حوار مع الباحث المغربي عز الدين العلام: علاقة الأخذ والعطاء بين الدين والسياسة يحكمها الواقع الفعلي وطبيعة السياق الاجتماعي والتاريخي…


فئة :  حوارات

حوار مع الباحث المغربي عز الدين العلام: علاقة الأخذ والعطاء بين الدين والسياسة يحكمها الواقع الفعلي وطبيعة السياق الاجتماعي والتاريخي…

إغناء للنقاش حول الإشكالية التي يتناولها الكتاب، ارتأينا الوقوف بدءا عند بعض القضايا المهمة، وإجراء حوار حولها مع الباحث المغربي؛ الدكتور عز الدين العلام الذي خص اهتماماته المعرفية لموضوع الديني والسياسي في السياق الإسلامي والعربي، عبر إسهاماته النقدية والأكاديمية العديدة، والدكتور عز الدين العلام هو عضو مؤسّس للجمعية المغربية للعلوم السياسية، وعضو هيئة تحرير مجلة "أبحاث" للدراسات الاجتماعية ودورية "دفاتر سياسية".

عبد الله إدالكوس: الدكتور عز الدين العلام كيف تقدم نفسك للقارئ؟

د. عز الدين العلام: أعمل الآن كأستاذ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. أمّا اهتماماتي، فقد انصبّت بالأساس على البحث في التراث السياسي الإسلامي، وخاصة منه ما يُعرف بالآداب السلطانية أو نصائح الملوك، حيث نشرت في هذا المجال عددا من الدراسات والكتب، أذكر منها "السلطة والسياسة في الأدب السلطاني" و"الفكر السياسي السلطاني – نماذج مغربية-" وكتاب "الآداب السلطانية –دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي". ولي أيضا اهتمام خاص بمجال الترجمة، حيث سبق لي أن ترجمت إلى اللغة العربية عددا من الكتب، كان أوّلها كتاب "الإيديولوجيا الباردة" للمفكّر والفيلسوف اليوناني"كوسطاس بابايانو" الذي خلّصني باكرا من كلّ ثقل دوغمائي أو عماء إيديولوجي. وفيما عدا ذلك نشرت كتابا، أعتقد أنّه لقي ترحيبا لم أكن أنتظره، أتحدّث فيه عن علاقتي الشخصية بالدين، منذ طفولتي إلى التحاقي بالجامعة طالبا ثمّ مدرّسا، وهو بعنوان "تحرير الكلام في تجربة الإسلام"، ولي الآن كتاب قيد الطبع يخصّ "سؤال الدين والسياسة بالمغرب الحديث". كما أشتغل حاليا على مشروع دراسة مقارنة بين "مرايا الأمراء" الغربية- المسيحية و"نصائح الملوك" العربية- الإسلامية...

عبد الله إدالكوس: العلاقة بين الديني والسياسي علاقة يغلب عليها طابع الجدل؛ فأحيانا يمتد ما هو ديني إلى مجال ما هو سياسي، ويترتب عن ذلك النظر إلى شؤون البلاد والعباد... بما تقتضيه مصلحة المؤسسة الدينية ورجالاتها. وأحيانا يمتد ما هو سياسي إلى مجال ما هو ديني، ويتم التعاطي مع الدين وموضوعاته وفقا لمصلحة رجل السياسة. في نظركم كيف يمكن أن نعيد ترتيب العلاقة بين مجالي الديني والسياسي بشكل يحفظ للدين من جهة جوهره الروحي والأخلاقي والإنساني، مع العلم أن جوهر الدين كيفما كان هو بسط قيم السلم والمحبة بين الناس جميعا، ومن جهة ثانية يحفظ للسياسة شأن تدبير أمور البلاد والعباد بما يتطلبه الواقع والمصلحة العامة؟

د. عز الدين العلام: أرى أنّ الجواب متضمّن في السؤال نفسه. فلكي يحافظ الدين على جوهره الروحي والأخلاقي، وتكون السياسة أمرا دنيويا يهمّ الشأن العام والمصلحة العامة، يقتضي ذلك بداهة أن يلزم كلّ طرف في هذه المعادلة حدوده ولا يتعدّاها. وبصيغة مباشرة، حلّ هذه المعادلة يتمثّل بكلّ بساطة في التّمييز (حتّى لا نقول الفصل) بين ما يدخل في نطاق الدين، وما يدخل في نطاق التدبير السياسي. غير أنّ مثل هذا القول يبدو لي من قبيل تركيب الجُمل، أو تفسير الماء بالماء كما يُقال. فما أسهل أن نركّب الجواب ذهنيا، ولكن ما أصعب أن يتحقّق فعلا هذا التمييز على أرض الواقع. مشكل العلاقة بين الدين والسياسة في الرقعة العربية ليس مشكل مفاهيم، وليس مشكلا دستوريا، وليس مشكلا مؤسّساتيا، هذه كلّها تجلّيات لما هو أعمق، نتائج لمسار تاريخي أبان عن عجز مزمن في ترتيب العلاقة بين الطرفين. قارن بين تاريخ المجتمعات التي تجاوزت هذه العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، وبين ما عرفه تاريخنا ليتبيّن الفارق بين حركية اجتماعية منفتحة نحو المستقبل ووضْع مجتمعي متكلّس محافظ، ولندرك الفارق بين نخبة مفكّرة جريئة هناك ومفكّرين محافظين أكثر من الدولة نفسها هنا، بين رجال دين تماشوا مع اللحظة التاريخية هناك، وفقهاء ظلّوا في أغلبهم متقوقعين في مدوّناتهم هنا.

ورجوعا إلى سؤالك، يبدو لي أنّ هناك شيئا ما غير متوازن. أنت تتحدّث عن امتداد ما هو ديني إلى مجال ما هو سياسي بغية الحفاظ على "مصلحة المؤسّسة الدينية ورجالاتها"، مقابل امتداد ما هو سياسي إلى مجال ما هو ديني وفقا ل"مصلحة رجال السياسة". والواقع، أن الأمر يتعلّق في كلتا الحالتين بنفس الشيء، وهو توظيف الدين واستعماله لغايات سياسية، والذي يقوم بهذا العمل لا يمكن إلاّ أن يكون رجل سياسة، رئيس دولة، زعيم حزب. أمّا حينما يدخل "فقيه" ما لمضمار العمل السياسي مستندا على "علومه" الدينية، أو حين يقحم "داعية" إسلامي نفسه في قضايا عمومية، فإنّه يكفّ عن أن يكون مجرّد رجل دين ليصبح بكلّ بساطة رجل سياسة.

عبد الله إدالكوس: في إطار ترتيب العلاقة بين الديني والسياسي في نظركم ما يمكن للسياسة أن تأخذه من الدين؟ وما يمكن للدين أن يأخذه من السياسة؟

د. عز الدين العلام: علاقة الأخذ والعطاء بين الدين والسياسة يحكمها الواقع الفعلي وطبيعة السياق الاجتماعي والتاريخي. وأنا هنا أريد أن أتحدّث عمّا كانت عليه وعمّا هي عليه هذه العلاقة، وليس عمّا ينبغي أن تكون عليه. لنسق مثالا يخصّ التجربة العربية- الإسلامية. الكثير من الناس، بل ومن الباحثين، من يجعل الإسلام في وضع النقيض من مسار الدولة أو الدول العربية- الإسلامية، متباكيا على غُربة الدين وابتعاد الدولة عن تعاليمه. هذا خطأ كبير ومفارقة تاريخية؛ فكلّ الدول التي تعاقبت على الرقعة العربية-الإسلامية، كما يقول عبد الله العروي، حافظت، بشكل أو بآخر على تطبيق الشرائع الإسلامية، ليس حبّا في هذه الشرائع، ولا إيمانا بها أكثر من الرعايا، ولكن لأنّ هذه الشرائع كانت في حقيقتها وواقعها تكفي الدولة من شرور جزء لا بأس به من التّنظيم الاجتماعي (تنظيم المعاملات وفضّ المنازعات وترتيب العبادات...). لم يكن هناك أي تناقض بين الدين وشرائعه، وبين السلطان وسياسته. السلطان أوّل من يحمي الشرائع، لأنّها تخدم مصلحته في تحقيق نوع من التساكن الاجتماعي، والشرائع تحتاج للوازع السلطاني حماية لنفسها من كلّ تبديل.

لقد كانت الدولة تجد في الدين تربة خصبة لتحقيق نوع من التلاحم حولها، كما كانت تعتبره حافظا للنظام الاجتماعي واستقرار علاقاته، غير أنّها، وهذا ما لا ينتبه إليه البعض، لم تكن في حاجة إلى حث الناس على شعائر الإسلام، ولا إلى الصراخ من أجل تطبيق أحكامه، زواجا وطلاقا وإرثا ومعاملات... إلخ، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن الناس هم أنفسهم أشد حرصا على احترام مبادئ دينية تضمن لهم استقرارهم الاجتماعي والنفسي. هكذا إذن، تعايش السلطان والشرع في الماضي، إذ وجد كل واحد في الآخر ضالته. ما يحكم علاقة الدولة بالدين هو الحاجة المتبادلة interdépendance، ولعلّ بيتا شعريا لابن المعتز يوضّح اقتصاد الأخذ والعطاء بين الدين والسياسة في التجربة العربية الإسلامية حين يقول:

الدين بالملك يبقى ** والملك بالدين يقوى

واليوم، ما تغير واقع الأمر في الكثير من الدول العربية. يكفي أن تتأمّل في نصوص دساتيرها، وفي خطابات زعمائها، وفي وسائل إعلامها لتتأكّد من أن الدين ما يزال في جعبته ما يعطيه لها حفاظا على كينونتها...

عبد الله إدالكوس: من الملاحظ في مجال التداول العربي الإسلامي قديما ندرة الكتب التي تحدثت عن موضوع السياسة وأدبياتها وعلاقة ما هو سياسي بما هو ديني... في الوقت الذي نجد فيه تضخما كبيرا في مجالات الفقه وما اتصل بالعلوم الشرعية في نظركم كيف يمكن تفسير أسباب هذا النقص؟

د. عز الدين العلام: إذا كنت تقصد التراث العربي- الإسلامي، فليس صحيحا نذرة الكتب التي تتناول موضوع السياسة ومستتبعاتها في مقابل تضخّم الإنتاجات الفقهية بكلّ فروعها. فشخصيا أُتيحت لي فرصة الاطّلاع على عشرات وعشرات الكتابات الإسلامية المهتمّة بالمجال السياسي، بدءا من ابن المقفّع السيء الحظ في الثقافة العربية، والذي درّسوه لنا كمجرّد أديب ناثر لا علاقة له بالتفكير السياسي، والعكس هو الصحيح، وحتّى حينما يتحدّثون لنا عن أفكاره يقدّمونه لنا كزنديق يستحقّ النهاية المفجعة لحياته وانتهى الأمر، وهذا موضوع آخر يهمّ السياسات التعليمية. علينا هنا أن ننتبه إلى أنّ الكتابة السياسية في التراث الإسلامي، شأنها شأن مثيلتها في العصرين القديم والوسيط، لم تكن مستقلّة تماما، بل كانت تختلط بمجالات معرفية أخرى تهمّ الأدب والتاريخ والأخلاق والفقه والفلسفة. ومع ذلك، لا يعني القول بوفرة الكتابات السياسية في الإسلام أنّنا أمام فكر سياسي بكلّ ما تحمله الكلمة اليوم من معنى. الواقع أنّ الكتابة السياسية في الإسلام، وكما أوضح ذلك عدد من المفكّرين والباحثين، كلّ من منظوره، يمكن إجمالها في ثلاثة اتّجاهات: كتابات سياسية نُصحية دوّنها أدباء- فقهاء تُعرف ب"الآداب السلطانية"، وهي في جوهرها لا تعدو أن تكون تنظيرا للاستبداد السياسي، وكتابات سياسية- شرعية تتوخّى استغراق الشريعة للسياسة، وهي في مجملها، على خلاف ما قد يعتقد البعض أقرب إلى تنظيم المجالات المدنية منه إلى تنظيم المجال السياسي، وكتابات سياسية- فلسفية كان للفكر اليوناني تأثير كبير فيها، وظلّت على حدّ تعبير علي أومليل "غريبة' في التربة العربية- الإسلامية، كما ظلّ أصحابها كما يقول عبد الله العروي معزولين "فرادى" داخل دولة تفتقد لمقوّمات العقل كما يقولون. هذا كلّ ما هناك: أديب يتقرّب من الحاكم وينظّر لاستبداده، وفقيه يدافع عن الشرع، ويتعامل في كتاباته مع الرعايا في عباداتهم ومعاملاتهم ومنازعاتهم، أكثر ما يتعامل مع السلطة السياسية، وفيلسوف متشبّث بأحلامه هربا من دولة تفتقد العقل والحكمة. ما علاقة كلّ هذه النماذج من التفكير السياسي بالدين؟ إنّها بالضبط العلاقة التي حالت دون ظهور فكر سياسي مستقل عمّا عداه من مجالات التفكير. لا يمكن لتصوّرات "الفقهاء" أن ترى المجال السياسي في استقلاليته عن الدين وأوامره، إذ الدولة في تصوّرهم لا تعدو أن تكون "قيمة" أدنى، تابعة للدين ك"قيمة" أعلى. وهذا أكبر عائق لم يسمح ببلورة نظرية الدولة التي تقتضي تصوّر السلطة السياسية كقيمة في حدّ ذاتها دونما حاجة لقيم دينية أو أخلاقية تبرّر وجودها. أكيد أنّ تصور أدباء السلاطين لعلاقة الدين بالسياسة كان أكثر تقدّما من التصورات الفقهية. فهم تخلّوا تماما عن حلم "الخلافة" المستعصي التّطبيق، وهم يتعاملون مع أوامر الشرع بشكل دنيوي تماما باعتبارها تنظّم حياة الرعايا، ولا أدلّ على ذلك من تصورهم " للخطط الدينية" من قضاء وحسبة وإفتاء وتنظيم أماكن العبادات بنفس الطريقة التي يتصوّرون بها "المراتب السلطانية" الدنيوية من وزارة وكتابة وحجابة... وبإيجاز، إنّ رؤيتهم للدين رؤية دنيوية تماما. غير أنّ الإشكال لم يُحل؛ فقد ظلّ الدين حاضرا في كتاباتهم كسيف مسلّط على كلّ من أرد الخوض في "أسباب السلطان"، كما ظلّ حاضرا عند "أولي الأمر" كعصا يتّكئون عليها ليقوموا، ولا نتيجة لهذا غير عجز الفكر السياسي الإسلامي عن بناء "نظرية الدولة"، وعجز الدّولة نفسها في التجربة العربية- الإسلامية أن تظهر كدولة "عامّة" ومستقّلة. أمّا الفكر الفلسفي السياسي، فإضافة لغربته، ومصير ابن رشد أكبر دليل، لم يتمكّن نتيجة بناءاته الذهنية التّجريدية من التّأثير على دولة السلطان الواقعية، ناهيك عن محاولاته التّوفيق بين أشياء يصعب التوفيق بينها.

عبد الله إدالكوس: قضى العالم الإسلامي بدءا من حكم أبي بكر الصديق، حتى زمن الإمبراطورية العثمانية زمنا طويلا تحت حكم نظام الخلافة الإسلامية، والذي بموجبه تم تقسيم العالم بشكل عام إلى دار حرب ودار سلم وغير ذلك... في نظركم هل مجال التداول العربي الإسلامي في هذه الحقبة التي أشرنا إليها يتوفر عن مواصفات منهجية حول نظرية في السياسة؟ وكيف يمكن أن ننزع طابع القداسة عن فكرة الخلافة الإسلامية التي لازال يحلم بها البعض؟

د. عز الدين العلام: إذا كان العالم الإسلامي كما جاء في سؤالكم قد عاش تحت حكم "نظام الخلافة" منذ أبي بكر الصديق، أوّل خليفة، إلى غاية انهيار الخلافة العثمانية، فما عساها تكون دعوة الداعين لقيامها قديما وحديثا؟ ربّما يكون علينا أن نضبط المفاهيم التي نستعملها. فما أسميته "حكم نظام الخلافة"، لا أرى فيه غير حكم دنيوي لمختلف الأنظمة السياسية السلطانية التي شهدها التاريخ الإسلامي منذ بدء الدعوة النبوية. الواقع، أن الخلافة لم توجد ولن توجد أبدا لسبب بسيط وعميق. ذلك أنّ الخلافة تقتضي أولوية الوازع الديني، ونحن نعلم، وابن خلدون أعلم، بأنّ أساس ما نسميه بالدولة الإسلامية يكمن في شوكتها ووازعها السلطاني. الخلافة تقتضي أنّ المؤمن هو الذي يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وهذا شرط يتطلّب من الإنسان أن يتحوّل إلى ملاك، وهو أمر بيد الله، وليس بيد الطبيعة البشرية. الخلافة تقتضي أن تكون حروب المؤمنين فتحا مبينا وجهادا في سبيل الله ولا شيء سواه، ونحن نعلم من وقائع التاريخ أنّ الجهاد مرتبط بالغنائم الدنيوية. الخلافة تقتضي أن تكون كلمة الله هي العليا داخل الجماعة نفسها قبل أن تدّعي هذه الجماعة نشرها خارج حدودها باسم الجهاد...الخلافة بهذا المعنى هي "طوبى" كما وصفها عبد الله العروي، هي حلم المسلم المقهور الذي يراها كلّها عدل وكرامة وحبّ ورحمة، وكلّ ما تريد من خصال إلهية، ولأنّها كذلك فمصيرها مصير كلّ الطوباويات التي تصوّرها الإنسان على مرّ التاريخ. والحقيقة أنّ التباس مفهوم "الخلافة" يعود كما أوضح ذلك العروي بكلّ تفصيل، إلى الخلط بينها وبين دولة "الشرع"، والفارق كبير بين المفهومين.

أمّا فيما يخصّ التقسيم الإسلامي الشهير للعالم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب"، فأتذكّر الآن كيف كان بعض أساتذتنا الجامعيين يخصّصون ما يقارب نصف مقرّر مادة "القانون الدولي العام"، وجزء لا بأس به من مادة "العلاقات الدولية" للحديث عن سبْق الإسلام في هذا المجال. لم يكن غريبا عنّا آنذاك أن نجد أحاديث "أبي هريرة" تنافس أقوال "هانس مورجنتاو"، أو نجد بعض مأثورات عمر بن الخطاب تحاجج النقص الموجود في "الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان"، بل وحتّى أن يلقّنونا أنّ "صلح الحذيبية" ووقائع "الفتوحات" تُعتبر مثالا نموذجيا عن الدبلوماسية الناجحة!

لا أنتقص من قيمة الأسماء المذكورة، ولا من قيمة أساتذتنا. غير أنّ الأكيد أنهم كانوا يتحدّثون عن اجتهادات فقهية تعود إلى ماضي انقضى بانقضاء شروطه وأصحابه. وهذا دون أن أشير إلى تناقضها الصّارخ مع مستجدات الساحة الدولية. فهل بتقسيم العالم اليوم إلى دار الإسلام ودار الحرب يمكن للعلاقات بين مختلف الدول والمنظمات أن تستقيم؟ وهل بترديد عبارات من قبيل "أهل الكتاب" ومن لا كتاب له، وأحكام "أهل الذمة" و"الجزية" ومن لا ذمة له، ولا "خراج" له أو عليه... يمكن للدولة المعاصرة أن تتعايش مع غيرها؟

الواقع أنّ "الأمة الإسلامية" التي تفوق "المليار" نسمة لا تشكّل "دارا" فاعلة في الساحة الدولية، لا بالمعنى الحديث للكلمة، ولا بالمعنى القديم...نعم، قد يحسّ هذا "المليار" من البشر بوحدة الانتماء الديني والعواطف الدينية (وهذا أمر فيه نقاش !)، ولكن الأكيد أنّهم لا يحسّون بالضرورة بوحدة المصالح ووحدة المصير اللتين لهما محددات أخرى؛ اقتصادية وسياسية وإستراتجية لا علاقة لها بأي دين. فكلنا يعرف اليوم أنّ أمّة الإسلام مجتمعة هي "مادة" و"موضوعا" في يد المتحكّمين الفعليين في الساحة الدولية. وهذا أمر نلمسه حاليا في سياسة أوربا وأمريكا الإسلامية، وهو نفسه كان حاضرا في الماضي القريب مع سياسة "بسمارك" تجاه "العثمانيين"، ونفس الأمر تحكّم في دواليب الصراع بين القوّتين الفرنسية والألمانية في منطقة "المغرب الكبير" المسلمة...إلخ.

من سوء حظّنا، أو من قدر تاريخنا أنّ الإسلام (ومعه المسلمون) أصبح من المواضيع اليومية والساخنة في "الأخبار" الدولية لأسباب متعددة على رأسها الإرهاب الدولي، (ارتباط أغلب العمليات الإرهابية بجماعات تعلن بصريح العبارة انتماءها الإسلامي)، والتزايد الكمي المحسوس للجاليات المسلمة المهاجرة إلى بلاد "الغرب"، وما استتبع ذلك من تفاعلات تخصّ القوانين و"صيانة" الهوية" ومشكلات الإدماج أو الاندماج، وما نتج عن كلّ هذه التفاعلات من أصوات مؤيدة للوقوف ضدّ "البربرية الإسلامية" المهددة للحضارة الحديثة.

وفعلا يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى، ضرورة نزع "طابع القداسة" عن الكثير من المفاهيم كما جاء في سؤالكم، وعلى رأسها مفهوم "الخلافة" نفسه. فالكثير من الكتبة والدعويين يقدّمون لنا العقود الثلاثة الأولى التي عقبت وفاة النبي محمد، باعتبارها عصرا "ذهبيا"، لا ككل العصور: خلفاء "راشدون" يحكمون بالعدل وبما أنزل الله، ورعية راضية مرضية، كل فرد فيها يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه...

ليس من مبادئ العقل ولا هو من التّفكير التاريخي أن نعزل هذه "العقود الثلاثة" الأولى عن محيطها ونقدّسها، بينما هي مرحلة تاريخية سمتها المغالبة العصبية، وعلاماتها الفتن والردة والتوجس، وأدواتها السيف والسهم والحرباء، ونتائجها الاقتتال والاغتيال. لنقرأ وقائع اجتماع "سقيفة بن ساعدة" لندرك كيف أنّ الاعتبارات الدينية كانت "غلافا" يلفّ فيه كل خطيب مواقفه، هذا إن لم يسلّ سيفه مهدّدا ومتوعّدا. ولنتأمّل في "الردّة" التي اشتعلت نارها في جلّ المناطق باستثناء مكة والمدينة وجزء من الطائف، وكانت بالتالي التّحدي الأوّل الذي واجهه أول "خليفة" في الإسلام. ولنفكّر في الخليفة الثاني الذي اغتالوه، وهو يصلي في أقدس مكان عند السلمين، ولننظر في النهاية المأساوية للخليفة الثالث الذي قتلوه شرّ قتلة كما يحكي الطبري تفاصيلها، ولنبحث في الفتنة الكبرى الذي دشّنها الاقتتال الدموي بين أنصار الخليفة الرابع وأنصار معاوية بن أبي سفيان...هذه كلّها وقائع معروفة، فلمَ نغضّ الطرف عنها؟ كيف لنا أن نقدّس مرحلة قُتل فيها ثلاث خلفاء من أصل أربعة، علما أنّ مدّتها لا تتجاوز ثلاثين سنة !!

قليل هم المفكرون والباحثون الذين أجهدوا أنفسهم بالعودة إلى أصول التجربة الإسلامية، باحثين في مصادرها وشارحين ظروف وملابسات "تقديسها". يكفي أن أشير إلى"علي عبد الرازق" في كتابه الشهير حول "الإسلام وأصول الحكم" الذي نزع عن الخلافة كلّ قداسة معتبرا إياها، مثل ما سيليها من فترات مسكونة بالصراعات الدنيوية والسياسية. ويكفي أيضا أن نذكّر بأعمال محمد أركون الذي تحدث مطولا عمّا أسماه "السيادة العليا" في مواجهة "السلطات السياسية"، موضحا غير ما مرة التناقض الأزلي بين الطبيعة البشرية العدوانية، وما تطمح له الديانات من سمو روحي. وحتى لا أطيل في هذا الباب، يمكن للقارئ أن يعود إلى أعمال بعض المفكرين والباحثين الذين استقرؤوا الموضوع عن قرب، بدءا من طه حسين إلى صادق جلال العظم، وصولا إلى ما تضمّنته بعض أعمال عزيز العظمة وعبد الله العروي وعابد الجابري من تحليلات تخص الموضوع، ناهيك عن إمكانية الرجوع لما دوّنه بعض فقهائنا ومؤرخينا القدامى أنفسهم، والذين استعرضوا عشرات الوقائع التي تبرز دموية هذه الفترة و دسائسها واقتتالاتها.

عبد الله إدالكوس: قضت أوروبا قبل قرون من الآن حراكا فكريا كبيرا حول طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي، ومن أهم ما ترتب عن ذلك الحراك الفكري والثقافي نشأة العلمانية كنظرية فكرية حسمت العلاقة بين الدين والسياسة؛ فكثيرا ما تتم مناقشة العلاقة بين السياسي والديني في المحافل الفكرية في العالم الإسلامي بمنطق الخصوصية الحضارية، فهل هذه المقاربة في نظركم سليمة؟ وإلى أي مدى يمكن الاستفادة من التجربة الأوربية في طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي؟

د. عز الدين العلام: فعلا، يشهد تاريخ البشرية على أن من بين الأسس التي قام عليها تقدم الغرب نقد الفكر الديني. ويكفي لتبين ذلك، أن نتصفح تاريخ أوربا، بدءا من فرنسا "عصر الأنوار" إلى ألمانيا "اليسار الهيغلي" (نسبة إلى الفيلسوف الشهير F.W.Hegel)، مرورا بحركات "الإصلاح الديني" ومؤسّسي الفكر السياسي الحديث. ومهما اختلفت توجهات هذا النقد وتباينت مرجعياته، فإنّه سعى بالأساس إلى تقويض الركائز العتيقة التي يقوم عليها النظام القديم، وإحلال مبدإ العقل وحكم التجربة وسلطة التاريخ.

لقد صبّ فولتير Voltaire، منذ مدة لا تقل عن قرنين ونصف جام غضبه على التعصب الديني، ونادى بالتمييز بين رجال الدين "الكذبة" والدين "الطبيعي" الذي يرى في نظام العالم مرآة تعكس روح الله. وتحمّس معاصره هلفسيوس Helvetius لتأسيس "أخلاق جديدة" تتجاوز الأسس الميتافزقية، وترتكز على مقوّمات دنيوية تحقق منفعة الفرد وسعادته دون تعارض مع المنفعة العامة. وكان دولباخ D'holbach صاحب كتاب 'المسيحية المكشوفة" 'Le christianisme dévoilé أكثرهم جرأة، وهو القائل إنّ الجهل والخوف هما الأساس الذي يبني عليه رجال الدين قوتهم الموهومة، ويعطي للحكّام حرية لا حدود لها في اضطهاد رعاياهم باسم الله والمقدس.

ومع ذلك، فإنّ نقد الفكر الديني بشكل أكثر عمقا، هو ما شهدته ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما تدل على ذلك كتابات فويرباخ Feuerbach وشتراوس Strauss وباور Bauer وماركس Marx أو ما يعرف عموما ب "اليسار الهيغلي". فقد قام شتراوس في كتابه عن "حياة المسيح" بنقد تاريخي لنصوص الإنجيل مبرزا تناقضاتها العديدة ومنبّها لطابعها "الأسطوري" (أشير هنا على سبيل المقارنة أن العالم العربي-الإسلامي، وفي القرن الواحد والعشرين، لازال يقيم الدنيا ولا يقعدها أمام المحاولات القليلة والمحتشمة لتحليل نصوصنا "المقدسة" التي قام بها بعض الباحثين، مثل محمد أركون أو نصر أبو زيد). وكان معاصره "فويرباخ" باعتراف أغلب مؤرخي الفكر الفلسفي، أكبر ناقد للفكر الديني بوضعه اليد على مفهوم مركزي هو "الاستلاب الديني" l'aliénation religieuse، وهو المفهوم الذي سيجد امتدادا له عند مفكرين آخرين وخاصة منهم كارل ماركس، فالدين لا يعدو أن يكون تعبيرا عن عجز الإنسان على تحقيق إنسانيته في الحياة الدنيا، ولا خيار للإنسان أمام هذا العجز سوى القيام بعملية "تصعيد" لكل صوره الجميلة وإسقاط ماهيته نفسها على كائن كامل ومكتمل. ولا سبيل إلى تجاوز هذا الاستيلاب المركزي إلا باسترجاع الانسان إنسانيته التي سلبها هو من نفسه وأودعها لغيره، وتلك قصة أخرى سوف تجد صدى في كتابات أخرى مثل "مخطوطات 1844" أو" الإيديولوجياالألمانية" لكاتبهما كارل ماركس.

وفيما عدا هاتان الحركتان الثقافيتان، الفرنسية والألمانية، يمكن القول إنّ نقد الدين، فكرا ورجالا ومؤسسات، يوجد في عمق الفكر السياسي الحديث منذ نشأته مع ماكيافلي Machiavel ومساره الصاعد مع بودان Bodin وهويز Hobbes ولوك Locke وروسو Rousseau وغيرهم...

فعلى سبيل المثال، تضمّن "أمير" ماكيافلي نقدا لاذعا للكنيسة التي رأى فيها سبب خراب إيطاليا، كما ميّز فيه بين مسيحية "جبانة" تعتاش على التجزئة والفرقة الوطنية بإذكائها للنعرات، ومسيحية "حقيقية" لا تتعارض مع مقومات الدولة الحديثة التي كان ماكيافلي يناضل من أجلها. كما أقام المفكر السياسي بودان J Bodin تصوّره للدولة على اساس مفهوم للسيادة Souverainte يجعل منها كائنا مطلقا لا يحدّه لاهوت، ولا يؤثر فيه انتماء ديني، وكان بذلك يعبّر عن موقف جماعة تدعى بـ "السياسيين" Les Politiques ظهرت في خضم التطاحنات الدينية التي عرفتها فرنسا في العقود الأخيرة من الفرن السادس عشر، وكانت هذه الجماعة ترى أن وحدة الأمة تقتضي وضع الاعتبار السياسي فوق كل اعتبار، وخاصة الاعتبارات الدينية، كما كانت ترى أن وحدة الأمة هي في نهاية المطاف أهم من وحدة الدين. ومن تمّ كان هؤلاء "السياسيون"، ومن ضمنهم ج بودان، من أوّل المنادين بضرورة الاعتراف بالاختلاف الديني، واعتباره أمرا واقعا يتطلب التسامح مع الآخر بدل التطاحن الذي لا ينتهي.

وإضافة لكلّ ما قيل، ينبغي ألا ننسى أنّ نظريات "العقد الاجتماعي" Le contrat social بمختلف أشكالها عند هوبز Hobbes أو لوك Locke شكّلت نقدا حاسما لكل خلط بين مجالي الدين والسياسة بسحبها البساط عن كل تنظير لاهوتي لمسألة الدولة التي اصبحت نتيجة العقد الاجتماعي كائنا مستحدثا ومخلوقا بشريا...

لا داعي هنا للاسترسال في استشهادات يمكن الاطلاع على تفاصيلها بالرجوع إلى تاريخ الفكر الأوربي الحديث، وإذا كنت أشرت إلى بعضها على سبيل الاستئناس، فلأبيّن بالمقابل مدى الضعف الذي لازم الفكر العربي الحديث في جوابه عن المهمات التاريخية المطلوبة منه. ذلك أنّ تاريخ العرب الحديث لم يقدّم لنا حركات ثقافية تحديثية وإصلاحية جريئة... نعم، كان هناك ما اصطلح على تسميته ب "عصر النهضة" ونبغ أشخاص مأثورون، أمثال محمد عبده، والكواكبي ولطفي السيد وقاسم أمين وخير الدين التونسي، بل وأيضا شبلي شميل وفرح أنطوان ويعقوب صروف وغيرهم... بيْد أنّ ما يجري هنا والآن دليل على اجترار سؤال "النهضة" وفشل حركتها التي لم تصل، لعوامل عدة، إلى أن تصبح علامة على حركة ثقافية لها امتدادات مجتمعية، فظلت بالتالي عبارة عن شذرات معزولة واجتهادات فردية كان مصيرها الارتكاس والتيهان في محيط مشبع بعوامل التخلف التاريخي. فهل نذكّر هنا بمحاربة قاسم أمين المتحرر المحتشم أو بمواقف أغلب فقهاء المغرب من التجديد وسبل تحقيق "المدنية"، أم نذكّر بمحاكمات على عبد الرازق، وطه حسين باسم الدين... واللائحة تطول، إن لم تكن مرشّحة للاتساع.

عبد الله إدالكوس: يبدو من خلال التفاصيل التي أشرتم إليها، وكأنّ العلمانية تعني رفض الدين، إن لم أقل معاداته؟

د. عز الدين العلام: أبدا لم تتأسّس العلمانية على الكُفر بالدين (وإن كانت التجربة الفرنسية تشكّل حالة خاصة)، وإنّما على تحييده ورسم حدوده مع الشّان العام. فليس هناك أي تطابق بين الإلحاد وجلّ من نظّروا للدولة الحديثة. ثمّ لا تنسى، وهذا غالبا ما يتمّ التّغافل عنه، أنّ كلّ ما ذكرته من أسماء وتيارات فكرية، هم نتيجة وتتويج لحركة فكرية عرفتها أوربا منذ القرن الثالث عشر على الأقل، بل وعلى يد ثيولوجيين وقساوسة.

فمنذ النصف الثاني من القرن 13م، بدأت خلخلة تلك النظريات السياسية السائدة في أوربا العصر الوسيط، تلك التي كانت تلحق الفعل السياسي بما وراء الطبيعة جاعلة منه مجرد مناسبة للعبور للعالم الآخر وبحث عن "الخلاص" لملاقاة الله. والسبب التّأثير الحاسم الذي مارسته كتابات المعلم الأول أرسطو بنسختيها "الرشدية" و"الأكوينية"،(تعرّف الغرب المسيحي على كتاب "الأخلاق" حوالي سنة 1240 – 1244. أمّا كتاب أرسطو "في السياسة" الذي لم تكن توجد له نسخة عربية على خلاف باقي كتبه، فقد تُرجم عن اليونانية من طرف "كيوم موربيك" حوالي 1260 بإيعاز من طوما الأكويني). وقد سمحت هذه الكتابات بتجاوز "الأوغسطينية السياسية" التي لا تتصوّر مدينة أخرى غير "مدينة الله"، كما سمحت بتحقيق نوع من التّلاؤم بين "العقل" السياسي كأمر طبيعي وتقني ودنيوي، وبين "الإيمان" بالمسيحية كدين وأخلاق وقيم. لم تعد السلطة السياسية العادلة مرآة للإله، ولا السلطة الجائرة عقابا منه، إنّها تجد أصلها في الطبيعة البشرية نفسها. ولا يتعلّق الأمر هنا بإبعاد الدين، ولكن بتطويعه أمام الدنيا، وبالتالي أمام السلطة الزمنية. كما لا يتعلّق الأمر هنا بالتخلي عن فضائل الأخلاق، ولكن بجعلها في خدمة الصالح العام. وهنا بالضبط، بدأت فكرة التمييز بين المجالين، وتحديدا درء كلّ تدخل لرجال الدين فيما ينوي الملوك القيام به. فلم يعد "للبابا" الحقّ في عزل الملك حين ارتكابه خطأ سياسيا إلاّ عبر قناة "البارونات"، ولا حقّ له في عزله حين ارتكابه خطأ دينيا إلاّ عبر قناة الشعب، ومقابل ذلك يحقّ للملك عزل "البابا" مباشرة في حال ارتكابه خطأ سياسيا، وعبر قناة "الكرادلة" في حال ارتكابه خطأ دينيا.

وهنا أختم بسؤال واحد للتفكير فيه. لدينا في تراثنا الإسلامي فقيه كبير ومفكّر موسوعي هو قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي، ولديهم في العصر الوسيط المسيحي ثيولوجي كبير ومفكّر موسوعي هو "جيل دو روم"Giles de Rome. كتب الماوردي كما كتب نظيره "جيل دو روم" في الدين وعلومه، وفي السياسة وآدابها. وكتب الأوّل كما كتب الثاني في مرايا الأمراء والنّصح السياسي. ألّف "جيل دو روم" كتابا ضخما عنوانه "حُكم الأمراء" Du gouvernement des princes لا يستند فيه، وهو رجل دين، على أي مرجع ديني. سؤالي هو: هل يمكن أن نتصوّر الماوردي يؤلّف "نصيحة الملوك" دون أن يحيل على الآية القرآنية والحديث النبوي؟

عبد الله إدالكوس: ولكن هناك من يرفض مثل هذه المقارنات باسم الخصوصية الحضارية؟

د. عز الدين العلام: نعم، قد يحتجّ البعض ويقول إنّنا نقارن مالا يُقارن، وإنّ لكل مجتمع ثقافته المحلية وعوائده الخاصة، وإنّ ما يجري على أوربا، بل وربما على العالم كله، لا يجري علينا، لأننا لسنا هم وليسوا نحن، ولأنّ لنا خصوصيتنا، وأشياء كثيرة من هذا القبيل. أعتقد أنّ من يحتج باسم الخصوصية يغفل عن معطى بديهي أثبتته وقائع التاريخ التي لا ترتفع؛ فالإنسان أولا وأخيرا هو الإنسان، كيفما كان وأينما كان... اللهم إن كنا نحن العرب أو المسلمين أناسا ليس مثلنا أناس! ثم إن التاريخ يشهد على أنّ مقومات الحضارة الحديثة، على خلاف باقي الحضارات التي عرفتها البشرية، أصبحت ذات طابع كوني وتهمّ الانسان كإنسان، وأنّ مفاهيم العقل والعلم والديمقراطية والحق والفرد... تعني البشرية ككل، ولا يمكن إلصاقها بأمة دون أخرى، فليس هناك "علم" أمريكي أو "ديمقراطية" فرنسية أو "عقل" عربي بقدر ما هناك مشاركة أمم متعددة في إغناء مفاهيم هي في أصلها إنسانية الطابع...

والواقع أنّنا لسنا في حاجة إلى جهد استثنائي، لندرك أنّ الحضارة الإسلامية كانت مثل باقي الحضارات، محكومة بالتاريخ والجغرافيا، وأنها لم تكن أبدا معزولة ونقية واستثنائية كما يتصوّرها المنادون بالخصوصية الحضارية. فما أسهل علينا أن نستوعب أنّ الدولة الإسلامية التي يتحدّثون عنها وكأنّها شيء "خاص" بعينه لا يشبهه شيء، لم تكن منذ بدئها غير استنبات لدولة "فارس" وأجهزتها، واستطالة لدولة الشرق القديمة، وأنّ تاريخها الفعلي لم يكن في حقيقته غير تاريخ السلطنات الدنيوية التي عرفها العالم العربي – الإسلامي وربّما لا يزال، وأنها كانت تقوم على القهر والعصبية، وليس على مبادئ دينية مفترضة.

عبد الله إدالكوس: تناسلت في السنوات الأخيرة أبحاث عديدة تعيد قراءة مفهوم الدولة وجدلية السلطة في السياق الإسلامي، هل تعتقدون أنها استطاعت أن تتحرر من التصور التقليدي للآداب السلطانية؟

د. عز الدين العلام: يصعب عليّ أن أصدر حكما على كلّ هذه الأبحاث، وأنا لا أدّعي اطلاعي عليها في مجملها. ولكن دعني أقصر ملاحظاتي هنا على باحثين كبيرين؛ هما عابد الجابري وعبد الله العروي.

نجد في الأستاذ عابد الجابري رجل التراث الإسلامي العارف به والملمّ بقضاياه كما تدلّ على ذلك مجموع كتاباته. وما يهمّني هنا هو الإشارة إلى بعض تصوراته لموضوع "الاستبداد" السياسي داخل تراثنا الإسلامي. فقد وضع اليد غير ما مرّة في عدد من كتبه ومقالاته على واقع "الاستبداد" الذي غزا الرقعة العربية الإسلامية، بل وختم كتابه الضخم حول "العقل الأخلاقي العربي" بخلاصة وضع لها عنوانا معبّرا هو: "لم يدفنوا بعد أباهم أردشير" كلها تأكيد على حقيقة هذا الاستبداد ونقد لما أسماه الجابري ب"أخلاق الطاعة" التي غزت السلوك والقلوب. كما خصّص الفصل الأخير من كتابه حول "العقل السياسي العربي" لتحليل آليات الاستبداد السياسي وتسويغاته الإيديولوجية. هكذا توسّع الجابري في شرحه لمبدإ "المماثلة بين الله والسلطان" معتبرا إياها ثابتا من "الثوابت البنيوية" المتحكمة في "الإيديولوجيا السلطانية"، بل ومشيرا إلى أن "العقل السياسي العربي ظل مسكونا ببنية المماثلة بين الإله والأمير"، ولا نتيجة للإقرار بمثل هذا المبدإ، في نظر الجابري، غير تقديس الحاكم، وتسويغ استبداده لتماهي إرادته مع الإرادة الآلهية.

إن الحقيقة التي لا مجال لإنكارها، في نظر الجابري هي أن العلاقة بين السلطان والرعية، علاقة تحكم وتملك، ولا تقوم على أخلاق المشاركة السياسية، ولا على اعتبار السياسة "شيئا عموميا". ولسنا في حاجة إلى حفر عميق، كما يقول عابد الجابري، لنبيّن كيف أن واقع السلطة مظهرا وجوهرا، "يقوم على تقنية مألوفة لدينا، تقنية قوامها راع واحد يقود الرعية برمتها".

ومع ذلك، يبدو لي أنّ تصوراته، وخاصة في بعض كتاباته المتأخرة تتماوج بين التحليل النقدي والمنظور الدعوي. فهذا الفيلسوف قد يفاجئ قارئه حين يؤكد مثلا أنّ الفصل بين الدين والدولة ليس مشكلنا، وأنّ "العلمانية" لا تعنينا كمسلمين، والواقع اليوم يؤكد عكس ذلك. أو حين يؤكد أيضا أنّ "حقوق الإنسان" وإعلاناتها المختلفة متجدّرة في الخطاب القرآني، وفي ذلك مقارنة لا تجوز وخلط بين مجالات متباينة بالطبيعة. أو حين يذهب أيضا إلى أنّ مسألة "الردّة" والحكم على "المرتد" تظل معلّقة إلى حين انتهاء الفقهاء من صياغة اجتهاداتهم، وفي ذلك رهن لحياة البشر إلى حين... وهذه كلها مواقف لا يخفى على أحد إمكانيات "توظيفها في المعترك السياسي الراهن.

وبالمقابل، لا تنبني تحليلات عبد الله العروي لموضوع "الآداب السلطانية" التي أشرتَ إليها على متابعة النصوص في تفاصيلها وجزئياتها، ولا تتوخى نوعا من الحياد أو الموضوعية المفتعلتين، وإنما يندرج تصوره لها في إطار رؤية شمولية للفكر والتاريخ لم تمنعه من إصدار أحكام في حقها، غير أنها أحكام مبنية على نظر عميق وتصور خاص لا يلغى معطيات التاريخ ووقائعه، ولا سؤال الحاضر ومستلزماته.

ويمكننا أن نلخّص هذا التصور في عدد من النقط تتعلق بنعته لهذا الفكر بـ"التقليد"، وهو يتحدّث عن "سراج الملوك" للطرطوشي، وب"التهافت"، وهو يتحدّث عن "طبائع الملك" لابن الأزرق، وبـ"الجمود" وانسداد الأفق، وهو يتحدّث عن الأدبيات السياسية المخزنية التي سادت في مغرب القرن 19. وإذا كان لي أن ألخص عمق انتقاداته لهذه الكتابات السياسية الإسلامية ولغيرها، فإني أقول إنّه رأى فيها "أخلاقيات" و"اجتماعيات" وسياسيات" مبيّنا بالمقابل عجزها عن تصوّر الدولة كدولة. وفي هذه النقطة بالذات، تبدو جلية إضافة المفكر والمؤرخ عبد الله العروي. أكيد أنّه لم يخصّص المسألة الدينية بكتاب مستقل، غير أنّها تظل حاضرة تلميحا في عدد من حواراته وفي ثنايا تحليلاته لتراث الإسلام. ولكن ماذا قال؟ أولا، لاخوف على الدين وعقائده من الحداثة وانعكاساتها، باعتباره مسألة شخصية (والدليل مستوى التديّن في بلد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية). ثانيا، وبرفضه الصريح والعميق للانصياع للتراث والتقليد يرفض كل التأويلات المتهافتة لتراثنا الإسلامي. وأخيرا، وبتركيزه على الحاجة إلى الدولة ك"قيمة مستقلة" يندرج تفكيره في العلمانية بشكل صريح عند الذين يفهمونه، وبشكل مضمر عند الذين يتضايقون من تفكيره.

عبد الله إدالكوس: أفرز الاحتكاك الذي عاشته حركات الإسلام السياسي مع القوى السياسية المتعددة خصوصا بعد أحداث الربيع الديمقراطي، تصريحات لعدد من قياداتها تهادن العلمانية وتقول بإمكانية المصالحة معها؟ في نظركم إلى أي حد يمكن الوثوق بهذه التصريحات؟

د. عز الدين العلام: فعلا، هذا ما لاحظناه في خطاب هذه الحركات، مع حزب النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب، والعدالة والحرية في مصر... والواقع أنّ مثل هذه التصريحات ليست وليدة ما اصطلح عليه ب"الربيع العربي"، بل تمّت معاينتها منذ مدّة ليست باليسيرة، وإن كان هذا "الربيع العربي" قد رفع فعلا من وتيرتها. ومع ذلك، فإنّ هذه النتيجة لا تعود إليها وحدها بقدر ما هو تمرة ما أسميته ب"القوى السياسية المتعدّدة" التي تعاملت إيجابيا مع إمكانيات التطبيع السياسي مع هذه الحركات، فكان القبول متبادلا.

لقد قرأت غير ما مرّة في برامجهم وأدبياتهم أنّهم يعتبرون أنفسهم أحزابا "مدنية"، وألا مشكل لهم مع قواعد الديموقراطية، أو التعامل مع تيارات "علمانية". فهل نصدّقهم؟ لو اقتصرنا على منطوق تصريحاتهم، لتعذّر علينا العثور على أي فارق مع باقي اللغة السياسية المتداولة، بل وقد يبدو لنا أنّ عنوان "المرجعية الإسلامية" مُقحم في كلام سياسي. ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فما السر في لازمة الإسلام التي تطفو على السطح بين حين وآخر؟ كيف نفسّر حضور الهاجس الديني في مناقشات سياسية تهمّ قضايا اقتصادية متعلّقة بالقطاعات المالية والبنكية والاستثمارات السياحية، أو قضايا تهمّ حرية الإبداع الفني والسينمائي؟ بم نفسّر المكتوب الصحفي المُشبع بالروح الدينية؟ ألا يتعلّق الأمر بثقافة سياسية تتكلّم بلسانين يسكنان جسدا واحدا؟

لا أقول شيئا جديدا، إن أشرت إلى نوع من الغموض والازدواجية اللذين يكتنفان خطاب الحركة الإسلامية؛ فهي تكثر من الحدود عندما تصرّح أنها مع التعدّدية، ولكن في دائرتها الإسلامية الوحدوية، وهي مع الديمقراطية شريطة ألا تتناقض مع الشورى، وهي مع حرية المرأة شرط الالتزام بأحكام الشرع، وهي مع حريات الإبداع والتعبير، ولكن مع مراعاة الحدود الأخلاقية!! لا أدري حقا ما هو المعيار الذي يمكن أن نضبط به عتبة هذه الثنائيات المتعارضة.

ومع كلّ هذا الغموض، أو نتيجة له، أعتقد أنّ المسألة ليست مسألة ثقة ولا هي مسألة أخلاقية. ما يحكم لهم أو عنهم هو الممارسة الفعلية وسلوكهم السياسي. وأكبر ضمانة لدخولهم دائرة الأحزاب المدنية، هو بكلّ بساطة تخلّيهم عن استعمال الدين في الحياة السياسية، وهو ما لا نلمسه فعلا في ممارسات هذه الحركات، وخاصة في خطاباتها الجماهيرية، وحضورها الإعلامي، وحملاتها الانتخابية، بل وأيضا في برامجها وأدبياتها. هنا تقول لك أنّها حركة مدنية، وهناك لا تتورّع على استغلال آية قرآنية أو حديث نبوي. وربّما يكمن سرّ هذين الوجهين في كون الجمع بين العمل السياسي والإحالات الدينية يحمل معه مزية "براغماتية" وانتخابية تستنفع منها هذه الحركات إلى أجل مسمى.

أمّا وأن تنقلب هذه الحركات حين وصولها إلى السلطة على مبادئ الديموقراطية والحقوق المكتسبة، فهذا فعلا ما كان وما يزال يثير تخوفات الكثير من الفئات، خاصة وأنّه بإمكانك أن تجد في أدبياتهم ما يبرّر هذه التّخوفات. فمنهم من يصرّح أنّ الديموقراطية مجرّد وسيلة للاستحواذ على السلطة، شرّ لا بدّ منه لتحقيق الخير المتمثّل في إقامة الدّولة الإسلامية، ومنهم أيضا من يصعب تصديقهم اعتبارا للسانهم المزدوج. فهم قد يقولون الشيء ونقيضه في جملة واحدة. ومع ذلك، أعتقد أنّ وصولهم إلى السلطة بشكل ديموقراطي يمكنه أن يبرز محدودية ادّعاءاتهم، أمّا وأن ينقلبوا على الديموقراطية ويستبدّون بحياة الناس، فهذا في اعتقادي من باب المستحيلات، وخاصة في ظلّ ما أبانت عنه نتائج "الربيع العربي" من إمكانات الاحتجاج، بل والثورة إن اقتضى الحال. أبدا لا أعتقد أنّه يمكن لآيّ كان أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أو يقف ضدّ مجرى التاريخ.

عبد الله إدالكوس: بعد وصول الإسلام السياسي إلى الحكم، ظهر نقاش حول موضوع الدولة الدينية التي يقول بها أنصار وأطياف الإسلام السياسي والدولة المدنية، كيف تقيم هذا النقاش؟ وما هو التعريف الذي يمكن أن نعطيه للدولة المدنية والدولة الدينية؟ وما هي السبل المنهجية لتدعيم الدولة المدنية؟

د. عز الدين العلام: ما تمخّض عنه "الربيع العربي" من نتائج، وخاصة في البلاد التي سار فيها إلى منتهاه، مثل مصر وتونس وليبيا، وما عرفه المغرب من تحوّلات دستورية وسياسية عقب الخطاب الملكي لـ 9 مارس 2011، كلّها أحداث متسارعة أعادت إلى الواجهة، أكثر من أي وقت مضى، سؤال العلاقة بين المجالين السياسي والمدني، كما طفت على السطح مناقشات سياسية ودستورية حادّة حول "الهوية الإسلامية" ومطلب اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأسمى للقوانين.

والواقع أن المتتبع لما جرى لا يمكنه إلاّ أن يستعجب كيف حظيت المسألة الدينية بأهمية كبرى في المناقشات الدستورية والسياسية التي عقبت الانتفاضات العربية على حساب ما يُفترض أنّه الموضوع الجوهري للدستور، وأقصد بذلك التحديد الدقيق للسلطات الثلاث، وعلاقاتها ببعضها من جهة وبالمواطنين من جهة أخرى. ف"الإسلام" الذي يُقال عنه أنّه جوهر هويتنا وأخصّ خصائصنا، يبدو أنّه ليس بالكامل لنا، ولنا وحدنا بالحصر والتحديد. فنحن نشركه مع الباكستانيين والفليبيين والسينغاليين... ليس الإسلام ميزة العرب أو المغاربة، ولا هو يخصّهم وحدهم دون سائر المسلمين (ننسى دائما أنّ العالم العربي يشكّل أقّلية داخل العالم الإسلامي !). الإسلام انتماء لدين يقول عن نفسه إنّه دين العالمين، ومن تمّ ليس له أبدا أن يصبح خصوصية تميّز شعبا عن آخر.

أيّ معنى يمكن أن نضفيه على عبارة "إسلام الدولة" أو "الدولة الإسلامية" التي ينادي بها البعض علما أّن المجال السياسي هو بالتحديد مجال صراع بشري دنيوي ومجال تناقض المصالح والحاجات. أليست الدولة في حقيقتها كائنا دنيويا لا تنظر إلى الأشياء إلا من زاوية ما تجلب لها من منافع أو تسبب لها من مساوئ؟ وهل نذكّر أن أكبر هاجس يملك الدولة وعقلها اليوم، أرادت أم كرهت، هو الإقلاع الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي وأنّها، والوقائع تشهد على ذلك، أقل لجوءا للدين في خطابها وممارستها ممّا تفعله بعض الجماعات. وحتى إن لجأت مضطرّة إلى الاستنجاد بالدين، فلضعف تاريخي لازال يكتنفها، ويتمثل بالأساس في ضعف استقلالية المجال السياسي عمّا عداه من قيم أخلاقية أو دينية، وهو ضعف لا يمكن تجاوزه بقرار إداري، ولا حتى بفصل دستوري، بقدر ما تتحكّم فيه صيرورة التاريخ. فبقدر ما تتأسّس دولة القانون والمؤسّسات والشيء العام بقدر ما سيخبو استعمال الدين من أيّة جهة كانت. وبقدر ما يتبلور "مجتمع مدني" مستقل بذاته بقدر ما سيجد في الدولة الحديثة صورته، وبقدر ما سيصبح الشأن الديني مسألة شخصية.

ومع ذلك، كيف نفسّر هذا الاستقطاب الثنائي الذي يكاد يخترق مجموع العالم العربي بين من يتشبّث بإسلامية الدولة، ومن يسعى لحذف هذا الفصل الدستوري المثير للجدل؟ لا أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بصراع اجتماعي- طبقي بالمعنى الماركسي للمفهوم بقدر ما يتعلّق بصراع ثقافي معقّد ينبغي تحديد تشابكاته وتقاطعاته. ذلك أنّ الأصول الاجتماعية لقواعد الحركات الإسلامية، وجسمها الانتخابي يكاد لا يختلف عن أصول التّيارات القومية والليبرالية والعلمانية. أكيد أنّ للقوى المحافظة داخل المجتمعات العربية مصالح تستفيد منها باسم الدين، غير أنّ ما يحكم في نظري هذا الاستقطاب الثنائي، ليس بالضرورة الوضع الاجتماعي بقدر ما هو الاستعداد الذهني. فقد تجد داخل نفس القطاع المهني، نفس الحي السكني، بل ونفس الأسرة الواحدة من هو "إسلامي"، ومن يرفض ذلك.

نفس الاستقطاب الثنائي، وإن كان بدرجة أقلّ حدّة، شهده المغرب بمناسبة إعداد دستوره الجديد. والنتيجة تضمنّه ما لا يقلّ عن عشر إحالات إلى الدين تهمّ إسلامية المملكة المغربية، وتبوّء الإسلام مكانة الصدارة في هوية المغاربة، واستناد الأمة المغربية في حياتها العامة على الإسلام، وتديّن الدولة المغربية بالإسلام، ومنع تأسيس أي حزب على أساس ديني، وارتكاز الأسرة المغربية على الزواج الشرعي، واعتبار الملك أميرا للمؤمنين، وتأسيس مجلس علمي أعلى يتحدّث باسم الدين، ومنع أي برلماني المجادلة في حكم من أحكام الدين، ومنع أي تعديل دستوري يمسّ بالدين الإسلامي.

لا تهمّني هنا الفصول الدستورية التي تتحدّث عن المغاربة كمسلمين، فهذا حكم واقع ووصف تقريري كان بإمكان الدستور أن يتغافل عنه أصلا دون أن يغيّر ذلك من واقع الأمر شيئا. وبالمقابل لديّ ملاحظتين عن باقي الفصول. تتعلّق الأولى بحدود الحرّية في علاقتها بالدين: هل يحقّ اليوم لبرلماني ما أن يقترح قانونا يطالب فيه بالتّشريع للزواج المدني مثلا؟ هل يكون بإمكانه أن يطالب بقانون صريح يمنع منعا باتا تعدّد الزوجات بدل التّحايل على ما نصّ عليه الحكم الشّرعي؟ هل مشروع له أن يقترح قانونا يضمن للأنثى الواحدة حظّ الذكر الواحد في الإرث؟ هل يحقّ لفريق برلماني أن يقترح في إطار ما تنصّ عليه القوانين، تعديلا دستوريا يفصل بالواضح بين ما هو ديني وما هو سياسي؟ الجواب طبعا هو "لا".

ملاحظتي الثانية، تتعلّق بجوهر الإشكال المتعلّق بإسلامية الدولة وإمارة المؤمنين. فإذا كان "الخيار الديموقراطي" الذي ينصّ عليه الدستور ضرورة تاريخية لا مجال فيها للاختيار، وإذا كان "النظام الملكي" لا يشكّل في حدّ ذاته عائقا أمام هذه الضرورة، فإنّ التّنصيص على "إسلامية الدولة"، و"إمارة المؤمنين"، ليسا بالمطلقين في ثباتهما. ذلك أنّ الدولة الحديثة لا دين لها، أو لنقل لها كلّ الأديان دون أن يكون لها أي دين بالتحديد، لأنّ ما يجمعها بمواطنيها هو القانون والمؤسسات، ولأنّ إدخال دين محدّد في صلب الدستور من شأنه إهدار حقوق المواطن الذي ينتمي لدين آخر أو لا يدين بأي دين. أمّا التنصيص على "إمارة المؤمنين"، فتتطلّب شيئا من الاستفسار. فإن كان مجالها ينحصر في شؤون الدين فلا ضير في ذلك، بل تكون فائدتها أعم وأشمل، أمّا وأن تعكس ظلالها على المجال السياسي لأسباب لا مجال للتفصيل فيها، فذاك شأن آخر...

وهنا أختم إن سمحت، بما صاحب أشغال لجنتي مراجعة الدستور من مناقشات تهم "الهوية"، هويتنا نحن المغاربة. قال البعض إنّ الإسلام هويتنا، ليس كبلد فقط، بل أيضا كدولة. وقال البعض الآخر، نحن المغاربة، تاريخا ولغة وحضارة ومصيرا، عروبيون. وانتفض آخرون ضدّ تجاهل مكوّن رأوا فيه عمق تاريخ المغرب، فصدحوا قائلين: نحن المغاربة، أوّلا وقبل كلّ شيء، أمازيغ أبناء أمازيغ. ولم يجد البعض الآخر بدّا من الدّلو بدلوه، فعوّم حديث الهوية، مشيرا إلى العمق المتوسّطي والجذر الإفريقي وشيء من التواجد العبري...

وجاء الدستور الجديد، وقال للجميع: أيها السّادة، إنّ المغربي يجمع دفعة واحدة بين كلّ هذه الأمور، بل وأضاف حتّى لا يكسر خاطر أي طرف، أبعادا أخرى، حسّانية وصحراوية وأندلسية.. هكذا إذن هدأت عاصفة الهوية، وأحسّ كل طرف، بشكل أو بآخر، كما لو أنّه انتصر في معركة لا أشكّ أبدا في وهميتها.

هي معركة وهمية لأنّي أعتقد أنّه لا يوجد أصلا معنى لسؤال الهوية، دينية كانت أو عرقية، وخاصة في نص دستوري؟ تصبّ الهوية نظريا في مجال الخصوصيات، وما يميّز هذا الجنس عن ذاك. أمّا نتائجها العملية، فليست شيئا آخر غير الدوران حول الذات، وفي أحسن الأحوال، التلبّس بلباس الشوفينية والعنصرية وطهارة الأصل والتوجّس من الآخرين حتّى لا يفسدوا عنّا هويتنا، وما نحن عليه من خصوصية وصفاء !

عبد الله إدالكوس: في علاقة الديني بالسياسي، وباعتباركم مشتغلا ومهتما بتاريخ هذه العلاقة وتطوراتها، كيف تتصورون مستقبل هذه العلاقة بالنسبة لمجتمعاتنا المسلمة؟

د. عز الدين العلام: لا أحد يمكنه اليوم أن ينفي الحضور السياسي والانتخابي للحركات الإسلامية. وراء هذا الحضور أسباب متعدّدة، منها ما يعود إلى الغطاء الديني الذي تغلّف به خطابها السياسي، هذا الغطاء الذي يجد تربة خصبة في نسيج ثقافي مجتمعي محافظ لا زال التقليد يحكم أوصاله. ومنها ما يعود إلى عوامل سياسية تتمثّل في فشل أغلب التجارب السياسية العربية من قومية واشتراكية وليبرالية في خلق نوع من التواصل بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي... وفي جميع الأحوال. أعتقد أنّ وصول بعض هذه الحركات إلى مراكز السلطة هو بداية نهاية بريقها. فأن تبقى في المعارضة معناه المزيد من استغلال مبرّر المظلومية عليها، وحصد المزيد من التعاطف لفائدتها. أتصوّر ألا شيء يمكنه أن يبرز محدوديتها أكثر من توليتها أمور النّاس المعيشية واليومية، ناهيك عن مجرى حركية التاريخ التي لا تهدأ.