المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية
فئة : ترجمات
المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية
تمهيد:
واجهت التنمية خلال ثلاثينيات القرن الماضي عدة تحديات خاصة في إفريقيا، وهو ما يثير تساؤلات حول فعالية التنمية، وكيف تُفهم وتُستقبل من قبل السكان المحليين؛ فالتنمية بحاجة إلى تحليل ومقاربة أكثر دقة، تعتمد على السوسيو-أنثروبولوجيا لفهم وتحسين العلاقات بين مؤسسات التنمية والمجتمعات المستهدفة، حيث لا يكفي الاقتصار في مجال التنمية على مقاربات تطبيقية أو خبرات استشارية محدودة، بل يجب أن تستند إلى تحليل معمق وناقد للديناميات المحلية. لهذا، يسعى جان بيير أوليفييه دي ساردان إلى أن الأنثروبولوجيا التنموية ينبغي أن تتجاوز الخطابات الأيديولوجية، وأن تعتمد على أبحاث ميدانية جادة تأخذ بعين الاعتبار المفاهيم الأساسية للعلوم الاجتماعية الحديثة.
إن الغاية من الأنثروبولوجيا التنموية لا تكمن في استخدام أنثروبولوجيا مبسطة أو سطحية لا تعكس الواقع الميداني بشكل كاف، بل إن السوسيو-أنثروبولوجيا الحقيقية للتنمية يجب أن تأخذ في الحسبان السياقات المحلية، وأن تعتمد على أبحاث دقيقة وأصيلة لتقديم حلول تنموية أكثر ملاءمة واستدامة، لهذا تعدّ السوسيو-أنثروبولوجيا "التنمية" شكلاً خاصاً من أشكال التغيير الاجتماعي.[1]
تناول الأنثروبولوجي الفرنسي "جان بيير أوليفييه دي ساردان" قضية التنمية عبر تقديم قراءة نقدية لمختلف المقاربات التي تناولت التنمية من وجهة نظر أحادية، ومن منطلق خلفيات ومرجعيات إيديولوجية. وتماشيا مع ما سبق ذكره، سنشرع في هذا الموضوع إلى تقديم قراءة في "المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية" لأحد أبرز المنظرين المعاصرين لأنثروبولوجيا التنمية، والحديث هنا عن جان بيير أولفييه دي ساردان.
يأتي هذا المقال موضوع اشتغالنا، تحت عنوان "المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية "للأنثروبولوجي الفرنسي- النجيري" جان بيير أوليفييه دي ساردان، والذي تم نشره ضمن أعمال مجلة "العالم الثالث" Tiers-Monde ليتم إصداره في عام 2001، في المجلد 42، العدد 168، وهي مجلة فرنسية أكاديمية تأسست عام 1960، وتخصصت في تناول قضايا التنمية والاجتماعية والاقتصادية. جاء هذا العمل ليسلط الضوء على مختلف المقاربات التي عبرها يمكن للمتخصص في مجال السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا فهم قضية التنمية بعيدًا عن أيّ خلفية إيديولوجية.
يشدد دي ساردان في مقاله الموسوم ب "المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية "على أهمية تجاوز النظريات الكلية (macro-economic) والخطابات الشعبوية في مجال التنمية لصالح التحليل الدقيق للتفاعلات الاجتماعية الواقعية، ويركز على دور السوسيو-أنثروبولوجيا في دراسة مستوى التفاعل بين الجهات "المنفذة للتنمية" والمجموعات المستهدفة، لفهم استجابات هذه الأخيرة تجاه التدخلات التنموية، السوسيو-أنثروبولوجيا تُعنى بفهم العمليات الاجتماعية المرتبطة بالتنمية، بعيدًا عن الأحكام القيمية أو المسبقة، مع التركيز على تحليل الفجوة بين الأهداف التنموية والنتائج الفعلية. لتحقيق ذلك، يجب على الباحث أن يعتمد على الملاحظة الدقيقة والتحليل الميداني بدلًا من التصورات الأيديولوجية الجاهزة.
الإطار النقدي للمقال:
يمكن تناول هذا الجانب النقدي الذي يتجلى في مقال دي ساردان حول المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية من خلال مستويين أساسيين:
vأولا: ينتقد دي ساردان خطاب التنمية من خلال تفكيكه نظرًا لكونه يُختزل في تصور أحادي البعد ألا وهو: هيمنة النموذج الغربي، وهو خطاب يعتبر أن التنمية مشروع متجانس دون مراعاة الاختلاف القائم بين الخصوصيات الثقافية والخلفيات الفكرية والإيديولوجية للفئات المستهدفة بالتنمية. لهذا، يدعو دي ساردان إلى ضرورة اعتماد التفكيك كأداة تحليلية لهذا الخطابي التنموي وعدم القبول بدون أي خطاب تنموي دون تفكيكه وتحليله.
vثانيا: ينتقد أوليفييه دو ساردان الشعبوية الإيديولوجية من خلال التمييز بين "الشعبوية الإيديولوجية" و"الشعبوية المنهجية"، ويرى أن الأولى يجب التخلي عنها، بينما الثانية تبقى ضرورية للبحث الأنثروبولوجي؛ فالشعبوية الإيديولوجية تتمثل في تلك الأفكار التي يحملها الباحثون عن المجتمعات المحلية. أما الشعبوية المنهجية، فتنظر إلى الجماعات البشرية ومختلف الفاعلين بوصفهم أصحاب معارف واستراتيجيات ينبغي فهمها واستكشافها، دون التعبير عن قيمتها أو صحتها. لذا، فالأول يضر بالعمل العلمي، بينما الثاني هو عامل إيجابي يسمح بفتح آفاق جديدة للتحقيق، والمشكلة هو أنه في الكثير من الأحيان يتم الخلط بين الاثنين، ولكن يبدو أن التمييز بين الشعبوية الإيديولوجية والشعبوية المنهجية أصبح ضروريا، مما يوفر معايير تفسير ملائمة لفهم التنمية.
المفاهيم التي اعتمدها جان بيير أوليفييه دي ساردان في مقاله
سنعرج في هذا الإطار المفاهيمي على تحليل بعض المفاهيم الأساسية ضمن مقال أوليفييه دي ساردان وفقا لسياق المقال، والانفتاح على مصادر معرفية أخرى، ولعل أبرز هذه المفاهيم:
1- السوسيو أنثروبولوجيا:
يعرف جان بيير أوليفييه دي ساردان السوسيو-أنثروبولوجيا على أنها دراسة متعددة الأبعاد للمجموعات الاجتماعية المعاصرة وتفاعلاتها، ضمن منظور تاريخي يجمع بين تحليل الممارسات والتمثلات. وتختلف السوسيو-أنثروبولوجيا عن السوسيولوجيا الكمية القائمة على الاستبيانات الموجهة، وعن الأنثروبولوجيا التقليدية التي تركز على "الخبير" أو "المطلع الكبير". كما أنها ترفض المقاربات التجريبية والتكهنات النظرية، لتدمج بين تقاليد البحث الميداني السوسيولوجي (مدرسة شيكاغو) والأنثروبولوجي (الإثنوغرافيا)، إن السوسيو أنثروبولوجيا كما يقدمها جان بيير أوليفييه دي ساردان، هي أداة لفهم الديناميكيات الاجتماعية المعقدة، خاصة في سياقات التنمية. وتهدف إلى تجاوز الأنماط الكمية والتكهنات السطحية، من خلال الجمع بين البحث الميداني المكثف والتحليل العميق. كما تركز على تحليل الاختلافات، التوترات، والتفاعلات بين مختلف الفاعلين (المجتمعات المستهدفة، المؤسسات) لفهم نتائج المشاريع التنموية، وتشدد على ضرورة الابتعاد عن التفسيرات الثقافوية والمقاربات الثنائية، مع الاعتراف بأن التنمية عملية تفاوضية مستمرة تعتمد على التفاعلات اليومية بين المصالح المختلفة، السوسيو-أنثروبولوجيا هي منهجية تجمع بين السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا لتحليل التغيرات الاجتماعية بشكل ميداني ومكثف. [2]
2- الشعبوية:
يرى جان بيير أوليفييه دي ساردان أن الشعبوية جزء لا يتجزأ من عالم التنمية، وهي تنشأ في سياق رغبة "النخب" في تحسين حياة "الشعب" أو "القاعدة"، سواء تعلق الأمر بالفلاحين، النساء، الفقراء، اللاجئين، أو غيرهم من الفئات المستهدفة في خطط التنمية. هذا النهج يتجلى بوضوح في ممارسات وخطابات العديد من المنظمات غير الحكومية، التي تمثل شكلاً من أشكال الشعبوية التنموية الحديثة والمنتشرة. إن الشعبوية في التنمية قد تكون أداة فعالة لفهم المجتمعات، لكنها في الوقت ذاته تحمل مخاطر الاختزال والتبسيط المفرط، لذا يدعو إلى اعتماد منهجيات تحليلية أكثر تعقيداً تأخذ في الاعتبار تفاعلات الفاعلين الاجتماعيين المحليين والسياقات المتنوعة التي تؤثر على فهمهم واستجابتهم للتدخلات التنموية.[3]
3- التنمية:
يقترح جان بيير أوليفييه دي ساردان تعريف "التنمية" بشكل منهجي على أنها مجموعة العمليات الاجتماعية الناتجة عن تدخلات هادفة لتحويل بيئة اجتماعية معينة. تُنفَّذ هذه العمليات من قِبَل مؤسسات أو جهات خارجية تسعى إلى تعبئة الموارد، التقنيات، أو المعارف داخل تلك البيئة. يشير إلى أن "التنمية" ليست شيئًا يجب البحث عن وجوده لدى المجتمعات المتأثرة، بل هي موجودة بمجرد أن هناك جهات ومؤسسات تخصص لها الوقت والموارد.[4]
المقاربات الثلاث في أنثروبولوجيا التنمية
1- المقاربة التفكيكية للخطاب التنموي:
يشدد دي ساردان على أهمية تجاوز النظريات الكلية (macro-economic) والخطابات الشعبوية في مجال التنمية لصالح التحليل الدقيق للتفاعلات الاجتماعية الواقعية، ويركز على دور السوسيو-أنثروبولوجيا في دراسة مستوى التفاعل بين الجهات "المنفذة للتنمية" والمجموعات المستهدفة، لفهم استجابات هذه الأخيرة تجاه التدخلات التنموية.
يبرز الأنثروبولوجي الفرنسي جون بيير أوليفيه دو ساردان إشكالية الخطابات التنموية وما تنطوي عليه من أبعاد غير بريئة، مشددًا على ضرورة تفكيك هذه الخطابات وتحليلها بعمق لفهم دوافعها الحقيقية. فهو يميز بين خطاب تنموي يسعى لتحقيق تنمية مجتمعية حقيقية، وآخر يهدف إلى تعزيز السيطرة والهيمنة السياسية. ويرى أن على الباحث الأنثروبولوجي تجاوز السطحية في التعامل مع هذه الخطابات عبر دراسة ذهنية الفاعل المحلي وفهم خلفياته الثقافية والإيديولوجية لتكييف الممارسات التنموية مع الواقع المحلي. ويُرجع أوليفييه دي ساردان هذا الالتباس إلى سببين رئيسين: الأول، وجود فجوة كبيرة بين الخطابات التنموية والممارسات الفعلية التي تصل إلى المستفيدين النهائيين، مما يستوجب دورًا ناقدًا للأنثروبولوجي في وصف الانحرافات بين التصريحات الرسمية والواقع. والثاني، ارتباط عالم التنمية بالعمل السياسي، حيث قد تُستخدم "لغة الخشب" لتغطية الفجوات بين الأهداف المعلنة والنتائج الواقعية. ورغم انتقادات الأنثروبولوجيين لخطابات التنمية، التي غالبًا ما تكشف عن سوء فهم خبراء التنمية لتعقيد الواقع، فإن أوليفييه دي ساردان يحذر من التعميم، حيث يقر بوجود فاعلين تنمويين يدركون هذه التعقيدات، مشيرًا إلى أن الخطاب التنموي ليس متجانسًا، بل يعكس تناقضات وعدم اتساق بين مختلف الفاعلين، رغم انتمائهم إلى نفس المجال.[5]
يشير العديد من الأنثروبولوجيين إلى أن خطابات التنمية تعكس غالبًا تصورات نمطية وسطحية تعبر عن ضعف فهم خبراء التنمية لتعقيدات الواقع، وهو ما دفعهم إلى انتقاد هذه الخطابات وفضح مواطن قصورها. ومع ذلك، فإن هذا النقد يواجه حدودًا واضحة، حيث إن المهتمين بالتنمية ليسوا جميعهم عاجزين عن إدراك تعقيدات الواقع، بل إن بعضهم يمتلك وعيًا أعمق بهذا التعقيد. من جانب آخر، يوضح أوليفييه دي ساردان أن هناك العديد من الدراسات التي حاولت تحليل خطابات التنمية وتفكيكها، إلا أن بعضها وقع في خطأ تقديم التنمية كمشروع متجانس، متجاهلًا التناقضات والاختلافات بين الفاعلين فيه، بالإضافة إلى حالة اللايقين التي تحيط بالتنمية حتى بين الفاعلين ضمن المجال نفسه.[6]
يرى جون بيير أوليفييه دي ساردان أن المقاربة التفكيكية للخطاب التنموي تسمح بفهم خلفيات بعض الخطابات؛ لأن بعض الخطابات حول التنمية تحضرها لغة الخشب كما هو الحال في الخطابات السياسية، لذا على مستوى الخطاب، يجب فهم أن الخطاب التنموي هو خطاب موجه نحو التنمية وعلى الباحث ألا يقبل بالخطاب التنموي دون تحليله وتفكيكه. أما على مستوى الممارسة بالنسبة إلى أوليفييه دي ساردان يرى أن بعض الأنثروبولوجيين تناولوا التنمية وفق خلفيات ومرجعيات إيديولوجية، لهذا يجب الحذر واعتماد منهجية تزاوج بين الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا لتفكيك الواقعة التنموية بوصفها واقعة معقدة. ومن جهة أخرى، فعلى الرغم من هذه التفكيكات والانتقادات الموجهة لخطابات التنمية، فليس من العادل وضعها في نفس السلة، فمؤسسات التنمية ووكلائها وسياساتها كلها كيانات غير مستقلة ولا يمكن رفضها.[7]
2- الشعبوية، الأنثروبولوجيا، والتنمية
يشير أوليفييه دو ساردان في معرض هذه المقاربة إلى أحد العلماء والباحثين في مجال الدراسات التنموية، والمعروف بمساهماته النقدية في تحليل الخطابات التنموية والمعارف المحلية، ويتعلق الأمر ب "هوبارت" Hobart الذي يعد من أبرز الشخصيات التي تبنت أفكار "ميشال فوكو" و"بيير بورديو" وكذا منهجيات ما بعد البنيوية والتفكيكية، وركز على كشف الأبعاد الإبستيمولوجية والسلطوية الكامنة في عمليات التنمية ينبني تصور هوبارت على ثلاثة أسس:
ü نقد الخطاب التنموي: يرى هوبارت أن الخطابات التنموية تُبنى أساسًا على فئات ومعارف صادرة عن "المطورين"، مما يؤدي إلى تجاهل المعارف المحلية أو اعتبارها عقبات أمام التقدم.
ü إعادة الاعتبار للمعارف المحلية: يؤكد هوبارت على أهمية دراسة المعارف الشعبية بجدية، معتبرًا أنها تحمل قيمة كبيرة عند فهم المجتمعات المحلية.
ü الدمج بين التفكيكية والشعبوية: يمزج هوبارت بين المنهج التفكيكي الذي ينتقد السرديات المهيمنة وبين الدفاع عن المعارف الشعبية بوصفها جزءًا أساسيًّا من تحليل العمليات التنموية.[8]
غير أن أوليفييه دي ساردان يميز بين "الشعبوية الإيديولوجية" و"الشعبوية المنهجية"، ويرى أن الأولى يجب التخلي عنها، بينما الثانية تبقى ضرورية للبحث الأنثروبولوجي؛ فالشعبوية الإيديولوجية تتمثل في تلك الأفكار التي يحملها الباحثون عن المجتمعات المحلية. أما الشعبوية المنهجية، فهي تنظر إلى الجماعات البشرية ومختلف الفاعلين بوصفهم أصحاب معارف واستراتيجيات ينبغي فهمها واستكشافها، دون التعبير عن قيمتها أو صحتها. لذا، فالأول يضر بالعمل العلمي، بينما الثاني هو عامل إيجابي يسمح بفتح آفاق جديدة للتحقيق، والمشكلة هو أنه في الكثير من الأحيان يتم الخلط بين الاثنين، ولكن يبدو أن التمييز بين الشعبوية الإيديولوجية والشعبوية المنهجية أصبح ضروريا، مما يوفر معايير تفسير ملائمة.[9]
إن الشعبوية في أنثروبولوجيا التنمية حسب دي ساردان تأخذ أشكالا متنوعة، فهي يمكن أن تكون بشكل أساسي "منهجية" وتجريبية لدى الذين يركزون على أشكال ملموسة من المعرفة التقنية الشعبية مثل ريتشاردز" كما يمكن أن تكون إيديولوجية وتارة تمتزج أحيانا بالهدم خاصة عند الذين يعطون الأولوية للمعرفة الأصلية مقابل المعرفة العلمية مثل "هوبارت". يخلص أوليفييه دي ساردان إلى إمكانية العثور في الواقع في الواقع، يمكن العثور على أفضل الأمثلة لتطبيق الشعبوية المنهجية في التحليلات الميدانية التي أجراها بعض الأنثروبولوجيين. على سبيل المثال، يكسر ريتشاردز (1993) الفكرة التقليدية عن المعرفة الزراعية الشعبية بوصفها مجرد "مخزون من المعرفة"، ويبين أنها في الأساس تكيفات ظرفية وتقريبية تعتمد على "مهارات الأداء العملي" (performance skills) لذلك، تأخذ الشعبوية في الأنثروبولوجيا التنموية ألوانًا متنوعة:
- فهي أقرب إلى "الشعبوية المنهجية" وذات طابع تجريبي لدى من يركزون على أشكال ملموسة من المعارف التقنية الشعبية مثل ريتشاردز.
- بينما تكون "أيديولوجية" بشكل واضح وممزوجة أحيانًا بالتفكيكية لدى من يقدّرون المعارف الأصلية ضد المعارف العلمية، مثل هوبرت. وتصبح مبسطة للغاية و«تطبيقية» في التحقيقات الريفية التشاركية (participatory rural appraisal) التي يروج لها تشامبرز، والتي، مع تعميم المشاريع التنموية "التشاركية"، تكتسب دورًا متزايدًا
- وأخيرًا، تظهر كشكل مركب ومعقد يجمع بين الشعبوية المنهجية والشعبوية الأيديولوجية لدى منظّرين أصليين مثل سكوت.[10]
3- تشابك المنطق الاجتماعي:
يشير دي ساردان في هذه المقاربة إلى تطوير النظرة المتنوعة للمنطق الاجتماعي، والتي تتداخل وتتفاعل في مجال أنثروبولوجيا التنمية من قبل مركزين مستقلين، المركز الناطق بالإنجليزية حول نورمان لونغ، والمركز الثاني ناطق بالفرنسية حول جمعية أنثروبولوجيا التنمية والتعاون ((apad، لقد نهج تداخل المنطقيات الاجتماعية تطور خلال ثمانينيات القرن العشرين، سواء كامتداد أو كقطع مع تقليد نظري فرنسي كان لفترة طويلة متأثرًا بالماركسية البنيوية والماركسية الشعبوية، وكذلك تحت تأثير "جورج بالندييه" فالمتدخلين في مجال التنمية حسب دوساردان كثر. لذا يجب على الباحثين الانتباه إلى التصرفات والسلوكيات وكذا ردة فعل الفئات المستهدفة بالتنمية؛ لأن الباحثين في مجال أنثروبولوجيا التنمية لن يجدوا أنفسهم أمام فاعلين متجانسين كما تعتقد المقاربات السابقة، لذا فتفكيك التشابك الاجتماعي؛ أي تفكيك الأساسيات الاجتماعية للمنطق، يمكننا من فهم عدم التجانس بين الفاعلين، فعندما نواجه التنمية، فإننا لا نواجه نفس الفاعلين لا من حيث الخلفيات أو من حيث المنطق. لهذا يدعو دي ساردان المشتغل في حقل أنثروبولوجيا التنمية إلى ضرورة مراعاة الاختلاف القائم بين الفاعلين، على الرغم من انتمائهم إلى نفس المجال.[11]
ولفهم التناقض الحاصل بين المعارف النظرية للمستهدفين وسلوكيات الأفراد لابد من الانتباه إلى الإيديولوجيات الموجهة لأفكار المجتمع المحلي المستهدف بالتنمية، وكذا الموجهة للمتدخلين على حد سواء. فهذه الإيديولوجيات تتحكم في تمثلات الأفراد عن التنمية وانتظاراتهم منها، ولمقاربة هذا المنطق الاجتماعي المتشابك حسب دو ساردان لابد من تناول مفهوم الثقافة بالدراسة والتحليل.
يضيف أوليفييه دي ساردان ما يسميه بالتفاعلية المنهجية، والتي تحيل على التحاليل التي ترى التفاعلات الاجتماعية مدخلا تجريبيا مفضلا دون أن تجعلها هدفا في حد ذاته؛ وبمعنى آخر دون القيود عليها أو الانغلاق فيها. وتتمثل هذه المقاربة في كسر الأفق الثقافي المسيطر في هذا المجال وتسليط الضوء على الطابع التفاعلي للكثير من التوافقات والمعايير التي يتم التفاوض بشأنها، على الأقل بشكل غير رسمي، وهي أكثر أهمية في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية للتنمية، حيث إن الحقائق الاجتماعية للتنمية لديها الخصوصية في إنتاج العديد من التفاعلات، وعلاوة على ذلك، تفاعلات بين فاعلين ينتمون إلى عوالم اجتماعية متنوعة ومختلفة للغاية، حيث تتنوع فيها الوضعيات وتختلف الاستراتيجيات.[12]
مناقشة عامة للمقال:
يتضح من خلال تحليل أن المقاربات الثلاث التي اقترحها دي ساردان في هذا المقال تسلط الضوء من جهة على الالتباس الذي يعتري الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية، ومن جهة ثانية فالتنمية لا يمكن فهمها من زاوية مقاربة أحادية البعد؛ لأنها ظاهرة مركبة يحضر فيها الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي...، لهذا يقترح جان بيير أوليفييه دي ساردان نفحة جديدة حول التنمية؛ وذلك عبر فهم وتفكيك الالتباس الحاصل في أدبيات الأنثروبولوجيا التنموية، إضافة إلى توضيح المنهجية بهدف إعادة دمج التنمية كموضوع جدير بالاهتمام في الأنثروبولوجيا الأكاديمية، واستكشاف التفاعلات المختلفة التي تنشأ في عالم التنمية، بما يشمل الممارسات، والاستراتيجيات والفاعلين والسياقات. ويتأتى هذا عبر تجاوز الأحكام المعيارية، حيث إن الكثير من الباحثين يصدرون تقييمات قيمية (مثل "التنمية جيدة" أو "التنمية سيئة") بدلا من تحليل الظاهرة بشكل علمي وموضوعي. في المقابل، يجب النظر إلى الأنثروبولوجيا كعلم اجتماعي تجريبي يسعى إلى فهم منطق معقول قائم على الحقائق. إن الأنثروبولوجيا التنموية ليست تخصصًا مستقلاً أو بالضرورة "تطبيقية"، بل تحتاج الأنثروبولوجيا التطبيقية إلى نهج أساسي يغذيها بالمفاهيم والأساليب والنتائج؛ لأن الهدف الأساسي هو استكشاف الواقع الاجتماعي المتعلق بالمشاريع والسياسات والمؤسسات التمويلية والتنظيمية للتنمية، مما يوفر منصة لإجراء أبحاث تجريبية تسلط الضوء على التفاعلات بين الفاعلين المختلفين، والممارسات، والتمثيلات في السياقات المؤسسية، لهذا يقترح جان بيير أوليفييه دو ساردان تبعا لمسار طويل في البحث اعتبار الواقعة التنموية تستدعي مناهج السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا؛ أي إن الواقعة التنموية يمكن تناولها سوسيولوجيا أو أنثروبولوجيا. لهذا، يقترح دي ساردان المقاربات الثلاث في حقل أنثروبولوجيا التنمية كالمقاربة التفكيكية للخطاب التنموي التي ترتكز على تحليل الخطابات المهيمنة والمتنافسة في مجال التنمية، فعلى الباحث ألا يقبل بالخطاب التنموي دون تحليله وتفكيكه. بينما المقاربة الشعبوية، فهي مقاربة تمزج بين الإيديولوجية والمنهجية وتسلط الضوء على أهمية التفاعل مع السكان المحليين. في حين أن المقاربة المتعلقة بتشابك المنطق الاجتماعي، تهدف إلى فهم التفاعل بين الفاعلين المختلفين والتفاعلات المتعددة الأبعاد.
يمكن تعزيز هذا النقاش الدائر حول موضوع التنمية من خلال الانفتاح على كتاب "الأنثروبولوجيا التطبيقية" لروجر باستيد R. Bastide، حيث يتوقف باستيد عند طبيعة العلاقة بين الأنثروبولوجيا التطبيقية وعلم اجتماع التنمية، والتي تظهر على مستوى تمكين علم اجتماع التنمية من دراسة التغيرات الاجتماعية والتركيز أيضًا على التغيرات الاقتصادية التي يرى أنها يجب أن تسبق وتؤدي إلى تحولات في البنية الاجتماعية، وبالتالي في العقليات. مما يعني أن روجر باستيد يوسع دور علم الاجتماع التنمية، حيث يكلفه بمهمة تحديد معايير التخلف من زاوية أنثروبولوجيا.[13] وبالتالي تشير الأنثروبولوجيا التطبيقية إلى تلك المجموعة الواسعة من الأبحاث والأساليب والنتائج التي جرى تطويرها واستخدامها لهدف واضح يتمثل في التعرف على المشكلات البشرية وفهمها ومعالجتها على ضوء التنمية.
خاتمة:
إن علم الأنثروبولوجيا التنموي اليوم متنوع للغاية، حيث يغطي مواقف معرفية وعلمية أحيانًا متعارضة فمن جهة، هناك مؤلفون "ما بعد الحداثيين" والراديكاليين الذين ينتقدون النظام التنموي نفسه، سواء من خلال خطابه أو إنكاره للمعارف المحلية، ومن جهة أخرى، الأنثروبولوجيون "التطبيقيون" الذين ينخرطون بسرعة في الخبرات التكنوقراطية أو العمليات الشعبوية. لذا، يبدو أن هناك القليل من القواسم المشتركة بين هذين الطرفين، على الرغم من أن التحالفات أو التركيبات المفاجئة تظهر أحيانًا بينهما. ومع ذلك، فإن تكاثر الدراسات الإمبريقية، وتنوع الممارسات التنموية، ونهاية الأنظمة التفسيرية الكبرى الوظيفية أو البنيوية قد فتحت بالتأكيد آفاقًا جديدة للبحث والتفسير. وقد استفادت من هذه الأفق الدراسات التي تُجمع هنا تحت مسمى مقاربة "تداخل المنطقيات الاجتماعية"، وأيضًا دراسات أخرى مستمدة من تخصصات قريبة مثل التاريخ الاقتصادي (مثل أعمال س. بيري، 1993) أو الاقتصاد السياسي (مثل باتس، 1988)، حيث بدأت تظهر تكاملات، خصوصًا فيما يتعلق بالجمع بين المستويات المختلفة. في الواقع، تركز مقاربة "تداخل المنطقيات الاجتماعية" في السوسيو-أنثروبولوجيا على المستوى "الميكروسياسي" لأسباب منهجية، لكنها تستفيد من التعاون مع مشاريع علمية تكاملية تعتمد على رؤى أوسع وأكبر.
يسمح هذا التطور بتعاون أكبر مع التخصصات القريبة مقارنة بـ "الثقافوية" الكلاسيكية التي تأخذ الحقائق الاجتماعية المرتبطة بالتنمية في الاعتبار وتُدمج في تحليلات ملموسة تغطي في الوقت ذاته أشكال "الحوكمة" المحلية، واستراتيجيات السيطرة والسلطة، والشبكات الاجتماعية القريبة والبعيدة، وأجهزة الدولة، والمعايير المهنية العملية. هذه التحليلات عابرة للتقسيمات المعتادة، حيث تتحول الموارد الاقتصادية إلى موارد اجتماعية والعكس صحيح. ويمكن ملاحظة عمليات مشابهة في مجال الصحة كتلك الموجودة في التنمية الريفية أو العدالة، مع التنقل المستمر بين المدينة والريف، أو بين الإداريين والمواطنين، حيث يصبح من الصعب التمييز بين المساعدة الخارجية والتنمية "الذاتية"، مما يعني أن الحديث عن التنمية يقتضي بالضرورة الإشارة إلى المقاربة التشاركية والإنصات لنبض المجتمع واحتياجاته من خلال الانخراط العلمي والعملي في المجتمعات المستهدفة بالتنمية، بعيدًا عن المقاربات النظرية المحضة والتنزيلات العمودية من "الفوق" فإنجاح التنمية يستدعي الاقتراب من المحلي واستحضار الخصوصيات الثقافية وتتبع الاستراتيجيات التي ينهجها الفاعلون المختلفون اجتماعيا وثقافيا وإيديولوجيا.
لائحة المراجع والمصادر:
- Jean-Pierre Olivier de Sardan, Anthropologie et développement. Essai en socio-anthropologie du changement social.
- Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement.
[1] - Jean-Pierre Olivier de Sardan, Anthropologie et développement. Essai en socio-anthropologie du changement social. (1995)/pp09-10
[2] - Jean-Pierre Olivier de Sardan, Anthropologie et développement. Essai en socio-anthropologie du changement social. (1995).pp 22-23
[3] - Jean-Pierre Olivier de Sardan, Anthropologie et développement. Essai en socio-anthropologie du changement social. (1995).p30
[4] - Jean-Pierre Olivier de Sardan, Anthropologie et développement. Essai en socio-anthropologie du changement social. (1995).p14
[5] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement. pp.733
[6] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement pp735
[7] - محاضرة الأستاذ الحلحولي، سوسيوأنثروبولوجيا التنمية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان 2024-2025
[8] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement.pp 740-741
[9] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement pp738.-739
[10] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement pp739-740
[11] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement pp 742-743
[12] - Olivier de Sardan Jean-Pierre. Les trois approches en anthropologie du développement pp 745-746
[13] - R. Bastide, Anthropologie appliquée, Paris, Payot, 1971, chap. 7