التراث الثقافي الإنساني في المنطقة العربية والخطاب الجهادي.. بين سلوك التدمير وخطاب التحريم


فئة :  مقالات

التراث الثقافي الإنساني في المنطقة العربية والخطاب الجهادي..  بين سلوك التدمير وخطاب التحريم

التراث الثقافي الإنساني في المنطقة العربية والخطاب الجهادي..

بين سلوك التدمير وخطاب التحريم([1])


التراث الثقافي الإنساني هو ماضي اللمسة الإنسانية من على الرواق التاريخاني وتطور البشرية، والذي يرسم من خلاله حضوره الكياني (حضارات، إمبراطوريات) المادي وغير المادي منه، وهو يعكس قرائن تاريخانية دالة على الازدهار البشري عبر الزمن، لها حضورها وشواهدها من على صفحات التاريخ والمسطح الجغرافي، وهو في نفس الوقت الذاكرة الإنسانية التي تحفظ للبشرية الكثير من وشحات الدم والدموع.. فهو ما تبقى من الدمار والخسائر التي خلفتها الهمجيات باسم الحضارة أو التمدد الإمبراطوري؛ إذ هدم ما تبقى من هذا التراث يدخل في معادلة تزوير التاريخ، كقمع ممنهج للحقائق وللهويات في إطار سياسة مسح الدماء ومحو الآثار بعد الجريمة، لا تجد تبريراتها إلا في سلوكات كينونات القوى الكبرى عبر التاريخ، والتي اتخذت من الإرهاب فزاعة تتهجم من خلالها على بناءات وقيم الأمم الإنسانية، باسم محاربة الوثنية وطمس معالم الكفر في خط تكفيري يتوازى في حركيته حركة وتوجهات القوى الكبرى تاريخيا، تحت نير القمع الممنهج للتاريخ وبوسائط وأدوات الرعب الإنساني والتنكيل بما تبقى لجغرافيا الوطن العربي من ذاكرة.

إن التاريخ الرسمي الذي نقرأه لا يسلط الضوء على هذه النقطة أبدا، حيث إن كل ما درسناه عن الصراعات التي دارت بين ممالك العالم القديم كانت صراعات بين قوى الخير وقوى الشر... وهذا طبعا هو خطأ بعينه. فتفاصيل التمعن في ملاحم العوالم الأولى كافية، لأن تكشف لنا عن حقائق ترتبط بذلك القمع المنظم والمنهجي لذلك التراث والصفحة الإنسانية في تلك البلاد المهزومة، حيث ليس هناك أي تساهل أو تسامح بخصوص هذا الأمر. هذه الحقيقة لم تذكر أبدا في التاريخ الذي تلقيناه، أو إذا ذكرت، فستبدو مجرد وقائع متفرقة هنا وهناك دون أي رابط يجمع بينها.

1- تدمير التاريخ وتهديدات التراث في المنطقة العربية

لا تكاد حدّة تهديدات النزاعات التي تشهدها دول عربية عديدة تتزايد بشكل مطّرد، خاصة بعد تنامي المد الجهادي وطول اليد الذي أضحت تتسم به الجماعات المتشددة في المنطقة، خاصة بعد ورود مؤشرات على تغيير الجهاديين لإستراتيجيتهم بإيلائهم الأولوية لضرب التراث الأثري. تهديدات لا تقتصر، وفق دراسة صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، على تهديد الحاضر والمستقبل فحسب، بل هي تتجاوز ذلك إلى العمل على طمس التاريخ والثروات الأثرية وكل مقومات الهوية الحضارية التي اكتسبتها المنطقة على مرّ السنين.

فمنطق التنقيب عن الآثار بغاية تخريبها أو بيعها من طرف الميليشيا المسلحة وعصابات التهريب، خاصة في بؤر الصراعات المسلحة، يدخل في إطار ما يسمى باقتصادات الصراع، وسعي كافة الأطراف للاستحواذ على الموارد والأصول لتمويل عملية الاستمرار في الصراع، أو بغاية ضرب القطاع السياحي في البلدان التي يستهدفونها. وعلى الرغم من اتّباع الدول العربية والمنظمات الدولية إجراءات مشددة لحماية تراثها الأثري والتعامل مع عمليات تهريب الآثار العابرة للحدود، فإن تلك العمليات لا تزال تمثل تهديدا جوهريّا للأمن في المنطقة العربية ولتاريخ المنطقة وتراثها وهويتها عموما.

لا يُمكن اعتبار تهديدات التراث الأثري للدول العربية أحد مستجدات الأوضاع الإقليمية التي صاحبت ثورات ما سمي بـ "الربيع العربي"، حيث إنّ تهديدات التراث الحضاري بالمنطقة ارتبطت بالعديد من المتغيرات التي تتلخص في:

* أولا تزايد التدخلات الخارجية: وهو ما برز مع تصاعد النشاط العابر للحدود لشبكات تهريب الآثار العالمية في المنطقة عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث أشار رئيس المجلس الأعلى للآثار المصرية، مصطفى أمين، إلى أنّ أكثر من 170 ألف قطعة أثرية عراقية تعرّضت للنهب والسرقة والتهريب خلال الحرب الأمريكية التي استهدفت العراق.

* ثانيا اندلاع الثورات العربية: إذ تصاعدت حدّة التهديدات للتراث الحضاري للدول العربية على إثر ثورات ما سمي بـ "الربيع العربي" نتيجة حالة الضعف التي أصابت مؤسّسات الدول، وفقدانها القدرة على ممارسة وظائفها الأساسية، ومن بينها حفظ التراث الحضاري، فخلال الأحداث التي شهدتها العديد من الأقطار التي شهدت احتجاجات تعرّضت المناطق الأثرية والمتاحف لعمليات سطو عشوائي استغلالا لحالة الفراغ الأمني، وتردي الأوضاع الأمنية، بينما تصاعد نشاط بعض المجموعات في التنقيب عن الآثار في محيط المناطق الأثرية، على غرار عمليات التنقيب عن الآثار في محاجر الهرم وبعض المناطق الأثرية في الأقصر وأسوان في مصر، والتنقيب عن الآثار في مأرب باليمن، وفي عدد من المناطق الأثرية في ليبيا.2

* ثالثا تفجّر الصراعات الداخلية: حيث تَمَثَّل التطور الأهم في تهديدات التراث الأثري للدول العربية في تفجر الصراعات الداخلية، وصعود دور الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي أضحت تعتمد على تهريب الآثار كأحد مصادر تمويل أنشطتها وتوسعاتها الإقليمية، فضلا عن اتجاه بعض تلك التنظيمات لتدمير المعالم الأثرية بدعوى مخالفتها للشريعة، اتّباعا لنموذج تنظيم “القاعدة” وحركة "طالبان" في التعامل مع المواقع الأثرية في أفغانستان، حيث قامت الأخيرة بتدمير المعابد الأثرية البوذية في عام 2001،3 وهو ما لا ينفصل عن عمليات الاستهداف الطائفي للمساجد الشيعية والسنية في مناطق الصراعات الأهلية، واستهداف تنظيم "داعش" للمراقد الشيعية والمقامات المقدسة في سوريا وبعض المساجد الأثرية4، فضلا عن تضرر بعض المنشآت والمواقع الأثرية من عمليات القصف الكثيف في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

2- أشكال التهديدات

تتنوع تهديدات التراث الأثري للدول العربية ما بين عمليات تهريب الآثار لدول الجوار، والتنقيب العشوائي، ونهب المتاحف والمناطق الأثرية، والتخريب المتعمد للمواقع المصنفة عالميّا كمواقع تراثية، والقصف العشوائي لبعض المنشآت التاريخية في خضم الصراعات.5وينبئ هذا التحول في إستراتيجية الجماعات المتشددة بأنها أضحت تعتبر ضرب السياحة التراثية في البلدان التي تستهدفها، أولوية في مخططاتها.

وفي الوقت الذي نددت كل المنظمات الدولية بالقرار الذي اتخذته حركة طالبان لتدمير تماثيل بوذا، باعتبارها "مخالفة للإسلام"، بما في ذلك أكبر تمثالين لبوذا في العالم بوسط أفغانستان، وهما يعدان من أشهر كنوز أفغانستان الأثرية المعروفة، صمت العالم ومنظماته الدولية إزاء ما يحدث في العراق وسوريا وغيرها من تدمير متعمد لآثارهم؛ ففي مارس (آذار) عام 2001 قامت حركة طالبان الأفغانية بتدمير تماثيل بوذا في باميان أو كما تعرف باسم "بوذا باميان" باستخدام الديناميت بذريعة مخالفتها للشريعة الإسلامية6؛ وهي نفس الحجة التي تعتمدها كل الحركات الجهادية في العالم لاستهداف الآثار والتراث المادي في المناطق التي تسيطر عليها، فهي الحجة التي نسف بموجبها تمثال أشوري عمره ثلاثة آلاف سنة في محافظة الرقة السورية على يد عناصر من تنظيم "داعش".

تنطلق كل التبريرات الفقهية والشرعية التي تتخذها المجاميع الجهادية لتدمير الآثار والتراث في العالم الإسلامي من فكرة واحدة، وهي "محاربة الشرك وعبادة الأصنام" فكرة تقوم على أمر متخيل غير واقعي وغير منطقي في دول تقوم على أغلبية إسلامية من المستحيل أن تعود إلى "طور الوثنية".7

ولا يمكننا أن ننسى لما دعا بعض عناصر السلفيين والإخوان عبر شاشات التلفاز إلى تحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات وكل التماثيل في مصر بزعم أنها أصنام وأوثان تعبد من دون الله! يتزعمهم في ذلك القيادي الجهادي مرجان مصطفى سالم، صاحب فتوى هدم الأهرامات، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، الذي سبق وأن دعا إلى "تحطيم الأصنام والتماثيل التي تمتلئ بها مصر"، مؤكدًا أن "المسلمين مكلفون بتطبيق تعاليم الشرع الحكيم". ودعا الجوهري لتحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات والتماثيل في مصر، وذلك على غرار ما قامت به حركة طالبان إزاء تمثال بوذا في أفغانستان.وقال الشيخ الجوهري: إنه "يجب تحطيم الأصنام والتماثيل التي تمتلئ بها مصر، والمسلمون مكلفون بتطبيق تعاليم الشرع الحكيم، ومنها إزالة تلك الأصنام كما فعلنا بأفغانستان وحطمنا تماثيل بوذا"، وذلك في لقاء سابق له مع قناة "دريم" المصرية يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012. وأضاف: "ونحن مكلفون بتحطيم الأصنام، وسنحطم تماثيل أبو الهول والأهرامات، لأنها أصنام ووثن تُعبد من دون الله". وأضاف الجوهري: إن "الله عز وجل أمر نبيه (محمد) الكريم بتحطيم الأصنام، وعندما كنت ضمن حركة طالبان قمنا بتحطيم تمثال بوذا، رغم أن الحكومة هناك فشلت في تحطيمه".

وفي المقابل، ورداً عليه، قال نائب رئيس حركة النهضة التونسية الإسلامية الشيخ عبد الفتاح مورو، مخاطبًا الجوهري: "من أنتم حتى تقومون بذلك؟ فهل قام سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه حينما جاء إلى مصر بتحطيم التماثيل؟". وأضاف مورو: إن "النبي حطم التماثيل في عهده، لأنهم كانوا يعبدونها، أما أبو الهول والأهرامات فليس هناك أحد يعبدها، وبالتالي فأنت مخطئ وفكرك خطأ ومخالف للشرع". يشار إلى أن شيخًا سلفيًّا آخر هو الداعية محمد حسان دعا في وقت سابق إلى "طمس وجوه التماثيل وتغطيتها بالشمع".

وتقوم الجماعات المتطرفة في سوريا والعراق وحتى ليبيا حاليا بعمليات تدمير متواصلة للتراث الإنساني، تقف وراءها الكثير من ممارسات السلب والنهب والتجارة غير المشروعة للآثار، والتي يستخدم ريعها لتمويل الإرهاب.وكانت أحدث الجرائم التي شهدتها المعالم الأثرية في المناطق التي احتلها تنظيم "داعش" تدمير التنظيم أجزاء كبيرة من معبد بعل الذي يعود للعصر الروماني في مدينة تدمر وسط سوريا التي تضم أكثر من نصف آثار البلاد. ويعد هذا الحادث هو الثاني من نوعه في غضون شهر واحد في المدينة التاريخية التي تشهد سلسلة أعمال تخريبية، حيث سبق وأن فجر المتطرفون عبوات ناسفة في معبد بعل شمين القديم، في خطوة وصفتها اليونسكو بجريمة حرب استهدفت محو رمز من رموز التراث الثقافي السوري.ولقد أقدم "داعش" على مشاهد متكررة في العراق دمر خلالها مدنا أثرية عدة بأكملها، كمدينتي النمرود والحضر، فضلاً عن تدمير الآثار المحفوظة في متحف الموصل.

من جهتها، لم تسلم ليبيا من بطش أيادي الإرهاب لمحو الذاكرة الإنسانية، حيث سلبت منها العديد من القطع الفنية والأثرية في مدينة طرابلس، ومدينة شحات الأثرية التي تعرضت الآثار اليونانية فيها لعمليات تدمير وتجريف على نطاق واسع.

وتعرض كثير من التراث الثقافي والإنساني، على مدار التاريخ، إلى عمليات إبادة وتدمير، ابتداء من الفايكنغ في أوروبا إلى المغول في بغداد ثم طالبان في أفغانستان وصولاً إلى "داعش"، ولكن تبقى النتيجة واحدة، وهي أن البشرية خسرت جزءاً مهماً من ذاكرتها الحضارية وإرثها الإبداعي.

كذلك لم تسلم "تمبكتو" - المصنفة ضمن التراث العالمي للبشرية من قبل منظمة اليونسكو – من معاول الجهاديين، ففي يونيو (حزيران) 2012 قامت حركة أنصار الدين الجهادية بإضرام النار في مكتبة مخطوطات قديمة في المدينة أثناء فرارهم منها قبل دخول القوات الفرنسية والمالية، ويوجد في تمبوكتو نحو 300.000 مخطوط8 محفوظا البعض منها يعود إلى مابين القرنين 13 و16 للميلاد ألفها علماء من المدينة ومن مدن أخرى، أو تمت مقايضتها في أسواق شمال إفريقيا وبلاد الأندلس والبلدان الواقعة في الشرق، وتشهد هذه المخطوطات على حضارة عريقة تحتوي على دراسات دينية ورياضيات وطب وعلوم فلك وموسيقي وأدب وشعر وهندسة معمارية.

وقد تعرّضت بعض المناطق الأثرية والمتاحف لعمليات نهب متعمدة من جانب بعض التنظيمات المسلحة الإجرامية والإرهابية، فعقب سيطرة تنظيم "داعش" على مدينة تدمر الأثرية في سوريا في 21 مايو (أيار)2015، تمّ إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي باسم "آثار سوريا للبيع"9، وتضمنت الصفحة عرضا لبعض القطع الأثرية من التي تمّ نهبها من المتاحف والمواقع الأثرية في كلّ من حلب ودير الزور والقلمون، وشملت القطع الأثرية التي تمّ نهبها، تماثيل أثرية، ومجوهرات، وأحجارا كريمة، وعملات تاريخية من عصور مختلفة.

الأمر ذاته ينطبق على المناطق الأثرية في مدينة الموصل العراقية التي تعرّضت لعمليات نهب واسعة النطاق من قبل تنظيم “داعش” والميليشيات المسلحة. كما شهدت بعض المواقع الأثرية الليبية عمليات نهب واسعة النطاق منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي وتنامي سطوة الميليشيات المسلحة، مثل جبال أكاكوس الصخرية، ومدينة قورينا الأثرية، ومدينة شحات القريبة من مدينة البيضاء، ومدينة لبدة الكبرى التي توجد بها آثار رومانية تصنفها اليونسكو كأحد مواقع التراث العالمي10. ولم يقتصر الأمر على القطع الأثرية الصغيرة، وإنّما تضمنت عمليات النهب الاستيلاء على تمثال أثري لعمر المختار، وتمثال الحورية والغزالة في العاصمة طرابلس.

ولم يقتصر تهديد التراث الأثري على عمليات النهب فحسب، بل تجاوزه إلى عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار التي لم تنقطع في دول عديدة بالمنطقة العربية، حيث شهدت سوريا تصاعد نشاط التنقيب في محيط المناطق الأثرية في الرقة ودير الزور وإدلب وحلب، واتجهت عصابات التنقيب عن الآثار للاستعانة بخبراء في البحث والتنقيب من بعض دول الجوار مثل تركيا11، واقترنت عمليات تهريب الأسلحة للفصائل المتنازعة بتوريد مجسّات البحث عن المعادن ومعدات التنقيب عن الآثار، خاصّة في ظل تشكيل العديد من الفصائل السورية مجموعات تنقيب منظمة تعمل في محيط المناطق الأثرية.

وفي السياق ذاته، قام تنظيم "داعش" بتأسيس وزارة للآثار عقب سيطرته على مدينة تدمر الأثرية، حيث يفرض التنظيم ضرائب على عمليات التنقيب عن الآثار تتراوح بين 20 بالمئة على الآثار المستخرجة من مدينة حلب10، و50 بالمئة على الآثار المستخرجة من مدينة الرقة السورية، خاصة الآثار التي تعود إلى العصر الإسلامي والمصنوعة من الذهب، بينما رصدت مجلة "نيوزويك" الأمريكية في مارس (آذار)2015، قيام تنظيم "داعش" في ليبيا بالتنقيب بمحاذاة ساحل البحر المتوسط في محيط درنة وسرت، بالقرب من المناطق التاريخية، مثل منطقة "لبتس ماجنا"، على بعد 130 كيلومتر من العاصمة طرابلس.12

ويقترن التهديدان السابقان بتهديد آخر لا يقل وطأة عنهما، يتعلّق بعمليات تهريب الآثار العابرة للحدود من بؤر الصراعات الإقليمية، حيث قام تنظيم "داعش" بالتعاون مع بعض عصابات تهريب الآثار ببيع بعض القطع الأثرية التي تمّ نهبها من متحف حلب ومنطقة جبال القلمون، والجداريات المنحوتة في مدينة النمرود الأثرية في محافظة نينوى العراقية. وتنتشر عمليات بيع الآثار المنهوبة من سوريا والعراق في الأردن؛ حيث تتراوح أسعارها بين 50 دولارا للأوعية الحجرية الأثرية و3000 دولار للتماثيل والألواح الحجرية، و50 ألف دولار لبعض القطع الأثرية النادرة مثل الأسلحة المرصعة بالذهب13، وفي فبراير (شباط) 2013 كشفت السلطات الأمنية الأردنية عن شبكة لتهريب الآثار السورية في مدينة الرمثا المتاخمة لمدينة درعا السورية.14

وكان السفير العراقي في واشنطن في 4 يونيو (حزيران) 2015، قد صرّح بأنّ السلطات الأمريكية تُلاحق تاجرا لبنانيّا يقوم ببيع آثار عراقية في الولايات المتحدة لمصلحة تنظيم "داعش"، لافتا إلى أنّ السلطات العراقية أخطرت قاعات عرض التحف الأثرية بقائمات الآثار التي استولى عليها تنظيم "داعش" لمنع عمليات الاتجار بها15.هذا ويظل التهديد الأشدّ وطأة على التراث الذي تزخر به المنطقة العربية متعلقا بعمليات التخريب المتعمدة التي قام به تنظيم "داعش" في العراق وسوريا عندما عمد إلى هدم وتخريب بعض المواقع الأثرية، على غرار تفجير قلعة أشور التاريخية في شمال مدينة تكريت قبيل نهاية مايو (أيار) 2015، وهو ما يرتبط بقيام التنظيم بتدمير آثار مدينة نمرود التاريخية في العراق، وتفجير الكنيسة الخضراء، ومتحف الموصل، ومرقد النبي يونس، فضلا عن 90 قطعة وتمثالا أثريّا تم تدميرها في العراق.16

وعقب سيطرة التنظيم على مدينة تدمر التاريخية في سوريا، تصاعدت دعوات منظمة اليونسكو لحماية المدينة الأثرية من عمليات التدمير التي يقوم بها "داعش"، وينطبق الأمر نفسه على المواقع الأثرية في بعض المدن الليبية، حيث قامت الجماعات الجهادية بتدمير لوحات وصور فنية أثرية في منطقة أكاكوس الأثرية جنوب ليبيا في مطلع العام الجاري، فضلا عن تعرض مدينة شحات الأثرية الليبية لعمليات تخريب للآثار اليونانية بها، مثل قلعة الأكرابوليس، ومعبد زيوس ورواق هرقل، وغيرها من المواقع الأثرية اليونانية بالمدينة.17

وفي اليمن جدّدت اليونسكو في 4 يونيو (حزيران)2015، دعوتها للأطراف المتصارعة في البلاد لتجنب تدمير الآثار اليمنية مثل سد مأرب الذي تعرض لأضرار بالغة نتيجة القصف المتبادل بين أطراف الصراع، فضلا عن دعوة المنظمة لتجنب إصابة بعض المواقع المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، مثل مدينة صعدة القديمة، ومدينة براقش المحصنة، لا سيما في ظلّ تعرض الثروات الأثرية اليمنية لعمليات تخريب من جانب بعض التنظيمات الإرهابية.18

3- استراتيجيات محدودة للتصدي

أدى تصاعد عمليات تبديد التراث الحضاري في بؤر الصراعات الأهلية بالمنطقة العربية إلى قيام بعض المؤسسات المعنية بالحفاظ على الآثار بإجراءات متعدّدة للتصدي لعمليات تهريب الآثار، على غرار قيام مجلس الأمن الدولي في 12 فبراير (شباط) 2015 بإصدار القرار رقم 2199 الذي يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتجفيف موارد الإرهاب، ومنع تعديات الجماعات المتطرفة على التراث الثقافي للشعوب، خاصة تدمير المواقع الدينية في سوريا والعراق.19

وقد اعتبرت منظمة الأمم المتحدة في 29 مايو (أيار)2015 تدمير مسلحي تنظيم "داعش" للمواقع الأثرية العراقية بمثابة "جريمة حرب"، ودعت المجتمع الدولي للتصدي لتدمير الإرث الثقافي للعراق20، وتضمّن القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تأكيدا على الجهود الدولية لمنع تخريب المواقع الأثرية في بؤر الصراعات في سوريا والعراق، والتصدي لعمليات تهريب الآثار العابرة للحدود.

وعلى الصعيد ذاته، أقر مجلس النواب الأمريكي تشريعا في مطلع مايو (أيار) 2015 ينص على منع عصابات "داعش" من جني أرباح بيع الآثار من المواقع التراثية في سوريا والعراق21، وألزم القرار وزارة الخارجية الأمريكية بتعيين منسّق دولي لحماية الملكية الثقافية لتنسيق الجهود بين الإدارة الأمريكية والوكالات المعنية بحماية الآثار، فضلا عن إعداد قائمات بالقطع الأثرية المهربة من سوريا والعراق، ومنع الاتجار فيها.

وأشارت منظمة استعادة الآثار العالمية في مارس (آذار) 2015 إلى التصدي لعمليات الاتجار بالآثار العراقية في قاعات بيع التحف في لندن22، وشملت الآثار التي تمّ التحفظ عليها قطعا أثرية من الفخار والزجاج تعود للعصر البيزنطي، وتقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدولارات.

وفي سوريا، تولت بعض الجهات عمليات حماية الآثار مثل مديرية المتاحف والآثار السورية التي قامت بجمع القطع الأثرية في مناطق آمنة، وإبلاغ الإنتربول بالقطع الأثرية المفقودة، ممّا أسفر عن التحفظ على 4 آلاف قطعة أثرية23، كما أعدت المؤسسة قائمة حمراء بالمواقع الأثرية السورية المهددة بالمخاطر والقطع الأثرية الموجودة بها، كما تم تكثيف التعاون مع لبنان لمكافحة تهريب الآثار عبر الحدود، مما أثمر عن ضبط 18 لوحة أثرية سورية، و73 قطعة أثرية مهربة كانت معروضة للبيع لدى تجار الآثار في لبنان23. لكن جل هذه الآليات تظل محدودة وغير كافية.

خاتمة:

تُعد الفواعل الجهادية في الفضاء الجغرافي العربي، في حقبة من التشظي وإعادة هندسة الذاكرة ومعالم القيم والثوابت الأرواحية العربية، تهديدا حقيقيا يلعب أدوارا وظيفية في طمس ما تبقى من الهوية الجيوتاريخية للمنطقة، كون التراث له من الأهمية ما يربط الأجيال بأصول الجغرافيا والذاكرة.. فهي توابل الإحياء الحضاري وبناء الخصوصية، والتي من خلالها ترسم الفوارق والحدود الثقافية على أن تكون الميزة "الإنسانية" هي مزايا التراث التي من خلالها يجتمع البشر على تكريس القيم الجوهرية للحضور البشري في التاريخ "الإعمار"، والتي كثيرا ما نسفتها أحكام التنفير والتكفير والتفجير الإرهابية في نسق رعب تاريخي وظيفي، كثيرا ما ساهم في استبدال ذلك التراث في البلاد العربية المهزومة بثقافة المحتل المزورة، قصد تفريخ أجيال من الموالين بشكل أعمى، في صناعة ذكية للشلل التاريخي وتعطيل انتفاضة وهبة هوياتية تنطلق من وحي الذاكرة ومرآتها (التراث الثقافي).

بالتالي، أعتقد أن البعد الزمني الطويل الذي ننظر من خلاله كعرب إلى التاريخ البعيد يعمل عمل الغشاوة القاتمة التي تمنعنا من معرفة الحقيقة. وطمس هاته المعالم الثقافية الإنسانية يشكل جزءا مهما من المؤامرة وسياسة استبدال الثقافة هذه والمألوفة جيدا عند الغزاة، بهدف تزوير التاريخ .. حتى تصبح الشعوب تتخبط في ذبح ممنهج للجغرافيا كتخبط الشاة على يد جزارها.

 

الهوامش:

  1. Zeynep Turhalli, « Le droit au patrimoine culturel face aux révolutions », La Revue des droits de l’homme, janvier 2016, p. 16

2. Donnelly Jack, «Cultural Relativismand Universal Human Rights », in Human Rights Quarterly, Volume 4, 6, 2014, p. 402

  1. Rapport de l’Experte indépendante dans le domaine des droits culturels, Mme Farida SHAHEED, Conseil des droits de l’homme dix-septième session (A/HRC/17/38), 21 mars 2015
  2. BIDAULTMYLÈNE, La Protection des droits culturels en droit international, Bruylant, Bruxelles,2014, p. 434 

5. انظر: وحدة التحولات الداخلية، استنزاف حضاري: كيف تحول التراث الأثري إلى مصدر لتغذية الصراعات العربية، عن موقع: المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية، القاهرة:

http://www.rcssmideast.org/Article/3496/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AB%D8%B1%D9%8A-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B5%D8%AF%D8%B1-%D9%84%D8%AA%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-#.V1HV5tdqOyN

6. Scovazzi Tullio, « La notion de patrimoine culturel de l’humanité dans les instruments internationaux », le patrimoine culturel de l’humanité/Académie de Droit international de La Haye = The Cultural Heritage of Mankind /Hague Academy of international Law, sous la dir. de James A.R. Nafziger, Tullio Scovazzi, MartinusNijhof, Leiden, 2015, p. 33

7. Tenorio de amorim fernando sérgio, « La diversité des cultures et l’unité du marché: les défis de la convention de l’UNESCOsur la protection et la promotion de la diversité des expressionsculturelles. », le patrimoine culturel de l’humanité/Académie de Droit international de La Haye=The Cultural HeritageofMankind /HagueAcademyof international Law,sous la dir. de James A.R. Nafziger, Tullio Scovazzi, Martinus Nijhof, Leiden, 2014, pp. 355-358

8. انظر: معهد العربية للدراسات: من تمبكتو إلى الموصل... الآثار والتراث في مرمى الجهاديين، من موقع:

http://studies.alarabiya.net/hot-issues/%D9%85%D9%86-%D8%AA%D9%85%D8%A8%D9%83%D8%AA%D9%88-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B5%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B1%D9%85%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%8A%D9%86

9. Bidaultmylène, La Protection des droits culturels en droit international, Bruylant, Bruxelles, 2014, pp. 431-517

10. Scovazzitullio, « La notion de patrimoine culturel de l’humanité dans les instruments internationaux », le patrimoine culturel de l’humanité/Académie de Droit international de La Haye = The Cultural Heritage of Mankind /Hague Academy of international Law, sous la dir. de James A.R. Nafziger, Tullio Scovazzi, Martinus Nijhof, Leiden, 2015, p. 33

11. BLAKE Janet« Elaboration d‘un Nouvel Instrument normatif pour la sauvegarde du patrimoine culturel immatériels Éléments de réflexion » (Edition révisée, 2012), publié par l’UNESCO, Paris, 2014, p. 235.

12. Hafstein valdemar t., The making of intangible cultural héritage| Tradition and authenticity, community and humanity, these de doctorat, Université de California, Berkeley, 2004 p.20.

13. Hodder, ian, «Cultural Heritage Rights, From Ownership and Descent to Justice and Well-being», Anthropological Quarterly, Volume 83, n °4, automne 2015 , pp. 862-863

14. Yahaya Ahmad « The Scope and Definitions of Heritage: From Tangible to Intangible », International Journal of eritage Studies,Volume. 12, N° 3, Mai 2014, pp. 292-300

15. Bories Clementine, Le patrimoineculturel en droit international. Les compétences des États à l’égard des éléments du patrimoineculturel, Pedone, Paris, 2014, p. 47

16. Hroch Miroslav, « De l’ethnicité à la nation. Un chemin oublié vers la modernité », Anthropologie et Société, Volume 19-3, 2015, p. 155

17. Choay Françoise, Lallégorie du Patrimoine, Paris Seuil, 2014, édition actualisée en 2015, p. 50

18. Symonides Janusz, «The History of the paradox of cultural right sand the state of the discussion with in UNESCO», in Meyer-Bisch Patrice, Les droits culturels. Une catégorie sous-développée des droits de l’homme, coll. « Interdisciplinaire: droits de l’homme », Fribourg, Éditions universitaires, 2015, pp. 47-72

19. HAFSTEIN, Valdimar. T., « Cultural Heritage », in Companion To Folklore, BENDIX R. F. and G. HASAN-ROKEM (dir.), John Wiley& Sons, ltd, Chichester, 2012, p. 502

20. Dolff-Bonekamper Gabi, « Patrimoine culturel et conflit: le regard de l’Europe » Museum international (française), mai 2015, Volume 62, issue 1-2, pp. 15

21. LANKARANI, Leila, « L’avant-projet de Convention de l’Unesco pour la sauvegarde du patrimoine culturel immatériel: évolution et interrogations », Annuaire français de droit international, 2013, nº48, pp. 624-656

22. KHAZNADAR, Chérif, Le patrimoine, oui, mais quel patrimoine ?, Paris: Actes sud – Maison des cultures du monde (collection « Internationale de l’imaginaire », nº 27), 2012, p. 482

23. BORTOLOTTO, Chiara, « From objects to processes: Unesco's intangible heritage », Journal of museum ethnography, 2007, nº19, pp. 21-33


[1] تشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 27