الأنسنة العربية بين أركون والرفاعي


فئة :  مقالات

الأنسنة العربية بين أركون والرفاعي

محمد أركون وعبد الجبار الرفاعي، مفكران بارزان في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لكل واحد منهما منطلقاته المرجعية والتصورية، وبينهما تباين واضح يصل أحيانا حد التناقض، لكننا نلمس نقاط تشارك تجمعهما، علّ أبرزها تموقع كل منهما في جبهة الدفاع عن الأنسنة في السياق العربي والإسلامي؛ فقد خص الرجلان حيزا كبيرا من حياتهما ومشروعهما الفكري للبحث عن جذور الأنسنة العربية والإسلامية في التراث، وعن أسباب أفولها وسبل إحيائها من جديد، حتى تجاوز الأمر مجرد هم أكاديمي إلى ما هو أعمق، أي أنها صارت قضية وجود ومهمة المثقف العربي التي لا محيد عنها بعد مجموع الانتكاسات، التي تعيشها الجغرافية الإسلامية وضمور سؤال الإنسان في السياق الإسلامي، ويزداد الأمر إلحاحا مع المد الهوياتي الممثل في حركات الإسلام السياسي التي برزت خصوصا مع ما سمي بالربيع الديموقراطي ووصول كثير منها إلى مواقع السلطة وما يعنيه ذلك من تضخم لخطاب "الدولة" ومتعلقاتها على حساب الفرد ومقومات النهوض به.

لم يدخر أركون جهدا في نقد الحركات التحريرية العربية، رغم ما جره ذلك عليه من تهم التخوين والعمالة للمستعمر؛ فرؤيته كانت رؤية مفكر مسكون بهم المستقبل أي ما بعد الاستقلال، لذلك اتجه بنظره إلى ما هو أعمق من مجرد طرد الجيوش المستعمرة، اتجه إلى الحاضن الإيديولوجي لهذه الحركات؛ فقد رأى فيه جذور أزمة قيمية وتصورية ستكون لها عواقب وخيمة وواقع الحال أكد ذلك، فالبنية الأرثوذكسية لهذه الحركات سترخي بضلالها على مفهوم الدولة وعلى الحريات والإبداع والنظرة إلى الآخر، الأمر نفسه أي - النقد - سلكه الرفاعي مع خطاب حركات الإسلامي السياسي والجماعات الطائفية التي تنتشر في جل بقاع العالم الإسلامي، فقد اكتوى بنارهما فكريا من خلال محاصرته، فهو الرجل المنفتح على الاجتهادات المذهبية، وهو صاحب خط تواصلي يربط بين العربي والفارسي، وماديا مع التفجير الذي استهدف مقر مركز فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد الذي يشرف عليه الرفاعي في العراق.

يرجع الرجلان في بحثهما عن جذور الأنسنة العربية إلى التراث الإسلامي الوسيط، والممثل الأبرز لهذه الأنسنة في نظرهما هو مسكويه؛ فقد خص أركون بحثه المركزي- نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي- لدراسة جذور الأنسنة العربية من خلال البحث في أعمال صاحب تجارب الأمم كفيلسوف عربي شكلت شوامله جوامع الفكر المنفتح على المنجز الفلسفي اليوناني والإبداع النقدي الذي يعيد الاعتبار للعقل الإنساني كمرجع أعلى للمعرفة والقيم، بينما يرى الرفاعي أن الإضافة الأساسية التي قدمها مسكويه تكمن بالأساس في كتاب "تهذيب الأخلاق" في رفع الأخلاق والبحث فيها إلى مرتبة العلم الكامل، ففرض بذلك – مسكويه- في المجال الإسلامي اختصاصا فكريا موازيا لما قدمه أرسطو في الفلسفة اليونانية عندما كتب هذا الأخير "رسالة في الأخلاق إلى نيكاماخوس".

يستعيد أركون إرث مسكويه في إطار بحثه عن المشروعية التاريخية، ليوظفه في سياق تأسيسي لأنسنة معاصرة مستقلة عن المرجعية الدينية والإيديولوجية اللاهوتية، ولا تؤمن سوى بسلطة العقل في ظل نظام علماني ديمقراطي على غرار ما حدث في السياق التداولي الغربي، وتعيد الاعتبار للإنسان وبإمكاناته الذاتية؛ فهو الكائن المقدس الذي يحرم المس به وبكرامته تحت أي مسمى كان، وأمام مشكلة التعدد سعى أركون إلى تفكيك العقلانيات التي يزخر بها التراث العربي والإسلامي للكشف عن العقل الجامع الذي يتوارى خلف المنظومات الفكرية المختلفة (العرفانية، والفلسفية، والفقهية، والكلامية).

اختار أركون في دراسته الظاهرة الدينية الاستمداد من روافد علمية ومنهجية متعددة ينتمي معظمها إلى المدرسة التفكيكية، وهو يروم من خلالها موضعة الفكر الإسلامي في سياق تاريخي أي ضمن مشروطياته التاريخية، والغرض من كل ذلك هو فتح المجال للعقل الإسلامي أمام منجزات الحداثة الفكرية وإعادة الاعتبار للإنسان المبدع وللعقل المنفتح، الغرض نفسه اختاره الرفاعي هدفا يسعى إليه لكن بأفق تأولي يستعين بالآليات الهرمونيطيقية في قراءة النص الديني والتجربة الإيمانية التي لا غنى عنها في تروية الظمأ الأنطولوجي كما تمنح للعالم وللإنسان المعنى من خلال النظام الرمزي التي تتضمنه.

كما يذهب عبد الجبار الرفاعي في مسلكية مغايرة لأركون، بل مناقض لها تماما؛ فمكانة الدين كما يرى عبد الجبار تنبع بالأساس من الحاجة الأنطولوجية، ولا يمكن للإنسان أن يتحرر بفصله عن الدين، لذلك يرى الرفاعي أن النزعة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا بتحرير الدين، وبالتالي الإنسان من المصادرات التاريخية الطائفية التي اصطنعت بفعل الصراعات المذهبية والسياسية، وليس بالدعوة إلى قطع الصلة بالدين، "فإن الدين يحررنا من الاغتراب الكوني، باعتباره نافذة نحو المتعالي، ووصالا دائميا معه، وبالتالي ارتباطا بوشيجة عضوية أنطولوجية بالعالم"[1].

ينطلق أركون من مسلمة/مصادرة مفادها أنه لا يمكن تأسيس الإنسية العربية إلا بالتحرر من الإطار الديني اللاهوتي المنغلق الذي شكلته الأديان التوحيدية، بما هو تمركز حول "الله" ونسيان للإنسان، أي استلاب للحرية والفاعلية الإنسانية امام الإرادة الإلهية المطلقة، وأبرز تجل لهذه الانغلاقية في السياق الإسلامي ظهر مع السيطرة المطلقة للبنية الفقهية وانحسار للتفكير الفلسفي المنفتح خصوصا في القرون المتأخرة.

لذلك سعى أركون إلى تفكيك هذه الانغلاقية التي أنتجتها الأديان التوحيدية عبر استراتيجية تروم بالأساس قراءة الموروث الديني موظفا المكتسبات العلمية للبحث الأنثروبولوجي، واللسانيات الحديثة، فهو لا يتوانى في استحضار مفهوم الأسطورة الأنثروبولوجي لتفسير نشأة الأديان التوحيدية في حوض البحر الأبيض المتوسط، كما يستحضر مفهومي الشفوي والمكتوب لتفكيك بنية الوحي المحمدي، والغرض الأساسي من كل ذلك هو إعادة الاعتبار للإنسان كفاعل مركزي في صياغة الأطروحة الدينية، وبالتالي موضعة هذه الأخيرة في السياق التاريخي، مع ما يعنيه ذلك من الانفتاح على إمكانيات انسانية جديدة تتعالى على الأديان.

وجرأة أركون الفكرية تظهر بالأساس عند هذه النقطة، حيث تصل أليته النقدية إلى النص المؤسس، ففي نظره قد شكل حدث التدوين أول تدخل لليد البشرية في الوحي، "فانتقال الوحي من القرآن الى المصحف يثبت التدخل البشري في تغيير الوحي المعطى.. .وقد ترتب عن هذا الحدث مشاكل أخرجت العقل التأسيسي من تاريخيته ومهدت للمرحلة الأرثوذكسية"[2]، من هنا ينطلق أركون من ضرورة إعادة الاعتبار للفيلولوجية كمنهج لا غنى عنه في تأسيس المقاربة العلمية للنصوص كمدخل أولى لإسقاط القدسية عنها وبالتالي تحرير العقل الإسلامي من الفكر الأسطوري الذي ارتبط عنده بالرؤية الإسلامية لظاهرة الوحي.

تشكل هذه النقطة محور الخلاف المركزي بين أركون والرفاعي؛ فدعوة هذا الأخير تتركز بالأساس حول "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" وليس تأسيسا لها خارج الدين، ذلك أن أي دعوة لتفكيك المقدس الديني لا تفضي سوى إلى مزيد من التيه الأنطولوجي، فالحاجة إذن إلى المقدس ضرورة وجودية مرتبطة بكينونة الإنسان، وكل محاولة إلى إلغائها تنتهي بالفشل الذريع فيعود المقدس لينتقم لنفسه في شكل تمظهرات أكثر حدة مما سبق، وما يعنيه الرفاعي بإنقاذ النزعة الإنسانية في الدين هو "بناء فهم آخر للدين، وتأويل مختلف للنصوص الدينية، عبر قراءة شاملة لهذه النصوص، تستلهم نظامها الرمزي، وما تختزله من معان ومداليل، لا تبوح بها إلا من خلال عبور المنظومة المغلقة للفهم التقليدي لها، وتوظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الإنسانية الراهنة، لتفسيرها وفي ضوء متطلبات العصر ورهاناته. إنه تفسير لا يختزل الدين في المدونة الفقهية فقط، ولا يقوم بترحيله من حقله المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر، يتغلب فيه القانون على الروح، ويصبح الدين إيديولوجية سياسية صراعية، إيدولوجية تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية."[3]

ما ذكرناه لا يعدو أن يكون سوى شذرات يسيرة من مشروعين بارزين في الساحة الفكرية العربية والإسلامية، ومهما ظهر من خلاف بين الرجلين في الرؤية والتصور لمسألة النزعة الإنسانية خصوصا وما يرتبط بنقد الفكر العربي والإسلامي عموما، فهذا لا ينفي كونهما قدما أوراشا للبحث تفتح العقل الإسلامي على مدايات جديدة غير مسبوقة تحتاج لكثير من البحث والنقد.


[1] الرفاعي عبد الجبار، "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، الدار العربية للعلوم ناشرون، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الأولى 2012، ص 160

[2] راجع: الفجاري مختار، "نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون"، دار الطليعة، الطبعة الأولى 2005، ص ص 118/119

[3] الرفاعي عبد الجبار، "دعوة للخلاص من نسيان الانسان في أدبيات الجماعات الإسلامية" ضمن "الهيرمنيوطيقا والمناهج الحديثة في تفسير النصوص الدينية"، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 53/54 السنة السابعة عشرة 2013-1434، ص 13