إله سبينوزا


فئة :  مقالات

إله سبينوزا

إله سبينوزا(1)

تقديم:

لا يمكن للتفكير الفلسفي في الإله إلا أن يكون تفكيرًا في الإنسان أيضًا، وبما هو كذلك؛ فلا بد أن ينأى عن التصورات الدينية المنغلقة التي تحصر هذه "العلة الأولى" للكون في قوالب ضيّقة، تُفرغها من جوهرها وروحها، وتختزلها في صيغ بشرية جامدة غير جديرة بالإنسان نفسه فما بالك بالإله.

يلتقي الفلاسفة مع المتصوفة في وسم الإله بالخير والجمال، وجعله رمزًا للحياة والفرح. وهذا ما يجعل منه إلهَ حُبٍّ؛ خلق النّاس بالحب وللحب. ولذلك، فهو مُنَزّهٌ عن جميع الصور النمطية التي تصوره "شخصًا" حاقدًا، يتربّص بخلقه ممن لم تسعفهم الظروف للوصول إليه، فيتوعدهم بالعذاب والعقاب، في حين يَعِد غيرهم بالجزاء والثواب.

الإيمان بالدين ليس بالضرورة إيمانًا بالإله، والإيمان بالإله لا يعني، إلزامًا، التقيد بواجبات وإكراهات الدين

إن السمة الأساس لفكرة الإله هي الخلق والإبداع؛ فهو الخالق، والأصل الأصيل للوجود، وعلته الضرورية التي لا تحتاج لعلة. إنه علة ذاته causa sui، بلغة سبينوزا، وواجب الوجود حسب توصيف ابن سينا. لكنه أيضًا خلاق ومبدع بتعبير برغسون، وفكرته خلاقة في حد ذاتها؛ أي إنها ليس قارة ومتكلسة؛ وإنما تتطور، وتخلق ذاتها، وتخلق معها الإنسان والوجود. ومن خلال هذا الطابع المبدع لفكرة الإله، فلا يمكنه إلا أن يكون كونيًّا وعالميًّا، يوجد حيثما وُلّيَت الأبصار والأرواح، بل يكون حيثما كان هناك كونٌ وكائنٌ. الإله كل شيء، وفي كل شيء ضربٌ من الألوهية.

ما معنى أن الإله هو كل شيء؟

يعني هذا القولُ تخليص فكرة الإله من قيود التصورات المتزمتة، ومن قبضة المذاهب المتطرفة. فهو إله الإنسان والإنسانية؛ إله الناس. وكل إنسان قادر على التوصل إليه والاتصال به بفطرته النقية والخالصة، دونما حاجة إلى إملاءات خارجية، بل إنه لا إله إلا ما يدركه قلب الإنسان البسيط والحر، غير المُغرض، والذي لا يرجو من وراء ذلك أدنى منفعة أو مصلحة.

الإله هو الحياة، وهو الوجود السعيد والحرّ والجميل، وهو الإيمان بالإنسان. كثيرًا ما يكون الإله بريئًا من الدين، وغير معني بِجُلّ تعاليمه. الإيمان بالدين ليس بالضرورة إيمانًا بالإله، والإيمان بالإله لا يعني، إلزامًا، التقيد بواجبات وإكراهات الدين. لذلك، فكل الأوصاف القبيحة واللاإنسانية، التي نُسبت للمتدينين، ولا زالت تلاحقهم إلى اليوم، من عنف وإرهاب وتطرف، لا شك في أنها تعني الدين وحده، والإله بريء منها تمامًا. وليس غريبًا أن يصرح معظم الملاحدة، على مر التاريخ، أن مشكلتهم مع الأديان وليس مع الإله الذي تتحدث جميع الملل والنحل باسمه، وتنسب إليه ما لم يقل به.

لا تقتضي فكرة "الإله" وجود عبيد له وإنما تستدعي، حسب ما يليق به بوصفه إلهًا، وجودَ ذوات حرة

يكاد سؤال وجود الإله أن يكون أعظم الأسئلة على الإطلاق، فما من إنسان نجا منه، أو استطاع أن يغض طرفه عنه. لكن لا بد وأن نتساءل أيضًا: هل كل إنسان جديرٌ بأن يدرك الإله؟ إنه ليس بعيدًا، لكن بقدر قربه بقدر الحجب التي تحول دون ملامسته. إنه الكائن الكلي القدرة والإرادة، الحر حرية مطلقة، والخالق لكائنات حرة. ومن ثم لا معنى للإيمان به إيمانَ العبيد. إن جوهر الإيمان هو الحرية، وكل إيمان ليس حرًّا سيستحيل، لا محال، إلى نفاق وتظاهر.

لا تقتضي فكرة "الإله" وجود عبيد له. وإنما تستدعي، حسب ما يليق به بوصفه إلهًا، وجودَ ذوات حرة. وربما هذا ما كان يقصده هانس جوناس Hans Jonas (فيلسوف ومؤرخ ألماني 1903-1993) عندما أكد أن الإله يَحُدُّ من قدرته لأنه يحترم حريتنا، إذ بدون هذه الحرية لن يستقيم أي معنى للإيمان به، وستغدو الحياة مجرد معركة يعرف هو مسبقًا من سيظفر بها. وهذا أيضًا هو ما كان يدعو إليه سبينوزا عندما جعله من الإله محايثًا، وقال إنه هو الطبيعة؛ فهو بذلك يفتح للإنسان آفاقًا من الحرية والحب والدرجات القصوى من السعادة، لم يعد معها الإله رمزًا للتجبر والتسلط. فبما أنه هو الطبيعة، والإنسان من قلب الطبيعة أيضًا؛ فلا تباعد بين الاثنين، ولا حائل يحول دون حب الناس لإله قريب منه يرى نفسه فيه، ويراه في كل شيء، ويأبى أن يحدثه عنه المتحدثون. بهذا المعنى، تدرك النفس أن الإله هو علة فرحها. أو لنقل، بتعبير فرديناند ألكيي Ferdinand Alquié، أن التفكير في كائن باعتباره هو علة فرح النفس، يعني حب هذا الكائن. وهو ما عبر عنه سبينوزا في القضية 18 من القسم الخامس من الإتيقا، بالقول: «لا أحد يمكنه أن يكره الإله.» فكيف يتحدد الإله بالنسبة إلى سبينوزا خصوصًا في كتابه الرئيس "الإتيقا"؟

هذا ما يحاول روبير ميسرحي، وهو أحد أبرز الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين (ولد سنة 1923) المتخصصين في فلسفة سبينوزا، والذي كتب حوله العديد من المؤلفات، من أبرزها: "سبينوزا: نصوص مختارة"، سنة 1964. "الرغبة والتفكير في فلسفة سبينوزا"، سنة 1972. "الجسم والروح في فلسفة سبينوزا"، سنة 1992. "سبينوزا"، سنة 1992. "الوجود والفرح"، سنة 1997. "100 كلمة حول إتيقا سبينوزا"، سنة 2005. والذي أخذنا منه هذا النص حول "الإله Dieu".

النص:

إن أول ما عُرِف به سبينوزا كان هو تصوره للإله، كما أن الأحكام التي نُسبت إليه كانت اعتمادًا على هذا التصور، وهكذا أصبح محط كراهية في البداية، قبل أن يغدو، بعد ذلك، محط إعجاب.

قبل الخوض في مسألة معرفة ما إذا كانت السبينوزية إلحادًا، لنبدأ، بسرعة، بالخطوط العريضة لهذه الأنطولوجيا التي ليست لاهوتًا على الإطلاق، ولكنها كانت دائمًا فلسفة للطبيعة.

بغية تأسيسه للإتيقا وللحكمة، يبدأ سبينوزا بوصف الأساس اليقيني لكل معرفة مستقبلية: إن هذا الأساس أوليٌّ وأزلي، ويتعلق بالجوهر. إنه الوجود. وكما أنه لا ينبغي أن يكون تابعًا لأي شيء، فإنه لانهائي؛ بمعنى أنه متفرد، ويشمل كل المظاهر الخاصة بالواقع، سواء تعلق الأمر بالأشياء أو بالأفكار.

لقد عرض نظريته هذه حول الوجود في الجزء الأول المعنون بِـ "في الإله" من كتابه "الإتيقا"، إلا أنه لم يحدد ما يعنيه بِـ "الإله" إلا في القضية رقم 11، قائلًا: «أعني بالإله جوهرًا يتألف من عدد غير محدود من الصفات، حيث تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية ولامتناهية، ويوجد وجودًا ضروريًّا.» (الإتيقا، القسم الأول، القضية 11).

إن الصفات هي التمظهرات المتعددة، أو المظاهر المتعددة واللامتناهية للجوهر. إنها إذن هي الجوهر وتشمل مجموع الواقع؛ أي الطبيعة. من دون شك أن الطبيعة تضم أشياء متناهية ومحدودة، إلا أن هذه "الأحوال" ليست، هي نفسها، إلا تعبيرات عن الصفات، وخصوصًا صفات الامتداد والفكر.

تتداخل هذه المفاهيم المختلفة (الجوهر، الصفات والأحوال) فيما بينها بِشكلٍ لنقل عنه أنه أفقي، وليس تبعًا لتراتبية عمودية ستنطلق من المادة إلى الروح ثم إلى الإله. فنظرًا لكونه يؤسس لوحدة الواقع، فقد قطع سبينوزا مع المذاهب الأنطولوجية التقليدية، التي كانت تميّز بين مستويات موضوعية للوجود. وعلى عكس ذلك، فالوجود بالنسبة إليه هو، في الآن ذاته، عبارة عن مادة وروح، مادام أن الجوهر هو، في الوقت عينه، مجموع الصفات.

إن هذا التسلسل المنطقي، الذي هو في الوقت نفسه تداخٌل، حتمية ضرورية وتسلسل صارم، يُعبّر بالضبط عن ماهية الإله الذي هو أيضًا ماهية الطبيعة. ففي البرهان الرابع من الجزء الرابع من الإتيقا يستعمل سبينوزا ضمنيًّا هذا التعبير الذي سيحدد، بشكل رمزي، كل مذهبه الوحدوي. وفيه يقول: «[…] Deus, sive Natura…» "الإله، بمعنى الطبيعة"، "الإله أو الطبيعة".

إن الدين التقليدي، دين الكتب المقدسة، لا يشكل تعاليم مذهبية حقيقية حول طبيعة الإله، وإنما هو عبارة عن حثٍّ أخلاقيٍّ على العدالة والإحسان

وهكذا، فالجوهر لا يحصل على اسم الإله إلا على نحو مجازي إن صح التعبير. فهو يحوز على كل خصائصه التقليدية، كالأبدية، الاكتفاء الذاتي، إضافة إلى أنه علة ذاته causa sui، كلي الوجود وكلي القدرة، حيث إنه ما من شيء، بدون إله، «يمكن أن يوجد أو يكون مُدرَكًا.» لكن، بما أن هذه الخصائص تتعلق بعالم متفرد هو الطبيعة اللانهائية، وليس بكائن متعالٍ، سيكون منعزلًا عن العالم وعلته التي تتجاوزه، فإن لها دلالة مختلفة بشكل جذري عن تلك التي تُنسب إليها في التصورات اللاهوتية التقليدية. إن هذه الأخيرة، التي تزعم أنها توحيدية، هي ذات توجه ثنائي dualiste، وخصائص الإله فيها ليست هي نفسها خصائص العالم. وعلى عكس ذلك، فهذه الخصائص، بالنسبة إلى سبينوزا، هي خصائص للطبيعة ذاتها (أي إنها مطابقة لِـ "الإله").

إن لهذه الواحدية الأنطولوجية نتائج مهمة وهائلة.

أولًا، على المستوى الديني واللاهوتي: لم يعد الإله، بالنسبة إلى سبينوزا، قاضيًّا، ولا سلطانًا، ولا أبًا؛ فهو يرفض أية نزعة متمركزة حول الإنسان. إن الدين التقليدي، دين الكتب المقدسة، لا يشكل تعاليم مذهبية حقيقية حول طبيعة الإله، وإنما هو عبارة عن حثٍّ أخلاقيٍّ على العدالة والإحسان (إن هذا، من جهة أخرى، هو ما يجعل المسيح جديرًا بالإعجاب، دون أن يكون تجسيدًا للانهائي). على العموم، يقول سبينوزا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" بأن «المراسيم الإلهية» الشهيرة ليست سوى «قوانين الطبيعة».

علاوة على رفضه سلطة رجال الدين على المستوى الديني والأنطولوجي، إن سبينوزا يرفضها أيضًا حتى على المستوى الأخلاقي.

فكما أنه لا وجود لإله خالق، فكذلك لا وجود لإملاءات أخلاقية تُفرَض من فوق؛ فالمعاني والقيم مرتبطة بالتعاريف التي ينسبها إليها الناس، ومن ثم تعلقها ببنيات أجسادهم، ومخيلتهم ودماغهم (الإتيقا، القسم الأول، التذييل). إن النظام والفوضى، الجمال والقبح، والخير والشر، ليست إلا أحكامًا إنسانية. وبتعبير أدق، إن الرغبة هي، في الواقع، من تضع القيم الأخلاقية (الإتيقا، القسم الثالث، القضية 9) والتفكير هو الذي يستأنف التأمل فيها وتنقيحها.

يعني هذا أن التصور الوحدوي للإله-الطبيعة يجعل من بناء إتيقا تتوقف بشكل كامل على قوانين الطبيعة المحددة، وعلى طبيعة الإنسان، باعتباره كائنَ رغبةٍ وتفكير، أمرًا ممكنًا بالفعل.

إن هذه الإتيقا الإنسانوية هي إتيقا للفرح. لكن بما أن الفرح المبحوث عنه والمُدرَك ليس لذة بسيطة، فلا يمكن القول بأن الأخلاق السبينوزية «متحررة» أو «ملحدة»، بالمعنى الذي فهمها به معاصروه. لذلك، ففي سياق الجدال ضد إلحاد سبينوزا، سنُقِرُّ في الآن ذاته بحقيقتين متناقضتين على ما يبدو. من جهة، يبدو لنا جيدًا أن سبينوزا يدافع عن «إلحاد مُتخفٍّ»، كذاك الذي اتهمه به Lambert de Velthuyssen في رسالة إلى Jacob Osten يناقش فيها هذا الأخير سبينوزا: يدافع الفيسلوف بالفعل عن فكرة إله شخصي سيكون خالقًا للعالم، وأصلًا للقيم الأخلاقية، وحاكمًا على أفعالنا. إلا أن سبينوزا، من جهة أخرى، يدافع، وهو على حق في ذلك، عن كونه متحررًا على العموم، بما أنه في هذا التحرر بالذات يتم التفكير مليًّا في تُهَم الإلحاد التي طالته. إن حياته، في الواقع، هي حياة إنسان حكيم، وهو يضع البحث عن الإخلاص والصداقة على رأس أولوياته. إنه مقتنع بأن الحب وحده يمكنه هزم الكراهية. وإذا كان يثني على الفرح؛ فإنه يتمثله متجسّدًا في تجربة إنسان حر، وليس في اللذة الانفعالية للإنسان الجاهل والشغوف.

لكن التاريخ قد أنصف سبينوزا، واعترف الجميع بأن مذهبه ليس مذهب من يناضل من أجل الإلحاد؛ وإنما هو مذهب إنسان حر يرغب للآخرين في الخير الذي يشتهيه لنفسه: «إن الخير الذي يشتهيه لنفسه كل إنسان باحث عن الفضيلة، سيرغبه أيضًا بالنسبة إلى الآخرين.» (الإتيقا، القسم الرابع، القضية 37).

 

 


 

 

(1)- ترجمة وتقديم حمادي أنوار لنص روبير ميسرحي:

Misrahi, Robert (2005): «Dieu» in: «100 Mots sur l’Ethique de Spinoza», Editions Les Empêcheurs de penser en rond/ Le Seuil, Paris. p-p: 136- 140