الاعتقاد الديني كموضوع للسوسيولوجيا والأنثربولوجيا: النظرية والمنهج


فئة :  مقالات

الاعتقاد الديني كموضوع للسوسيولوجيا والأنثربولوجيا: النظرية والمنهج

الاعتقاد الديني كموضوع للسوسيولوجيا والأنثربولوجيا*:

النظرية والمنهج


ترنو هذه الورقة عرض وفحص الرصيد الأنثربولوجي والسوسيولوجي حول الأديان، لا لمسح الغبار عنه، وإنما لإبراز القضيتين الاثنتين التاليتين:

اختلاف المقاربة الأنثربولوجية والسوسيولوجية للاعتقاد والممارسة الدينين عن المقاربة الثيولوجية، إذ لا تعتبر الأولى بأي حال من الأحوال امتدادا للثانية، فليس من مهام علمي الاجتماع والإناسة الدفاع أو التحامل على الاعتقاد الديني، ولا التمييز داخله بين ما هو إلهي وما هو ليس كذلك. فالحياد، والموضوعية، والربط بين الاعتقاد والممارسة، يعدون أهم الضوابط المسيجة لهذا الإبدال الأكاديمي.

مناقشة ترسانة المفاهيم النظرية والأدوات المنهجية التي أنتجها هذا الرصيد الأنثربولوجي والسوسيولوجي لمقاربة هذا الموضوع الشائك والحساس بخلفية السؤال التالي: كيف يمكن للباحث الأكاديمي اليوم الاستفادة من هذا الكم الهائل من المفاهيم النظرية والطرائق المنهجية في دراسة المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها؟ أيها يحتذي به، وأيها يتنكب عنه؟ وهل يحتذي، بما يحتذي به، حذو النعل للنعل، أم حذوا بالموقد لا برماده؟ وكيف يميز بين الموقد والرماد؟

المقاربة الأنثربولوجية والسوسيولوجية للأديان: ظروف وحيثيات الميلاد

من المعلوم لدى أهل الاختصاص أن الإرهاصات الأولى للمقاربة الأنثربولوجية والسوسيولوجية للمعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها قد ظهرت في سياق النظرية التطورية. وقد قطعت هذه المقاربة أشواطا طويلة مخلفة وراءها أجهزة مفاهيمية صكها الرواد الكبار، أمثال دوركهايم وفيبر ومالنوفسكي ولفي ستروس وكلفوردجيرتز ومرسيا إلياد، بالإضافة إلى مساهمتي كل من فرويد وماركس اللتين ظلتا محط جدل، وأحيانا محط نفور وإعراض، من لدن عدد كبير من الباحثين. وعلى الرغم من أن أعمال كل من دوركهايم وفيبر، بما أرسته من أطر نظرية وطرائق منهجية لازالت حاضرة بقوة أكثر من غيرها داخل الدراسات الأنثربولوجية والسوسيولوجية الراهنة، إلا أننا سوف نتناول بالدرس والتحليل كافة النظريات الكبرى حول الموضوع، في إطار تركيبي، وليس تأريخي أو وصفي، - يبرز التطور الذي عرفته هذه المقاربة منذ بداياتها الأولى، كما ألمعنا إلى ذلك أعلاه، إلى اليوم- إيمانا منا بأن هذا الرصيد المعرفي، الممتد من القرن التاسع عشر إلى اليوم قد استتب به الأمر وفق منطق تراكمي جدلي استفاد، بموجبه، اللاحق من السابق قبل أن يتجاوزه.[1]

ذلك أن الدراسات الأنثربولوجية الأولى حول ديانات المجتمعات غير الغربية - التي كانت تنعت ب"البدائية"-عندما بدأت في الظهور داخل سياق الثقافة الغربية، اعتبرت بمثابة دراسة للخرافة التي لا تمت بصلة لدين وأخلاق هذه الحضارة الغربية. ويعد هذا الاعتبار بالذات بمثابة جواز المرور الذي سمح لها بالتعاطي مع جميع أنواع المواضيع الدقيقة والحساسة دون تحيز أو تعسف، إذ أمكن لمجموعة من الدراسات الغربية تناول عدد كبير من القضايا المهمة كالميولات الجنسية داخل الطقوس الطوطمية عند الأستراليين الأصليين، أو وظائف عبادة الأسلاف عند الأفارقة أو الخصائص العلمية للفكر السحري عند الماليزيين وغيرها، كل ذلك في جو من الحرية والقبول التامين، حيث كان من السهل جدا التساؤل حول تارخية الأسطورة عند البولنزيين مثلا، بيد أن طرح هذا السؤال ذاته مع ربطه بالمسيحية كان أمرا حافلا بالأخطار،[2] إذ أدت دراسة أحد رواد أنثربولوجيا الأديان حول الممارسات الدينية للساميين القدامى إلى طردهمن عمله بتهمة الهرطقة والإلحاد.[3]

وإذا كانت أعمال عدد كبير من الأنثربولوجيين والسوسيولوجيين البارزين، أمثال تايلور ودوركهايمورادكليف براون ومالونيفسكي، قد استطاعت أن تتلافى ردود الفعل الرافضة من لدن الأوساط الأكاديمية المحافظة، فإن ذلك يعود بالأساس لاستعمال هذه الدراسات للمنهج المقارن. هذا المنهج الذي لم يجنبها فقط السقوط في مطبات إثارة الحساسيات وإيقاظ المشاعر، وإنما أتاح لها مقاربة أهم وأعمق الأبعاد الروحية لدى الإنسان، وذلك بقدر كبير من التجرد والصرامة العلميين. كما ستسهم هذه الدراسات الأنثربولوجية عن المجتمعات غير الغربية في تغيير وإغناء أدوات وآفاق البحث حول المجتمعات الغربية ذاتها.[4]

ومن المعلوم أيضا أن التجاذبات الفكرية التي بدأت مع ما بعد التطورية والتاريخانية في نهاية القرن التاسع عشر، وامتدت إلى ما بعد الوضعية والوجودية خلال النصف الأول من القرن العشرين، قد لجأت جميعها، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، إلى توظيف الدراسات الوصفية المتوافرة آنذاك حول حياة المجتمعات غير الغربية. هذه المونوغرافيات التي كانت تعج بالتفاصيل الدقيقة حول ما كان يعبر عنه في قاموس العلوم الاجتماعية آنذاك بـ"غرائب الشعوب البدائية" كالأضحيات الدموية وعبادة الحيوانات، حيث عمدت كل التيارات والمدارس الفكرية إلى دعم وتأثيث تصوراتها النظرية والتنظيرية بما توفر لها من معطيات ومعارف بالحياة الدينية لهذه الشعوب، وذلك من أجل البرهنة على قوة وصدقية مواقفها وضعف مواقف الخصم. بيد أن هذا الاهتمام بما يسمى بالدين البدائي من لدن كل أصناف الباحثين من محللين نفسيين، وفنومنولوجيين وماركسيين وغيرهم لم يسفر بالضرورة عن أي إجماع حول ماهية وطبيعة هذا الدين. وقد استفادت المقاربة الأنثربولوجية للدين من الطفرات الأساسية الثلاث التي عرفها الفكر الغربي، حيث تم التركيز على طبيعة التفكير البدائي ومراحل تطوره نحو الفكر المتحضر خلال الطفرة الأولى، التي تزعم فيها التاريخ العلوم الإنسانية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. أما الطفرة الثانية والمتمثلة في بروز الفكر الوضعي، خلالالعقد الأول من القرن العشرين، المعارض لهيمنة التاريخ، فقد دفع المقاربة الأنثربولوجية إلى البحث في الأسس الوجدانية للطقوس والمعتقدات الدينية؛ مما أمكن معه تحليل كل من أدوار الطقس والمعتقد بشكل منفصل عن بعضهما البعض داخل الاندماج الاجتماعي. كما أدى الاهتمام بأجهزة القيم وباقي معالم الحقل الفكري، بحكم انقسام العلوم الإنسانية إلى مقاربات سيكولوجية وسوسيولوجية مستقلة - وهذه هي الطفرة الثالثة- إلى اكتشاف الأبعاد الفلسفية للأفكار الدينية وبالأخص أدوات النقل الرمزية،« وذلك بنفس اللغة التي تم التعبير بها عن هذه الأفكار».[5]

التصورات العقلانية والعاطفية لتفسير أصول الدين:

ظهرت الملامح الأولى للدراسة الأنثربولوجية للدين، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، في سياق النظرية التطورية؛ أي مع صدور الكتابات الأولى لإدوارد تايلور حول المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها عند ما كان يسمى آنذاك بالشعوب البدائية.[6] وقد وفرت هذه النظرية التي هيمنت على الفكر الأنثربولوجي، خلال القرن التاسع عشر، مبدأ عاما يسمح للباحثين بتفسير ذلك الكم الهائل من المعطيات والمعلومات التي تجمعت لديهم عن حياة هذه المجتمعات غير الغربية.

كما شكلت مقولة التطور في هذه الفترة العصا السحرية التي تتم بها الإجابة على كل التساؤلات؛ فالتفكير في الشؤون الإنسانية كان يتم بالضرورة عبر وجهة النظر التاريخية، بمعنى البحث عن أكبر بقايا الأشكال الأولية، ثم رسم وتحديد المراحل التي تطورت عبرها هذه الأشكال، واعتبار بناء على ذلك، أن مختلف المجتمعات متعاقبة في الزمان انطلاقا من المجتمع الأبروجيني الأصلي ووصولا إلى المجتمع الغربي المعاصر.[7] وقد كانت هذه المقولة تعني ببساطة أن حاضر القرن التاسع عشر، المركب والمتعدد، نشأ أساسا وبشكل تدريجي عن ماضي بسيط وموحد، وأن هذه المجتمعات المختلفة عن المجتمعات الغربية هي بقايا بمعناها الترسبي.[8]

وإذا كان أقطاب المدرسة التطورية، أمثال تايلور ومورغان وفريزر قد اعتمدوا بالأساس على النظريات التركيبية للمراحل الاجتماعية عند كل من أوجست كونت وهيجل، أكثر من اعتمادهم على الأفكار الداروينية، مثل التغير المبني على الصدفة والانتخاب الطبيعي، فإن مفهوم التطور في الواقع كان يجمع بين هذين الاتجاهين الفكريين. فقد كانت المقدمة الفرضية للنظرية الداروينية، في ذلك الوقت، محط إجماع من طرف جل الباحثين، الذين اعتبروا أن المقارنة التاريخية الموسعة هي المنهجية الملائمة لمقاربة وفهم أشكال الظواهر، سواء كانت "بدائية" أو "متحضرة". وقد اعتبر تايلور الإحيائية Animisme بمثابة الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور خلافا لباقي الأشكال الأخرى نحو أشكال معقدة عبر تعاقب العصور[9]. ويرى دوركهايم أن النظرية الأنيمية التي أرسى أسسها تايلور وتبناها آخرون كسبنسر، الذي أضاف إليها بعض التعديلات، كانت تمثل المحاولات العقلانية الأولى لتفسير أصول الفكر الديني.[10] في حين يرى آخرون، أن هذه المحاولات كانت مغرقة في العقلانية، إذ هيمنت مقولة الإشراق التي جعلت من التاريخ الديني للبشرية تاريخ التنوير المتصاعد والحتمي،على المنظور التطوري للدين. فجيمس فريزر لم يغير قط من وجهات نظره ولا من مناهجه، إذ ظل التقدم الفكري بالنسبة إليه يعني الانتقال من السحر إلى الدين إلى العلم. فالسحر بالنسبة إليه هو أصل الفكر البشري[11]. وقد مارست هذه النزعات التطورية تأثيرا كبيرا على مختلف النظريات الأنثربولوجية والسوسيولوجية حول الأديان، لدرجة أن العديد منها ظل يظم في طياته البعض من شظاياها.

وقد اتخذت ردود الفعل المناهضةللنظرية التطورية شكلين اثنين متمايزين، تمثل الأول في نظرية الانحطاط Degradation theory التي تبناها الباحثون الكاثوليك الروم ودافعوا عنها، والتي مؤداها أن الوحي الأصلي للإله الأعلى للشعوب البدائية قد وقع تحريفه من جراء الضعف البشري الذي انزلق به نحو عبادة الأوثان. وقد أثارت فرضية وجود هذا التوحيد البدائي نقاشا طويلا في صفوف الباحثين لم يسفر على نتائج مهمة، باستثناء ما قدمه كل من لنج حول ثقافة الأبطال وإلياد حول سماء الآلهة، بيد أن هاتين المساهمتين ونظرية الانحطاط التي كانت من ورائهما قد أصبحت جميعها متجاوزة.[12]

أما الشكل الثاني الذي اتخذته الاتجاهات المناوئة للدراسات التطورية؛ فقد تجسد في الانتقاد الحاد الذي وجهه لها الباحثون الأمريكيون المنتمون إلى مدرسة بواز، بسبب عدم اعتمادها على التحريات الميدانية واقتصارها على التأمل فقط.إذ شدد هذا التيار الأنثربولوجي على ضرورة استعمال مقاربات فنومنولوجية من أجل دراسة عادات وتقاليد الشعوب القبلية.

وقد لاقى هذا التوجه النظري والمنهجي نجاحا كبيرا، حيث أثر بشكل فعال في تطور المناهج الإثنوغرافية. وتعتبر الدراسات الانتشارية[13] بمثابة التجسيد الواقعي لهذا التيار ومجالا لإسهاماته الأساسية. وبغض النظر عن القيمة التأريخية للثقافات التي قدمتها الدراسات الانتشارية، فإن مساهمتها في فهم المعتقدات والممارسات الدينية ظلت محدودة جدا، لأنها لا تكشف كما يرى ستروس «عن العمليات الشعورية واللاشعورية التي اكتسب الناس بها مؤسسة لم يكونوا يمتلكونها في السابق، إما بأن اكتشفوها، أو بأن تلقوها جملة وتفصيلا عن غيرهم».[14] ويرى جيرتز أن الدراسات التي أنجزت حول الأديان بشكل عام لم تستفد من توجه بواز المنهجي الداعي إلى اعتماد البحث الميداني والتحليل الاستقرائي العميق، هذا التوجه الذي جنت ثماره على حد تعبيره، دراسات أخرى أقل تعرضا نظريا للكبح.[15]

وقد أدت الانتفاضة الوضعية ضد هيمنة أنماط التفكير التاريخية داخل مجال العلوم الاجتماعية إلى ظهور كل من النزعة السيكولوجية النمطية عند دعاة التحليل النفسي، والنزعة السوسيولوجية عند دوركهايم وأتباعه؛ مما جعل التنظيرات التطورية تتوارى بعيدا عن الأنظار، بالرغم من أنها ظلت تمارس تأثيرا خفيا على كل من أعمال فرويد ودوركهايم.

ويعتبر كتاب "الطوطم والطابو" لرائد التحليل النفسي سيجموند فرويد أحد أبرز هذه التركيبات التنظيرية في البحث عن أصل الأديان، حيث جعل من العلاقة بين الأب والابن جوهر نظريته حول المعتقدات الدينية؛ فالإله أب موقر ومبجل والحنين إليه يشكل أصل وجذر الحاجة الدينية. كما أن حظر قتل الإنسان وتحريم الزواج بالأقارب (زنا المحارم) يعتبران من أولى تعاليم الدين الأول والأصلي؛ أي: الطوطمية.

وإذا كان فرويد قد اعتمد في سعيه إلى إعادة بناء الوضعية الأصلية التي حددت شكل الدين التوحيدي (فيما بعد) على أفكار كل من داروين وأتكنسونور وبرتسن سميت[16]، فإن الإثنولوجية الخيالية والبيولوجية المطلقة اللتين اعتمد فرويد بشدة عليهما؛ قد كانتا مبعثا قويا على النفور من طرحه هذا. فالاستنتاج الذي خلص فيه إلى كون الهواجس والأحلام والتصورات التي تنتجها الحياة الجماعية تستمد وجودها من نفس المصادر الباطنية التي توجد عند الفرد المنعزل، كان سببا كافيا لدحض "حكاياته الطريفة" - على حد تعبير كروبر- حول خطيئة قتل الأب وسيادة الشعور بالإثم وسط الجماعة البشرية الأولى.[17]

وقد عطلت استنتاجات فرويد في هذا المجال نفسها بنفسها، عندما ماثلت بين المعتقدات الدينية والأعراض المرضية العصابية. إذ على الرغم من أن بعض المقولات الجزئية لفرويد قد حظي بقدر من التجريب داخل عدد من الدراسات الأنثروبولوجية، كالاقتراح المتعلق بالنمو النفسي والجنسي المرتبط بالعقدة الأوديبية، إلا أن هذا التصور أصبح متجاوزا فيما بعد، ولاقى نفس مصير التنظيرات الماركسية حول الدين التي سيطر عليها الهاجس الإيديولوجي المرتبط بإدارة التغيير، مما جعلها محط إعراض من لدن الباحثين وأبعدها عن مجال التحليل والتفسير، وإن كان البعض يرى عكس ذلك.[18]

وقد حظيت مجموعة من التصورات الـتأملية البسيطة التي صاغها عدد من الباحثين الأنثربولوجيين، لتفسير الدين بشهرة كبيرة تعدت في بعض الأحيان شهرة النظريات الكبرى. ويمكن التمييز عموما بين نوعين من هذه التصورات التي عرفت باسم النظريات العاطفية: فهناك أولا نظريات "الخشية والخوف" Awetheories التي تقوم على أساس مجموعة من المفاهيم الواسعة والفضفاضة تتمحور حول الطابع الإيثاري للدين، حيث تجعل من الرهبة التي تستشعرها الكائنات البشرية عند مواجهتها لقوى الطبيعة العاتية جوهر الاعتقاد الديني. وقد تبنى عدد كبير من الأنثربولوجيين هذا التفسير، نذكر منهم ماكس ميلر الذي يرى في كل دين «محاولة من أجل تصور وإدراك اللامعقول، وتعبيرا عن اللامعبر عنه، وانجذابا دائما نحو اللامتناهي».[19]

والواقع أن نظرية الخوف هذه ليست سوى إشارة بسيطة عن شيء واضح وبديهي، وهو أن التجربة الدينية ترتبط دائما بشكل وثيق بتلك المشاعر والأحاسيس القوية التي يستشعرها الإنسان تجاه ضخامة الكون، وبقابلية هذا الإنسان للعطب والانجراح داخله في كل وقت وحين. وعليه، فإن هذه النظرية، كما يرى جيرتز، لا تفسر في الواقع إلا أمرا بديهيا لا يحتاج في الأصل إلى ذلك.[20]

أما نظريات الإيمان Confidence theories التي تشكل النوع الثاني من هذه النظريات العاطفية حول الدين، فتنطلق من فكرة الحاسة الباطنية للضعف عند الإنسان -المتمثلة في خوفه الدائم من الغيب والمرض والموت وكل مخابئ القدر بأشكالها وأنواعها- لتجعل من الممارسات الدينية مهدئات تخفف من روع مخاوف الإنسان، وتفرغ توتراته وتصرف مكبوتاته. كما تعتبر هذه الممارسات بمثابة طلب للاتصال بالعالم الأخروي، عالم ما بعد الموت.

ومن أشهر نظريات الإيمان هذه، نظرية مالنوفسكي التي يرى فيها السحر بمثابة ذلك الشيء الذي يمنح الإنسان إمكانية السعي وراء تحقيق أهدافه حتى المستحيل منها، وذلك عن طريق تأكيد ضمان حصول النجاح في تحقيق هذه الأهداف.

فالسحر كما يراه مالنوفسكي، جواب منظم عن الشعور بالضعف أمام الخطر، ووسيلة براجماتية نفعية لمواجهة المصاعب ومقاومة الإحباطات.[21]

وعلى الرغم من اعتماد هذه النظريات على أسس تجريبية، فإنها لا تفسر بالشكل الكافي العلاقة المعقدة التي تربط مسألة الخوف من الغيب بالنشاط الديني، فهي علاقة لا توجد في أي تصور نظري حول عمل الذهن، وبالتالي تبقى هذه المسألة معلقة ما دامت هذه النظريات العاطفية لم تستطع توضيحها.[22]

علاقة الدين بالمجتمع: تفسير الاجتماعي بالاجتماعي

بنى دوركهايم تعريفه للدين على أساس التمييز بين المقدس والدنيوي؛ فالدين بالنسبة إليه «نسق موحد من المعتقدات والممارسات التي ترتبط بأشياء مقدسة، بمعنى كل ما هو محرم، وتتوحد هذه المعتقدات والممارسات في إطار مجتمع أخلاقي واحد يدعى الكنيسة، ويضم كل الذين يرتبطون به.»[23] وقد ألحق دوركهايم مبدأ الكنيسة؛ أي المؤسسة الدينية بمفهوم المقدس وأنساق المعتقدات بهدف تمييز الدين عن السحر الذي لا يتضمن بالضرورة إجماع المؤمنين داخل كنيسة ما.[24]

واعتمد دوركهايم في بناء نظريته حول الدين على دراسته للنظام الطوطمي بقبيلة أورينتا الأسترالية الذي يمثل حسب رأيه الشكل البسيط الأولي للدين. فالطقوس الطوطمية تعمل على إثارة أحاسيس قوية ومشاعر عالية في السلوك الجماعي للأفراد، مستحضرة بذلك معنى عميقا للتوحد الأخلاقي عند كل الأورينتيين المشاركين في أدائها. والتوقير الجماعي الذي تبديه المجموعات البشرية تجاه عدد من الأشياء الرمزية هو الذي ينتج التضامن الاجتماعي بالأساس. ويرى دوركهايم أن هذه الأشياء التي يتم اختيارها بعناية فائقة لا تملك في جوهرها أية قيمة؛ فوظيفتها (وقيمتها) الوحيدة تكمن في إدراك الناس لها كهوية جماعية لهم، فالعبادة الجماعية لقطعة حديد أو خشب، هي التي أدت إلى نشوء أخلاق المجتمع المتجسدة في "الكنيسة". والكنيسة؛ أي المؤسسة الدينية هي التي أمكنت قيام ووجود الوحدات الاجتماعية الأساسية. وتمثل هذه الأشياء الرمزية موضوع التقديس نظام الحقوق والواجبات التي توجد بشكل ضمني داخل النظام الاجتماعي وداخل إدراك الفرد لهذا النظام الاجتماعي ومعانيه في واقع الحياة. وبناء على ذلك، يستنتج دوركهايم أن المعتقدات والممارسات وما يرافقها من أحاسيس عارمة، ليست في نهاية المطاف سوى تعبيرات خارجية عن حاجات وضرورات اجتماعية؛ أي أن الدين ليس شيئا غريبا عن الانسان وعن المجتمع، فهو ليس وهما، وإنما واقعة؛ أيفعل اجتماعي، يتم إدراكه بما هو اجتماعي.[25]

وقد جعل دوركهايم من الحياة الجماعية المصدر المنشىء والسبب الكافي لوجود الدين؛ فهو الذي أوقف المركزية الذاتية عند الأفراد وأتاح استمرارية الوجود البشري، لذلك فهو باق ببقاء المجتمع.

وواجهت نظرية دوركهايم حول الدين مجموعة من الانتقادات ركزت بالأساس على نزعته السوسيولوجية التي جعلت من المجتمع المنطلق والمنتهى لكل الظواهر والأحداث. كما أثارت نزعته التطورية المتمثلة في اعتبار الطوطمية شكلا أوليا للدين، حفيظة الباحثين أيضا. وعلى الرغم من كل هذه الانتقادات، فإن تحليل دوركهايم لطبيعة المقدس يعتبر من أهم المفاتيح الأساسية لدراسة الدين.[26]

ويعد الاقتراح الذي قدمه هذا الباحث بخصوص الدعم المتبادل فيما بين الطقوس والمعتقدات الدينية من جهة، والنظام الأخلاقي المتجسد في التنظيمات الاجتماعية من جهة ثانية، من أهم المساهمات الفكرية حداثة داخل التراث السوسيولوجي، والباعث الأساسي على ظهور أكثر الأشكال التحليلية شهرة داخل الدراسات الأنثربولوجية للدين، ونعني به التحليل الوظيفي. فقد وافق رادكليف براون، وهو زعيم المقاربة الوظيفية، على مسلمة دوركهايم التي ترى بأن الوظيفة الرئيسة للدين هي تثبيت وتدعيم الضوابط التي يقوم على أساسها تكامل واندماج المجتمع. بيد أن براون وبخلاف دوركهايم وعلى غرار فرويد، ركز على محتوى الرموز المقدسة، وبالأخص على الأسباب التي تجعل عنصرا ما أكثر حضورا ومركزية من غيره داخل طقس معين، وأكثر بناء وحبكة داخل أسطورة معينة. فإذا كان دوركهايم قد اعتبر عملية تقديس أشياء بعينها دون أخرى، كالأحجار والأشجار والعيون المائية وغيرها، عملية اعتباطية من قبيل الحوادث التاريخية أو النزاعات السيكولوجية العديمة الأهمية بالنسبة للتحليل السوسيولوجي،[27] فإن براون اعتبر حاجة الإنسان إلى التعبير الملموس عن التضامن الاجتماعي غير كافية لتفسير بنية النظام الديني عند شعب معين، ومن تم ضرورة وجود حاجة ما تستدعي ربط هذه الأشياء المختارة والمقدسة بالمصالح الاجتماعية الخاصة التي من المفروض أن تعكسها وتحميها. فالمنفعة إذن، هي هذه الحلقة المفقودة عند دوركهايم قصديا، (حيث سبق له أن رفض هذه الفكرة)، ما دام اختيار الناس لهذه الأشياء موضوع التقديس يرتبط - حسب براون- بشكل ما بالعوامل التي تمس سعادة الجماعة. فهذه الأشياء كانت حتما تتوفر على قيمة اجتماعية في الواقع، وهذه "القيمة الاجتماعية" هي التي مكنتها من الارتقاء واكتساب قيمة روحية رمزية وطقسية، إذ ينصهر كل من الاجتماعي والطبيعي داخل نظام عام يغطي جميع جوانب الحياة.[28]

وقد بنى راد كليف براون نظريته هذه اعتمادا على دراسته لظاهرة السلاحف المقدسة وأوراق النخيل عند شعوب الأنديمان Andaman الما قبل زراعيين، وعلى دراسته للطوطمية عند الأستراليين. فالكائنات الحية التي توجد بالمحيط الطبيعي لهذه الشعوب تعتبر، إلى جانب الإنسان، جزءا لا يتجزء من النظام المعياري الموحد. وتوجد بالفعل مجموعة من الظواهر التجريبية التي تؤكد هذه الحقيقة، مثل حشرة زير الحصاد التي يرتبط ظهورها بتغير الرياح الموسمية، مما يجعلها تحظى بالكثير من التوقير.

والواقع أن تركيز براون على محتوى الرموز المقدسة وعلى العلاقة الموجودة بين أشكال التصورات لكل من النظام الأخلاقي والطبيعي للوجود وتفسيره لقداسة الأشياء الدينية بأهميتها الاجتماعية، أمر لا يقدم ولا يؤخر في شيء، إذ من المستحيل وجود معنى تطبيقي موحد ضمن هذا التنوع الهائل من الأشياء التي شكلت موضوعا للتقديس عند هذه الشعوب كعبادة القيء التي توجد عند بعض القبائل الأسترالية. بالإضافة إلى أن القول بأن المسائل الدينية ليست سوى عملية تطقيسية للمسائل الواقعية، لا يفسر قطعا ظاهرة القداسة نفسها.[29]

تحليل السلوك الديني: الفهم منهج التفسير

يدرك فيبر العلم، باعتباره جانبا من العلاقة التي طبعت المجتمعات الغربية الحديثة؛ فالعصر الحديث هو الذي يملك أدوات الفهم العقلي الشامل لكافة الظواهر وطريقة عملها على نحو لم يتحقق في أية مرحلة تاريخية سابقة. ويميز فيبر بين خاصيتين ملازمتين للعلم؛ الأولى تتجلى في تطوره المستمر عبر تجديد تساؤلاته ومناهجه، والثانية في نشدانه للموضوعية وسعيه الحثيث للتخلص من أحكام القيمة. وتتساوى في هذه القضية كل من العلوم الطبيعية والتاريخية والثقافية، فإذا كانت الأولى تفهم الظواهر فقط من خلال القضايا الرياضية التي تكتشفها عبر الأحداث والوقائع الثابتة في الطبيعة، فإن الفهم في المجال السلوكي مباشر، ويرجع بالأساس إلى الوعي الذي يحدث عند الإنسان وإلى معرفته بأقرانه في الحياة اليومية.

وتعتبر مقولة الفهم – "فِخْشْتِينْ" verstehen– أهم أسس المنهج الفيبيري، ويقصد بها فيبر الفهم الفكري التحليلي والتفسيري للسلوك؛ فالفهم عنده يحقق هدفين اثنين. فهو من جهة، يمكن من معرفة الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى حدوث الظواهر الاجتماعية ومن جهة ثانية، يمكن من إدراك المعاني الذاتية التي تنطوي عليها الأفعال الإنسانية. ويحصل الفهم عبر مستويين اثنين في التحليل، المستوى السببي الذي يتم من خلاله تفسير مجموعة من الأحداث على ضوء تعميمات تكشف عن إمكانية تكرار هذه الأحداث في مواقف متعددة أخرى. أما المستوى الثاني، فيستند إلى الحقيقة القائلة بأن الكائنات البشرية على وعي مباشر بأفعالها. فدراسة العلاقة المتبادلة بين الناس تستوجب بالضرورة الذهاب إلى ما وراء العلاقة السببية والوظيفية لفهم وإدراك نوايا هؤلاء الناس ومقاصدهم.[30]

وتعتبر منهجية فيبر هذه المرتكزة على عملية الفهم Vershenden من المساهمات الكبرى في مجال الأنتربولوجيا بشكل عام، وإحدى أهم نقط الإنطلاق الضرورية لبناء أية نظرية سوسيولوجية حول الدين.[31]

وتعد مقالات فيبر، التي جمعت بعد وفاته تحت عنوان " سوسيولوجيا الأديان"، أهم الإنتاجات الفكرية في مجالها. أما دراسته حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، فقد تعدى صداها مجال السوسيولوجيا، ليشمل مجالات معرفية عديدة كالاقتصاد والتاريخ. ويرى عدد كبير من الباحثين أن أهمية المنهج الذي سلكته هذه الدراسة لا يقل عن أهمية النتائج التي توصلت إليها.

وقد كانت نقطة انطلاق فيبر في جميع دراساته حول سوسيولوجيا الدين ضرورة معرفة التصور العام للوجود الذي يحمله الفاعلون ويتحركون به weltanschauung. فلكي نفهم السلوكات البشرية، على اختلاف أنواعها وأصنافها وداخل كل المجتمعات، ينبغي أن نضعها بالضرورة في سياق التصورات والتمثلات الشمولية التي يحملها الناس حول وجودهم. وتشكل المعتقدات الدينية والتأويلات المرتبطة بها جزءا لا يتجزأ من هذه الرؤى الكونية التي لا مناص من فهمها من أجل فهم الأفراد والجماعات التي تحملها.[32]

وقد طابق فيبر في دراسته الشهيرة، السابقة الذكر، بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية من خلال إقراره بوجود قرابة روحية بين رؤية وتصور معين للكون (البروتستانتية) وبين نمط أسلوب معين للنشاط الاقتصادي (الرأسمالية). ويلاحظ ترفورروبر Trevor Roper أن فيبر استعمل كلمة الرأسمالية بمعناها الضيق؛ أي عقلنة التقنيات وأشكال الإنتاج، ولم يستعملها بمفهومها الواسع بمعنى أنماط انتقال الثروات؛ أي البضائع والرساميل.[33]

ويقصد فيبر بالأخلاق البروتستانتية ذلك التصور الكالفيني الذي يلخصه في خمسة مقترحات استوحاها من النص الديني لفستمنستر Westminster لسنة 1647، وهي كالآتي:

-يوجد إله مطلق ومفارق خلق هذا العالم ليحكمه، وهذا الإله غير مدرك من طرف العقل البشري المحدود؛

-قضى مسبقا هذا الإله القوي والغامض على بعض الناس بالخلاص، وعلى البعض الآخر بالهلاك، ولا يمكن بالتالي للإنسان أن يغير بأعماله مصيره المعد مسبقا؛

-خلق الله الكون من أجل مجده الخاص؛

-من الواجب على الناس، سواء كانوا من الناجين أم من الهالكين العمل على تمجيد الله وتشييد مملكته فوق الأرض؛

-تنتمي كل الأشياء الأرضية والطبيعية وجميع الأجساد إلى حظيرة الخطيئة والزوال. أما الخلاص، فمنحة ربانية.

يقصي هذا التصور، كما هو واضح، كل أنواع الزهد والتصوف ويلغي كافة أشكال التواصل بين العقل البشري المحدود والعقل الإلهي اللامحدود، جاعلا بذلك المؤمن الكالفيني في وضعية سيكولوجية صعبة، فهو لا يعرف نفسه إن كان من أهل الخلاص أم من أهل الهلاك، مما يدفعه للبحث داخل عالمه الاجتماعي عن علامات تدله على اصطفائه وتخبره بنجاته، وهذا هو الميكانيزم والمبدأ الذي يفسر حسب فيبر التفوق الدنيوي لمجموعة من الطوائف الكالفينية التي جعلت من النجاح الاقتصادي دليلا على اختيار الله لها. فالكالفنيون، حسب فيبر، كانوا يجدون أنفسهم مدفوعين إلى العمل، كأفراد، لتجاوز ذلك القلق المصيري الذي يسببه لهم اعتقادهم الديني.

ويوجه هذا التصور الديني الوعي نحو إعادة إدراك النظام الطبيعي مبعدا إياه بذلك عن كل أشكال العبادة والتعبد؛ فالانعطاف السيكولوجي لهذه النظرية اللاهوتية يشجع بالضرورة على بروز الفردانية، إذ أن كل شخص يجد نفسه وحيدا أمام الله، وبالتالي يضعف مفهوم الجماعة وتقل واجبات الفرد تجاه الآخرين ويصبح في مقابل ذلك، العمل العقلاني المتواصل والثابت انصياعا وتنفيذا لأوامر الرب.[34]

ويتجلى التطابق الروحي بين الدين البروتستاني والاقتصاد الرأسمالي، حسب فيبر، في دعوة التعاليم البروتستانتية أتباعها إلى الاحتراس من خيرات هذا العالم باتباع سلوك تقشفي يجعل المؤمنين ينخرطون في العمل العقلاني الذي يستهدف الربح ويستبعد الإنفاق، مما يعني في الواقع إعادة استثمار الربح غير المستهلك. وهذا هو لب وجوهر الاقتصاد الرأسمالي الذي يستدعي علاوة على التنظيم العقلاني للعمل إعادة استثمار الجزء الأكبر من الربح في تطوير وسائل الإنتاج.

وبهذا المعنى تكون الأخلاق البروتستانتية، حسب فيبر دائما، المبرر الممكن والعامل المفسر المعقول لنشأة هذا السلوك الغريب والمفارق الذي لم يُعرف له مثيل خارج المجتمعات الغربية، والذي يحث كما مر بنا القول، على البحث الدائم والدؤوب من أجل تحصيل أكبر قدر ممكن من الربح لا لإنفاقه في ملذات الحياة، وإنما لتسخيره في الرفع من حجم الإنتاج وتطويره.[35] ويحتل مفهوم الأخلاق؛ أي الفعل عند فيبر، مرتبة أساسية، وهو يعني به الاتجاهات المعيارية التي تحدد وتضبط الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم الشخصية والمهنية. فالفعل عند فيبر يشكل الإطار المرجعي للتحليل، فمفهوم الفعل غير مفهوم السلوك، فإذا كان هذا الأخير يشير إلى التصرفات التي يلاحظها المرء من الخارج، والتي تختلف عن "الدافع" الكامن الذي لا نستطيع أن نراه، وإنما نكتفي باستنتاجه من السلوك، فإن مفهوم الفعل يتضمن كلا من الدافع والسلوك الظاهري حينما يرتبطان معا في علاقة بين الوسائل والغايات. وعليه، يمكن القول إن أي سلوك يغدو عديم المعنى إذا ما جردناه من الدافع الذي يحركه، تماما مثلما نقول، إننا لا ندرك الدافع إلا من خلال السلوك الظاهري. ويقول فيبر بهذا الصدد: «إننا نفهم فعلا معينا، مثل قطع الأخشاب أو تصويب السلاح نحو هدف معين، من خلال الملاحظة المباشرة والدافع معا إذا عرفنا أن القائم بقطع الأخشاب، إنما يقوم بهذا العمل قصد الحصول على الأجر، أو لاستخدام الأخشاب في مصلحة خاصة، أو إنه يقوم بهذا العمل لمجرد تمضية الوقت وقتل الملل، كما أننا نفهم أيضا الدافع الذي يحرك شخصا يصوب سلاحه نحو هدف معين، إذا عرفنا أنه يشترك في الحرب ضد العدو أو أنه يفعل ذلك بقصد الانتقام من شخص ما».[36]

وقد بين فيبر من خلال دراسته السابقة الذكر أن هناك تنظيمات للفكر والوجود قابلة للفهم على الرغم من أنها ليست علمية، لأنها حمالة بالضرورة لمعنى من المعاني. وبهذا حاول فيبر إعادة بناء ذلك المنطق (وهو منطق سيكولوجي أكثر مما هو علمي) الذي يمكن من عملية العبور من وضعية اللا تأكد من الخلاص إلى البحث عن علامات الاصطفاء، ذلك أن هذا العبور قابل للإدراك والفهم من غير أن يكون موافقا لقواعد الفكر المنطقي التجريبي.[37]

فالفهم حسب فيبر لا يقتصر على الأفعال العقلانية أو ذات الأهداف العقلانية، وإنما ينبغي أن يمتد ليشمل أيضا تلك الأفعال التي تبدو وكأنها خالية من كل معنى ولكنها في الواقع ذات معنى، وهذا المعنى هو الذي ينبغي فهمه، لأن الفهم منهج للتفسير، كما أن الإنسان قادر على فهم مقاصده بواسطة الاستبطان، وهو الذي يستطيع كذلك أن يفسر دوافع الآخرين من خلال معرفة مقاصدهم.

ولعل أهم ما جاء به فيبر في مجال السوسيولوجيا الدينية هو تحليل التصور الديني للكون؛ أي تحليل ذلك الموقف المتخذ إزاء الوجود من طرف الناس الذين أولوا وضعيتهم على ضوء معتقداتهم، «فقد أراد فيبر أن يبين العلاقة الفكرية والوجودية التي تجمع بين تأويل معين للبروتستانتية وبين سلوك اقتصادي معين - أي العلاقة بين روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية- هذه العلاقة التي مكنتنا من فهم كيف أن طريقة لتمثل العالم [النظرة إلى الكون] weltanschauung يمكنها أن توجه الفعل والحركة. فدراسة فيبر سمحت لنا بالفعل بإدراك، بشكل إيجابي وعلمي، تأثير القيم والمعتقدات على السلوك البشري وذلك بتسليطها الضوء على الكيفية التي تجسدت بها سببية الأفكار الدينية عبر التاريخ».[38]

وقد استخلص فيبر بعد دراسته المعمقة لعدد كبير من الأديان كالكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية والإسلام، أن التاريخ الديني للبشرية يعد بمثابة «سيرورة إحدى عمليات العقلنة، بمعنى عملية تنظير متواصلة ومتصاعدة للمسائل الدينية داخل أشكال ثقافية أكثر دقة في التعريف وأكثر تركيزا على الخصوصية، وأكثر نمطية في الإدراك».[39]

فنقطة الانطلاق في التاريخ الديني للبشرية حسب فيبر هي ذلك العالم المثقل بالمقدس ونقطة الوصول في عصرنا هي " تخليص العالم من السحر"Entzaubergun der welt.[40] ويقول فيبر بهذا الصدد: «إن العلم بما يتضمن من تقنية وتوقع هو الذي نزع السحر عن العالم.»[41] ويرى بورديو أن التصور الفيبيري للدين قد استطاع تجاوز البديل التبسيطي الذي يقيم تعارضا بين وهم الاستقلال المطلق وبين النظرة الاختزالية التي تجعله انعكاسا مباشرا للبنيات الاجتماعية.[42]

التحليل الديني ودراسة الأنساق الرمزية والثقافي:

أدى التقدم الذي شهدته مجالات كل من اللسانيات والفلسفة السيميائية والمنطق الحديث ونظرية البيانات[43]إلى ظهور مقاربة ممنهجة جديدة تعنى بتحليل الأنشطة الرمزية. وقد انطلقت هذه المقاربة مع أبحاث "سوزان لنجر" في مجال الفلسفة مع بداية الأربعينيات، إذ ركزت هذه الأبحاث على تحليل مفهوم المعنى في كل صيغه وأشكاله. ثم انتقل هذا الاتجاه الجديد في التحليل إلى مجال الأنثربولوجيا، وبالأخص إلى مجال الأنثربولوجيا الدين، حيث بدأ الاهتمام بسيرورات التصورات البشرية في مختلف تمظهراتها الواقعية وأشكالها التعبيرية.

ويمكن التمييز عموما بين مرحلتين اثنتين بارزتين في تطور هذه المقاربة: المرحلة الأولى وكانت قبل الحرب العالمية الثانية، انصب خلالها الاهتمام على ما كان يسمى بـ"عقلية الإنسان البدائي" وقدرته على التفكير العقلاني، وقد تجسد ذلك بالأساس في الدراسات التطورية التي كانت تركز على سيرورة التفكير البدائي بمعزل عن السياق التاريخي. أما المرحلة الثانية التي انطلقت مع بداية الخمسينيات، فقد تم خلالها اعتبار كل أشكال التعبيرات التي تتخذها التصورات بمثابة نشاط عمومي، مثله مثل الكلام، وبالتالي جعلت هذه المقاربة من بنية الأدوات الرمزية؛ أي اللغة التي تسير وتوجه ألفاظُها هذا النشاط، موضوعا للبحث. ويعتبر هذا المنعطف بمثابة رد فعل واضح ضد التركيز على الذاتية الذي طبع أعمال المرحلة الأولى.[44]

وقد كانت المرحلة الأولى تتكون من تيارين متعارضين، حيث كان يقر التيار الأول الذي تزعمه لفي برول، بوجود فروق كيفية ونوعية بين السيرورات الفكرية عند كل من البدائيين والمتحضرين، فقد كان صاحب "نظرية العقلية الما قبل منطقية"، يرى أن فكر البدائيين كما تعكسه أفكارهم الدينية لا تحكمه القوانين الجوهرية للتفكير المنطقي الأريسطي، وإنما تحكمه العاطفة التي تعتبر مصدر جميع الإنفعالات.[45]

أما التيار الثاني، والذي تزعمه كل من مالنوفسكي ورادان فكان يرى عكس ذلك تماما، فقد بين رادران كيف وصل الفكر الديني البدائي في بعض الحالات إلى مستويات عالية من التمفصل المنطقي والمعرفة الفلسفية. أما مالنوفسكي، فقد تعرض لهذا الإشكال من زاوية أكثر شمولية، إذ حاول إثبات قدرة "المتوحشين" على امتلاك معرفة تجريبية عالية تمثلت في أعمال الزراعة والملاحة والبناء وصناعة السفن وغيرها من المهارات العملية الأخرى، كل هذا إلى جانب معتقداتهم الدينية والسحرية التي تحكمها العاطفة بالدرجة الأولى. كما شدد مالنوفسكي على قدرة هذه الشعوب على التمييز الواضح بين الفكر السحري والفكر الديني. وإذا كان الطرح الأول القائل بعدم خلو الفكر الديني البدائي من المعرفة الفلسفية والتفكير المنطقي قد حظي بشبه إجماع داخل الأوساط الأنثربولوجية، فإن الطرح الثاني القائل بقدرة البدائيين على التمييز بين السحر والدين ظل محط شك وتساؤل.[46]

وقد ركز جل الباحثين المتأخرين، أمثال مارسيل موس وإميل دوركهايم وبالأخص كلود لفي ستروس، على دراسة الأشكال الرمزية وكل مصادر التمثل والتصور التي توجد عند كل البشر بشكل عام.

وقد عالج ستروس في مجمل أعماله، انطلاقا من "البنيات الأولية للقرابة" حتى "الخزافة الغيورة"، الطبيعة اللاشعورية للظواهر المجتمعية؛ فالتفسير الذي يبرر به مجتمع ما أحد أعرافه أو إحدى مؤسساته تفسير بعيد جدا عن الأسباب اللاشعورية التي يمارس من أجلها أفراده عرفا أو يعتنقون عقيدة؛ فالمبدأ المفسر لهذه الظواهر يوجد بالضرورة داخل البنية اللاشعورية التي تقبع وراء كل مؤسسة وكل عرف من الأعراف.[47]

فعندما تناول ستروس بالتحليل أنساق التصنيف المحلية؛ أي تلك القوانين التي تستعملها "الشعوب البدائية" للتحكم في مكونات وأحداث عالمها، بحث بالأساس في المعاني التي تقبع خلف هذه البنيات الرمزية التي تعبر عنها وتجسدها في الواقع. وبهذا تجاوز ستروس طرح موس ودوركهايم الذي يعتبر الأشكال الاجتماعية تعليلات للأنساق التصنيفية؛ فالأسطورة بالنسبة إليه، شأنها شأن الطقس، نسق من الرموز ينظم العلاقات التمثيلية المجردة بلغة الصور الواقعية، وهذا النسق هو الذي أدى إلى ظهور الفكر التأملي وشيد "علم الواقع"؛ فهو إدراك فكري للعالم الحسي بلغة ظواهر هذا الأخير، ولا يقل هذا العلم عقلانية ومنطقا ولا يزيد عاطفة عن العلم التجريدي الحديث. فالتصنيفات المحلية المذكورة "ليست فقط ممنهجة ومبينة على معرفة نظرية قوية، وإنما تضاهي في صرامتها كلا من علم الحيوان وعلم النبات المعاصرين.».[48]

وإذا كان راد كليف براون قد فسر عملية اختيار "الأشياء المقدسة" بناء على ما لها من صفات منفعية، واعتبرها فرويد إسقاطات مكبوتة وقعت في الزمن الأول[49]، ورأى فيها دوركهايم القوة الأخلاقية للتنظيم الاجتماعي المرسخة طقسيا داخل الأذهان كما مر بنا القول، فإن ستروس قد أرجع سبب اختيار هذه الأشجار والأحجار وغيرها، لتصبح موضوعا للقداسة والتقديس، إلى كونها تجسد الأفكار العامة بلغة حقائق التجارب اليومية السريعة الفهم والإدراك. وقد رد ستروس في هذا الصدد على تفسير براون بشكل لا يخلو من سخرية، قائلا: «إن اختيار هذه الأنواع الطبيعية لا يعني أنها "صالحة للأكل" وإنما يعني أنها "صالحة للتفكير"».[50]

ويستنتج ستروس في آخر المطاف أن البشر يتواصلون جميعا بواسطة الرموز التي يمتلكونها، لأنهم ببساطة يمتلكون الغرائز نفسها، فجميع شعوب الأرض تتوفر على الإمكانيات والمؤهلات العقلية ذاتها، تستعملها وتستخدمها في مجالات مختلفة ومتعددة حسب الظروف التي وجدت وتوجد فيها.[51]

وقد واجهت دراسة ستروس للأنساق الرمزية عددا كبيرا من الانتقادات رد عليها جميعها في خاتمة كتابه "الإنسان العاري".[52]

وعلى الرغم من كل هذه الانتقادات التي وجهت إلى أعمال ستروس، فقد أسس هذا الباحث، باعتراف منتقديه أنفسهم من خلال تحليله للأنساق الرمزية، باعتبارها أنماطا للتمثل، اتجاها جديدا في البحث داخل أنثربولوجيا الأديان. وقد وجد هذا الاتجاه إقبالا منقطع النظير ضمن مختلف مجالات الفكر الحديث، وتم اعتباره أحد الإسهامات الخالدة في الفكر الإنساني بشكل عام. وقد بينت عدة دراسات أنثربولوجية، بما لا يدع مجالا للشك، رسوخ تحليل الأنساق الرمزية داخل دراسة كل الأشكال الدينية.[53]

ويعتبر كلفوردجيرتز من كبار الأنثربولوجيين المعاصرين الذين أسهموا في تطوير دراسة الأنساق الرمزية والثقافية داخل الممارسة الأنثربولوجية، سواء على مستوى النظرية أو على مستوى المنهج.[54] وقد انطلق هذا الباحث من بناء نموذجه التحليلي من فكرة أساسية مفادها أن جميع الأبحاث الأنثربولوجية التي أنجزت حول المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها – منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم- لم تأت بجديد نظري يذكر، إذ اعتمدت فقط على الجهاز المفاهيمي الذي خلفه الرواد الكبار، أمثال دوركهايم وفيبر وفرويد ومالنوفسكي. فالباحث المعاصر ليس بوسعه أن يعمل أكثر من توسيع وتطوير هذه المفاهيم التي تعتبر بمثابة القاعدة الأساسية والخزان المعرفي لكل مساهمة أنثربولوجية حول الدين.[55]

وبناء على هذا المنطلق، حدد جيرتز مهمته في تطوير البعد الثقافي للتحليل الديني مقتفيا في ذلك أثر فيبر ومتأثرا، بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة، بكل من بارسنز (الذي كان أستاذه بجامعة هارفرد) وشيلر وكلوكهن وبواز وسبير وبالطبع كلود ليفي ستروس.[56]

وقد حاول هذا الباحث الأمريكي الاستفادة من قراءاته النظرية وأبحاثه الميدانية المبكرة[57]، لبناء تعريف عام للدين ينسحب على جميع الأشكال الدينية الممكنة. وقد جاء هذا التعريف على الشكل التالي: «الدين نسق من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة، وانتشار واستمرار دائم عند الناس، وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، مع إضفاء طابع الواقعية على هذه التصورات، بحيث تبدو هذه الطبائع والدوافع واقعية بشكل متفرد».[58]

ويعني هذا التعريف الخماسي ذو الصيغة المعقدة أن الرموز المقدسة المرتبطة فيما بينها تعمل على إدماج "إتوس" ما - بمعنى مجموع الطبائع والدوافع القوية المنتشرة والدائمة- مع نظرة معينة إلى العالم؛ أي مجموع التصورات حول النظام العام للوجود. والدين بهذا المعنى يربط الصورة الجوهرية للحقيقة بمجموعة من الأفكار المتماسكة حول الكيفية التي ينبغي على الإنسان العيش وفقها، موفقا بذلك بين الأنشطة البشرية وصورة النظام الكوني، وباعثا في الوقت نفسه صورا عن هذا النظام الكوني فوق مستوى الوجود البشري.

ويقول جيرتز (في نص مطول) موضحا مفهومه للدين: «لقد أصبحت المعتقدات الدينية التي تشكل على مستوى الواقع أسلوب الناس في الحياة، قابلة للإدراك، لأنها تبدو وكأنها تمثل طريقا في الحياة تم اقتباسه من العالم الواقعي بشكل مثالي [...] كما أن البنية الجوهرية المفترضة للحقيقة غدت قابلة للإدراك شعوريا، لأنها قُدمت على أنها الوضعية الفعلية للقضايا التي تكيفت وحدها فقط مع هذا الأسلوب في الحياة، وهي التي مكنته حتما من الازدهار. وبهذه العملية المزدوجة يتم قبول واستقبال المعتقدات الميتافيزيقية وترسيخ الضوابط الأخلاقية، لتصبح كل واحدة مُثبتة ومدعمة للأخرى. وهذا الدعم المتبادل هو ما تعبر عنه الرموز الدينية وتحتفي به، وهو ما ينبغي بالضبط على كل تحليل للدين محاولة تفسيره وتوضيحه».[59]

وتحتل الطقوس، حسب جيرتز، أهمية كبرى داخل النسق الديني؛ فهي التي تجسد بالأساس عملية الدمج التي تقوم بها الرموز المقدسة بين النظرة إلى الكون ونظام القيم. فالفهم الدقيق للكيفية التي يفكر بها الناس يمر بالضرورة عبر فهم سلوكاتهم وتصرفاتهم في سياق الأحداث الاجتماعية، ولذلك فإن فهم الدين – الذي يتم انطلاقا من فهم لنظرة المؤمنين إلى الكون – يمر بالضرورة عبر دراسة الأشكال الثقافية التي تعني حسب جيرتز "بناء وإدراك واستعمال الأشكال الرمزية"، وهذه الأشكال الرمزية هي بالأساس وقائع اجتماعية ذات طابع عمومي كالزواج وقابلة للملاحظة كالزراعة. وبما أن الباحث لا يستطيع إدراك العالم بالضبط كما يدركه المؤمنون، فإنه على الأقل يستطيع دراسة الطريقة التي يستعمل بها هؤلاء المؤمنون الرموز المجسدة لمعتقداتهم، «فالإثنوغرافي ليس بوسعه إدراك ما يدركه مخبروه، فما يدركه هو ليس في الواقع سوى - ولعل هذا كاف- ما يدركونه هم مع أو بواسطة أو من خلال...الرموز».

ولفك معاني هذه الرموز، يعتمد الباحث على "الوصف المكثف" للفعل Thick description الذي يسعى من خلاله إلى رصد وجهة نظر الفاعل نفسه، وهو وصف ثاقب ودقيق يميز بين "رمشة العين القصدية ذات المعنى والأخرى العفوية التي لا تعني شيئا". ويتجاوز هذا الوصف المكثف ذلك الوصف الضعيف Thin description المتبع عادة، والذي لا يتعدى رصد السلوك الخارجي للفاعل كما يبدو للملاحظ.

وترتبط معاني هذه الرموز، بشكل ضيق، بالسياقات النوعية التي تندرج فيها، إذ البعض منها يكون محط تركيز في سياقات اجتماعية معينة دون أخرى، فمفهوم الملحد على سبيل المثال لا تكون له أية قيمة عندما يوضع في سياق علاقات عمل أو صداقات عابرة، بيد أنه يصبح غير ذلك تماما عندما يتعلق الأمر بزواج هذا الملحد مع بنت أو أخت صديقه أو شريكه المؤمن.

وهذا التنوع السياقي، لا يعني حتما أن الهوية الدينية تنحدر من السياق الاجتماعي وحده؛ فهي تستمد معناها من دورها داخل نسق ديني ما يضم مجموعة من المفاهيم القاعدية حول العالم وحول الكيفية التي ينبغي على الكائنات البشرية أن "تتصرف" بها داخله.

فلفهم هذه الهوية الدينية ينبغي دراستها داخل النسق الديني الذي تشكل هي جزء منه بالإضافة إلى السياق الاجتماعي الذي توجد فيه. فدراسة الرموز تستطيع بالضرورة دراسة الرمزية، وهذه الأخيرة تقتضي دراسة الكيفية التي تستعمل بها الرموز من طرف الناس في سياق حياتهم اليومية.

وقد شدد جيرتز على أهمية دراسة الدين في سياق التغير الاجتماعي؛ بمعنى وضعه داخل سياقه التاريخي بدل اختزال مادته السينمائية في مجرد تأمل في البنية الاجتماعية. وتعتبر هذه الدعوة إلى الربط بين التاريخ والأنثربولوجيا في دراسة الدين، من بين أكبر إسهامات هذا الباحث المنهجية التي حسبت له.[60]

خلاصة:

لازالت المقاربة الأنثربولوجية والسوسيولوجية للأديان، شأنها في ذلك شأن كافة العلوم الاجتماعية، تتطور ويستفيد اللاحق منها من السابق ويتجاوزه وفق منطق تراكم جدلي، كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذه الورقة. ومن أهم مظاهر هذا التطور أن هذه المقاربة باتت تنحو اليوم نحو التركيز أكثر على الأبعاد التطبيقية للمعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها دون الخوض في أسسها الماهوية أو التكوينية؛ أي أن ما تعنى به هذه المقاربة اليوم هو بالأساس محاولة الإمساك بتلابيب المنطق الذي تشتغل وفقه هذه المعتقدات داخل مختلف المجتمعات. كما تسعى هذه المقاربة جادة إلى فهم وتفسير الكيفية التي يحافظ بها الاعتقاد الديني، في مختلف أشكاله وتجلياته، على وجوده واستمراره في زمن تتنازع فيه أنماط القراءة والتأويل للنص الديني الواحد.

ومع انتهاء زمن النظريات الكبرى وظهور المناهج القطاعية التي تركز على دراسة مواضيع محددة، بدأ الباحثون المشتغلون على كافة أشكال تجسدات الاعتقاد الديني داخل المجتمعات المعاصرة يعتمدون على تشكيلات نظرية ومنهجية تستفيد من كل الأدوات المفاهيمية التي تقدمها النظريات السوسيولوجية المختلفة والمتضاربة، دون أن تكون هذه التشكيلات المنهجية مكرسة لنظرية معينة برمتها دون أخرى. فقد أمكننا توضيح، من خلال هذا الورقة، أنه ليست هناك من نظرية سوسيولوجية تتقادم جملة وتفصيلا، إذ تتميز كل واحدة منها باقتراح أو أكثر يحافظ على إجرائيته وبالتالي على استمراريته. إذ لم يعد النقاش داخل هذه المقاربة يدور مثلا حول إمكانية توظيف المعرفة التاريخية أو البنية الاجتماعية، وإنما حول كيف ومتى نستعملها؛ فالباحث السوسيولوجي والأنثربولوجي هو الذي يمسك بدفة قيادة بحثه، وهو الذي يعرف متى وبأي درجة ينعطف صوب هذا الاتجاه أو ذاك.


*- نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "إشكالية الدين والتدين: أسئلة، مقاربات، نماذج"، بتاريخ 5 ـ 6 أكتوبر2013، الرباط، المغرب.

[1]- Olivier Bobineau Sébastien Tank-storper. Sociologie des religions.Armond Colin.Deuxième éditions.2012,p 8

[2] - Clifford Geertz: «Religion: Anthropological study». In international encyclopedia of the social sciences.1968. vol10. p:398

[3]- يتعلق الأمرب: روبرتسن سميث Robertson Smith مؤلف كتاب:

The prophets of Israel and their place in history to the close of theof the eighth centuryA.D

- هذه الدراسة التي أثارت ضجة عارمة داخل الأوساط الأكاديمية المحافظة أسفرت عن طرده من جامعة أكسفورد.

[4] -Clifoford Geertz: «Religion: Anthological study». Op.cit, p:398

[5] -Ibid. p:399

[6]- نقصد بذلك كتابه الشهير: Primitive Culture, الذي صدر في جزأين سنتي 1873 و 1874

7- WiktorStoczkowski.Explaining Human Origins .Myth Imagination and Conjecture .Translated by Mary Turton .Cambridge University Press.2002, p: 132

[8]- Ibid,p :133

9- من المعلوم أن إدوارد تايلور لم تطأ قدماه يوما أرض ميدان ،حيث كان يعتمد بالأساس على تقارير الجنود الغزاة والرحالة المستكشفين.10

[10] -Emile Durkheim: les formes élémentaires de la vie religieuse ( Le système totémique en Australie), 7ème edition.PUF.Paris 1985, P :69

[11]- من المعلوم أن النظرية الأنيمية (الإحيائية)تقوم على أساس أن الاعتقاد في الكائنات الحية يشكل جوهر الاعتقاد الديني ،هذاالاعتقاد الذي تكمن مهمته الرئيسة في تفسير الظواهر الطبيعية المستعصية وتلبية حاجة الإنسان إلى المعرفة.

[12] -Clifoford Geertz: « Religion: Anthological study». Op.cit, p:400

[13]- تفسر النظرية الإنتشارية، كما هو معلوم، الظواهر المجتمعية باختلاط الثقافات ،على اعتبار أن قدرة الإنسان على الإبداع تبقى محدودة جدا، وعليه فإن الاكتشافات التي تظهر في مجتمع ما هي نفسها التي تنتشر لتظهر في مجتمعات أخرى.

[14]- Claude Lévi-Strauss .Anthropologie structural.Plon.1958, p: 7

[15]- Clifoford Geertz: « Religion: Anthological study». Op.cit, p:400.

[16]- أخذ فرويد عن داروين فرضية أن البشر عاشوا في البداية داخل عشائر صغيرة، تقع كل واحدة منها تحت سلطة متعسفة لذكر متقدم في السن، فرضها على فتية كان بعضهم من أبنائه. وتبنى وصف أتكنسون لنهاية النظام الأبوي بتمرد الأبناء ضد أبيهم وقتلهم وأكلهم له بشكل جماعي. كما سلم بفرضية روبرتسن سميت التي تقول إن عشيرة الإخوة الطوطمية قد حلت محل عشيرة الأب.

[17]-Alfred Louis Kroeber, «Totem and Taboo in retrospect»,in American Journal of sociology,xLV.1939,p :648

28- أنظر بهذا الصدد:

Michèle Bertrand. Le statut de la religion chez Marx et Engels, , Editions Sociales, , 1979,

[19] - Emile Durkheim: les formes élémentaires de la vie religieuse. Op.cit, p :34

[20]- Clifoford Geertz: «Religion: Anthological study». Op.cit, p:400

[21]- Rhoder Metraux: Malinowski Bronislaw. In international encyclopedia of the social sciences. David.L. Sills editor. 1968. vol.9. and 10, p :541

[22]- Clifoford Geertz: « Religion: Anthological study». Op.cit, p:402

[23]- Emile Durkheim: les formes élémentaires de la vie religieuse. Op.cit, p :65

[24]- Olivier Bobineau Sébastien Tank-Storper. Sociologie des religions. ArmondColin. Deuxième édition .2012 ,p :13

[25] -Olivier Bobineau Sébastien Tank-Storper.Sociologie des religions.Armond. Op.cit, p :15

[26]- Clifoford Geertz: « Religion as a cultural system» in Anthological approaches to the study of religion, edited by Michael Banton. Travistock publication 1996, p:2

[27]- يقول كلود لفي ستروس في الصفحة 227 من الأنثربولوجيا البنيوية: «لقد كان دوركهايم منتبها دائما للأفكار السيكولوجية، بيد انه لم يكن بوسعه مواكبة ومتابعة تطورها السريع بحكم عدم اختصاصه في المجال».

[28]- Clifoford Geertz: « Religion: Anthological study». Op.cit, p:402

[29]- Ibid, 403

[30] -Olivier BobineauSébastien Tank-Storper.Op.cit.,p :27

[31] -Clifoford Geertz: « Religion: as a cultural system». Op.cit, p:2

[32] -Olivier BobineauSébastien Tank-Storper.Op.cit.,p :37

[33] -R. Boudon et F.Bouricaud: Dictionnaire critique de la sociologie. Op.cit, p :317

[34] -Olivier Bobineau Sébastien Tank-Storper.Sociologie des religions.ArmondColin.Deuxième édition .2012 ,p :33

[35]- Ibid ,p :34.

[36]- Max weber .Economie et Société, Tome2 .l’organisation et les puissances de la société dans le rapport avec l’économie .Essai, 2003,p :84

[37]- Olivier Bobineau Sébastien Tank-Storper.Sociologie des religions.Armond. Op.cit, :p 32

[38] -Raymond Aron: Les étapes de la pensée sociologique. Op.cit, p :542.

[39]- Clifoford Geertz: «Religion: as a cultural system». Op.cit, p:400

[40]- Raymond Aron: Les étapes de la pensée sociologique. Op.cit, p :546

[41]- ماكس فيبر: رجل العلم ورجل السياسة، م. س. ص: 20

[42]- Pierre Bordieu: «Genèse et structure du champs religieux». Revue française de sociologie.XII.1971 p :299

[43]- تقول هذه النظرية أن عقل الإنسان له نسق سبرنطيقي معقدة للغاية يلتقي ويختزن ويعالج كل البيانات التي تصل إليه من العالم الخارجي.

[44] -Cliford Geertz :«Religion: Anthropoligical study. Op. cit, p :404.»

[45]- تراجع لفي براون في آخر أيامه عن أطروحته هذه، واعترف بأن نظريته كتن ينبغي أن تصاغ في شكل أنماط تفكير متمايزة تخص كل الناس دون استثناء.

[46] -Clifoford Geertz: « Religion: as a cultural system». Op.cit, p:404

[47]- Claude levistrauss: Letotemismeaujourd’huit..Plan. Paris 1974. P: 107

[48] - Claude levistrauss-La pensée sauvage. Plon. Paris 1962. P :59

[49]- تجدر الإشارة هنا إلى عدم قبول ستروس لما يسميه "بالافتراض الوهمي" حول الأصل الطوطمي الذي جاء به فرويد، وهو يقول بهذا الصدد: «لقد خلق فرويد أسطورة ليفسر الواقع». مع العلم أن التحليل النفسي يعثبر أحد مصادر الإلهام عند ستروس، فهو الذي أمده بمفهوم اللاشعور.

[50]- Claude levistrauss: Le totemismeaujourd’huit..Op Cit. p:132.

[51]- Claude levistrauss: Anthropologie structurale deux. Paris. Plon 1973. p :36

[52]- تركزت هذه الانتقادات بالأساس على إفراطه في استعمال " عقلانية تخاطب عقل الدين" على حساب باقي الاعتبارات العاطفية والاجتماعية التي قلل ستروس من شأنها.

[53]- يمكن أن نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر أعمال كل من: إيفانس بريتشارد، لينهاردستانر، تورنر، ديلترون، فورتش، ليتش، فرايك، نيدهام وآخرون.

[54]- لقد استفدنا بشكل كبير من القراءة الناقد ة والمتفحصة التي قام بها هذا الباحث للتراث الأنثربولوجيوالسوسيولوجي حول الدين.

[55] -Clifoford Geertz: «Religion as a cultural system». Op.cit, p:2

[56] -Richrard Handler: «An interview withClifford geertz». Current anthropology.Vol 32 N° 5. 1991.p: 609

[57]- أتيحت لجيرتز، وهو بعد طالب، فرصة المشاركة في بحث جماعي نظمته جامعة هارفرد ومولته مؤسسة فورد سنة 1951 لدراسة المجتمع الأندونيسي الحديث العهد بالاستقلال آنذاك، وقد بنى هذا الباحث أطروحته التي نال بها شهادة الدكتوراه، على المعطيات التي جمعها من هذا البحث الميداني.

[58] -Clifoford Geertz: « Religion: as a cultural system». Op.cit, p:406

[59] -Clifoford Geertz: «Religion as a cultural system». Op.cit, p: 406

[60]- انظر كتابنا الدين والمجتمع، دراسة سوسيولوجية للمجتمع، إفريقيا الشرق، 2006، ص ص 55-56