الإمبراطورية


فئة :  ترجمات

الإمبراطورية

الإمبراطورية[1]

روبرت ج. س. يونغ Young. Robert J. C

ترجمة: جواد الحبوش[2]

"اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك:

انظروا إلى أعمالي أيها الأقوياء، واليأس!"

لا شيء بجانبه يبقى.

حول ذلك الحطام الهائل من الخراب،

بلا حدود، وعارية،

تمتد الرمال بعيدا، وحيدة ومستوية.

(بيرسي بيش شيلي، أوزيماندياس 1818)

 

إن الشيء الأكثر إثارة في سجل الإمبراطوريات من منظور تاريخي هو ذلك التحول الجوهري المستمر الذي يطبع وجودها، وأوجها وأفولها، وبنية تكوينها، وإعادة تكوينها، والتشوهات التي تصاحبها. وإن كانت كل إمبراطورية تغير ثقافة المجال الذي يقع تحت سيادتها، إلا أن هذا التحول بدوره يفسح لنا المجال أمام أفق آخر. فبالرغم من عظمتها، وقوتها وادعائها القدرة على الصمود، فقد كانت الإمبراطوريات تاريخياً غير مستقرة، إذ ظلت حدودها تتغير باستمرار في سيرورة بناء وجودها، مثل أطراف الأميبا الحية. في واقع الأمر لا يمكن رسم حدود للإمبراطوريات بشكل صحيح إلا باستخدام خرائط متنوعة أو متحركة - إذ إنه وبشكل عام غالبا ما يتم تغيير تلك الحدود، حيث لا يمكن أن تمثل أية خريطة سوى لقطة فوتوغرافية ترصد مدى إمبراطوري في لحظة معينة. وضد هذا التحول المستمر الذي يطرأ على الحدود، ونمط الازدهار والأفول والزوال، ظلت الإيديولوجية المتكررة للإمبراطوريات تنشد الاستقرار والصمود، وهي مفارقة عبر عنها شيلي بسخرية مثيرة في قصيدته الشهيرة "أوزيماندياس" حول الفرعون المصري المعروف أكثر برمسيس الثاني. ففي نهاية القصيدة، يحيلنا شيلي على الادعاء الإمبريالي الكبير الذي يرمز إليه التمثال المنقوش على قاعدة الإمبراطورية، وحالة الحطام التي يؤول إليها بعد قرون من الزمن وموقعه وسط الصحراء الخالية، يسخر من معناه الأصلي، ويعكس قصده بالكامل.

وكلما توسعت الإمبراطوريات، توسع نطاق حدودها كذلك: الشيء الذي يؤجج الرغبة في القيام بمزيد من الغزو من جهة، ويجعل تلك الحدود أكثر صعوبة لحمايتها، وأكثر عرضة للهجوم عليها. هذا وينتج عن كل غزو أو ضم جديد مزيدا من الحدود التي تستوجب تأمينها، وإكراهات أكثر بخصوص المنطقة التي يجب احتلالها والزحف اتجاهها. وفي حالة وجود أية إشارة على الضعف، قد ينتهز أولئك الذين تم غزوهم فرصتهم للتمرد. وبهذا، تصبح الحدود المتنائية في الآن نفسه، أقل قابلية للضبط والتحكم وتصير السلطة الإمبريالية أكثر هشاشة كلما بعدت تلك النقط أكثر وأكثر. ويشكل هذا المعطى نقطة ضعف متأصلة في جميع الإمبراطوريات، وأحد أسباب عدم استقرارها وانهيار معظمها في نهاية المطاف. فلطالما تفككت الإمبراطوريات بسبب الصراع حول السلطة، سواء من الداخل أو من الخارج. إن حكاية الإمبراطورية كانت دائمًا حكاية مرتبطة بالتوسع، واستلاب الأرض، والنكوص، والانحلال.

لقد بدأت العديد من الإمبراطوريات بطموحات وتطلعات فردية كتلك التي قادها أوزيماندياس (المعروف برمسيس الثاني 1303-1213 قبل الميلاد) - وقورش العظيم (576-530 قبل الميلاد) - وألكساندر (356-323 قبل الميلاد) - ويوليوس قيصر (100-44 قبل الميلاد) - وتيمور (تيمورلنك) (1336-1405) - وجنكيز خان (1162-1227) - ونابليون بونابرت (1769-1821)، وهتلر (1889-1945)، أو تم تطويرها كما هو الحال بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية من خلال مجموعة من الشخصيات كمراد الثاني، ومحمد الثاني، وسليم الأول، وسليمان العظيم. هذا في حين أن بعض الإمبراطوريات، مثل الإمبراطورية البريطانية، توسعت، وتراجعت بشكل عرضي، ثم توسعت، وتراجعت من جديد دون أن يكون لها حاكم معين يلعب دور السيادة (ففي القرن الثامن عشر، ادعى المؤرخ جون سيلي أن الإمبراطورية البريطانية تم بناؤها في "لحظة شرود ذهني") (Seeley 1971: (33 غير أن دوافع الإمبراطورية، سيادية كانت، أم تجارية أم استكشافية عادةً ما تكون متشابهة، إذ ترتبط بالمجد والسلطة والمال. فكما عبر عن ذلك جين بوربانك وفريدريك كوبر في كتاب الإمبراطوريات في تاريخ العالم: "لم تكن نية الرجال الذين انطلقوا من أوروبا الغربية وسافروا عبر البحار في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إنشاء "إمبراطوريات تجارية" أو "استعمار غربي". لقد سعى هؤلاء إلى الحصول على الثروة خارج حدود قارة واجهت فيها طموحاتهم الكبرى إكراهات بسبب التوترات بين اللوردات والملوك والصراعات الدينية، وكذا القبضة المحكمة للعثمانيين على شرق البحر الأبيض المتوسط" (Burbank and Cooper 2010: 149).

كان هؤلاء المستكشفون أرباب أعمال ومقاولين في زمانهم، حاولوا تجاوز الحواجز المرتبطة بالتمثل الطبقي والمرتبة الاجتماعية عند مجتمعاتهم. فكان استخراج الثروة من أماكن أخرى أهم الدوافع التي قامت عليها معظم الإمبراطوريات: فكان غزو يوليوس قيصر لبريطانيا نفسه السبب الذي قام على أساسه غزو الإسبان لأمريكا؛ أي الذهب. وكان الدافع الآخر هو الدين، سواء من أجل الحرية الدينية) الحجاج الآباء(، أم من أجل التبشير الديني في كثير من الأحيان. ففي خضم توزيع الأمريكيتين بين الإسبان والبرتغاليين، كان البابا، باعتباره خليفة الله على أرضه، قد برر استعمارهم بوعده تمكين الشعوب الأصلية من معانقة المسيحية، هذا في وقت كان فيه المبشرون الكاثوليكيون مثل فرانسيس كزافييه يسعون إلى القيام بذلك أيضًا في إفريقيا والشرق. أما الخلافة الإسلامية، فتوسعت من المملكة العربية السعودية منذ عهد النبي محمد وفقا لدستور المدينة، حيث كان التسامح الديني بين "أهل الكتاب" (اليهود والمسيحيين) هو القاعدة المعيارية، رغم أن ذلك لم يكن يلاحظ على مستوى الممارسة دائما، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات السنية الشيعية، فقد كانت هناك بالتأكيد بعثات أفرزت، أو فرضت تحولات واسعة النطاق.

كما تم إنشاء العديد من الإمبراطوريات الأوروبية جزئيا من خلال حملة الهجرة والاستيطان التي أنتجت مستعمرات على النموذج اليوناني الأصلي؛ وذلك من أجل التخلص من فائض السكان والعاطلين وغير المنتجين: الإسبان في الأمريكيتين والهولنديين في جنوب إفريقيا، والإنجليز في أمريكا الشمالية وأستراليا، والإيطاليين في ليبيا - تماما كما يهاجر اليوم الجياع والعاطلون عن العمل، أو الذين يتقاضون أجورا زهيدة في العالم بحثا عن حياة أفضل. كانت المستعمرات الاستيطانية التي أقامها هؤلاء الناس، بعيداً عن المركز الحضري، دائماً تواجه خطر الانفصال عن الإمبراطورية، خاصة إذا كان يفصل بينهما محيط أو اثنان. ورغم تنوع بنيتها السياسية، فقد كان المجال الجغرافي لجميع الإمبراطوريات واسع النطاق: لكي تستحق الإمبراطورية هذا اللقب، كان لا بد أن ترسم لنفسها حدودا بعيدة المدى؛ إذ يعد وصف مجال ترابي معين له حجم مدينة، أو ولاية، أو إقليم بالإمبراطورية طموحا بعيدا عن الواقعية أو مجرد ضرب من ضروب الخيال- ليس هناك على ما يبدو من يعرف لماذا تطلق نيويورك على نفسها لقب "الدولة الإمبراطورية". تقليديا، كانت الإمبراطوريات بمثابة بنى سياسية تطورت عبر مرور الزمن من مناطق جغرافية معينة، أو من خلال عمليات الاحتلال التي كان يقوم بها البدو الرحل. وقد عاشت معظم الإمبراطوريات في الآن نفسه جنب إمبراطوريات أخرى، جنبا إلى جنب مع الممالك الإقليمية، والدول، أو مجتمعات البدو القبلية التي كانت تعيش خارج مظلة أية إمبراطورية. وإلى الحد الذي تشكل فيه الإمبراطوريات بنى سياسية موسعة ومستدامة في بعض الأحيان، فإنها توفر سبلا لنسج حكايات تاريخية كبرى ذات طابع كوني. تعني العولمة اليوم أن المؤرخين غالباً ما يقدمون تاريخ العالم، باعتبار أنه تاريخ الإمبراطوريات. ويشكل هذا إحدى الصيغ لتناول الموضوع، بالعودة في واقع الأمر إلى المنظور السائد إبان القرن الثامن عشر، عندما كان مؤرخو عصر الأنوار مثل جيبون أو فولناي منشغلين بفكرة اضمحلال وتفكك الإمبراطوريات. وخلال القرن التاسع عشر، أوج الإمبريالية والتراتبية العرقية والثقافية التي صاحبتها، تحول الاهتمام إلى الحضارات. أما في القرن العشرين، فقد فضل التاريخ التقليدي للبلدان الغربية رواية التوسّع الأوروبي، بدءًا بتاريخ الحضارات "القديمة" التي يقصد بها اليونان وروما ثم تطور الثقافة الأوروبية في عصر النهضة، وازدهار الحداثة خلال عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، والتوسع الأوروبي وقيام الإمبراطوريات الأوروبية، التي أعقبتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، والحرب الباردة، وعمليات إنهاء الاستعمار، وظهور عالم الدول القومية. كل هذا يمكن عرضه بشكل ضمني أو علني كجزء من سردية كبرى، عن تقدم "الحضارة" (الغربية) التي غالباً ما يتم تعريفها على هذا النحو بـ "الحداثة".

الإمبراطورية والحضارة

ما الفرق بين الإمبراطورية والحضارة؟ فرق ضئيل جدا من الناحية العملية، فكثيرا ما يتم تعريفهما على حد سواء. بالطبع، لم تتطلع بعض "الحضارات" إلى مكانة الإمبراطورية، ولربما لم تطلق على نفسها لقب "حضارة". هذا هو ما نسميها به اليوم لأننا نصفها كمجتمعات قامت بإنتاج أشكالها الخاصة من الاستيطان، والزراعة، والتكنولوجيا، والتجارة، والكتابة، والدين، والفن، وهي كل الأشياء التي تميز الإمبراطوريات في غالب الأحيان أيضا. يقوم اختيارنا للمصطلح على أساس مدى رغبتنا في استشراف المكون الثقافي أو السياسي. إننا نتحدث عن حضارة وادي السند الأولى في هارابان التي ظهرت في وقت مبكر جدا لدرجة أن لدينا معلومات مفصلة قليلة عن تنظيمها السياسي - وحتى خطها الزمني هو مسألة نقاش. وكمكون ثقافي، على الرغم من أن الحضارة كانت دائمًا تعبر عن وجهة نظر الناظر إليها، فقد ارتبطت عادةً بتطور المدن وثقافتها الحضرية (الكلمة نفسها مشتقة من الكلمة اللاتينية سيفيس؛ أي مواطن. عادة ما كانت الحضارة تتعارض مع المجتمعات الأجنبية، إذ كانت تعتبرها غير متحضرة أو "بربرية" أو "متوحشة" أو "بدائية". كما كانت تدعي العديد من الإمبراطوريات جلب الحضارة إلى البلدان والأراضي التي تستولي عليها. لقد كانت إحدى المزاعم الكبرى للإمبراطورية في القرن التاسع عشر أن العالم الغربي متحضر بالكامل في حين أن المجتمعات اللاغربية تعيش حالات متفاوتة من اللاحضارة - لهذا السبب ادعت الإمبريالية جلب "الحضارة" إليهم، وهي إيديولوجية ارتبطت بمفهوم مهمة التحضير التي صاغها بشكل محكم المستعمر الفرنسي بزعمه وجود حضارة فرنسية. لقد كانت الحضارة في هذه المرحلة ذات توجه علماني، يتناسب مع مبادئ الدولة الجمهورية، ويطغى على أعرق مزاعم الإمبراطورية والاستعمار الداعية إلى اعتناق المسيحية. وإن كان الإسبان والبرتغاليون وحدهم من اضطروا إلى تبرير الاستعمار والإمبريالية رسميا من خلال العمل التبشيري، فإن جميع المستعمرات تعرضت لمساع تبشيرية، حيث استغل المبشرون البؤر الاستيطانية المتوفرة لتيسير جهودهم، بل وحثهم في بعض الأحيان على المزيد من الاستعمار نيابة عنهم. وعلى الرغم من أن علاقتهم مع إدارة المستعمر كانت في بعض الأحيان متناقضة بعض الشيء، إلا أن العلاقة بين العمل التبشيري والاستعمار كانت وسيلة لإضفاء الطابع الأخلاقي على ممارسة الإمبراطورية. فأصبحت الحضارة والعمل التبشيري باسم المسيحية، دين الحضارة، متطابقين تقريبا في ذهن العديد من دعاة الإمبريالية، حيث كان ينظر إليهما على أنهما يدلان بشكل بديهي على الخير، يشبهان إلى حد كبير ما يصطلح عليه في الآونة الأخيرة "بالمساعدة" و"التنمية" الخارجية.

لقد جعل التاريخ الإمبراطوري هذا فكرة "الحضارة" بأكملها صعبة الاستعمال اليوم؛ وذلك لأن المفهوم ذاته أصبح معروفا على نطاق واسع بكونه يتضمن العديد من التمثلات المؤيدة للمركزية العرقية والثقافية. ونتيجة لذلك، يفضل المؤرخون اليوم استعمال مصطلح "الإمبراطورية"، الذي يحيلنا على وجهة نظر أقل نزوعا إلى الأحكام، تتميز بقدرتها على المقارنة أكثر وتشتغل بنفس تاريخي أكبر. وإذا كان في كثير من الأحيان لا يزال تميزهما ممكنا، فيبقى الحال أن بعض الإمبراطوريات استطاعت أن تنتج "حضارة أكثر"؛ بمعنى ثقافات أكثر تميزا وثباتا من غيرها. فتلك التي عمرت لفترات أطول، نذكر على سبيل المثال مصر، كانت لها أفضل الفرص لخلق حضارة خاصة بها. على غير العادة، كانت مصر غير مهتمة نسبيا بنشر ثقافتها في الخارج. وذلك عكس معظم الإمبراطوريات التي كانت تحاول فرض بصمتها على الأراضي التي تقع تحت نفوذها الإمبراطوري: سيادة مشتركة، تليها لغة، وكتابة، وعملة، وقانون ونمط معماري، ودين مشترك في بعض الأحيان. وفي هذا الصدد، كانت أولى كبريات "الإمبراطوريات" عموما حضارات متميزة أيضا- الحضارة المصرية، والآشورية، والبابلية. وقد بلغت حدود الإمبراطورية المصرية أقصى مداها إبان القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى تركيا الحديثة شمالا، وإريتريا جنوبا. لكن على الرغم من حجمها، فقد شكلت الإمبراطورية المصرية آنذاك واحدة من بين القوى العظمى، التي كانت تتعايش وتتنافس مع عديد من الإمبراطوريات، مثل البابلية والآشورية، في ما يعرف الآن بمنطقة الشرق الأوسط. هذا وشملت الإمبراطوريات المتعاقبة في آسيا الإمبراطورية الأخمينية أو الإمبراطورية الفارسية تحت قيادة سيريس العظيم، والإمبراطورية المقدونية التي امتدت إلى جبال الهيمالايا تحت حكم الإسكندر الأكبر، والإمبراطوريات السلالية الصينية المختلفة التي عادة ما كانت تتغير حدودها الجغرافية. أما الإمبراطوريات في شبه القارة الهندية فقد تغيرت مرات عدة بين مرحلة حكم الإسكندر ووصول المغول. هذا وتميز تاريخ شبه القارة الهندية بتشكيل، وتفكك، وإعادة ظهور إمبراطوريات عديدة، لها نطاق جغرافي متباين، كان أكبرها الإمبراطورية الموريانية بقيادة أشوكا العظيم، والإمبراطورية الهندية البريطانية، وإمبراطورية بالا البوذية، والإمبراطورية المغولية الإسلامية، وإمبراطورية جوبتا الهندوسية. وفي مناطق أخرى، شملت أهم الإمبراطوريات قبل الفترة الحديثة إمبراطوريات خارج الأراضي الأوراسية، مثل تلك الموجودة في مالي، وأمريكا الوسطى (الأزتك) وأمريكا الجنوبية (الإنكا). ورجوعا إلى الأراضي الأوراسية، فقد كانت هناك الإمبراطورية اليونانية والرومانية، والإمبراطورية الفارسية الثانية، تلتها الإمبراطورية الدينية البيزنطية والإمبراطوريات الرومانية المقدسة ثم الخلافة العباسية. وبحلول القرن السابع عشر، امتدت الإمبراطورية العثمانية من الخليج الفارسي إلى الجزائر وكذا إلى الحدود مع فيينا؛ بيد أن أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ من حيث المساحة الأرضية المجاورة لها كانت الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان وامتدت، من القرن الثالث عشر إلى الرابع عشر، من المحيط الهادي إلى أوروبا، إذ من المعتقد أنها ضمت 30٪ من سكان العالم رغم أن حدودها كانت ضعيفة شيئا ما بدون شك.

جغرافية الإمبراطورية: الأرض مقابل الامبراطوريات البحرية العالمية

على الرغم من الاختلافات بين الإمبراطوريات، فقد جمع بينها مشترك واحد سمح بانتشار ثقافاتها أو حضاراتها الخاصة التي تشكلت من المناطق المجاورة لأرض واحدة. فالخلافة الإسلامية، على سبيل المثال، انتشرت بشكل سلس حيثما كان الجمل العربي يأخذ الفاتحين (Silverstein 2010: 6). هذا ووسع الإسكندر الأكبر الحدود الشرقية للإمبراطورية اليونانية لتشمل الهند، بينما أسس مدينة الإسكندرية في مصر. لقد كان التوسع عبر ضم الأراضي المجاورة أيضا أساسا لبعض الإمبراطوريات الحديثة، مثل فرنسا في عهد نابليون، وألمانيا النازية، والإمبراطورية الروسية (السوفياتية)، التي اشتغلت كلها بأسلوب تقليدي أكثر يحذو حذو الإمبراطوريات التي توسعت عبر المجالات الأرضية. أما روسيا التي أعلنها بطرس الأكبر إمبراطورية في عام 1721، فقد دأبت على ضم، أو إعادة ضم، المناطق المجاورة التابعة في الأصل لإمارة روس الكييفية. هذا وتوسعت بحرا أو بالأحرى عبر الجليد إلى الخارج بحلول عام 1868، لتمتد من أمريكا الشمالية (مع المستوطنات في ألاسكا وكاليفورنيا) إلى بحر بارينغ، ومن القطب الشمالي إلى بحر البلطيق. وبعدما تخلت عن جزء كبير من أراضيها الإمبريالية خلال الحرب العالمية الأولى، واستعادتها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم فقدتها مرة أخرى بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، استأنفت روسيا أسلوبها التوسعي بحلول عام 2014، وضمت شبه جزيرة القرم وأشعلت فتيل النزعة الانفصالية شرق وجنوب أوكرانيا - وهو تطور تكهن به بشكل مثير العالم والمحلل السياسي ألكسندر جيه موتيل عام 2001 في موضوع بنية ودينامية الإمبراطوريات، (Motyl 2001).

لقد لعبت الولايات المتحدة نوعا ما دور المرآة في علاقتها بروسيا. فما فتئت أن نالت هذه الأخيرة استقلالها عام 1776، حتى بدأت في التوسع شرقاً. هذا في الوقت الذي بدأ فيه المستعمر الأمريكي التوسع غرب المستعمرات الثلاث عشرة الأصلية على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية في اتجاه أراضٍ كانت قد صنفت من قبل البريطانيين علنا على أنها محميات أمريكية أصلية إلى حدود تلك الساعة. وفي عام 1803 تعاقدت الولايات المتحدة مع نابليون لشراء لويزيانا والأراضي الفرنسية المتبقية في أمريكا الشمالية. هذا واتبعت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة إمبريالية أكثر وضوحا في عهد الرئيس بولك، عندما ضمت تكساس عام 1845، الشيء الذي أدى إلى اندلاع الحرب المكسيكية الأمريكية التي أدت بدورها إلى ضم أريزونا، كاليفورنيا، نيفادا، نيو مكسيكو، ويوتا. وبوصولها إلى الحد الغربي للمحيط الهادي، شرعت الولايات المتحدة منذ سنة 1845 في اكتساب أراض خارج حدودها البرية المباشرة، وذلك بدءا بامتياز مع الصين الذي تم التفاوض بشأنه في معاهدة وانغ هيا. كما قامت الولايات المتحدة بشراء ألاسكا من روسيا في عام 1867. أما الأمر الأكثر إثارة للجدل، فهو أن هاواي تأسست سنة 1898 بعد الإطاحة بالملكة ليلي وكولاني عام 1893 (وهي الولاية الأمريكية الوحيدة التي لازال يحتوي علمها على شعار الاتحاد البريطاني). عند هذه النقطة، بدأت الولايات المتحدة تتخذ شكل إمبراطورية بحرية، تستولي على أراضي ما وراء البحار بواسطة القوة العسكري، غير أن الصعوبات سرعان ما أصبحت جلية، إذ لم يتم ضم سوى ألاسكا وجزر هاواي تحت لواء الاتحاد. أما الأراضي الأخرى، التي تم ضم العديد منها خلال الحرب الأمريكية الإسبانية سنة 1898 مثل كوبا، وبورتوريكو، والفلبين، وساموا الأمريكية، وجزر ماريانا الشمالية، وجزر مارشال، فقد تم منحها الاستقلال لاحقا، أو حصلت على الاستقلال، أو بقيت معلقة ينتابها الفضول "كأراض غير مدمجة". ومع تغيير الرئيس سنة 1913، كان سعي الولايات المتحدة لمدة ستين عاما وراء إنشاء إمبراطورية عالمية في المحيط الهادئ قد تحول بشكل دراماتيكي إلى حق تقرير المصير الوطني لجميع المستعمرات في جميع أرجاء العالم. ومنذ ذلك الحين، تعايشت الإمبراطورية والديمقراطية بصعوبة مع السياسة القومية الأمريكية.

وقبل حصولها على الاستقلال، كانت الولايات المتحدة نفسها جزءا من نوع مختلف تماما من الإمبراطوريات، إذ لم تتشكل فوق مجال جغرافي موحد، بل امتدت إلى جميع أرجاء المعمور: الإمبراطورية البحرية العالمية لبريطانيا (Darwin 2013). كان هذا هو الشكل الآخر للإمبراطورية، الذي يقوم على أساس احتلال الأراضي في القارات البعيدة (Howe 2002). ولعل أفضل طريقة لفهم هذه الإمبراطوريات هي الإمبراطوريات البحرية العالمية، التي تعمل كاقتصادات عبر المحيطات تقوم على أساس شبكة من المراكز التجارية المترابطة عالميا وجموع من المستعمرات المتفرقة جغرافيا، تربط بينها جميعا التكنولوجيا الجديدة لسفن المحيطات، وبعد ذلك، أسلاك التلغراف التحت بحرية.

وفي مجملها، كانت الإمبراطوريات سابقا تشمل أقاليم قريبة تمتد فوق مجال جغرافي موحد. فمن القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر، سافر الفايكنج على نطاق واسع، فوق سفنهم الطويلة والبارعة، إذ كانت تستخدم تكنولوجيا متقدمة مكنتهم من الإبحار عكس الرياح حتى أمريكا الشمالية وروسيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، ليس فقط لأجل النهب والسلب كما هو معروف جدا في الأساطير الشعبية، ولكن أيضا لإنشاء مستوطنات فيما لا زال يعرف اليوم بنيو فاوند لاند، لابرادو، غرينلاند، أيسلندا، وحتى جنوب إيطاليا. وفي حين تمكن الفايكنج من إنشاء المستعمرات، لم يتحدوا أبدا في شكل إمبراطورية موحدة، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم توفر أجواء الاستقرار بالمعنى الحديث في الداخل، لتكون مركزا لها. في أوائل القرن السادس عشر، كان الأوروبيون يبنون "الكارافيلس" للسفر عبر المحيطات باستخدام مساعدات الملاحة البحرية مثل الإسطرلاب والبوصلة وجهاز قياس المسافات والارتفاعات (المستمدة جزئيا من التكنولوجيا البحرية لآسيا)، والتي كانت تمكن البحارة من العودة إلى ديارهم عبر المحيطات. ونتيجة لذلك، أضحى إنشاء إمبراطوريات ممكنا، حتى وإن لم تكن متقاربة جغرافيا. وعلى عكس الفايكنج، تمكن هؤلاء المستعمرون بعد ذلك من البقاء على صلة مع أوطانهم بسهولة نسبية، مهما بعدت المسافات.

ويشكل هذا أحد العوامل التي ميزت الإمبراطوريات الأوروبية الحديثة عن جميع الإمبراطوريات الأخرى التي سبقتها. فبفضل اقترانها بتطور أشكال أخرى من التكنولوجيا العسكرية والاتصالات، مثل الأسلحة النارية والمدافع (التي استعملت لأول مرة في الصين) (جودي 2012: 274)، أو في وقت لاحق البندقية الآلية والتلغراف، تمكنت الدول الأوروبية من السيطرة على الأراضي في جميع أنحاء العالم بما فيها المناطق البعيدة عنها جغرافيا. وفي خضم هذه الشبكة الإمبراطورية الموسعة التي كان رهانها التنظيمي الأساس هو تدفق التجارة، يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع مختلفة من المستعمرات: مستعمرة المستوطنين، مستعمرة الاستغلال غير المستقرة، والقلعة أو القاعدة البحرية، التي يمكن أن نسميها مستعمرة الحامية العسكرية. في العصر الحديث، لم تتخذ مستعمرة الحامية شكل مدينة كما كان الحال في العصر الروماني، بل اتخذت شكل قاعدة عسكرية، مثل الأراضي السيادية لبريطانيا والولايات المتحدة في جزر قبرص (أكروتوري وديك يليا) وكوبا (غوانتانامو)، اللتين شكلتا على التوالي جيوبا عسكرية بالكامل. وتبقى أغرب الحالات هي دييجو غارسيا، التي بيعت إلى المملكة المتحدة من قبل موريشيوس عام 1965 عندما كانت لا تزال مستعمرة بريطانية. لتقوم حكومة العمال البريطانية بإعادة توطين السكان الشاغوسيين قسرا قصد إيجار الجزيرة إلى الولايات المتحدة واستخدامها كقاعدة بحرية؛ وبموجب ذلك وظفت كموقع هائل لعمليات التسليم منذ عام 2001. هذا ويواصل سكان الجزيرة السابقون حملتهم للعودة إلى ديارهم، رغم خسارتهم لآخر دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية عام 2008.

وفي حين أن الاقتصادات التي تنشط عبر المحيطات، والتي تتكون من شبكات تجارية كتلك الموجودة في المحيط الهندي أو جنوب شرق آسيا كانت ظواهر موجودة بدون شك في الماضي، فقد شكلت الإمبراطوريات البحرية الموزعة عالمياً كيانًا أوروبيًا حصريًا إلى أن ظهرت الإمبراطورية اليابانية في نهاية القرن التاسع عشر. وكانت التجارة الدولية في البضائع الفاخرة قد بدأت في العصر اليوناني والروماني على الأقل، لكن في القرن السادس عشر، أدت السيطرة الكاملة للإمبراطورية العثمانية على شرق البحر الأبيض المتوسط إلى قطع الطريق أمام عمليات الولوج السهلة للطرق البرية التقليدية. ولذلك اتخذ الأوروبيون الطريق المدروس على طول الطريق من حول إفريقيا في اتجاه الشرق بدلاً من ذلك. هذا وبدأت الإمبراطوريات البحرية الأوروبية عام 1402 مع تطور الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية في جزر الكناري والأزور، وشمال إفريقيا، وغرب إفريقيا، وآسيا، والأمريكيتين. وفي الوقت الذي قام فيه الإسبان والبرتغاليون بتأسيس مراكز تجارية على طول السواحل الإفريقية وعبر الجنوب والجنوب الشرقي لآسيا، فقد طوروا في الأميركتين أول إمبراطورية أوروبية عابرة للمحيطات، بداية من خلال الغزو الإسباني لإمبراطوريتين محليتين، هما الأزتيك والإنكا. إن التاريخ المعقد للتوسع الأوروبي في أمريكا الشمالية، والأقاليم التي كانت تحت سيادة إسبانيا والبرتغال وفرنسا وهولندا وبريطانيا، والمستعمرات في إفريقيا وآسيا، قد رافقته قرون من الحروب بين الدول الأوروبية. فأصبح لهذا الصراع أبعاد دولية حيث كانت القوى الأوروبية تتنافس مع بعضها البعض في المجال الاستعماري. والنتيجة هي أن هذه الإمبراطوريات نفسها كانت غير مستقرة بشكل واضح، حيث كانت السيادة على الأقاليم تتغير بشكل متكرر: وفي السنوات الموالية، سيتم تطوير مفهوم القانون الدولي من أجل تثبيت مصالح الإمبراطوريات المتنافسة. وفي الوقت نفسه، فإن تدفق الذهب والفضة من أمريكا الجنوبية أعطى دفعة كبيرة للاقتصادات الأوروبية التي كانت في طور إنشاء تشكلات صناعية مبكرة مثل المزارع. هذا بينما كانت عملية نقل الملايين من العبيد من إفريقيا إلى الأمريكيتين لأجل العمل في المناجم والمزارع قد دمرت ثقافات القارة الإفريقية وخلقت نظامًا اجتماعيًا قائمًا على العرق لا تزال تداعياته قائمة إلى يومنا هذا. وكذلك هو الأمر مع التأثيرات التي تعرضت إليها الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، إذ يعتقد الآن أنها قد بلغت حوالي خمسين مليونا قبل عام 1492، الذين تعرضوا للحرمان في مواجهة الأمراض المستوردة، والعبودية، والإبادة الجماعية البسيطة.

وكان آخر ما تبقى من إمبراطورية الإنكا، فيلكابامبا في البيرو، قد تم غزوه من قبل الإسبان عام 1572. وبعد مرور أكثر من مائتي عام، بدأت المستعمرات الأمريكية للإمبراطوريات المتنوعة لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال في التأسيس لاستعادة الاستقلال، وإن كان بشكل مختلف نوعا ما، من 1776 إلى 1822، مدشنة بذلك عهد الدول ما بعد الاستعمارية. لهذا، بدأت مرحلة ما بعد الكولونيالية حتى في العصر الحديث قبل حوالي مائتي وخمسين عاما. لكن كما هو الحال الآن بالنسبة إلى السكان الأصليين، غالبا ما أدى تقرير المصير الوطني إلى سوء المعاملة للسكان الأصليين من طرف الحكومات المحلية التي لم تعد الجهود الإمبريالية تشرف عليها وتسهر من خلالها على تطبيق المعاملة العادلة. توضح بداية حقبة ما بعد الاستعمار كذلك أن الدول التي توسعت عبر المجالات الأرضية مثل روسيا والولايات المتحدة والصين، واندمجت في شكل دولة، حافظت على المدى الجغرافي لإمبراطوراتها بنجاح أكثر بكثير من الدول الأوروبية التي أقامت إمبراطوريات بحرية عالمية متقدمة - والتي اختفت الآن تقريبا بالكامل.

حكامة الإمبراطورية

لقد شهد تاريخ البشرية نشوء العديد من الإمبراطوريات، غير أن الإمبراطورية الرومانية، التي تطورت من مفهوم الإمبريوم- أي السلطة العليا للحاكم- جسدت بشكل عام القالب الأساس لتصور الإمبراطورية. يتمحور مفهوم الإمبراطورية حول لغة الأوامر، حول سلطة الإمبراطور والمناطق التي تقع تحت سيادته (قارن عملية نقل السلطة، التسلسل الزمني لنقل السلطة العليا الذي شكل أساس التاريخ الإمبريالي والعصور الوسطى). لهذا تقوم الإمبراطورية على مبدأ الأرض، أو مجموعة من الأقاليم، التي تقع تحت سيادة إمبراطور، أو شخص له صفة مماثلة، أي الذي لديه سلطة عليا. لكن هذا لا يحتاج أن يتخذ ذلك شكل الحكم المطلق، بل يفترض سيادة سياسية عليا تمتد إلى حدود الإمبراطورية. لقد قيل إن الدافع وراء كل أشكال التوسع الإمبريالي ينطوي غالبا على الرغبة في الحصول على الثروة، والسلطة، والنفوذ عن طريق الغزو. ولكن عند تأسيس إمبراطورية ما، كيف يمكن أن نحكمها؟ لقد جعل التوسع الجغرافي الممتد للإمبراطوريات من عمليات التواصل والمراقبة - في العهود التي سبقت الطائرات والسكك الحديدية والهواتف، وكذا الخدمات البريدية - شيئا لا يمكن تخيله اليوم تقريبا. ولعل قراءة الصحف المعاصرة التي نُشرت عام 1857 في بريطانيا تفيد أن شركة الهند الشرقية والحكومة في لندن لم تكن لديهما أية فكرة عما كان يحدث في الهند آنذاك، باستثناء التقارير التي كانت تصل بشكل عرضي من خلال السفن العائدة، والتي كانت تصف الأحداث بعد أشهر من وقوعها. لذا كان لا بد من تكييف الحكامة مع المسافات الشاسعة والزمن الممتد للإمبراطورية، وكذا جعلها منسجمة بشكل وثيق مع الاستغلال الاقتصادي الذي كان شعارا لها.

وفي حين اتبعت بعض الإمبراطوريات مثل الإمبراطورية العثمانية نظاما أقر فيه اللوردات أو الحكام المحليون الذي يتمتعون باستقلالية نسبية بسيادة الإمبراطور أو السلطان، قسمت الأخرى مثل الإمبراطورية الإسبانية إلى أقاليم يديرها نواب أو حكام مسؤولون أمام الملك أو رئيس سيادي في المركز. لقد كان سر الحكامة هو خلق مصادر للدخل: فكانت الجزية هي النظام الضريبي الأكثر شيوعا، باعتبار أنه يمكن استعماله في حالات الحكم المباشرة أو غير المباشرة. وكما هو الحال بالنسبة إلى أمريكا الإسبانية، كرس الغزو علاقة السلطة والاستعباد مع الزعماء المحليين إذ فرض عليهم تسديد الجزية بشكل منتظم (وهذا ما سيدفعهم بدورهم إلى القيام بجمع الأموال من خلال فرض مزيد من رسوم الجزية، أو الضرائب على الإيجار، أو السلع مثل الملح). وباتباعهم نظام الجزية، كان الإسبان في الواقع مجرد اتباع لنفس الأنظمة الضريبية غير الرسمية التي ميزت الإمبراطورية الأزتكية. كما اتبعت الإمبراطوريتان العثمانية والبريطانية في الهند هذا النظام التقليدي أيضا: فخلافا للتصورات في القرن التاسع عشر، كانت هاتان الإمبراطوريتان في بعض مظاهرهما متشابهتين جدا. فمن أجل استخراج الثروة في شكل سلع قابلة للتصدير، سواء الفضة أو الذهب أو السكر، لجأت العديد من الإمبراطوريات كالإمبرطورية الإنكية والإسبانية والبرتغالية والبريطانية والفرنسية والألمانية واليابانية إلى فرض أنواع مختلفة من العمل القسري. فمن الناحية الاقتصادية، كانت الإمبراطوريات التي ظهرت في طور مبكر بمناجم ومزارع العبيد تشتغل على أساس مذهب مركاتيلي صرف، بقواعد تجارية محكمة يتم بموجبها عادة بيع السلع المنتجة إلى البلد "الأصلي" فقط.

هذا وطور الصينيون بديلا مهما لأنظمة الحكم التقليدية: وهو شكل متمحور من الحكم يعكس مركزية الحكومة وبيروقراطية الدولة، إلا أن أول محافظة إدارية شبه مستقلة تمت بلورتها في القرن الثاني قبل الميلاد. هذا وكانت الإمبراطورية الصينية تشتغل من خلال نظام بيروقراطي، حيث كان يتم اختيار المدراء بناء على اختبار إمبراطوري تطبعه التنافسية. لقد تم تعديل هذا النظام بعد عدة قرون بأشكال مختلفة ونجاحات متفاوتة، من قبل القوى الإمبريالية الأوروبية بما في ذلك بريطانيا وفرنسا، إذ كان تعيين المسؤولين بناء على الكفاءة بدلا من العلاقات عنصرا رئيسا؛ مكنهم من ممارسة مهامهم الإدارية برتب محددة وسلم وظيفي، يمكنهم من الترقية، الشيء الذي يعني أن المدراء كانوا مطالبين بالولاء للنظام الإمبراطوري الذي يخدمونه. وهذا ما ساعد على الاحتفاظ بأطراف الإمبراطورية الممتدة متماسكة معا. وبين الإمبراطوريات الأوروبية، سيتم تنقيل الإداريين المدربين من بلد إلى آخر لمنعهم من التغلغل بشكل كبير في مناطق معينة (وهذا هو الأسلوب الذي تنهجه الشركات اليوم مع موظفيها، الذين كما هو الحال مع أسلافهم الإمبراطوريين، لم يعد لهم أي ولاء يذكر باستثناء الشركة التي يعملون بها أو هكذا يؤمل (.

ومن الناحية العملية، لجأت معظم الإمبراطوريات إلى استعمال وسائل متنوعة من الحكم التي تطورت بشكل براغماتي. ففي حالة بريطانيا، على سبيل المثال، سيتم ضم بعض الأراضي إلى البلد نفسه (ويلز 1535، أسكتلندا 1707، أيرلندا 1801)، في حين تم الاحتفاظ بجميع المستعمرات الأخرى في الخارج كممتلكات مستقلة بشكل أو بآخر (المستعمرات، السيادات، التفويضات والمحميات، وغيرها من الأنظمة المختلفة) التي يديرها أصناف متنوعة من الحكام، والجنرالات، ونواب الملك، وملازمو اللورد. ربما قد كان لمستعمرات التاج البريطاني مجالس تمثيلية منتخبة محليا (سيلان، جامايكا)، مجالس معينة (هونغ كونغ)، أو ببساطة كانت كيانات تنضوي تحت لواء السيادة المباشرة للحاكم (سنغافورة). لقد قامت إدارة الهند البريطانية على مبدأ الخدمة المدنية المستلهمة من النظام الصيني، والتي فتحت في البداية في وجه المواطنين البريطانيين فقط. هذا وتمت إدارة مختلف المستعمرات بشكل مختلف من قبل ثلاث وزارات حكومية منفصلة في لندن (المكتب الاستعماري، والمكتب الهندي، ومكتب وزارة الخارجية)، وكان لكل مستعمرة تقريبا نموذجها الخاص لإدارة الشؤون المحلية (ففي القرن السابع عشر كان لأمريكا الشمالية وحدها ميثاق وملكية خاصة بها ومستعمرات ملكية تابعة لها). كما اجتمع هناك عاملان آخران لتعزيز التحكم: وجود حامية القوات العسكرية التي يمكن اللجوء إليها في حالة المقاومة، وغالبا ما كانت تتكون من جنود محليين وضباط بريطانيين، وسن نظام قانوني مشترك يتم تدبيره في المستويات العليا باللغة الإنجليزية وإدارته من قبل قضاة وخبراء بريطانيين.

نموذجان من الإمبراطوريات

في الأساس، كان هناك نموذجين لإدارة الحكم الإمبراطوري، هما نموذجا الاستيعاب أو الارتباط، وذلك بناء على الإمكانيات البديلة للتماثل أو الاختلاف. فقد كان الرومان والروس والبرتغاليون والفرنسيون والأميركيون واليابانيون على الأقل يسعون لتحقيق التماثل والانسجام. أما الإمبراطوريات التي تمت إدارتها وفقا لمبدأ التنوع فشملت الإمبراطورية المنغولية بقيادة جنكيز خان والإمبراطورية العثمانية والمغولية والبريطانية والهولندية والألمانية. من الناحية العملية، لم يلتزم أي منهم بشكل حرفي بهذا التقسيم، إلا أن الفرق بينهم يبدوا حقيقيا عامة. وضمن هذه النماذج، ميز معظم مؤيدو الإمبريالية في القرن التاسع عشر بين مجالات الاستيطان والحكم، والاستعمار والهيمنة، أو كما يحب المعلقون البريطانيون القول، بين مستعمراتهم اليونانية ومستعمراتهم الرومانية - وبعبارة أخرى، ما يصطلح عليه الآن بمستعمرات الاستيطان والاستغلال (Osterhammel 1997; Veracini 2010).

هذا واعتبر الاستيعاب الشكل الأنسب للإمبراطوريات الأرضية: في العصر الحديث أسس نابليون نموذجه على مبادئ التنوير. وقد انطوى ذلك على محاولة فرض درجة من الوحدة والانسجام الثقافيين في جميع أرجاء الإمبراطورية، مع ضم الأراضي المسلوبة (بشكل متناقض) إلى الدولة الوطنية، وإجبارها على الحديث باللغة الإمبريالية والعمل بموجب قانون مشترك. فكما كان يدرك الفرنسيون أنفسهم هو أن مسألة فرض الاستيعاب كمذهب في حالة الإمبراطوريات البحرية أمر صعب، بيد أن المشكلة الحقيقية هي أن حماس الجمهوريين لفكرة المساواة في جميع أرجاء الإمبراطورية تراجع مع مرور الوقت في مواجهة العنصرية المتزايدة.

حتما، يمكن النظر إلى كلا النظامين على أن لهما إيجابيات وسلبيات نسبية. فمن ناحية، فإن الوحدة، التي غالبا ما ترافقها عملية ضم أراضي ما وراء البحار إلى الدولة المتروبولية، كما هو الحال بالنسبة إلى معظم الإمبراطوريات الأرضية والإمبراطوريات الفرنسية أو الإيطالية أو اليابانية البحرية، تكون عموما أكثر عدلا من الناحية السياسية، وتعمم (من الناحية النظرية على الأقل) الاستفادة من خيرات الوطن على جميع سكان الإمبراطورية كما لو كانت أمة موحدة. أصبحت المستعمرات الفرنسية ببساطة إدارات لفرنسا نفسها، وإن كانت في الخارج. فإلى يومنا هذا، تعد مارتينيك وجوادلوب في فرنسا جزءا من الأراضي الفرنسية (غير أن جزر الأنتيل الهولندية يمكن القول إنها أقرب المناطق إلى غرب الاتحاد الأوروبي، وريونيون الفرنسية الأقرب إلى أقصى الجنوب في المحيط الهندي، وهي أول دولة تستخدم اليورو). كانت سياسة الاستيطان والاستيعاب الإمبريالية إحدى الأسباب التي جعلت مسألة إنهاء الاستعمار في الجزائر، كجزء من فرنسا من الناحية التقنية، أمرا عسيرا. إن الافتراض النظري الذي يؤطر نموذج الاستيعاب يقوم على أساس أن الناس جميعا ينتمون إلى الجنس البشري نفسه وتجمعهم إنسانية مشتركة، لذا يمكن وضع حد للامساواة بينهم عن طريق نظام تعليمي يعمل وفقا لمبادئ وبروتوكولات السلطة الإمبريالية. كانت أية فكرة تنبني على وجود نظام يكرس الاختلاف والتراتبية العرقية (من الناحية النظرية على الأقل) أمرا مرفوضا، بالرغم من أن ذلك كان أمرا صعب المنال في الواقع.

ومن ناحية أخرى، فإن مشروع الاستيعاب، أو في أسوأ الظنون، المشروع الإثني للبعثة التحضيرية التي ابتعثتها فرنسا، ينطوي حتما على تدمير الثقافات واللغات والأديان المحلية، بل والناس أنفسهم في بعض الأحيان. يمكن بسهولة تحويل المهمة التحضيرية إلى افتراض تفوق عرقي وثقافي، مع إبداء قليل من الاحترام للأعراق الأخرى وعاداتهم وتقاليدهم، التي ينظر إليها كلها على أنها تحتل مرتبة دونية- باختصار، دون تسامح مع الاختلاف الثقافي. غالبا ما يعاني أولئك الذين يصرون على الحفاظ على ثقافتهم أو لغتهم أو دينهم من التمييز، كما هو الحال في اللغة الفرنسية الجزائرية أو أنغولا البرتغالية. ولعل أكثر الأمثلة نزوعا إلى هذا الموقف هي الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية، التي مارست التحويل الديني القسري. في الجزائر، قام الفرنسيون بنزع الحجاب عن النساء بالقوة. ومن الناحية العملية، أصبحت القوى الإمبريالية مثل فرنسا والبرتغال مع مرور الوقت بشكل ملحوظ أقل حماسة لفكرة الاستيعاب التي شكلت الأساس الإيديولوجي الذي قامت عليه مهمة التثقيف. وفي حين تم منح الحقوق المدنية والسياسية الكاملة، بما في ذلك حق التصويت للعبيد السابقين في جزر الأنتيل وريونيون وغويانا، وكذلك السكان الأصليين في الأراضي ذات السيادة الفرنسية في الهند وبعض المدن في السنغال عام 1848، مع نهاية القرن كان من المستحيل عمليا حصول المواطنين في الجزائر أو الهند الصينية على الجنسية الفرنسية، حتى وإن توفروا من الناحية القانونية على جميع المؤهلات التي تسمح لهم القيام بذلك (Saada 2012: 108–115).إن التمييز التاريخي الذي حدث خلال فترة الاستعمار الفرنسي المتأخر بين السكان الأصليين والمواطنين الفرنسين الذين يعيشون داخل الإقليم نفسه قد تم استحضاره والتأكيد عليه منذ عام 2005 من خلال العنوان المستفز والمتناقض للمنظمة السياسية الراديكالية الفرنسية المعروفة باسم حركة السكان الأصليين للجمهورية. من جهتهم، فإن الإيديولوجية الاستيعابية لـ "لوسو ستوريزمو" (Young 2006)، مع البرتغاليين أنفسهم قد قدرت نسبة "السكان الأصليين" و"الدخلاء" في أنغولا الاستعمارية بنحو 99٪ إلى 1٪ (Bragança and Wallerstein 1982: 1, 75).

ومن جانب آخر، شيدت الإمبراطوريتان البريطانية والهولندية وكذا الإمبراطورية العثمانية بشكل مختلف كليا بناء على مبادئ مخالفة تمامًا لفكرة الاستيعاب. بالنسبة إلى هذه الإمبراطوريات بشكل عام، كانت هناك لغة إمبريالية للإدارة، التي غالبا ما كانت تُستخدم أيضا في مستوى واحد على الأقل من النظام القانوني، هذا في الحين الذي تم السماح فيه للثقافات المتنوعة لتلك الإمبراطوريات بالحفاظ على مكانتها، أو تشجيعها على التطور بشكل مستقل في حالات أخرى (في مالطا، على سبيل المثال، شجع البريطانيون الاستعمال الرسمي للغة المالطية، وإن كان ذلك رغبة منهم لوضع حد لاستعمال الإيطالية). نادرا ما ادعى البريطانيون جلب الحضارة إلى مستعمراتهم: ما كانوا يزعمونه هو سهرهم على سيادة القانون، الميزة الخاصة لمجتمعهم ومؤسساته، التي تمت صياغتها بشكل نهائي في القرن التاسع عشر من قبل فقيه القانون أ. ف. ديسي (Bingham 2010). إن السهر على سيادة القانون، إلى جانب احترام حقوق الإنسان، ظل شيئا ثابتا ودون منازع في الغرب اليوم، إذ ربط بشكل فعال بين النموذجين الإمبرياليين (Brooks 2003; Ginsburg 2011). وإلى جانب سيادة القانون كأساس للدولة الاستعمارية، جاء الحفاظ على النظام وتشييد البنى التحتية مثل السكك الحديدية وشبكة الخدمات البريدية، التي صممت كلها لضمان السلم والاستقرار وتسهيل التجارة والمعاملات التجارية. غير أن مبدأ الاحترام الثقافي، وعدم التدخل في شأن الثقافات المحلية، بالنسبة إلى هذا النموذج، والذي يبدو في أحد المستويات أكثر ليبرالية واستنارة، يمكن أن يستند أيضا إلى افتراض يقوم على أساس وجود اختلاف جوهري بين الإنسان المتحضر والهمجي، أو تكريس للدونية العرقية، أو عدم الأهلية الفطرية للشعوب الأخرى، التي لم تكن في وضع يمكنها من ممارسة المساواة وبالتالي لم تكن تستحق التثقيف فوق المستوى الأساسي. كان من السهل في هذه الحالة أن نخلط بين التمثلات العرقية والطبقية؛ لأن البريطانيين افترضوا أيضا أن الطبقات الاجتماعية الدنيا عندهم، وتلك الخاصة بالإمبراطورية، لم تكن جديرة بالتعلم، أو زعموا بأن تمكينهم من المعرفة قد يشكل خطرا على الاستقرار السياسي (ولربما كان هذا هو الحال في واقع الأمر). ونتيجة لذلك، فضل البريطانيون إدارة مستعمراتهم بشكل غير مباشر، بالاعتماد على السلطات المحلية والسماح للعادات المحلية بالاستمرار، دون محاولة فرض الثقافة البريطانية عليهم بالطريقة الفرنسية، وهو أسلوب في الحكم يعود إلى طريقة إدارة الإمبراطورية الفارسية باستخدامها للساترابات من قبل كورش العظيم. في هذا الصدد، كانت ممارستهم أقرب إلى الهولنديين أو العثمانيين. هذا وإن لم يكن ممكنا من الناحية العملية ترك الثقافات المحلية دون مساس تام بها. يقول المؤرخون المحدثون (Bayly 1996; Chatterjee n.d).إن ما يفسره الإداريون البريطانيون على أنه قانون عرقي هندوسي أو إفريقي، على سبيل المثال، كان غالبا نتيجة توقعاتهم الخاصة، في توافقها مع أجندات المخبرين المحليين. على أية حال، عادة ما كانت هذه الأنظمة مرتبطة بالقانون العام للنظام البريطاني، تستعمل اللغة الإنجليزية، وتفرض المبادئ الأساسية للقانون البريطاني مثل حقوق الملكية، وحظر العبودية، وربما التسامح من باب المفارقة. هذا ويمكن تقديم حجج مماثلة حول الطرق التي حوّل بها الحكم الإمبريالي معالم الثقافات المحلية بخلقه للقبائل والهويات القبلية، وجعله الدين أساسا للهوية السياسية، وزد على ذلك بكثير (Mamdani 2002).

لقد استلهم نموذج الإمبراطورية هذا من المثال التاريخي للإمبراطورية الرومانية، حيث كان كل الأوروبيين في العصر الحديث يعتقدون أن انتشار الحضارة الرومانية ساهم في استقطاب الحضارة إلى باقي أنحاء أوروبا فعلا، وأن البنية التحتية للطرق والمنشآت العامة التي شيدها الرومان عادت بالنفع العام على أوروبا بدون شك، حتى لو كان ذلك على حساب الثقافات المحلية للقبائل "البربرية". لكن من يهتم بهم الآن؟ كما يعلق مارلو على رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد خلال محادثة أجراها على متن قارب في نهر التايمز في لندن، "وهذه أيضا ... كانت واحدة من بين المناطق المظلمة للكرة الأرضية" (Conrad 1902: 54). لكن وكما لاحظت سي. ب. لوكاس عام 1912 (Lucas 1912, I: 309)، فقد كان هناك اختلاف جوهري بين الإمبراطوريات الرومانية والإمبراطوريات الأوروبية الموالية: مسألة اللون وتنظيم الإمبراطورية على أسس عرقية. لقد شكلت الممارسات التمييزية القائمة على أفكار التحيز العنصري آلية لتدبير الحكم الإمبريالي والسبب الرئيس لانهياره أيضا، مادام أن العرق كان المعيار الذي حدد الفرق بين المستعمرات التي تم منحها الاستقلال والحكم الذاتي، وتلك التي بقيت ترزح تحت وطأة حكم استبدادي، ولو على أساس الوصاية. وفي حين أن مستعمرات المستوطنين البيض تم السماح لها بالحكم الذاتي، حتى عندما كان البيض يشكلون أقلية، كما هو الحال في جنوب إفريقيا، لم يُسمح لمستعمرات السود بأكثر من مجلس تمثيلي، بموجب القواعد العامة للحكم. إن السهولة التي تم بها منح الاستقلال الذاتي لمستعمرات الاستيطان، بل إرغامها على الاستقلال في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة إلى اتحاد أستراليا عام 1901 (ومحاولة أستراليا الغربية بعد ذلك الانفصال عام 1933)، كان قد تم رفضها في كل مكان آخر لتبدو، باستحضارنا للذاكرة، شيئا متناقضا وخارقا للعادة.

الإمبراطوريات والتنوع

كيف استطاعت الإمبراطوريات تدبير التنوع داخل كياناتها الممتدة؟ وبما أن مجال الإمبراطوريات شاسع من الناحية الجغرافية، فقد ضمّت تقريبا دائما مجموعة كبيرة ومتنوعة من الشعوب المختلفة، لديها لغات وأديان وثقافات وعادات مختلفة. كانت مواجهة التعددية وتدبيرها أمرا أساسا للإمبراطورية: فمن وجهة نظر معاصرة، يمكن النظر إلى كيفية تعامل الإمبراطوريات مع عدم التجانس كواحد من أكثر الأشياء إثارة للاهتمام بها. تكمن إحدى الأجوبة، كما رأينا، في محاولة القضاء على ذلك من خلال سياسة الاستيعاب، التي أصبحت فيها الإمبراطورية جزءا من الدولة القومية وشاركت في مبادئها - أو لربما بشكل أكثر شهرة، في العبارة التي تربى تلاميذ المدارس على ترديدها في جميع أنحاء الإمبراطورية الفرنسية - "أسلافنا، الغال ..."

وبخصوص الإمبراطوريات التي اتخذت مسارا معاكسا، تم الترويج لفكرة الاختلاف بحماسة، بدءا بالتمييز المدروس بين الحاكم والمحكوم، والذي كان أمرا يسيرا إذا كان هناك تباينا ثقافيا أو جسديا كبيرا بينهما، وهو تمثل مرتبط بدوره بالهرمية العرقية. وكان التنوع في هذه الحالة مسألة يتم تدبيرها وفقا لنظرية المرتبة الاجتماعية، التي وفرت المعيار الذي يمكن بموجبه التعامل مع الدوائر المختلفة بشكل منصف ومختلف في الآن نفسه (Cannadine 2001). واستولى البريطانيون في الهند على نظام الشريعة الإسلامية الذي تم تأسيسه من قبل أباطرة المغول، مع السماح بوجود أنظمة منفصلة من القانون العرفي أو الشخصي للذين ينتمون إلى ديانات مختلفة: كان التنوع يدار بنظم محددة لمختلف المكونات على المستوى المحلي، رغم أن البريطانيين كما ذكرنا سابقا، قاموا بتهجين هذه النظم بإضافة طبقة عليا أخرى من القانون العام البريطاني. وبنفس الطريقة، كانت هناك في المنتديات التمثيلية دوائر مستقلة للأديان المختلفة. على الرغم من أن البريطانيين غالبا ما يتم انتقادهم بسبب سياساتهم الفاصلة في الهند، أو مؤاخذتهم باعتبارهم أصل الطائفية الهندوسية المسلمة، إلا أن النظام الذي كانوا يشتغلون به كان قائما بالفعل- بل إن نظام الشريعة الإسلامي لا يزال قائما إلى حدود اليوم. أما الإمبراطوريات الأخرى التي سمحت بالتنوع الديني، فقد شملت روسيا، والإمبراطورية الأخمينية لكورش العظيم في العصور الأولى، والإمبراطورية المغولية لجنكيز خان، التي اشتهرت بمدونة قانون صارمة تم تطبيقها في جميع أنحاء الإمبراطورية. إن الفرق بين التعصب الإمبريالي والتسامح يتضح بشكل درامتيكي من خلال التناقض بين ثقافة قرطبة المتعددة الأديان عندما كانت جزءا من الأندلس تحت الإمارة الإسلامية (Anidjar 2002)، ومصيرها لاحقا تحت حكم فرديناند وإيزابيلا بعد حروب الاسترداد المسيحية لعام 1492، إذ تم بعدها طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا. وفي ذلك الحين تم إنشاء محاكم التفتيش الإسبانية لضمان أرثوذكسية أولئك الذين عانقوا اليهودية والإسلام. وخلافا لذلك، عندما استولى العثمانيون على القسطنطينية عام 1453، سمح السلطان محمد الثاني للكنيسة المسيحية الأرثوذكسية بمواصلة ممارستها العقدية. حيث كان التسامح الديني العثماني، المختلف للغاية عن التعصب الديني الأوروبي في هذه الفترة، أحد العوامل التي ستشجع على تطور أفكار التسامح في أوروبا لاحقا (Young 2012). وفي عام 2012، بعد مرور أكثر من خمسمائة عام على إعادة الاستعمار، اعتذرت إسبانيا أخيرا لليهود (لكن ليس المسلمين) ومنحت الذين ينتمون إلى تراث السفارديم الجنسية الإسبانية، الشيء الذي حذت حذوه البرتغال سنة 2015.

ومهما كان أسلوبها في الحكم، وسواء سمحت بالتنوع الثقافي أو لا، كانت غالبية الإمبراطوريات، بما في ذلك الإمبراطورية الرومانية، تواجه تحديا مستمرا من الخارج أو الداخل. عاشت معظم الإمبراطوريات الأوروبية حالة من الحرب شبه الدائمة تقاوم "المتمردين" و"الخونة" و"الإرهابيين" في جميع أنحاء العالم وتسعى إلى "تهدئتهم"، باستعمال لغة الإمبريالية. وفي حين كانت الامبراطوريات القديمة دكتاتورية في مجملها، وتم قبولها كما هي، واجهت الإمبراطوريات الأوروبية، التي كانت استبدادية أيضا في الأساس، إجماعا ليبراليا متناميا بين التقدميين في الداخل ونظرائهم في المستعمرات يقوم على أساس مناصرتهم لمفاهيم الحرية والتحرر والأمة وتقرير المصير. هذا وكانت الأفكار التي جسدتها الثورتان الأمريكية والفرنسية قد جعلت الإمبراطوريات غير قابلة للاستدامة من وجهة نظر بعيدة الأمد. إلا أنه بتجاوزها لهذا التاريخ، ستصل الإمبريالية، بقوتها وضعفها الكبيرين، أوجها على بعد قرن من الزمن تقريبا.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو  الضغط هنا

 

إفادات

  1. في حالة الإمبراطورية البريطانية، تم اقتراح هذا المصطلح لأول مرة من قبل الباحث الإليزابيثي جون دي في القرن السادس عشر. وبعد انضمام جيمس السادس من أسكتلندا إلى العرش الإنكليزي سنة 1603، تم استعمال عبارة "الإمبراطورية البريطانية" لوصف الجزر البريطانية. هذا واستخدم هذا المصطلح بمعناه الحديث في القرن الثامن عشر، ليحيلنا على الممتلكات البريطانية وتبعياتها في جميع أنحاء العالم (OED).
  2. ويطلق عليه أوسترهاميل (1997: 17) اسم "الجيوب البحرية"، لكن هذا الأمر لا يشمل الحاميات الأرضية مثل القواعد الجوية.
  3. http: //www.theguardian.com/world/2014/jul/09/files‐uk‐role‐ ciarendition‐ destroyed‐diego‐garcia‐water‐damage.
  4. وبطبيعة الحال، ظلت العديد من الدول الأمريكية الأصلية مستقلة إلى حدود القرن التاسع عشر، وإن كانت مسألة وصفها بالدول موضوعا آخر للنقاش.
  5. http: //www.bbc.co.uk/news/magazine‐21631427.

 

قائمة المرا جع:

Anidjar, Gil (2002), “Our Place in al‐Andalus”: Kabbalah, Philosophy, Literature in Arab Jewish Letters. Stanford: Stanford University Press.

Bingham, Tom (2010), The Rule of Law. London: Allen Lane.

Bayly, C. A. (1996), Empire and Information: Intelligence Gathering and Social

Communication in India, 1780–1870. Cambridge: Cambridge University Press.

Bragança, Aquino de and Wallerstein, Immanuel, eds. (1982), The African

Liberation Reader. 3 vols. London: Zed Books.

Burbank, Jane and Cooper, Frederick (2010), Empires in World History: Power and the Politics of Difference. Princeton: Princeton University Press.

Cannadine, David (2001), Ornamentalism: How the British Saw Their Empire. London: Allen Lane.

Conrad, Joseph (1903) [1901], “Amy Foster,” in Typhoon and Other Stories. London: William Heinemann.

Darwin, John (2013), Unfinished Empire: The Global Expansion of Britain. London: Penguin.

Goody, Jack (2012), Metals, Culture and Capitalism: An Essay on the Origins of the Modern World. Cambridge: Cambridge University Press.

Howe, Stephen (2002), Empire: A Very Short Introduction. Oxford: Oxford University Press.

Mamdani, Mahmood (2002), When Victims Become Killers: Colonialism, Nativism, and the Genocide in Rwanda. Princeton: Princeton University Press.

Motyl, Alexander J. (2001), Imperial Ends: The Decay, Collapse and Revival of Empires. New York: Columbia University Press.

Osterhammel, Jürgen (1997) [1995], Colonialism: A Theoretical Overview, trans. Shelley L. Frisch. Princeton: Marcus Wiener.

Saada, Emmanuelle (2012), Empire’s Children: Race, Filiation and Citizenship in the French Colonies, trans. Arthur Goldhammer. Chicago: University of Chicago Press.

Silverstein, Adam J. (2010), Islamic History: A Very Short Introduction. Oxford: Oxford University Press.

Veracini, Lorenzo (2010), Settler Colonialism: A Theoretical Overview.

Basingstoke: Palgrave Macmillan.

Young, Robert J. C. (2006), “Gilberto Freyre and the Lusotropical Atlantic.” Unisa Latin American Report 22: 1–2, 5–21

Young, Robert J. C. (2012), “Postcolonial Remains.” New Literary History 43: 1, 19–42

[1] - Empire, Colony, Postcolony, Wiley Blackwell,2015,223 pages.

*-عدد صفحات النص المترجم : 20

 

[2] أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان-المغرب.