتها ليست كيانًا واحدًا، وإنما مذاهب متعددة تختلف في رؤيتها ونظرتها للوجود والحياة، مما يترتب عليه بالتبعية اختلاف رؤيتها للأخلاق والدين وللعلاقة بينهما.

ومن ثم فقد آل الخشت على نفسه تتبع الفلسفات متعمقًا في رؤيتها للوجود والحياة والدين والأخلاق؛ لكي يسبر غورها، ويكشف عن حقيقة العلاقة بين الدين والأخلاق فيها، فانتهى إلى أن هذه الفلسفات تختلف في نظرتها للعلاقة بين الدين والأخلاق، ومن ثم تتجه بها اتجاهات خمسة:

الأول، يرى أنه لا علاقة بينهما، وأن كل علم مستقل بذاته، وأن لكل منهما ميدانه الخاص، ويمثل هذا الاتجاه شافتسبري وهتشيسون وهربرت أوف تشيربري، من أتباع المذهب الطبيعي الإلهي.

الثاني، يرى أن الأخلاق تابعة للدين، وهذا الاتجاه يمثله بعض الفلاسفة وعلماء أصول الدين، ويمثله في الفلسفة المسيحية الغربية وليام أوكام وإميل برونر وجان كالفن ومورتيمر، وقد سبقهم في ذلك الأشاعرة؛ إذ يرون جميعًا أن القيم الأخلاقية تنبع من الدين.

الثالث، يرى أن الدين تابع أمين للأخلاق، وأن الدين نابع من القيم الأخلاقية، ويمثل هذا الاتجاه بكل وضوح كانط الذي كان يؤكد على مبدأ الواجب في فلسفته الأخلاقية، ومن ثم كان الدين العقلي المحض عنده عملاً بالقانون الأخلاقي في جوهره؛ لأنه يرى السلوك الأخلاقي نابعًا من أداء الواجب الذي شرعه العقل لذاته وبذاته، وهي العبادة الحقيقة.

الرابع، يرى أن هناك توافقًا بين الدين والأخلاق في النتائج، رغم أنهما مختلفان في المنهج، وهو الاتجاه الذي يقوم علم الأخلاق فيه على العقل العملي، واكتشاف الخير والشر الذاتيين في الفعل والمبادئ الأخلاقية الواضحة التي يستطيع العقل بمفردها، بينما ينطلق الدين من الأوامر الإلهية التي يقدمها الوحي، ويمثل هذا الاتجاه توماس الأكويني، وسبقه في ذلك المعتزلة.

الخامس، يرى أن الأخلاق تعارض الدين، ومن ثم رفض الأخلاق الدينية بدعوى أنها تقوم على التصور المضخم للإله الذي يؤدي إلى تضاؤل الإنسان أمامه، ويمثل هذا الاتجاه الفيلسوف الإنجليزي هيوم، وكارل ماركس ونيتشه.

ومن الملاحظ في الاتجاهات الخمسة السابقة أن الدكتور الخشت أقام المقارنة بينهما على أساس من منظور كل منهما للمعيار الأخلاقي الذي تقيم عليها فلسفتها الأخلاقية عامة، وربما كان هذا في نظري أيسر السبل لاكتشاف مواقف كل منهما للعلاقة بين الدين والفلسفة، وذلك لعدة اعتبارات من وجهة نظري:

الأول، أن مسألة المعيار الأخلاقي هي لب أية عملية أخلاقية، فهي المحور الأساسي الذي تتمحور عليه – إلى جانب محاور أساسية أخرى – أي فلسفة أخلاقية.

الثاني، لم يشأ الخشت أن يقيم العلاقة بينهما على أساس الغاية؛ لأن الغاية مبدأ مشترك في كل الفلسفات – باستثناء فلسفة كانط – سواء أكانت غاية دنيوية كما ذهبت إلى ذلك الاتجاهات التجريبية والنفعي، أم غاية أخروية كما ذهبت إلى ذلك الأديان.

الثالث، أن المعيار الأخلاقي أقرب محاور الفلسفة الأخلاقية إلى مفهومها، فإذا كان مفهوم الأخلاق يهدف – في التحليل الأخير – إلى الفصل بين الخير والشر، والتمييز بينهما فإن مهمة ذلك إنما تقوم على عاتق المعيار الأخلاقي.

ومن ثم، فقد جال الدكتور الخشت بفكره بين هذه الاتجاهات، فالتمس في وضوح مظاهر جادة تسهم في بناء الحد الأدنى الذي تقوم عليه نواة الأخلاق التي ارتآها لبحثه، ومن ثم فقد انتهى من عرض وجهات النظر المختلفة في الاتجاهات الخمسة إلى مجموعة من الحقائق التي تعد حلقة وصل بين الأخلاق والدين، أو إن شئت فقل علامات على الطريق تنير طريق البحث عن العلاقة بين الأخلاق والدين، وبناءً على ذلك فالدين عند الخشت له ميدانه الخاص والمستقل عن علم الأخلاق، غير أنه مع هذا كان مدركًا أن موضوعها واحد وغايتها واحدة، وهي تحقيق السعادة من خلال الالتزام الأخلاقي، لكن منهجهما مختلف في تحديد مفهوم السعادة، وفي تعيين وسائل الالتزام الأخلاقي، بل ظل كل منهما متأثرًا بالآخر بدرجة أو بأخرى تبعًا للظروف التاريخية والسياق الثقافي الذي يعيش فيه الإنسان.

وهذا يفسر لنا لماذا كانت الأخلاق ذاتها تمثل جوهر كل دين والأساس الركين في كل الكتب المقدسة؛ لأن الدين اعتقاد وقول وعمل، والعمل لا يخرج عن كونه مجموعة من الواجبات الأخلاقية التي يتم الالتزام بها بناءً على أمر إلهي، غير أن هذا الأمر نفسه يحكم على الأشياء تبعًا لخصائصها الموضوعية، فصفات الخير والشر عند الخشت صفات موضوعية في الفعل أو الشيء، ولا يمكن أن يأمر الله تعالى بأفعال قبيحة في نفسها، أو ينهى عن أفعال خيرة في ذاتها تنطوي على تحقيق المصالح الإنسانية؛ فالخير والشر موضوعان في العالم، والأوامر تقتفي أثره.

وبناء عليه، فإن الخير والشر أو الحسن والقبح ذاتيان في الفعل، وليس خارجين عنه عند الخشت، والأوامر والنواهي تسير خلفه، فيما يعني أن الخشت من أنصار أن الدين تابع للأخلاق لا العكس، وهو بذلك كانطي المنزع يلبس جلبابه في جعل الأخلاق أساس الدين، غير أنه حين يلبس تلك الجلباب، فإنه ينزع عنها مظاهر المثالية المغالية، والخروج عن الدين، والتقليل من شأن الأديان العقدية كما فعل كانط، فالخشت لم ينفك عن عقيدته في أي من كتبه، ولم ينفك عن موضوعيته العلمية، فقد جعلهما أساسين له في كل ما سطرت يداه.

ومن ثم، فقد قرب الدكتور الخشت الوشائج والعلاقات بين الدين والأخلاق خاصة في تعويله على الدين النقي، باعتباره الذي يقدم الأمل في أن الجهود المبذولة في إقامة ملكوت الأخلاق والعدالة والسعادة لن تضيع هدرًا، وفي تعويله على علم الأخلاق، باعتباره يساهم في تنقية الدين من التفسيرات المغلوطة التي يقدمها له أهل المصالح، وباعتباره يساهم في إعادة التأكيد على الوظيفة الأخلاقية للدين، ومن ثم كانت العبادة الحقة عند الخشت تكمن في السلوك الأخلاقي النابع من أداء الواجب المنبثق من العبادة الحقة، وكأن الدكتور الخشت يقيم جسورًا من التواصل بين الأخلاق الدينية والأخلاق الكانطية رابطًا في وضوح بين أداء الواجب والعبادة الحقة، فالعبادة الحقة عند الخشت تعني – في التحليل الأخير – العمل بالواجب.

ومن ثم، فقد نجح أستاذنا فيما فشلت فيه فلسفات الحداثة من الوصول إلى حد أدنى مشترك للأخلاق؛ لأنها لم تكن مشغولة بذلك، وإنما اكتفت بمحاولة الوصول إلى الحد الأقصى الأخلاقي، فكانت عند الدكتور الخشت تعمل على بناء منظومتها الأخلاقية كمنظومة تصل إلى قمة الهرم الأخلاقي على أنقاض الفلسفات الأخرى، ولم تتمكن تلك الفلسفات من تقديم أخلاق عملية يمكن أن ينفذها الناس في حياتهم؛ حيث ظلت محلقة في سماء البحث عن مبادئ أخلاقية قصوى تنوء بها الطبيعة البشرية، وتكرس الخلاف بين الناس، فما لبثت أن تهاوت في نسبية مفرطة وسعت من مجال الخلاف بين الأفراد والمجتمعات البشرية، ومن ثم ابتعدت عن الوصول إلى الحد الأدنى المشترك في الأخلاق.

ومن ثم كان المبحث الثاني للكتاب يمثل نقدًا لغياب الحد الأدنى الأخلاقي، فقد غاب هذا المفهوم غيابًا تامًا بدءًا من الأخلاق المؤقتة، ومرورًا بالوضعية الاجتماعية والأخلاق الشخصانية انتهاءً بالأخلاق التطبيقية، فلم تكن أيًا منهما تمثل لبنة في بناء الحد الأدنى الأخلاقي؛ وذلك لأنها جميعها جاءت ناقضة للدين بدرجة أو بأخرى، ومن ثم جاء بعضها وقد وقع في الامتثالية الاجتماعية والسياسية، ومن ثم فهي أخلاق نسبية إقليمية فقط مثل: الأخلاق المؤقتة أو النهائية عند ديكارت، كما أن بعضها تميز بالصرامة التي تنوء بحملها الطبيعة الإنسانية، فهي تمثل أخلاق الحد المثالي الأقصى الذي لا يصلح لعامة الناس، ومن ثم فلا مجال فيها للحديث عن حد أدنى أخلاقي كفلسفة كانط، في حين نجد فلسفات أخرى قد استغرقت في تحليل الآراء والقضايا الأخلاقية عن طريق تفكيك العبارات والألفاظ اللغوية المركبة مثل فلسفات: مور ورسل وفتجنشتين، كما أن بعض فلسفات الحداثة لا يمكن أن تقوم معها أية أخلاق معيارية، مثل: الوضعية المنطقية، والوجودية، بل إن بعض الفسفات قد أحدثت قطيعة تامة مع فلسفات الأخلاق الأخرى والأديان بعامة، مثل فلسفات: نيتشه والفلسفة التفكيكية، ولئن كانت الأخلاق التطبيقية – سواء أكانت أخلاق الأعمال التجارية أو الأخلاق المهنية – قد تمكنت من الوصول إلى مواثيق أخلاقية مشتركة انطلاقا من معايير معينة تمثل حدًا أخلاقيًا تلتقي عليه فئة ما، فإنها عند الدكتور الخشت – أخلاق مخصوصة بمجال معين لا بالأخلاق عامة، مما يجعلها غير جديرة بأن تكون أساسًا يبني عليه فكرته في نواة الأخلاق، أو الحد الأدنى الأخلاقي المشترك.

ومن ثم كان على الخشت في المبحث الثالث أن يدلل على إمكانية وجود حد أدنى أخلاقي مشترك، وأن يهيئ الأذهان بعرض الحقوق والمسؤوليات بين المفاهيم السائدة وأخلاق الحد الأدنى؛ لكي ينتهي من تحديد وصياغة أخلاق الحد الأدنى، ومن ثم فقد كان جماع الحد الأدنى الأخلاقي، بل كل أخلاق عند الخشت مبدأ بسيطًا مؤداه: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، أو على حد عبارته الدقيقة: لا ترض للناس ما لا ترضاه لنفسك، وقد تعددت مثل هذه الصيغ عنده تدليلاً على خلاصة الحد الأدنى وجماعه، فتارة: أحب لغيرك ما تحب لنفسك، وتارة: افعل لغيرك ما تحب أن يفعله غيرك لك، ثم صاغها صياغة فلسفية فقال: يجب أن تكون إرادتك متسقة مع نفسك، وهي القاعدة الذهبية التي رأى أن كل الفلسفات والأديان قد اجتمعت عليها، رغم ما انتابها من اختلافات كبيرة عقديًا وفكريًا وتشريعيًا، ومن ثم فقد وجد الدكتور الخشت حدًا أدنى مشتركًا يمكن أن يكون نواة أخلاقية تجتمع عليها الأديان والفلسفات.

ولما كانت فلسفات ما بعد الحداثة لم تسعف الخشت في فكرته هذه، فقد كان من الضروري حينها أن يبحث عن مبتغاه عند الفلاسفة المتأخرين، أي الفلاسفة الأكثر معاصرة الذين تطرقوا إلى الحديث عن الحد الأدنى الأخلاقي، باعتباره النواة الأخلاقية بين الدين وفلسفة الأخلاق، والتي تشكل إجماعًا جوهريًا على قيم ملزمة ومعايير محددة وسلوكيات أساسية يتم إقرارها والاعتراف بها من قبل الجميع، ومن ثم فقد وجد أن هناك فريقًا مثل: ماكلنتير، وروتي، وفوكولت، وبوبنر يرى استحالة وجود إجماع عالمي على الحد الأدنى الأخلاقي المشترك، كما وجد فريقًا آخر مثل: فيلش، وليوتارد يدافع عن تعددية جذرية في عصر ما بعد الحداثة. غير أن الخشت وجد – وسط هذا الرفض القاطع – فريقًا ثالثًا من الفلاسفة المعاصرين أيضًا يرى أن إمكانية وجود جانب ما مشترك كامن بين أخلاقيات الجماعات المختلفة في العالم، لكنه في حاجة إلى إبرازه وإخراجه إلى النور، بما يعني وجود معايير أخلاقية لدى الجنس البشري على اختلاف الأمم والثقافات والأديان، ولكنها في حاجة إلى الكشف عنها، ويمثل هذا الفريق مايكل والزر الذي تحدث عن المشترك الأخلاقي العام والنواة الأخلاقية التي يجمع عليها الناس، وقد أطلق عليها والزر مصطلح "مبادئ نحيلة"، وقد وضع الدكتور الخشت – في هذا الإطار – فلسفتي جون رولز، ويورغن هابرماس، باعتبارهما يؤكدان على فكرته محل البحث؛ حيث رأيا أن العالمية أساس لأية فلسفة أخلاقية قابلة للتطبيق، فقد اعتبر الأول أن وجود فكرة موسعة وممتدة للعدالة أمر ممكن من أجل تطوير مدلول الحق والعدالة الذي يمكن تطبيقه أيضًا على مبادئ ونظم القانون الدولي والعلاقات الدولية.

فرولز لم يقم تصوره لمبادئ العدالة على أي تصور للخير تقدمه الأديان أو الأيدولوجيات، باعتبار تصورات الخير تفصلنا عن بعضنا البعض وتمنعنا باختلافها وتعدديتها الكبيرة من الوصول إلى تصور مشترك للعدالة، غير أن نظرية رولز في العدالة – كما كان يراها الدكتور الخشت – تسبح في الفضاء بعيدة عن الواقع؛ حيث أغفلت الالتزامات والولاءات المرتبطة بالتصورات الخاصة للخير، وهذا ما حاول رولز – في رأيه – تلاشيه لاحقًا؛ حيث سعى إلى مراعاة مسألة الحافز والالتزام الوطنيين، ومن ثم اقترح مفهوم "الإجماع عن طريق التقاطع" للتخلص من المأزق الذي قد يؤول إليه الأمر.

ومن ثم فقد ذهب الخشت إلى أن هذه النظرية تنطوي على العديد من الإشكاليات فيما يتعلق بالولاء، واستبعاد مفهوم الخير، وكان التحدي الحقيقي عنده هو كيف يمكن الوصول إلى مفهوم للخير تتفق الأغلبية على الحد الأدنى منه في إطار العقد الاجتماعي، فالخير موضوع الأخلاق من قديم وإلى الآن، ومع هذا فلا شك في أن العدالة الإجرائية عند الدكتور الخشت خطوة بالغة الأهمية وذات ضرورة قصوى في أخلاق الحد الأدنى المشترك.

ومع أن رولز يختلف عن والزر، فإنه عند الخشت يظل يشاركه النظرة في أن النقاش النفعي يظل مبدأ منقوصًا للالتزامات المعيارية، كما تختلف عنده فلسفة والزر عن فلسفة هابرماس، ومع هذا يشاركه النظرة نفسها، كما يشاركه في أن العالمية أساس لأية فلسفة أخلاقية قابلة للتطبيق؛ إذ العقل عند هابرماس هو القاسم المشترك بين الإنسانية الذي يسمح لها بقدر من الاستقلالية والحرية بما يمكنها من اكتشاف القوانين الكونية، مع التسليم بأن الذات العاقلة هي العنصر المشترك بين كل أفراد الإنسانية، بما يعني التسليم مسبقًا بأن هناك ذوات عاقلة أخرى، وبالتالي فإن الخشت يؤكد أن الذات عند هابرماس لن تنتهي إلى ما انتهت إليه فلسفة ديكارت من الانقطاع والعزلة. وهذا هو الأساس الذي انطلق منه هابرماس في الوصول إلى الشمولية التي تعني – في أبسط معانيها – الاعتراف المتبادل بين الجميع، كما تعني مشاركة كل الأطراف، كما حول السعي إلى نمط من المخاطبة والفعل الاتصالي والفعل الكلامي ومجتمع الاتصال الذي يعني الاستجابة العملية لفلسفة كونية شأن "أخلاق المخاطبة".

وعلى الرغم من تأثر الدكتور الخشت بماكس هوبر فيما أسماه الأخلاق الدولية، والتي تسمو فوق القانون، تقف من خلفه وتعلوه ومن ثم فهي ليست في أصل القانون؛ ومع ذلك فلن يحظى القانون بالوجود الدائم دون وجود الأخلاق، وهذا يعني أن أي نظام عالمي جديد لن يكون له وجود إلا في وجود أخلاق عالمية تنطوي على الحد الأدنى الأخلاقي المشترك – أقول رغم تأثره به، فإن هذا التأثر لا يبلغ ما بلغه التأثر الكبير بكونج الذي كانت محاولته تهدف إلى الوصول إلى حد أدنى أخلاقي مشترك، رأى فيه الخشت أنه تجنب معظم المزالق التقليدية مستفيدًا في ذلك من اصطلاحات والزر المفيدة في كتابه "نحيل وسميك"، متفاديًا الدخول في نقاشات حول المسائل الخلافية التي تثير المشاكل، معرضًا عن أخلاق الحد الأقصى لكونها تعبر عن خصوصيات ثقافية أو دينية أو سياسية، متفاديًا إلى حد ما – في الوقت نفسه – النهايات المميتة، مثل تكرار إعلان حقوق الإنسان، والبيانات الأخلاقية الرنانة، والمواعظ الدينية الحماسية.

وإذا كانت أخلاق الحد الأدنى عند كونج تقوم على مبدأين أساسيين، فقد أرجعهما الخشت إلى مبدأ واحد؛ فمبدأ "كل إنسان يجب أن يعامل على نحو إنساني" متضمن عنده منطقيًا في مبدأ "ما تتمناه من الآخرين افعله لهم "، ومن ثم فأخلاق الحد الأدنى عند الخشت تقوم على مبدأ واحد هو، "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك"، وهذا المبدأ يقوم على قاعدة عدم التناقض، فالإرادة المتناقضة عنده هي التي تعطي لنفسها حقًا، بينما تمنعه من الآخرين، وتسوغ لنفسها فعلاً، بينما تحرمه على الناس.

وهكذا أثبت الخشت في كتابه القيم – رغم كل هذه التباينات بين الأديان بعضها بعضًا، ورغم التعارضات بين فلسفات الأخلاق حول طبيعة الخير، ورغم كل تلك الاختلافات – أن ثمة نواة أخلاقية تمثل حدًا أدنى أخلاقيًا مشتركًا بينها جميعًا، ولم تكن فكرته عن الحد الأدنى الأخلاقي أيديولوجية جديدة، كما أنها ليست تعاليم من قبيل البنية الفلسفية المذهبية الفوقية، ولا تعنى بفلسفة منفردة أو دين بعينه، كما أنها لا تنشد جعل الأخلاق المحددة للأديان المختلفة بمثابة أمر ثانوي أو نافلة، وإنما فكرته عن الحد الأدنى تقوم على قاعدة ذهبية واحدة تنبثق منها معايير أخلاقية أساسية تشمل الحق الأصيل في الحياة والمعيشة الكريمة والمعاملة العادلة من الأفراد ومن الدولة والاندماج الذهني والجسدي في المجتمع. إن أخلاق الحد الأدنى عند الدكتور الخشت هي إجماع جوهري على قيم ملزمة ومعايير محددة وسلوكيات أساسية يتم إقرارها من قبل جميع الفلسفات على اختلاف أيديولوجياتها، وكل الأديان على اختلاف عقائدها.

[1] - مجلة ذوات العدد46