نظرية المعرفة في ''إتيقا'' سبينوزا( )


فئة :  ترجمات

نظرية المعرفة في ''إتيقا'' سبينوزا( )

نظرية المعرفة في ''إتيقا'' سبينوزا([1])

إن مشروع سبينوزا الإتيقي، المتمثل في بلوغ «خيرٍ حقيقي» يكون هو السعادة والحرية، مشروط في مجمله بنظريته في المعرفة. إن هذه المعرفة هي وحدها قادرة على أن تجعل المسار المؤدي إلى هذا الهدف فعَّالًا.

فالمعرفة (وليس الاعتقاد أو الخيال) هي، فعلًا، ما يُتيح تأسيسَ وحدة العالَم وتماهي «الإله» مع «الطبيعة» (الأُنطولوجيا)، وهي –أي المعرفة- (وليس الإرادة) هي ما يسمح بالتحكم في الرغبة والانفعالات، والانتصار على العبودية، كما أنها تتيح بلوغ الحرية الحقيقية (الأنثربولوجيا والإتيقا)، انظر مثلًا: (سبينوزا، الإتيقا، القسم الخامس، القضية 20، التعليق). وأخيرًا، إن المعرفة (وليس الفناء الصوفي) هي ما يُخَوِّلُ وُلُوجَ تجربة الوجود وبلوغ الغبطة (الحكمة).

لهذا السبب، من المهم أن نحدد جيّدًا مكانة نظرية المعرفة هذه، وأن نفهمها على نحو أفضل: إنها ليست ذلك النشاط الإلزامي الذي يقوم به فيلسوفٌ في القرن السابع عشر، بل هي تشكيلٌ ووصفٌ لأداة التحرر الوحيدة التي هي في مُكنَتنا.

لا شك أن هذا يضعنا في حلقة، لكنها حلقة خصبة (ليست مفرغة): إن الوصف العقلاني للعالم والإنسان هو ما يتيح المرور إلى تأسيس نظرية المعرفة (في القسم الثاني من كتاب ''الإتيقا'')، لكن هذه المعرفة نفسها هي التي تصف هذا العالَم وهذا الإنسان، كما تصف نفسها هي أيضًا.

لنتحدث في الأخير إذن عما هو هذا المذهب السبينوزي بخصوص المعرفة.

يحدد سبينوزا بدايةً مجال هذه المعرفة وشرط إمكانيتها. تتم المعرفة بواسطة تصورات (مفاهيم) (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، التعريف الثالث): هذه الأخيرة ليست كرسومات صامتةٍ في لوحةٍ ما (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 43، التعليق). إن هذه الأفعال عبارة عن أفكار تتضمن بذاتها إثباتًا (هو الإثبات الذي يحدد بشكل دقيق مفهومًا معطى).

لكن الفكرة هي أيضًا عبارة عن وعي؛ أي إنها وعي بالذات: «إن من لديه فكرة صحيحة يعرف، في الوقت نفسه، أن لديه فكرة صحيحة، ولا يمكنه أن يشك في حقيقة معرفته» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 43). الفكرة الصحيحة تكون «متطابقة»، وتقدم مجموع التحديدات الخاصة بموضوعها، كما أنها تندرج في السلسلة الضرورية للأفكار الصحيحة.

ليست المعرفة إذن ممارسة خاصة بملكة ما ستكون هي العقل، بل هي النشاط الواعي والتصوري (المفاهيمي) للنفس البشرية بما هي كذلك. معلوم أن النفس هي فكرة الجسد idea corporis: إنها بذاتها إمكانٌ للوعي والمفهمة. ويمكنها دائمًا أن تمر من فكرة (مصحوبة بفكرة ذاتها) قد تكون غير متطابقة إلى فكرة قد تكون متطابقة.

تبسيطًا للمسألة، لنقل مع سبينوزا (في كتابه ''رسالة في إصلاح العقل'') إن منهج الفلسفة الأفضل سيكون هو «المنهج التفكُّري»؛ بمعنى أولًا وصفُ الفكرة المتخذة بوصفها موضوعه الخاص؛ أي بما هي «فكرة الفكرة» (idea ideæ)، وبعد ذلك تأسيس نسق منسجم من الأفكار التفكُّرية. إن امتداد نسق هذه الأفكار هو تحديدًا العقل. يستعمل هذا العقل «معانٍ مشتركة» ومفاهيم كلية («ترنسندنتالية») نابعة من التجربة ومن مقارنة الأجسام.

بوسعنا الآن أن نشرعَ في وصف أدق للصيغ المتنوعة للمعرفة؛ أي الطرائق المتنوعة للارتباط بالعالَم لأجل فهم الطبيعة بواسطة «المعاني الكلية» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 40، التعليق الثاني).

يميز سبينوزا بين ثلاثة أجناس من المعرفة.

إن الجنس الأول من المعرفة هو تلك المعرفة الأمبريقية والحسية: تربط هذه المعرفة بين الانطباعات «المبتورة والغامضة» التي تمنحها لنا الحواس عن الأشياء الجزئية؛ إنها فعلًا «السبب الوحيد للخطأ»؛ ما دامت معرفة تتم بواسطة «الخيال»، وعن طريق الإحساس الجزئي ومن خلال «القيل والقال». إنها معرفة سلبية ومكرورة، وهي حقًّا ليست إلا مظهرًا للمعرفة كما أنها تظل منبعًا لجميع الأوهام.

لنلاحظ أن نقد النزعة الأمبريقية (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 49، التعليق) لا يستلزم استبعادًا للجسد: للنفس مجال للفعل بقدر ما هو أوسع من جسدها، فإن له الكثير من الخصائص المشتركة مع الأجسام الأخرى (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 39 مع التعليق الخاص بها). إن المعرفة، بوصفها نشاطًا مفكرًا فيه للنفس، هي أيضًا نشاطٌ خاص بالجسد الذي تعتبر هذه النفس هي فكرته.

يتبقى أن الجنس الثاني من المعرفة هو وحده القادر على أن يقود إلى الحقيقة. إنها معرفة عقلية، تتم بواسطة الترابط الاستنباطي، وعن طريق استعمال «المعاني المشتركة». وعلى نحو أدق، «فهذه الطريقة في استيعاب الأشياء» بواسطة الأفكار المتطابقة عن خصائصها هي ما يسميه سبينوزا ''عقلًا'' ومعرفة من الجنس الثاني.

هكذا فإن العقل ليس ملكةً، بل هو نشاطُ النفس التفكُّري والمنهجي. يتم هذا النشاط بواسطة معانٍ كلية وعن طريق التصورات (المفاهيم)؛ أي من خلال الترابط الاستنباطي والمجرد للأفكار المتطابقة والمعترف بها، مقدَّمًا، بما هي كذلك وبما هي أفكار صحيحة تكون معيار ذاتها الخاص بها (index sui).

لنشر إلى أن هذا الجنس الثاني من المعرفة هو الذي يُفَعِّلُهُ سبينوزا في كتابه ''الإتيقا'' لكي يُقنِعَ القارئ بواسطة قوة البراهين. بهذه المعرفة يمكنه أن يقوم بنقد النزعة الأمبريقية، وعن طريقها أيضًا يستطيع أن يضع العلم الحدسي ويحدده.

إن هذا العلم الحدسي هو فعلًا الجنس الثالث من المعرفة، ومن اللافت للنظر أن يتم تحديده هنا، في هذا القسم الثاني من كتاب ''الإتيقا'' المُسَخَّر للنفس والمعرفة. وهذا العلم الحدسي «يتم من الفكرة المتطابقة للماهية الصورية لبعض صفات الإله إلى المعرفة المتطابقة بماهية الأشياء» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 40، التعليق الثاني). إن هذا الجنس الثاني من المعرفة ليس استيعابًا صوفيًّا لواقع خارج العالَم قد يكونُ هو الإله، بل إنه، على نحو أبسط وبشري أكثر، هو هذا الاستيعاب الحدسي: العلم الحدسي هو الاستيعاب الفكري (والمباشر) للعلاقة بين صفة شيء ما وماهيته؛ أي بين صفة لامتناهية للطبيعة وحالٌ mode جزئي خاص بهذه الصفة.

يتضح أن الجنس الثلث من المعرفة ليس صوفيةً ولا سرًّا؛ إنه الفهم الفكري والمباشر للرابط بين الحقائق الجزئية والمظهر الخاص بالطبيعة اللامتناهية الذي يؤسسها، سواء تعلق الأمر تواليًّا بالأشياء أو بالأفكار.

ألَّا يَكُونَ العلم الحدسي «معرفة» صوفية؛ فهذا لا يمنع من أن يكون له، في كتاب ''الإتيقا''، مكانة ودورًا متميزين.

فعلًا، فكتاب ''الإتيقا'' برمته يقود القارء صوب هذا النوع من المعرفة. فهذا العلم المعرفي هو، بالفعل، إدراكٌ للمحايثة وللفكر البديهي لإدماج الحقائق الجزئية والمحدودة في مظهر من المظاهر اللامتناهية للطبيعة اللامتناهية. يقتضي هذا العلم إذن التحرر من كل أساطير التعالي وحرية الاختيار. إذا كان العلم الحدسي يُحرّر النفس من الخيال ومن العبودية؛ فلأن هذا العلم، أي هذه المعرفة، هو قبل كل شيء علمٌ نابعٌ من الجنس الثاني من المعرفة وليس من الجنس الأول منها (سبينوزا، الإتيقا، القسم الخامس، القضية 28). لا يمكن للمعرفة الأمبريقية أن تنتج إلا الخيال الوهمي وخطأ الأفكار المبتورة؛ والمعرفة العقلية هي وحدة قادرة على أن تخلق نسقًا من الأفكار المتطابقة المتعلقة بِبِنْيَاتِ ''الوجود'' (الجوهر والصفات والأحوال في القسم الأول من كتاب ''الإتيقا'')، وفقط انطلاقًا من هذه المعرفة العقلانية بوحدة الوجود (الطبيعة) يمكن أن ينبثق الاستيعاب الحدسي للرابط بين الأشياء الجزئية والطبيعة اللامتناهية.

انطلاقًا من هنا، فإن فهمَ العالَم سيتحول وسيغدو حيويًّا.

يقول سبينوزا: «عن هذا الجنس من المعرفة يَتَوَلَّدُ لَدَى النَّفْسِ أَكبَرُ ارتياحٍ يُمْكِنُ أَنْ يُتَاحَ لَهَا» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الخامس، القضية 27). فعن هذا العلم الحدسي يتولَّدُ فعلًا الحب العقلي للإله، ومن ثم الغبطة والحرية، ويتولَّدُ عنه إذن الشعور بالأبدية.

يبدو أن الحكمة السبينوزية برمتها هي ثمرة لهذا العلم الحدسي؛ ما دام هو وحده يُقنعنا «من داخل» وحدة العالَم، ويقودنا إلى أسمى فرح: «هكذا، فبقدر تفوقنا في هذا الجنس من المعرفة؛ يكون وعينا بذاتنا وبالإله أفضل؛ أي أننا نكون أكثر كمالًا وسعادة» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الخامس، القضية 31، التعليق).

([1])- Misrahi, Robert, «Connaissance», in: 100 Mots sur l’Ethique de Spinoza, Editions Les Empêcheurs de penser en rond/ Le Seuil, Paris (2005). p-p: 99- 105