الإمبريالية الإسلامية: بين الاحتلال والفتوحات


فئة :  مقالات

الإمبريالية الإسلامية: بين الاحتلال والفتوحات

الإمبريالية الإسلامية: بين الاحتلال والفتوحات

هشام شعبان

حين ننظر إلى الاستقطاب الجماهيري تجاه أية قضية أو حدث أو موقف، ندرك بالبديهة أننا أمام حلقة جديدة من الحلقات اللانهائية للعصبية القبلية القديمة، وما "الاستقطاب" إلا كلمة جديدة استبدلنا بها لفظ "القبلية" أو "العصبية".

فطوال تاريخنا - تقريبًا - كانت محاولات دعاة التنوير أو أولئك الذين يناقشون بموضوعية، لا تلقى بالًا بالشكل المنتظر؛ وذلك في ظل ارتفاع أصوات فرق الانحيازات والتحزبات، وهي فرق كاذبة على رأي الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي قال: "المنحاز دائمًا كذاب".[1]

وإذا كان كثير من المثقفين المصريين اليوم، يرون في الأديب الراحل طه حسين، أهم مثقف مصري في القرن العشرين، فإن هذا الجهد الكبير الذي بذله طه حسين لم يتعدّ غالبًا طبقة المثقفين أو النخبة، فيما تُرك العوام من الشعب أسرى لخطابات انحيازية واستقطابية، ولا مجال في مقالنا هذا للبحث عمن ترك الشعوب العربية أسرى للمتطرفين.

لم يكن ذلك إلا تمهيدا لموضوع المقال الذي يناقش قضية جدلية متجددة ألا وهي "الفتوحات أو الغزوات الإسلامية"، وهي القضية التي طرأت على السطح من جديد في ظل الحديث عن ضرورة مراجعة التراث وتجديد الخطاب الديني من قبل السلطة الحاكمة في مصر تارة، ومن قبل بعض المفكرين تارة أخرى.

الملاحظ والمتوقع مع أية دعوة مماثلة هو نشوب حالة "الاستقطاب" المعتادة، وركض كل صاحب انحياز إلى فريقه ومعسكره الإيديولوجي، ليبدأ المعسكران حربًا مفتوحة على منصات التواصل الاجتماعي وفي القنوات التليفزيونية، في محاولة للنيل من بعضهما البعض. فترى الفريق الأول يدافع عن حروب المسلمين ويصفها بـ "الفتوحات الإسلامية المباركة"، ويذهب أفراده لاستعراض بطولات القادة المسلمين وذكرى ثمانية قرون في "الأندلس"، مع أماني وأمنيات تائهة وساذجة بعودة زمن الخلافة الإسلامية القديم، واستعادة الأمجاد المندثرة، ناسين تمامًا أو متناسيين ومتجاهلين الكم المفزع من الوقائع المروعة التي حدثت بين المسلمين وغير المسلمين، وبين المسلمين العرب والمسلمين البربر، وبين المسلمين العرب وبعضهم البعض؛ أي عرب اليمن من جهة وعرب نجد والحجاز من جهة أخرى.

في المقابل، تجد فريقًا ينشط لـ "شيطنة" تلك الحروب التي نجح من خلالها العرب المسلمون في ضم الكثير من البلدان للدولة الإسلامية، حتى وصل الأمر بالبعض لعدم الاكتفاء بالتنديد والاستنكار، بل ومطالبة المسلمين بالاعتذار عن البلدان والأراضي التي "احتلوها".

وبعيدًا عن طرح أسئلة عقيمة حول هوية ذلك المسؤول المسلم أو تلك الدولة أو المؤسسة المسلمة التي تقع على عاتقها مسؤولية الاعتذار؟ وهي الأسئلة التي ستقودنا إلى جدل فارغ، ستتضح ملامحه إذا افترضنا جدلًا أن مؤسسة ما، كالأزهر تبنت ثقافة الاعتذار عن "الفتوحات الإسلامية" على غرار اعتذار الفاتيكان - المنظمة الممثلة لمسيحيي العالم - عن الحروب الصليبية، فإننا سنفاجأ حينها ربما برفض منظمة التعاون الإسلامي، ناهيك عن الجدل الذي سيحتدم بين الدول التي تسعى جاهدة إلى حمل لواء الإسلام أو بين أصحاب المذاهب المختلفة، وما يصاحب ذلك من استقطاب أشد يقود إلى التطرف.

إننا لو أخلصنا النية في البحث ومحاولة الفهم، فعلينا تسليط الضوء على فريق ثالث يغيب عن معادلة الاستقطاب الراهنة، وهذا الفريق هو الذي ينأى بنفسه عن إطلاق المصطلحات على عواهنها، فلا يمجد "الفتوحات"، انطلاقًا من إيديولوجيته الدينية والعرقية، ولا يندد بـ "الاحتلال أو الاستعمار الإسلامي"، انطلاقًا من إيديولوجيته الرافضة للجماعات الدينية المتطرفة وانتصاره لمبادئ حقوق الإنسان. ولعل هذا الفريق يذكرنا بمفهوم "الوسط الذهبي" للفيلسوف اليوناني أرسطو، حين تحدث عن طريق بلوغ الإنسان للسعادة، فقال: "هناك طريق لبلوغ السعادة، وهو الطريق الوسط أو الوسط الذهبي، حيث تنظم الأخلاق في شكل ثلاثي يكون الطرفان الأول والأخير فيه تطرفا ورذيلة. والوسط فضيلة أو فضل، وهكذا يكون بين التهور والجبن فضيلة الشجاعة، وبين الخضوع والعتو فضيلة الاعتدال".[2]

إذن ما هو التعريف الصحيح لتلك الحروب؟ أهي احتلال أم فتوحات؟ في رأينا إنها "احتلال في سياق لحظته التاريخية"، وعلينا أن نوسع آفاقنا ومداركنا للخروج من الثنائيات العقيمة التي تحصرنا وتحاصرنا في خيارات محدودة ومرّة.

إن فهمنا - جميعًا - لـ "الفتوحات" كجهاد ديني ونصرة للإسلام، وبالتالي فهو يبرر القتل والسلب والسبي والجزية وغيرها، هو فهم ينطوي على مغالطة شديدة، والأقرب - أو ما نراه فهمًا سليمًا - أن تلك "الغزوات" كانت "حملات عسكرية توسعية، مثلها مثل الحروب والحملات التوسعية التي شنتها أمم أخرى غير العرب المسلمين"، ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة كالإمبراطورية الرومانية أو حملات الإسكندر الأكبر وغيرها.

إذا توصلنا إلى هذا الفهم أو وافقنا عليه مبدئيًا بأن الخلافة الإسلامية هي إمبراطورية إمبريالية كالإمبراطورية الرومانية مثلًا، فإننا ننتقل سويًا إلى مرحلة أخرى من البحث، لكي نفهم بشكل أعمق لا لكي نجد المبررات أو لنتصيد الأخطاء لتعزيز انحيازنا.

وما تكون لدينا من رؤية هو أن سياق العصر نفسه والظروف السياسية التي أحاطت بالعرب المسلمين اقتضت منهم في البداية، أن يتحركوا ويتمددوا عسكريًا لضمان بقاء دولتهم الوليدة، خاصة في ظل الأخطار القائمة من إمبراطوريتي الفرس والروم حينها، وفي مرحلة لاحقة يمكننا اعتبار أن التوسعات العربية-الإسلامية جاءت للتعبير عن القوة الفائضة لدى المسلمين، والتي ربما شعروا بها مع توالي سقوط البلاد والعباد في قبضتهم بسهولة، وتقهقر الإمبراطورية الرومانية.

وبتبني هذا الفهم لـ "الإمبريالية الإسلامية"، ندرك بالتبعية أن إخضاع كل تلك البلدان وأهلها، لم يسلم من الانتهاكات التي انطوت على مظاهر عدة من جرائم الظلم والنهب والإكراه، وأن الدين كان شعارًا سياسيًا واستراتيجيًا لإلهاب قلوب الجنود وتحفيزهم، مثلما رفع مسيحيو أوروبا شعار الصليب في حملاتهم الصليبية على بيت المقدس، ومثلما رفع ويرفع آخرون شعارات مماثلة كتميز العرق أو اللون أو المولد.

الخلاصة، أننا إذا وصلنا إلى هذا الفهم نكون قد وضعنا لبنة في طريق طويل هو طريق مراجعة التراث وإعادة هضم التاريخ، لا الحذف منه ولا التنكر له، ولا المغالاة في تمجيده ولا تقديس شخصياته "البشرية" وأفعالها.. إن وصلنا إلى هذا الفهم، نكون قد تصالحنا مع ماضينا بإنجازاته وإخفاقاته، وأدركنا أن الاستقطاب وتطرف المواقف نكاية في الآخر، لن تساعدنا قيد أنملة على تحسين حاضرنا ومستقبلنا. إنها دعوة للتحرر من القناعات المسبقة التي تعمي أعيننا عن الفهم الصحيح، وكما وصف نيتشه، فقال: "التحرر من كل صنف من القناعات جزء من القوة، وقدر على النظر بحرية".[3]

[1]- فريدريك نيتشه، نقيض المسيح...، منشورات الجمل 2011، ص 125

[2]- ويل ديورانت، قصة الفلسفة..، مكتبة المعارف، الطبعة السادسة 1988، ص 87

[3]- فريدريك نيتشه، نقيض المسيح..، منشورات الجمل 2011، ص 122