الندوة الحوارية الثانية حول: الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل


فئة :  حوارات

الندوة الحوارية الثانية حول: الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل

الندوة الحوارية الثانية حول:

الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي

الحاضر والمستقبل

17 يناير 2025

تنسيق وإشراف د. ميادة كيالي

إدارة الحوار: د. حسام الدين درويش

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً لحضوركم مرّة أخرى، لدينا سلسلة ندوات في مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، وهذه الندوة هي الثانية أو الجزء الثاني من الندوة بعنوان: "الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي: الحاضر والمستقبل".

لن أطيل كثيرًا، فهذا الموضوع كما ذكرنا، هو موضوع راهن في كل لحظة، وله خصوصية مميزة واستثنائية، خاصة في ظل الوضع في سوريا، الذي يمر بمرحلة استثنائية جدًّا، بعد مرور 54 عاماً. لكن هذا الوضع الجديد له خصوصياته وتحدياته، حيث برز ما يُسمّى بالإسلام السياسي أو الإسلام الجهادي؛ مما يثير دائماً مخاوف، لا سيما فيما يتعلق بالحريات.

بالطبع، هناك إشكالية في العلاقة بين الإسلام السياسي والديمقراطية عموماً، والتي تصبح أكثر تعقيدًا عندما يتعلق الأمر بالحريات الاجتماعية، وبشكل خاص حرية المرأة، حيث تبرز تحدّيات كبيرة في هذا السياق.

لقد استمعنا إلى بعض وجهات النظر في الندوة الأولى، وسنواصل مناقشتها في هذه الندوة.

جرت العادة بافتتاح الندوات مع الدكتورة ميادة كيالي مديرة "مؤمنون بلا حدود"، التي تشرف على الإعداد والتنسيق والمتابعة لهذه الندوات، لكن نظرًا إلى وجود د. ميّة الرحبي في سوريا حالياً، ورغم الصعوبات التقنية، التي قد تؤثر على الاتصال، سنبدأ بمداخلتها مباشرة.

د. ميّة الرحبي طبيبة، وكاتبة، وباحثة، وناشطة سياسية ونسوية، وهي مديرة مركز مساواة مركز لدراسات المرأة، وخبيرة في النوع الاجتماعي، وفي قضايا العنف القائم على الجندر، إضافة إلى قضايا المرأة والسلام والأمن. كما أنها عضوة في مجموعة مناصرة الجندر لمناهضة العنف ضد النساء، ولها نشاطات عديدة في هذا المجال.

والخصوصية هنا، أنها موجودة في دمشق حالياً، ورغم ذلك حرصت بحماس على المشاركة في هذه الندوة، ونحن جميعاً متحمسون للاستماع إليها، قبل أن يطرأ أيّ انقطاع في الاتصال.

د. ميّة الرحبي:

أوّلًا شكرًا جزيلًا على التقديم، ومساء الخير للجميع، وأنا سعيدة جدًّا؛ لأنني أتحدث من دمشق بعد تهجير قسري امتدّ لعشر سنوات؛ سعادتي لا توصف لرؤية دمشق ورؤية سوريا، ولقاء الأصدقاء القدامى. يصعب وصف الحراك الشعبي في سوريا اليوم بعد أقل من شهر على سقوط النظام البائد، الشارع يغلي غلياناً؛ الفرحة على وجوه الناس، رغم كلّ التوجس والقلق والتحفظات بشأن المستقبل، ولكن ثمة سعادة لا توصف حقيقة بانزياح هذا الكابوس الذي جثم على صدورنا منذ أن وعيت على هذه الدنيا، فأنا لا أتذكر سوى طفولتي خالية من حكم عائلة الأسد؛ هذا النظام الاستبدادي الذي كان يدّعي العلمانية، ولكنه فعليًّا كان مستهترًا، ليس فقط بحقوق النساء، بل بحق أفراد الشعب كافّة، فقد انتهكت حقوق المواطنين خلال حكم الأسد الأب، والأسد الابن، وخاصة بعد قيام الثورة السورية وما تلاها من نزاعات مسلحة، حيث ازداد العنف خلالها ضد النساء بشكل غير معقول، وازدادت انتهاكات حقوق المواطنين، نساءً ورجالا.

ولكن كانت ثمة خصوصية حقيقية في وضع النساء تحديدًا، حيث ظهرت مشكلة لم تكن موجودة سابقاً، وهي اختلاف تقسيم العمل الاجتماعي، الذي كان شائعاً مجتمعياً، وكان فيه الرجل هو المعيل الأساسي للأسرة؛ إذ اختفى الرجل في الكثير من الحالات موتاً أو اعتقالاً أو تغييباً قسرياً، وكانت المرأة غير مهيأة لإعالة الأسرة، فاضطرت إلى العمل خارج المنزل، وقبلت بشروط عمل مجحفة. وكان هنالك الكثير من النساء اللائي اضطررن إلى تربية ليس أبنائهن فقط، وإنما أحفادهن أيضاً.

حقيقة لا يمكن لي وصف عظمة النساء السوريات اللواتي استطعن في المخيمات، رغم كل الظروف البائسة، الحفاظ على أسرهنّ وإعالة أطفالهن وأحفادهن. وهنا لابد لي من القول إننا لا نحبّ أن نوصف كضحايا كما يحدث الآن، فقد كنا شريكات في النضال ضد هذا النظام المجرم، وقد شاركنا مشاركة فاعلة في معارضته، وفي النضال ضده، ودفعنا أثماناً غالية من اعتقال ونزوح وتهجير وطرد من الوظائف، وتعرضنا لكلّ أشكال القمع الذي تعرض له أفراد الشعب السوري.

الآن، ما رؤيتنا للمستقبل؟ وما الذي نراه حالياً؟

أنا آسفة؛ لأنني لم أحضّر مداخلة مكتوبة بسبب عودتي المفاجئة إلى سوريا بُعيد سقوط النظام، وانخراطي في الحراك اليومي، ففي العادة أحضّر مداخلة مكتوبة، ولكن أتصور أنني أستطيع الحديث، أو يهمكم جميعاً معرفة ما الذي يحدث اليوم على الساحة السورية؟ وما هي التوقعات والتوجس والقلق من المستقبل؟ حالياً، نحن، كحركة نسوية لدينا بالطبع خوفٌ من أن يستلم الإسلام السياسي الحكم؛ الإسلام السياسي تحديدًا، وأنا لا أتحدث عن الإسلام كدين، عندي كتاب عنوانه "الإسلام والمرأة" أتحدث فيه عن موقف الإسلام كدين من المرأة كسياق تاريخي، سواء في العهد الأول للرسالة، أو في عهد الخلفاء الراشدين، أو ما تلاه من عهود. أنا أتحدث هنا عن الإسلام السياسي، حيث تعدّ المرأة مواطنة من الدرجة الثانية؛ فتقسيم العمل في المجتمع واضح: الرجل هو الذي يشارك في النشاط العام، بينما المرأة مهمتها الأساسية هي العمل داخل المنزل ورعاية الزوج والأطفال. فعمليًّا ليس من وظيفة المرأة المشاركة في المجال العام، سواء كان مجالاً سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو مجتمعيًّا.

ولحماية حقوق النساء في الدولة الحديثة، لابد أن يحكم البلد دستور وقوانين تستند إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي يشمل كما نعلم جميعاً شرعة حقوق الإنسان؛ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، واتفاقية سيداو، واتفاقية حقوق الطفل. هذه المواثيق الدولية، للأسف، غير معترف بها من قبل الإسلام السياسي، وهنا تحدث الفجوة بين مطالبنا كنسويات، والإسلام السياسي.

نحن نطالب بدستور يراعي النوع الاجتماعي، ويؤسَس على المواطنة المتساوية، ونحن نعلم أن الدستور السوري الأخير الصادر في 2012، يقول في مادته 33، إن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الجنس، أو العرق أو الدين ...و...و...إلخ. (وهذه أول مرة تذكر المساواة بغض النظر عن الجنس والتي كانت غائبة في الدساتير السورية السابقة)، لكن تأتي المادة الثالثة من الدستور في الفقرة الرابعة، لتقول إن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية، وهذا يؤدي إلى وجود مجموعة من قوانين الأحوال الشخصية التي تحكم حيوات النساء، سواء القانون العام الذي يحكم النساء المسلمات من كل الطوائف، أو ستة قوانين أخرى تحكم الطوائف المسيحية والطائفة الموسوية. في هذه القوانين للأسف، ثمة تمييزٌ واضحٌ ضد النساء؛ ففي دراسة أنجزناها سابقاً يوجد في قانون الأحول الشخصية العام حوالي مئة مادة مميزة ضد النساء.

ما ندعو إليه نحن هو أسرة يتشارك فيها الرجل والمرأة الحقوق والواجبات ضمن الأسرة، ويتشاركان في تربية الأطفال، حيث تكون مصلحة الأطفال الفضلى أساسية في العلاقات التي تسود داخل الأسرة. في قانون الأحوال الشخصية عندنا، لا يوجد أيّ ذكر لمصلحة الأطفال؛ هناك مادة تتحدث عن سلطة التأديب، ولكن لا ذكر لحقوق الأطفال. طبعاً، موضوعات القوامة، والولاية والوصاية والإرث وغيرها توضح غُبن النساء والأطفال في القانون، بل إن الرجل نفسه يواجه تمييزاً ضده؛ لأنه إذا لم ينفق لثلاثة أشهر، يحق للمرأة طلب الطلاق؛ فهناك تمييز حتى ضد الرجل، عدا التمييز ضد النساء وإهمال حقوق الأطفال.

في بقية القوانين أيضاً، توجد مواد تمييزية كثيرة أضرّت بمصالح النساء، ونحن نتحدث عن دستور وقوانين في نظام كان يطلق على نفسه اسم نظام علماني؛ فعدم منح المرأة الجنسية لأطفالها، أدى إلى كوارث حقيقية في الوضع الذي عاشه السوريون والسوريات؛ لأن هنالك الكثير من الرجال الذين اختفوا، وهنالك الكثير من الزيجات اللاتي لم تسجل؛ وفي إحصائية لإحدى المنظمات الدولية، يتضح أن فقط ربع الأطفال السوريين ممن تجاوزوا الأربعة عشر عاماً، والمتواجدين في الدول المجاورة، يملكون هويات سورية، وثلاثة أرباع الأطفال لا يملكون أي ورقة تثبت وجودهم القانوني، والسبب الرئيس لذلك هو عدم قدرة الأم السورية منح جنسيتها لأطفالها. إذن، لدينا تمييز في قانون الجنسية، وعندنا تمييز ضد النساء أيضاً في بعض مواد قوانين العقوبات والعمل، وقانون التأمينات الاجتماعية، وقانون العلاقات الزراعية.

لقد قلت إن هذا الوضع كان موجودًا في نظام يصف نفسه بأنه نظام علمانيّ، فكيف سيكون الوضع إذا كان النظام القادم نظاماً يتبنى فكر الإسلام السياسي. نحن سنحاول، فقد اتخذنا قرارًا بمحاورة السلطة الموجودة حالياً في سوريا، أو من تسلم الحكم في سوريا. لقد قررنا أن نحاور، أن نضغط، أن نطالب بحقوقنا، وأن نطالب بالمشاركة في كل الخطوات القادمة لبناء دولة تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية والمساواة الجندرية، تضمن حقوق وحريات جميع مواطنيها، نساءً ورجالاً.

وشكرًا جزيلاً.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا... بالطبع، حديثك من داخل سوريا له دلالة كبيرة. أن تعودي إلى سوريا، وأن تتمكني من التعبير عن رأيك والاختلاف مع السلطة الحاكمة، فهذا في حد ذاته يحمل دلالة أعمق مما يمكن قوله. شكرًا جزيلاً لك على المشاركة، رغم الصعوبات الشديدة.

أنتقل فورًا إلى د. ميادة كيالي، التي قدّمت مداخلة في الندوة الأولى حول مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، ودورها ورؤيتها. أما اليوم، فهي تقدم مداخلة ثانية تتعلق بجوهر موضوع هذه الندوة.

د. ميادة كاتبة وباحثة سورية، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة، وهي مديرة مؤسسة "سراج" للأبحاث والدراسات في هيئة أبو ظبي للإعلام، والمديرة العامة لمؤسسة "مؤمنون بلاحدود" في بيروت والشارقة. لها العديد من الكتب والأبحاث، الإبداعية منها وأكاديمية.

د. ميادة كيالي:

أرحّب بالسيدات والسادة المشاركين في هذه الندوة الثانية التي تحمل عنوان "الإسلام السياسي وقضايا المرأة في سوريا والعالم العربي: الحاضر والمستقبل"، بمداخلة عنوانها: "اللغة كنافذة على أدوار المرأة المتجددة".

يشرفني أن أكون معكم اليوم لاستكمال ما بدأناه في ندوتنا السابقة، مداخلتي ستكون من زاوية قد تبدو هامشية للوهلة الأولى، لكنها تتعلق بجوهر موضوعنا عن المرأة، حيث سأتحدث عن: "اللغة كأداة لفهم حضور المرأة وتطور أدوارها في مجتمعاتنا المتغيرة".

من اللغة إلى المرأة: لحظة تأمل

في الندوة السابقة، لفتني تعليق طريف من الدكتور حسام الدين درويش، خلال تقديمه لي، حيث قرّر استخدام لقب "مديرة" للتعريف بي، رغم أنه حريصٌ جدًّا على أن لا يخرج عن قواعد اللغة التي لم يشتق منها وزن فعيلة كما هو الحال في وزن "فعيل" متجاوزًا ما لا تقبله اللغة التقليدية. كان هذا التعليق بمنزلة نافذة للتأمل في "كيفية انعكاس اللغة على أدوار المرأة، ومدى قدرتها على مواكبة التغيرات التي تشهدها مكانة النساء اليوم. ربما يمكن تفهّم أن اللغة التقليدية لم تكن تحوي صيغاً مؤنثة لبعض الألقاب المهنية بحجّة أن المرأة، في السابق، لم تكن تعمل في تلك المهن، فلم تكن مديرة ولا "حاكمة" ولا "ضابطة" شرطة ولا "قبطانة" سفينة ولا "كابتنة" طائرة، ولكن اليوم، بعدما شغلت المرأة كل هذه المناصب وأكثر، ما الحجة التي تبقينا متمسكين باستخدام صيغ المذكر للإشارة إليها في أدوارها القيادية؟

يجعلنا هذا الواقع نتساءل عن مدى مرونة لغتنا في التكيف مع الحاضر، حيث أصبحت المرأة شريكاً أساسيًّا في بناء المجتمعات وصناعة القرارات. وإذا كانت اللغة تُستخدم لتكريس أدوار محددة في الماضي، فإنها اليوم مدعوة لأن تكون أداة تعبير تعكس تطور دور المرأة وتنوعه، بما يدعم مبدأ العدالة والمساواة في التعامل معها.

في اليوم التالي بعد الندوة، نشرت بوست على فيس بوك، تناولت فيه استعمال نون النسوة في اللهجة الشامية لمخاطبة الجموع المختلطة من ذكور وإناث، مثال "كيفكن، اشتقنا لكن، أهلا بكن"، فجاءتني ملاحظة من أحد الأصدقاء، حول اقتراحي المازح في تعميم هذا الاستخدام الشامي، ليحلّ محلّ التعميم السابق باستخدام جمع المذكر السالم، بشكل أوسع في خطابنا، وأنهيت خطابي حينها بـ "ما رأيكن؟"

قال الصديق؟ كلّ المودة والاحترام "لشخصك الرائع" سيدتي، ووضع شخصك الرائع بين ظفرين، وأكمل إذا تكرّمتِ، كيف نؤنث التعبير الذي بين قوسين؟

هذه النقاشات الصغيرة، وإن بدت لغوية، وغير جدّية ربما، لكنها تفتح باب النقاش حول استخدامات اللغة ومدى ارتباطها بالذكورية المتجذرة في بعض مصطلحاتها، وتسلط الضوء على مسألة أكبر، وسؤال أهم وهو: "كيف نرى المرأة؟ وكيف تعكس لغتنا تلك الرؤية؟"

المرأة: من موضوع إلى ذات فاعلة

ما أريد أن أطرحه هنا ليس دعوة لتغيير اللغة أو تبني مصطلحات جديدة، رغم مشروعية هذه الدعوة في نظري، بل دعوة لفهم أعمق لحضور المرأة كـ "ذات فاعلة".

المرأة ليست مجرد "موضوع" للنقاش أو "فئة" تحتاج إلى حماية، بل هي شريكة في بناء المجتمعات وصناعة القرارات. ومع ذلك، ما زال الخطاب السائد في الكثير من الأحيان يعامل المرأة على أنها استثناء أو إضافة ثانوية.

حين ننظر إلى اللغة المستخدمة تجاه المرأة، نجد أنها تعكس غالباً نظرة تقليدية تضعها في إطار أدوار محددة سلفاً، سواء كانت تلك الأدوار أُسرية أو اجتماعية. لكن الحقيقة أن المرأة اليوم تؤدّي أدوارًا متنوعة، من القيادة إلى الفكر والإبداع، ومن العمل السياسي إلى الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية.

ضرورة تغيير نوع الخطاب إذا أردنا أن نكون منصفين في نظرتنا إلى المرأة، فعلينا أن ندرك أن "تطور أدوارها يستدعي تطورًا في الخطاب الموجه لها". الخطاب هنا لا يعني فقط الكلمات التي نستخدمها، بل الطريقة التي نتعامل بها مع قضاياها، وكيف نرى مشاركتها، وكيف نقدر مساهماتها:

1- بدلاً من الحديث عن المرأة، بوصفها "ضحية" تحتاج إلى المساعدة، علينا أن نتحدث عنها كـ"شريك" في إيجاد الحلول.

2- بدلاً من حصر النقاش في قضايا حقوق المرأة التقليدية، علينا أن ننظر إلى المرأة كجزء من النسيج المجتمعي العام، الذي يتأثر بكل القضايا، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة.

3 - بدلاً من استخدام لغة تعبر عن "التفضّل" بالاعتراف بدورها، علينا أن نطور لغة تعترف بتنوعها وديناميكيتها كجزء أساسي من حركة المجتمع.

يقول الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور": "اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي بناء للواقع". إذن، إن أردنا تغيير واقع المرأة، فعلينا أن نعيد بناء اللغة التي نصفها بها.

وتشير الكاتبة العربية "فاطمة المرنيسي" في كتابها "ما وراء الحجاب" "إلى أنَّ الخطاب الموجه للمرأة هو في كثير من الأحيان جزء من منظومة الهيمنة الثقافية التي تحاول تقييد دورها في المجتمع".

في ختام إثارتي لهذا النقاش حول اللغة، لا أقصد تسليط الضوء على قضية لغوية بحتة، بل أفتح نافذة لفهم تطور أدوار المرأة وتنوعها، وحاجة اللغة لمواكبة هذا التطور.

سوريا والعالم العربي اليوم بحاجة إلى خطاب جديد يتجاوز الخطابات التقليدية التي ترى المرأة موضوعاً للنقاش، وليعترف بها ذاتاً فاعلة ومؤثرة.

هذا الخطاب ليس فقط ضرورة لتحقيق العدالة والمساواة، بل هو أيضاً شرط أساسي لإعادة بناء مجتمعاتنا على أسس أكثر إنسانية وشمولية. دعونا نستخدم لغتنا كأداة لبناء هذا الفهم الجديد، لا كوسيلة لتكريس النظرة القديمة.

شكرًا لكم، وأتطلع إلى نقاش ثريٍّ اليوم، وأترك الكلمة للعزيز الدكتور حسام.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك، وسنعود لتناول هذه المسألة، ومناقشة ما إذا كانت شكلية أو شكلانية، أم إنها تعبر عما هو عميق وسائد في المجتمع.

ننتقل الآن إلى د. ناجية الوريمي من تونس، أستاذة التعليم العالي بجامعة تونس المنار، والمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، متخصصة في الحضارة العربية الإسلامية. تهتم بقراءة التراث وإشكاليات التحديث، وهي عضوة في العديد من المؤسسات العلمية والأكاديمية الراقية، مثل المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، إلى جانب مؤسسات أخرى، صدر لها العديد من الكتب، وسأكتفي بذكر اثنين منها:

- إسلام مهمّش تونس 1900- 2024،

- زعامة المرأة في الإسلام المبكر بين الخطاب العام والخطاب الشعبي، 2016، وأظن أنه يتقاطع مع مشاغل هذه الندوة.

د. ناجية الوريمي:

أودّ بدءًا أن أتوجّه بالشكر إلى القائمين على مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" لإتاحتهم فرصة التحاور في هذا اللقاء حول المستجدّ من التحدّيات التي تواجه الإنسان العربي عامّة، والمرأة العربيّة خاصّة، لا سيّما أنّ الوجه الثقافيّ لهذه التحدّيات يقتضي إثارة مستمرّة للقضايا العالقة وربطاً جدليًّا بالتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة المتسارعة والمربكة، ولا سيّما أيضاً أنّ الفكر العربي اليوم مُطالبٌ بتجديد رؤاه وتحيين نقده وبدائله، حتّى يكون أكثر قدرة على الريادة وعلى إحداث الأثر الإيجابي في الواقع.

موضوع لقائنا اليوم مُركَّز في أحد المخاطر التي تهدّد حظّ المرأة العربيّة من قيمة المساواة والكرامة الإنسانيّة، جرّاءَ ما يعتزم الإسلام السياسي فرضَه من أشكال انتظام اجتماعية وسياسيّة تكون فيها المرأة ضحيّةَ وصم طالما تمّ تبريره بالالتزام برصيد فقهيّ متوارَث عُدَّ مساوياً في قيمته الاعتباريّة والتشريعيّة للنصّ المنزّل.

سأتحدّث في مداخلتي السريعة هذه، في نقطتين:

- تهمّ الأولى أوضاع المرأة في الحاضر العربي وخطر الإسلام السياسي الذي يوظّف التراث الديني في تكريسه لدونيّة المرأة.

- وتهمّ الثانية مستقبل أوضاع المرأة في إطار الشروط اللازمة للتحديث العربي، ولتحديث وضعيّة المرأة خصوصاً.

1. أوضاع المرأة في الحاضر العربي وخطر الإسلام السياسي الذي وظّف التراث الديني في تكريسه لدونيّة المرأة

لا يزال غياب المرأة العربيّة عن الأدوار القياديّة في المجتمع بارزًا، ولا يزال وضعها الاجتماعيّ ملتبساً بمعايير جنسويّة تراعي أنثويّتها أكثر ممّا تراعي إنسانيّتها. وهذا عائد في جزء مهمّ منه إلى الثقافة الموروثة التي أنتجها عقل فقهيّ ذكوريّ، لم يكن قادرًا على تمثّل ذات المرأة بعيدًا عن مفهوم العورة. فلم يكن يرى فيها من قيمة إنسانيّة إلاّ قيمة الأنثويّة ومتعلّقاتها. يُضاف إلى ذلك، أنّ الوعي العربيّ بهذا الغياب الصارخ عن مراكز الفعل والقرار، وبهذه الدونيّة الاجتماعيّة، لا يزال ضعيفاً؛ فهما غير معتبريْن ضمن أولويّات الإصلاح وتوفير شروط التقدّم الناجع والعادل للمجتمع، بل هما مُدرَجان ضمن المشاكل الثانويّة والبسيطة التي تنتمي معالجتها إلى مواضيع الترف الفكريّ، غير الواجبة وغير العاجلة. إنّ هذا الوعي الضعيف ليس وليد العصر الراهن فقط، بل له جذورٌ تمتدّ إلى الماضي، وتمتح من تصوّر العقل الفقهيّ للمرأة، وممّا نجحت منتجات هذا العقل في تكريسه في الواقع. ولذلك، فإنّ نقد هذا العقل ليست الغاية منه مجرّد الكشف عمّا كان في الماضي، بل الغاية هي الكشف عن المؤثّرات العميقة التي ساهمت في تشكيل الوعي العربي اليوم.

إنّ الفكر والواقع العربيّيْن الإسلاميّيْن يرزحان تحت سلطة ماض لم ينقضِ، وحاضر مزروع بالعقبات. وهذه هي البيئة التي تستفيد منها التيارات المتطرّفة دينيًّا، تلك التي توظّف الماضي ورمزيّته في الضمير الجمعيّ، وتستثمر تراثاً منفلتاً من النقد والمراجعة، تراثاً مداره مفاهيم ومسلّمات تكرّس التمييز التفاضلي بين مكوّنات المجتمع العرقيّة أو العقديّة أو الجندريّة. فهذه التيّارات لا تزال تستعمل في خطاباتها مصطلحات من قبيل: "عوْرة" (بالنسبة إلى المرأة)، و"ذمّيّ" (بالنسبة إلى غير المسلم)، و"بدعة أو كفر" (بالنسبة إلى من يخالفها في ما تعتبره ثوابت)..

وعندما نركّز النظر في التراث الفقهي الخاصّ بالمرأة - وهي موضوع لقائنا اليوم - نلاحظ حضور مفهوم العورة بما يصحبه من معاني النقص "العقليّ" و"البدني". ورغم أنّ هذا التراث صيغ في ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافيّة مختلفة جوهريًّا عن ظروف مجتمعنا اليوم، فإنّ التيارات الدينيّة المتطرّفة تتشبّث به وتريد أن تطبّقه في الواقع، وهي لا ترى ضيْرًا في أن تُسقِط المكاسب التي حقّقتها المرأة بفضل ما أصبحت تتمتّع به من قدرات ومؤهّلات اكتسبتها من انخراطها في مسارات التعليم والثقافة؛ ولا ترى ضيْرًا أيضا في أن تبعث من جديد أحكام الدونيّة والثانويّة التي ألصقت بالمرأة في العصور القديمة.

إنّ نظرة سريعة إلى كيفيّة حضور كتب التراث الفقهي الخاصّة بالمرأة، في الثقافة المعاصرة، تُفهمنا إلى حدّ بعيد عاملاً مهمًّا من عوامل التجاوب الاجتماعي الذي تجده تصوّراتُ التيّارات المتطرّفة حول المرأة. ونريد أن نشرح هذه الكيفيّة من خلال ما تختاره دور النشر مثلا من طرائق تقديم هذه الكتب للقارئ العربي: تتمثّل هذه الكيفيّة في توجيه فهم القارئ نحو اعتبار محتوى هذه الكتب حقيقةً دينيّةً من الواجب العمل بها اليوم. فبعض المقدّمات تشيد بدور هذه الكتب في "النهضة الثقافيّة التي تعمّ بلاد العرب، مشرقاً ومغرباً"[1]. وجاء في مقدّمة كتاب آخر وعلى لسان المحقّق -تصديقًا لما تضمنه الكتاب من تقييد لنشاط المرأة- أنّ خروج المرأة تصاحبه مشاكل الغواية من كلّ نوع، وأن الواجب العملُ بحديث: "المرأة عورةٌ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان"[2]، وأنّ سفر المرأة بدون محرم، سواء بالسيارة أو الطائرة أو غيرهما... حرام...لأنّ الخطر حاصل حتّى لو ركبت الطائرة"، وأنّه فعلٌ "منكر"[3]. واعتبر محقّق كتاب آخر، أنّ هذا الكتاب "نافع جدًّا في بابه، احتوى على أهمّ ما يجب على المرأة معرفته من الأحكام الشرعيّة مدعّماً بالأدلّة النقليّة"[4]. ومن هذا المحتوى الذي يشيد به المحقّق، نذكر: "أُخِذ على النساء ما أُخِذ على الحيّات، أن يتحجّرن في بيوتهنّ"، و"خروج النساء مباح، لكن إذا خيفت الفتنة بهنّ أو منهنّ فالامتناع من الخروج أفضل"[5]، ومن هذا المحتوى أيضا: "النساء عورة، فاحبسوهنّ في البيوت"[6]. وتتوالى الأحكام المُهِينة لكرامة المرأة اليوم، والماسّة بذاتها الإنسانيّة، إلى درجة المماهاة بينها -في علاقتها بزوجها- بالعبد المملوك في علاقته بسيّده: "وينبغي للمرأة أن تعرف أنّها كالمملوك للزوج، فلا تتصرّف في نفسها ولا في ماله إلّا بإذنه، وتقدّم حقّه على حقّ نفسها... وينبغي للمرأة أن تصبر على أذى الزوج كما يصبر المملوك"[7].

إنّ هذه النماذج من الخطابات الفقهيّة التي تهيمن على جانب مهمّ من الوعي الدينيّ السائد -رغم كلّ محاولات التجديد ومحاربة أشكال التمييز ضدّ المرأة- تمثّل البيئة الثقافيّة الصالحة للاستثمار بالنسبة إلى التيّارات الدينيّة المتطرّفة، التي تستفيد من الإشادة "التلقائيّة" بمثل هذه الكتب الفقهيّة الخاصّة بالمرأة. لكن الجدير بالتنبيه أنّه تستفيد أيضاً من تغييب خطابات أخرى تختلف كثيرًا عن هذا الصنف من الخطابات الفقهيّة -ونقصد الخطاب الصوفي والخطاب الفلسفي- ولم تحظ بإعادة إنتاج مماثلة. ونكتفي في هذا السياق، بنموذج من الخطاب الفلسفي مستقى من تصوّر ابن رشد الفيلسوف للمرأة ولدورها في المجتمع والدولة: يقوم هذا النموذج على تفسير المنزلة المتدنّية للمرأة في المجتمع بالنظم الاجتماعيّة السائدة، وبعدم تلقّي المرأة تنشئة مساوية لتلك التي يتلقّاها الرجل، يقول ابن رشد: "وإنّما زالت كفاية (كفاءة) النساء في هذه المدن (مدن الأندلس)؛ لأنّهنّ اتُّخِذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهنّ، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلًا لأفعالهنّ (الأخرى)". المسألة إذن، هي أنّ النساء "لم يكنّ في هذه المدن مهيّآت على نحو من الفضائل الإنسانيّة"[8]. وإذا ما تلقّت المرأة تربية مماثلة لتلك التي يتلقّاها الرجل -حسب ابن رشد- فإنّه: "يصحّ أن تقوم النساء في المدينة بأعمال هي من جنس الأعمال التي يقوم بها الرجال، أو بعينها، فيكون من بينهنّ محاربات وفيلسوفات وحاكمات وغير هذا"[9]. هكذا - وفي مقابل سجلّ النقص العقليّ الذي حضر في خطاب الفقهاء حول النساء بما هنّ "ناقصات عقل ودين"- يحضر سجلّ كمالهنّ الذهنيّ في خطاب ابن رشد: "الذكاء، وحسن الاستعداد، والحكمة، والرئاسة"[10]. وبين الواقع والمأمول، أو بين الكائن وما يجب أن يكون، يقدّم ابن رشد تصوّره للمجتمع البديل: إنّه مجتمع يسوّي بين رجاله ونسائه على أساس الاستعدادات المتكافئة، والتنشئة الموحّدة، يقول: "وإذ قد تبيّن أنّ النساء يجب أن يشاركن الرجال في الحرب وغيرها، فقد ينبغي أن نطلب في اختيارهنّ الطبع نفسه الذي طلبناه في الرجال، فيُربّين معهم على الموسيقى والرياضة"[11]، لكنّ هذا الخطاب - ولأنّه مخالف للتصوّر الفقهيّ السائد - ظلّ مهمّشاً ولم ينل قديماً ولا حديثاً، العناية بتقريبه إلى فهم القارئ إلّا لماماً. وهكذا تكون الثقافة الدينيّة التقليديّة وخاصّة الفقهيّة منها -وبسبب انتشارها الواسع- حاضنةً للفكر الديني المتطرّف، ومبرّرًا متعالياً له.

وتكمن خطورة التطرّف في كونه يتسبّب في انعدام التوازن المادّي والمعنوي في الإنسان وفي المجتمع وفي الدولة. وبسيطرته على أذهان شرائح اجتماعيّة معيّنة - خاصّة منها الشباب - يدفعها إلى العيش في وهم استعادة ماض نموذجيّ متخيّل تتصوّره بديلاً لما تعيشه من أزمات في حاضرها. وعوض أن تعالج إشكالات استحداث الجديد المفيد لها، تعالج إشكالات استعادة سلوكيّات وعلاقات بائدة، بما فيها استعادة مفهوم العوْرة في تحديد موقع المرأة الاجتماعي والسياسي وغيره... ويُعدّ هذا الجانب سبباً من أسباب الفشل العربي في إرساء منظومة الحداثة بما تعنيه من قيم المساواة والعدل بين كافّة مكوّنات المجتمع العرقيّة والعقديّة والجندريّة، وفي تحرير العقل الإسلامي من آليّات التفكير القرَوسطيّة، وفي بلورة هويّة متوازنة بين الاعتداد بـ"الذات" والانفتاح على "الآخر".

2- مستقبل أوضاع المرأة: أو في شروط التحديث العربي، وتحديث وضعيّة المرأة خصوصاً

يعنيني مفهوم "التحديث" في هذا السياق بما هو منظومة قيم تراعي إنسانيّة الإنسان مادّيًّا ومعنويًّا. فروح الحداثة هي روح الانعتاق والتحرّر القادرة على إطلاق قوى الإبداع والإضافة في مختلف المجالات. وقد اعتبر بعض المفكّرين أنّ الحداثةَ كسرٌ لكلّ روابط الاستبداد: استبداد السائس، استبداد رجل الدين، استبداد القيم التقليديّة، استبداد أنماط الإنتاج الأدبي، الاستبداد الذكوريّ، وغير ذلك... والمرأة العربية هي التي تحمّلت - ولا تزال - أكثر من غيرها تبعات الاستبداد والفشل في إرساء قيم المساواة والكرامة الإنسانيّة. فبسبب استمرار منظومة القيم التفاضليّة التقليديّة وهيمنة ثقافة الجمود، قبعت المرأة في وضع التبعيّة والدونيّة، وظلّت خارج دائرة الأطراف الفاعلة التي يعرّفها عالم الاجتماع بورديو Pierre Bourdieu بكونها "مجموع الفواعل الذين يشغلون عمليًّا مواقع التحكّم في كلّ مجال"[12]. لذلك، فهي معنية جدّيًّا بضرورة المساهمة في تفكيك العوامل التي تقف في وجه تحقيقها الكامل لإنسانيتها. والمسألة بالنسبة إليها تتجاوز الحلول المجزوءة والظرفيّة إلى ضرورة تأسيس أنساق فكرية نقديّة يكون فيها للقيمة الإنسانية الشاملة للجميع مركزُ الثقل.

ولا يمكن تأسيس أنساق جديدة دون المرور بعمليّة نقد التراث وتشريحه للتخلّص من مكوّناته اللاتاريخيّة، ولتطوير مكوّناته الباعثة على الحياة والتطوّر. لكنّ هذه العمليّة، وفي ظلّ أزمة الهويّة التي شعر بها المجتمع إزاء التهديد الغربيّ (الاستعمار المباشر سابقا والعولمة اليوم) غابت، وفي أحسن الحالات، جاءت ضعيفة وجزئيّة، وظلّت إلى اليوم مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى. واقتصرت العودة إلى التراث - أو كادت - على التوظيف الإيديولوجي في اتّجاهات مختلفة، ولم تنجح في جعل الوعي الجمعيّ يتحرّر من سلطة الماضي ويتمثّله تمثّلاً منفتحاً على الإمكانات المستقبليّة. وليس المقصود بالتحرّر القطع مع الماضي، بل المقصود امتلاكه امتلاكاً نقديًّا، وإعادة إدماجه في التحديث المنشود بوعي وبإرادة، بعد تجريده من كلّ المكوّنات المنافية لشروط التقدّم. وبما أنّ هذا لم يتمّ - على الأقلّ على الوجه الأكمل - فإنّ التراث سيظلّ المرجعيّة الثابتة للتيارات المتطرّفة التي لا تني تطالعنا بأشكال في التفكير ناشزة عن قيم العصر، وبنماذج مجتمعيّة تسلّطيّة.

لا بدّ إذن من نقد التراث. وضعف هذا النقد، هو الذي يفسر الانتكاسات المتكرّرة في مسار التحديث؛ إذ لا يمكن أن نبني "جديدًا" على قديم ينشز عنه، ولا يمكن أن نصوغ مفاهيم جديدة قادرة على نقل الوعي بالوجود العربي والإسلامي من أرضيته الكلاسيكية البائدة، إلى آفاق منفتحة على ثوابت الهويّة وعلى المستجدات العلمية والقيميّة الإنسانيّة.

ونرى أنّ هناك شرطين أو منطلقين للنقد:

- الفهم المقاصدي للنصّ الدينيّ بطريقة تجلّي جوهره القيميّ المطلق الداعم لكلّ أبعاد الخير.

- وترجيح كفّة العقل بما هو السبيل إلى التصحيح والتجاوز والبناء.

هذان هما الشرطان الكفيلان بقطع الطريق أمام التيارات السلفية المتزمتة التي ما فتئت توظّف المنتَج التاريخي البشري حول النصّ المؤسّس، لتحصر صورة المرأة في "عورة" استتباعاتُها النقصُ والدونيّةُ والاحتقار لجسدها ولروحها ولعقلها.

إذن، إنّ بناءَ مستقبل أفضل، بعد تخليص الدين من أيّ توظيف "غير دينيّ"، مشروطٌ بتكريس وعي تاريخيّ لا يقطع مع الماضي، ولكن، لا يرتهن به. هو نقد المواقف والرؤى التي أصبحت عقبةً في طريق التقدّم الضروريّ للمجتمع، وفي طريق إبداعه لحداثة عربيّة إسلاميّة متفاعلة مع الحداثة الكونيّة أخْذًا وعطاءً. وهذا مشروع آمل وشامل لأطراف عديدة، وليس هذا محلّ التوسّع في الحديث عنها كلّها. لذلك، سأقف عند الطرف المعنيّ بهذا اللقاء، وهو "المرأة". أرى المرأة في لقائنا هذا حاضرةً بشكل بارز، مثلما رأيتها في مختلف المناسبات والفعاليّات العلميّة التي تعتني بقضاياها، وأن تكون المرأة –مهتمّةً، وباحثةً، ومفكّرةً، ومختصّةً- تتفاعل مع المستجدّ من قضاياها وقضايا مجتمعها تحليلًا وتفكيكًا وبلورةَ بديل؛ فاعلٌ جدّيٌّ نقدّر أنّه مؤهّل لأدوار نقديّة تكشف عن طبيعة الأفكار والمسلّمات التي تعمل على تأبيد أسباب الأزمة في المجتمع وفي مقدّمتها علاقات اللّاتكافؤ بين مكوّناته، والتي تحول دون إحداث تغييرات جدّيّة في اتّجاه الانسجام مع منظومة القيم المعاصرة. وكان متوقّعاً أن ينتصر هذا الفاعلُ الجدّيّ والجديد –وهو المرأة الناقدة كما ذكرنا- لتغيير الوضع السائد، وأن ينادي بإطلاق قوى التغيير والتحرير الكامنة في المجتمع. وجاءت مساهمة المرأة –وفق تقديرنا- دعماً للبعد النقديّ فيه، بفضل ما تحتوي عليه من وجهات نظر ومواقف جريئة أحياناً، وباعثة على إطلاق حوارات تُنضج الاختيارات الكبرى التي يمكن أن يسير فيها المجتمع.

وبعد،

لا يزال تحديث المجتمع العربي يواجه الكثير من العقبات، ولا تزال أيضاً حقوق الإنسان العربي -والمرأة على وجه الخصوص- غير مكتملة ودون ما تقتضيه قيم المواطنة والكرامة الإنسانيّة.

لكن، ورغم كلّ العقبات - القديم منها والمستجدّ - لا يمكن أن نرتبك أو نفقد الأمل. فالمجتمع العربيّ اليوم يمرّ بمرحلة صعبة، لكنّها ليست ميؤوساً منها. إنّها مرحلة مخاض عسير تصاحب كلّ عمليّة إعادة بناء... ولنا ثقة في أنّ هذا المجتمع الذي مرّ بمرحلة انحطاط ولم يندثر، ومرّ بمرحلة استعمار مباشر ولم ينسلخ، ومُني بفشل أوّل في التحديث وما زال يحاول آملاً.. مصادر التنوير فيه والدفع إلى الأمام، أقوى من عوامل الانكسار والشدّ إلى الوراء..

د. حسام الدين درويش:

جزيل الشكر لك، وننتقل إلى ذ. أسماء كفتارو، وكما هو اضح من الاسم، فقد نشأت في وسط ديني أكسبها معرفةً واسعةً بالعلوم الشرعية، تابعت ودرست العلوم الإسلامية في العديد من المعاهد والجامعات، وتخصصت في مجال الدعوة الإسلامية والتربية الدينية.

تحمل ذ. أسماء درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، وتشغل منصب مديرة منتدى السوريات الإسلامي بدمشق، وهي مؤسِّسة "كفتارو للدراسات" في الشارقة، وعضوة في المنصة العربية للحوار بين أتباع الأديان لمركز الملك عبد الله في البرتغال، وناشطة في مجال حقوق المرأة.

عندما سألتها عن موضوع رسالة الماجستير، تبين أنه يصبّ في هذا المجال، واتفقنا على أنها الإنسانة المناسبة في المكانة المناسبة.

ذ. أسماء كفتارو:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛

شكرًا د. حسام، وشكرًا لمؤسسة "مؤمنون بلاحدود" على هذه الاستضافة.

نحن في أمسّ الحاجة اليوم للحديث عن المرأة وقضايا المرأة. تحدثت السيدة ميّة الرحبي عن سوريا والحال فيها، ونحن ندرك جميعا حجم الضجة المثارة حول حقوق النساء. دعني أتحدث عن الإطار السوري؛ فهناك ضجيج حول حقوق النساء، وخاصة بعدما بدأ يعلو صوتهن اعتراضاً على بعض القرارات الصادرة عن إدارة العمليات الجديدة في سوريا، والتي تدعو إلى تحجيم دور المرأة في القيادة أو في المجالات العامة، وتقييدها في مجالات التربية والتعليم بناء على تصورات بيولوجية، ما أثار ردود فعل غاضبة، وثورة حقيقية من النساء السوريات ضد ما تم طرحه من قبل الإدارة الجديدة.

عند الحديث عن مشاركة المرأة اليوم في ظلّ الحكم الإسلامي السياسي، مع أنّي لا أحبّذ استخدام مصطلحات مثل "الإسلام السياسي"، و"الإسلام المتشدد"، و"الإسلام المرن"؛ فالإسلام إسلام، ولكن هناك فكرٌ سياسيٌّ مرتبط بالإسلام، فكر متشدد مرتبط، فكر مرتبط، ولكن الإسلام إسلام، الإسلام دين. فأنا أقول إن كثيرًا من الدول الإسلامية والعربية؛ منها من أخذ الفكر المتشدد، ومنها من أخذ الفكر المرن؛ فمثلا تركيا دستورها علماني، والمرأة تتمتع فيها بحقوقها كاملة، وتشارك في كلّ مجالات الحياة. وفي أندونيسيا وماليزيا، المرأة قادرة على ممارسة حقوقها بشكل واسع، بينما نشهد تراجعاً كبيرًا في وضع المرأة السورية اليوم.

لقد أشارت السيدة ميّة، إلى أن النظام العلماني السابق في سوريا لم يعط المرأة حقها، بل على العكس كان في بعض الجوانب أكثر تشدّدًا من الجماعات الدينية المتطرفة. فأنا شخصيًّا، عندما تقدمت بطلب ترخيص لمنظمة خيرية، واجهت رفضًا من وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي كانت منتمية إلى حزب البعث العلماني، حيث قالت لي صراحة: "حقوق النساء ومناهضة العنف ضد المرأة ليست من أولوياتنا." وهذا يدلّ على أن الحكم العلماني لم يكن بالضرورة أكثر إنصافًا للمرأة.

أما اليوم، وبعد أن نادى الشعب السوري بالحرية، نجد إعادة تموضع النساء في بيوتهن وإقصائهن عن المشهد العام. اذكر أنه خمس سنوات كنّا على طاولة المفاوضات، فقال أحد الرجال من الفصائل السورية، وهي اليوم في إدارة العمليات، مهدّدًا وزارة الخارجية السويسرية: "إذا كانت هناك امرأة على طاولة المفاوضات، فاعلموا أن سوريا ذاهبة إلى الجحيم!" وكان الرد أن الحجة يجب أن تقدم بلغة يفهمونها، وأنا دائماً أقول خاطبوهم على قدر عقولهم؛ بمعنى أن الحجة يجب أن تكون من الإسلام، وهو أمر أظن أن د. ناجية توافقني فيه. عندما نتحدث، يظنون أننا نأتي بنموذج، وهذا ما تم التعبير عنه، نموذجاً غربيًّا، نموذجاً أجنبيًّا، نموذجاً شاذًّا، نريد أن نرسخه في بلادنا، وهذا غير صحيح، هذا. كون د. حسام عرفني وأنا أفتخر، أنني نشأت من أسرة مسلمة مهتمة بالشريعة، أقول إن أول ثورة قامت بها النساء ليست لا في القرن الماضي، ولا في عهد قاسم أمين، ولا في عهد المجددين، بل قامت الثورة في بداية الوحي مع النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، مع خولة بنت ثعلبة، وسمية بنت خباط، وأسماء بنت عميس؛ فالثورة قامت منذ بدء الحرية للإنسانية بظهور الإسلام، أنا هكذا أرى.

اليوم أريد أن أتحدث عن النسوية، التي تُحارب في بعض الأوساط بوصفها مفهومًا وافدًا يسعى إلى تفكيك الأسرة والمجتمع، وهو اعتقاد خاطئ وغير صحيح. أنا أعتبر نفسي نسوية، ولكن من مرجعية إسلامية. دعوني أعرف هذا الفكر في صفحتين، وأتكلم حصرًا عن النسوية الإسلامية. النسوية في الإسلام، هي الجهد الفكري والأكاديمي الذي يسعى إلى تمكين المرأة انطلاقاً من المرجعيات الإسلامية، باستخدام المعايير والمفاهيم والمنهجيات المستمدة من تلك المرجعيات وتوظيفها إلى جانب غيرها؛ فأنا أستمد كل دفاعي عن حقوق المرأة والنسوية من الموروث والتاريخ الذي يجب أن نعتمده في الحداثة، ولا نستطيع إلغاء ذلك الموروث وذاك الماضي، لنقول إننا نريد شيئًا جديدًا. لدينا في هذا المنجم الكثير لبناء حداثة رائعة. يقوم هذا التعريف على ثلاثة عناصر:

أولاً، النسوية الإسلامية حركة فكرية وأكاديمية واجتماعية، يقوم بها رجال ونساء على حدّ سواء، وإن كانت النساء هنّ العنصر الأبرز.

ثانياً، تهدف هذه الحركة إلى تمكين النساء، وهو هدف يبدأ من رفع الظلم، وكل مظاهر الاستضعاف والتهميش والإقصاء والعزل والقهر، وينتهي بتدعيم قيم الحرية والعدالة والمساواة في العلاقة بين الجنسين، وفي تخصيص الموارد الاجتماعية والقيم بينهما.

ثالثاً، المنطلقات والمرجعيات والمفاهيم الأساسية لهذا الفكر وتلك الحركة ذات أصول إسلامية، وتستند إلى المرجعيات الإسلامية الأصلية المتمثلة في القرآن والسنة الثابتة.

ترتكز النسوية الإسلامية على إطار نظري قوامه القواعد الآتية: رفض الأساس النظري الذي عولجت في إطاره قضية تحرير المرأة؛ فالمسلمة قادرة على أن تتحرر من دون تماهٍ مع الأنموذج الغربي للمرأة، والإيمان بأن التقاليد الأبوية هي المتسببة في تدهور النساء، وليس الإسلام. رفض المركزية الذكورية والاعتقاد بأن الدين قد تشكل عبر رؤية رجولية، وآن الأوان لكشفها وإبراز التحيزات الذكورية الكامنة في الخطاب والوعي وتعرية المصالح الذكورية، فضلاً عن التنديد بهياكل الهيمنة وأشكال القهر المسلط على النساء. فالتمييز الحاصل ضد المرأة هو نتيجة قراءة حرفية وسيئة للنصوص الدينية، تغلب عليها موازين القوى والمصالح الاجتماعية. أنا من هذا المنبر، أنادي بأن تجتمع النساء القادرات على تأويل النص بحداثة وبرؤية ثاقبة، بإعطاء النساء حقوقهن؛ فالنص حمّال أوجه وقادر على إعطاء كل الخلائق حقوقهن مع أداء الواجبات. أقول، أنا أقرأ النص برؤيتي...اليوم وأنا أقرأ سورة النساء، وجدتُ أنها تقدم لنا تراتبية واضحة. فكثيرًا ما يقتطع جزء من الآيات، كما في قولهم: "ويل للمصلين" ويسكتون دون إكمال بقية الآية، وهذا خطأ؛ فهناك تراتبية يجب أن تفهم في سياقها.

لذلك، نحن اليوم ملزمون في ظل هذه التطورات، بالتحرر من فكرة العورة، كما أشارت د. ناجية. علينا أن نعمل على تكوين فريق نسائي نسوي يؤمن بالموروث، مع إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة واعية تسهم في خلق فقه حداثيّ يؤمن بالشراكة الحقيقية بين المرأة والرجل؛ فهما شركاء وشقائق في بناء مجتمع راقٍ، والإيمان بدور المرأة ليس مجرد شعار، بل هو إيمان بدورها كشريك في النهضة والحداثة التي نسعى إليها في هذا الزمن، شكرًا لكم.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً لك.

ننتقل إلى د. زهيدة درويش، مساء الخير دكتورة، ونتطلع إلى لقائك قريباً جدًّا.

د. زهيدة درويش جبور هي أستاذة الأدب الفرنسي والفرانكوفوني والأدب المقارن في الجامعة اللبنانية. شغلت سابقا منصب الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو لفترة طويلة، وهي ناقدة أدبية بارزة ولها العديد من المؤلفات والدراسات الأدبية باللغتين العربية والفرنسية، فضلا عن إسهاماتها المتميزة في النقد الأدبي والترجمة. كما أنها عضوة في العديد من اللجان والمؤسسات، وحائزة على أوسمة كثيرة، شكرًا لحضورك.

د. زهيدة درويش جبور:

يطيب لي بداية أن أثمن عالياً الجهود التي تبذلها مؤسسة مؤمنون بلا حدود لتجديد الفكر العربي وإثارة وتعميق الوعي النقدي، وهو شرط أساسي للتغيير والتقدم، خاصةً وأن المجتمعات العربية، والمشرقية منها، على الأخص، تعيش تحولات كبيرة في المرحلة الراهنة، وتواجه تحدّيات جمة لا سبيل لمناقشتها في هذه العجالة. ولعل أحد أهم هذه التحديات هو بروز حركات "الإسلام السياسي"، وهو الموضوع الذي تناقشه الندوة، وعلى الخصوص في سوريا، من زاوية محددة هي تأثيره على أوضاع المرأة.

في المصطلح

لا بدّ بداية من تحديد المصطلح: يشير الإسلام السياسي إلى حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام بوصفه نظاماً سياسيًّا للحكم وليس مجرد ديانة فقط، بل هو دين ودنيا؛ أي إنه نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يؤسس لبناء دولة. فهو إلى جانب كونه عقيدة إيمانية تجد ترجمتها في طقوس وعبادات يقوم بها الفرد المؤمن، شريعة تنظم حياة جماعة المسلمين في أدّق تفاصيلها. وهذه الشريعة من منظور الإسلاميين أو الحركات الإسلامية هي الضامن لصلاح الأمة وازدهارها.

الإسلام السياسي خيار أو حتمية؟

الواقع أن "الإسلام السياسي" ليس ظاهرة مستجدة، فقد ترافقت نشأته مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وبداية الاستعمار الأوروبي (نظام الانتداب والحماية) للمنطقة العربية في مطلع القرن العشرين، حيث وجد العرب أنفسهم بعد زوال نظام الخلافة أمام سؤال الهوية والمغايرة. فتشكلت عدة تيارات حاولت الإجابة عن هذه المسألة: التيار القومي الذي سعى إلى تأسيس الأمة على مفهوم القومية، متأثراً بنشأة القوميات في الغرب خلال القرن التاسع عشر؛ ومن أبرز ممثليه من المسلمين ساطع الحصري، ومن المسيحيين المفكر الفرنكفوني نجيب عازوري الذي أصدر في باريس سنة 1905 كتاب "يقظة الأمة العربية". والتيار الليبرالي الذي يمثله داخل الإسلام الشيخ علي عبد الرازق الذي نشر سنة 1925 كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، حيث سعى إلى البرهان على أن الإسلام دين لا دولة؛ والتيار العلماني الذي نادى بفصل الدين عن الدولة كأساس لإرساء مجتمعات مستقرة متقدمة، ومن دعاته في بلاد الشام في ذلك الوقت فرح أنطون، ويعقوب صروف وشبلي شميل؛ والتيار الإصلاحي الديني الذي هدف إلى المصالحة بين الدين والعلم، حيث يستطيع الإسلام مواكبة العصر، ومن أبرز ممثليه في تلك الفترة الشيخ رشيد رضا الذي دعا إلى إقامة دولة إسلامية لا تفصل بين الدين والدولة، باعتبار أن الإسلام دين السيادة والسياسة والحكم. ويُمثل حسن البنا مؤسس جماعة إخوان المسلمين سنة 1928 الوريث المباشر لرشيد رضا، والمنظر الأساسي للإسلام السياسي الذي تحول معه الدين إلى إيديولوجيا سياسية، حيث إنه دعا إلى أسلمة الدولة والاقتصاد والجيش، ورفض مفهوم القومية العربية تمهيدًا لإقامة الخلافة الإسلامية من جديد بوصفها رمزاً لوحدة المسلمين.

منذ تأسيسه، مارس الإسلام السياسي العنف لتحقيق غاياته، ثم حاول في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم اعتماد أساليب ديمقراطية للوصول إلى السلطة. لكن الطروحات القائمة على استعمال العنف قد وجدت طريقها داخل المجتمعات من خلال الجماعات المتطرفة التي تشكل داعش نموذجها الأشدّ عنفاً.

واليوم، وبعد أن قُضي على الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، "داعش"، وبعد أن انتصرت الثورة في سوريا وتحرر البلد من نظام الأسد، وتسلمت زمام الأمور "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع، يبرز الإسلام السياسي، ليقدم نفسه بديلاً عن النظام الاستبدادي البائد. ويعود بالتالي السؤال عن حاكمية الدين وقابليتها للتطبيق واستجابتها لواقع وحاجات وطموحات المجتمعات العربية، عموماً والمجتمع السوري خصوصاً.

أربع ملاحظات تفرض نفسها في هذا السياق:

الأولى ولعلها الأهم هي أن صعود الإسلام السياسي هو نتيجة لعهود طويلة فشلت خلالها الأنظمة العربية في بناء دولة الحق والقانون التي تضمن لمواطنيها الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتحقِّق التنمية، كما فشلت الأحزاب العقائدية والقومية في تحقيق الشعارات التي حملتها، فبقيت المسافة كبيرة بين القول والعمل بين الفكر والممارسة.

الثانية هي أن الدين في المجتمعات العربية، أصبح خلال العقود الأخيرة المكوّن الأساسي للهوية الثقافية، وليس مجرد عنصر من عناصرها، يساعد على ذلك أن هذه المجتمعات هي في غالبيتها ذات أكثرية مسلمة، علماً أنها كانت تاريخيًّا ولا تزال مجتمعات تعددية تضمّ "أقليات" دينية وإثنية، وحتى لغوية. فالفقر، وغياب التنمية والشعور بالغبن والظلم كلها عوامل جعلت من الدين ملاذاً. يكفي المراقب أن يلاحظ الانتشار الكبير لظاهرة العودة إلى ارتداء الحجاب، ليستدلّ على "أسلمة" المجتمع، فقد صار الحجاب رمزًا للإسلام، بل راح البعض يسبغ عليه قداسةً، ويزعم أنه فريضة حتى إنه عُدّ ركناً من أركان الدين، كما تلاحظ الكاتبة الصحفية المصرية إقبال بركة [13]. وللتذكير، في عشرينيات القرن المنصرم، كانت مسألة الحجاب والسفور في صلب حركات التحرر من الاستعمار البريطاني في مصر؛ إذ اعتُبر الحجاب رمزاً للهوية، فانقسم الموقف بين المدافعين عن الانفتاح على الغرب كسبيل إلى التقدم، والذين نادوا برفع الحجاب من جهة، والمتمسكين به كرمز للهوية في مواجهة الإمبريالية الغربية، من جهة أخرى. بعد ذلك، شهدت فترة الخمسينيات والستينيات انحساراً كبيراً لهذه الظاهرة مع نشوء الدول المستقلة.

هذا الواقع، مضافاً إليه ما أشرت إليه في الملاحظة الأولى، يهيئ أرضية صالحة لانتشار الإسلام السياسي الذي يجد فيه البعض رؤى ومفاهيم وطروحات تتناسب مع واقع آلت إليه مجتمعاتهم. ولعل مقولة "الإسلام هو الحل" لم تعد اليوم مجرد شعار للمروجين للإسلام السياسي، بل ربما تتبناها بعض القوى الخارجية زاعمةً أن الديمقراطية "ليست مناسبة للعرب".

الملاحظة الثالثة هي أن المجتمعات العربية لا تزال في غالبيتها مجتمعات تقليدية، ذكورية، محافظة، وأنه على الرغم من نضالات المرأة للحصول على الاعتراف بحقها بالمشاركة على قدم المساواة مع الرجل، وعلى الرغم من أن العديد من النساء أثبتن كفاءتهن في مجالات علمية وفكرية وثقافية وعملية متنوعة، لا تزال قدرات المرأة موضع تشكيك. ناهيك عن الأوساط الريفية، والطبقات الأقل حظًّا، حيث تعاني المرأة من الظلم والقمع. يضاف إلى ذلك الحروب والنزاعات وما يترتب عليها من أعمال عنف وتشريد ونزوح، تكون النساء من ضحاياها.

الملاحظة الرابعة هي أن التمييز ضد المرأة في المجتمعات العربية عموماً، لا يعود فقط لعوامل سياسية، بل إن للتربية الأسرية دورًا كبيرًا فيه. فغالباً ما تستبطن المرأة النظرة الذكورية إليها، فترى ذاتها في الصورة التي تعكسها مرآة الرجل، فتركن إلى كونها في موضعية التابع. وتتحمل المرأة الأم مسؤولية كبيرة في هذا المجال؛ إذ إن الأسرة التي تقوم على التوازن بين جميع عناصرها وعلى التوزيع المتكافئ للأدوار بين الجنسين، هي النواة لمجتمع متوازن يؤمن المساواة ويضمن الحق بالاختلاف.

أسئلة لا بدّ منها:

انطلاقاً من هذه الملاحظات وبالعودة إلى الإسلام السياسي وانعكاساته على أوضاع المرأة، لا بدّ من طرح مجموعة من الأسئلة: هل تملك الشريعة الإسلامية المقومات الكافية لبناء دولة المواطنة؟ هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجتمعات تعددية؟ ما مصير حقوق المرأة في ظل دولة إسلامية؟

من منظوري الشخصي، أجد أن أنظمة الحكم القائمة على أساس الدين، أيّ دين، موّلدة للعنف والاستبداد والإقصاء والتهميش. الأمثلة عديدة على ذلك في تاريخ البشرية، فتحالف الكنيسة المسيحية مع الملوك في العصور الوسطى أنتج محاكم التفتيش وصكوك الغفران، والدولة الإسلامية في بغداد أحرقت الحلاج بعد أن قُطعت يداه ورجلاه، وفي الأندلس أحرقت كتب ابن رشد. أما في عصرنا الحاضر، فلا تزال ترعبنا صور الذبح والقتل على يد داعش. وقد يخالفني الكثيرون في ذلك الرأي، مستندين إلى وثيقة المدينة المنوّرة التي ضمنت في عهد الرسول حقوق الأفراد والجماعات المختلفة من مسلمين، ويهود، وعرب مشركين، ومهاجرين وأنصار، والتي تُعدّ أول وثيقة مدنية في الإسلام. هذا صحيح، ولكن ما الذي حصل بعد ذلك؟...

لقد تعوّدنا أن نقرأ الجوانب المضيئة في التاريخ، وأن نتعامى عن الجوانب المظلمة، لكن في تاريخنا الكثير من العنف السياسي والديني الناتج عن الإقصاء والإلغاء والتكفير.

لكن بغض النظر عن موقفي الشخصي، أعود لأطرح السؤال: هل يمكن أن تكون الشريعة الإسلامية مرتكزاً لقيام الدولة في مجتمعات تعددية؟ يذهب عدد من المفكرين المسلمين إلى أن الإسلام دعوة لا دولة؛ أذكر منهم على سبيل المثال المفكر التونسي محمد الشرفي الذي أصدر بالفرنسية كتاباً بعنوان: "الإسلام والحرية: سوء تفاهم تاريخي"، حيث يقول: "لا يتحدث القرآن عن دولة إسلامية ولا عن دولة. ولو أن لنظام الحكم أهمية دينية، من قريب أو بعيد، ولو كان للدولة مهمة دينية ما، لما كان القرآن الكريم ليغفل الحديث عنها"[14]. من جهتها، ترى الباحثة اللبنانية نايلة طبارة، أن كلمة دولة لا ترد في القرآن الكريم إلا مرةً واحدة، في سورة "الحشر"، الآية السابعة: "حتى لا تكون دولةً بينكم" والمعنى هنا هو المداولة أو التداول[15]. مع ذلك تفرض الواقعية السياسية، نظراً إلى أن الإسلاميين قد وصلوا إلى السلطة في سوريا، التعامل مع هذه الحقيقة من زاوية إيجابية من خلال الحث على استلهام الإسلام الأول، من جهة، والدفع باتجاه مقاربات جديدة للنصوص المؤسسة (القرآن الكريم، والسنة النبوية) تضعها في سياقها التاريخي والثقافي، بوصفها نصوصاً مفتوحة قابلة للتفسير والتأويل.

أما إذا ما كانت الممارسات السياسية تستند إلى قراءات وتأويلات عفا عليها الزمن، ولا ولم تنتج إلا مزيداً من الجمود والتخلف، فإن الإسلام السياسي سوف يكون خطراً على الحرّيات بشكل عام، وسوف يهدد الحق بالاختلاف ويتسبب بتهميش الجماعات غير المسلمة في المجتمعات العربية.

ثمة من يستشهد بنموذج الإسلام السياسي التركي المتصالح مع مفهوم المواطنة. هذا صحيح، ولكن علينا أن لا ننسى أن وراءه إرث نظام مدني عريق، وأن قوى المجتمع المدني في تركيا حيّة، وأن هناك أحزاباً متعددة تتصارع في نظام ديمقراطي من مصلحة الإسلام السياسي المحافظة عليه؛ إذ إن عينه على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

أما بالنسبة إلى انعكاسات الإسلام السياسي على أوضاع المرأة، فأجدني أميل إلى الاعتراف بأني غير متفائلة؛ نظراً إلى أن الثقافة الإسلامية تقوم على الحفاظ على الموروث، ولأن المفسرين لطالما اعتمدوا قراءة ذكورية للنصوص المؤسسة تشوّه مقاصدها الحقيقية، وتقدم صورة متناقضة عن المرأة، فإما هي مثار فتنة، وبالتالي، يجب أن تحجب سواء بمنعها من التعليم أو العمل أو بإرغامها على ارتداء الحجاب، أو هي الزوجة المثالية المطيعة والأم المتفانية التي تلغي نفسها في سبيل سعادة أسرتها، وهي بكل الأحوال خاضعة للرجل الذي له حق القوامة عليها، وفق الاعتقاد السائد الذي يروج له المتمسكون بالقراءة الحرفية التقليدية للنص القرآني، وهم غالبية للأسف. ترى الباحثة السعودية سهيلة زين العابدين حمّاد أن النصوص الدينية المتعلقة بحقوق المرأة الدينية والمدنية والسياسية والمالية والأسرية لا تزال تفسر وفق أهواء الرجل ووفق العادات والتقاليد الذكورية، مما ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي للمرأة المسلمة[16]. فالمرأة، إذن، من هذا المنظور، ذات بغيرها ولغيرها وليست كياناً تنبع قيمته من ذاته ويثبت حضوره في هذا العالم.

لكن تجدر الإشارة إلى أنه مقابل هذه المقاربة الذكورية التقليدية للدين هناك جهود لافتة تبذلها باحثات نساء من المسلمات استفدن من تطور العلوم الإنسانية للحفر في النصوص وتفكيك مختلف الخطابات الدينية اعتماداً على التاريخ وعلوم اللغة وعلم الإناسة وعلم الأديان المقارن دون إهمال قراءة الموروث، وقد استطعن الكشف عن المسكوت عنه في النصوص الدينية، وفضح التوظيف السياسي للدين وتوضيح علاقة التناقض بين الانتهاكات الحاصلة لحقوق النساء والنصوص المؤسسة. فنجحن في إطلاق دعوة إلى تغيير الثقافة الدينية وإلى إنتاج معرفة دينية جديدة. ومع ذلك، بقي تأثير هؤلاء الباحثات في حلقة ضيقة، ولم يتمكن من الانتشار على نطاق واسع. وظلت القراءة الذكورية هي المسيطرة.

أما فيما يتعلق بالأوضاع الراهنة في سوريا وانعكاساتها على المرأة، فالواقعية السياسية تدعونا إلى اليقظة، وإلى عدم الركون إلى الأقوال والحكم على الأفعال. ومما لا شك فيه أن اعتماد الحوار هو السبيل للوصول إلى قواسم مشتركة تجمع مختلف القوى الحية الطامحة للتغيير نحو الأفضل، مع التمسك بالثوابت والحقوق والإصرار على المشاركة وعدم التسليم للأمر الواقع. إن ما نأمله لسوريا الجديدة الخارجة من حكم الحزب الواحد، حيث أحكمت الأوليغارشية قبضتها على البلاد والعباد، والتي طمح شعبها إلى التغيير ودفع في سبيل تحقيقه أثماناً باهظة، هو أن تنشأ فيها دولة تقوم على احترام الحريات المدنية والدينية والسياسية وعلى احترام حقوق المرأة في العمل والمشاركة السياسية وحمايتها من شتى أشكال التمييز ضدها. ما يتطلب تضافر جهود الفاعلين السياسيين والمدنيين على اختلاف توجهاتهم للحؤول دون الاستفراد في تحديد طبيعة النظام السياسي الجديد، كما أن انخراط النساء الباحثات في نشر معرفة دينية جديدة مستنيرة، لا بدّ أن يسهم على المدى الطويل في بناء علاقة جديدة بين المرأة والإسلام، وفي نشر وعي متحرر من التقاليد الذكورية الموروثة. وإني لأدعوهنّ إلى الانخراط المجتمعي لنشر معرفة دينية جديدة تنويرية تسهم في تحقيق هذا الهدف.

إن مسيرة التغيير طويلة، لكنها بدأت وعلى النساء تحمل مسؤوليتهن في هذا المجال ومتابعة النضال للحصول على حقوقهن كاملة ودون انتقاص وللمشاركة جنباً إلى جانب مع الرجل في تحقيق حلم الشعب السوري بمستقبل أفضل.

د. حسام الدين درويش:

جزيل الشكر لك على تناول المسألة بأبعادها المتنوعة؛ فكل الأمور مفتوحة إلا التشاؤم فهو ممنوع، وسيتم فرض حظر وعقوبات بالمعنى الفكري، على من يخالف ذلك.

قبل أن ننتقل إلى د. أنس طريقي، أعطي الكلمة للدكتورة نادية محمود.

د. نادية محمود هي ناشطة نسوية وسياسية من العراق، باحثة وحاصلة على دكتوراه في السياسات الاجتماعية من جامعة باث في بريطانيا، أسهمت في تأسيس العديد من المبادرات والمنظمات النسوية في العراق وبريطانيا، وتترأس حالياً منظمة المرأة الكردية والشرق أوسطية، وعضوة مؤسسة في تحالف أمان النسوي. نشرت العديد من الأبحاث باللغتين العربية والإنجليزية حول هذا الموضوع، وشاركت في العديد من المؤتمرات في هذا الخصوص.

د. نادية محمود:

الحديث عمّا بدأته السلطة الجديدة في سوريا، كإحدى جماعات الإسلام السياسي وما قامت به لحد اللحظة، لم يأت لنا بشيء جديد، أو شيء لا نعرفه أو لم نسمع عنه من قبل. وما رأيناه في سوريا، من فرض ارتداء الحجاب على الشابة " ليا" التي ارتأت التصوير مع الشرع، عدم مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية، تردد عبيدة ارناؤوط في الرد على عمل النساء في القضاء، تصريحات عائشة الدبس عن أولوية عمل المرأة هو المنزل والعناية بالزوج، فصل الرجال عم النساء في المواصلات العامة، وغيرها من ممارسات ليست بجديدة؛ أي إننا "نتوقع" ما الذي سيحدث لحقوق المرأة في بلد تحكمه منظمة إسلامية، وهذا هو سبب القلق الذي شعر به الكثيرون والكثيرات حين تسلّم الشرع ومنظمة تحرير الشام السلطة.

حقوق المرأة والشريعة في سوريا في حكم نظام الأسد

ما تريده النساء في سوريا، ليس الحق في العمل والتعلم، فهذه الحقوق تم انتزاعها منذ القرن الماضي، وإن كانت حظوظ النساء في المناطق الريفية في العمل والتعليم أقل منها مما في المدن الكبيرة، إلا أن هذه الحقوق أصبحت في عداد المتعارف عليها والمقبولة في المجتمع. وحتى الحقوق السياسية هي حقوق معترف بها أيضا مثل حق النساء للترشيح والانتخاب، إلا أن نيل حق العمل والتعليم الحقوق السياسية لا يعني كسر علاقة القوة بين الجنسين والقائمة على أساس تفوق وهيمنة الرجل. إن هذه العلاقة غير المتكافئة تتجسد بشكل واضح في نصوص قوانين الأحوال الشخصية، وقانون الجنسية وقانون التأمينات الاجتماعية، ليس بعد مجيء الشرع، بل في فترة حكم نظام الأسد، الأب والابن.

استند نظام حكم الأسد إلى الفقه الاسلامي في دستوره وقوانينه، وخاصة المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي تعامل المرأة وحقوقها بشكل غير متساوٍ مع الرجل، وتعتبر المرأة مواطناً غير كاملٍ، وتحتاج إلى وصاية وتمثيل الرجل لها. لذا، فإن الحديث عن نظام الأسد، كنظام "علماني" عار عن الصحة في نظري؛ فحين تعلق الأمر بقوانين الأحوال الشخصية، قام حكم الأسد، بتحويل هذه الأمور إلى الطوائف الدينية والإسلامية للبت فيها. وهذا يدلل على استناد نظام الأسد إلى الشريعة لا علمانيته. ليست هنالك أي قضية أخرى أحالها نظام الأسد إلى جهات أخرى غير حكومية وغير رسمية، إلا مسألة الأحوال الشخصية. والسبب هو أن هنالك انسجاماً بين فكر السلطة الحاكمة الذكوري الأبوي والفكر الديني الذي يقوم على أساس تفوق الرجل ومكانته على مكانة المرأة، ومن ثم منحه حقوقاً للرجال لا تٌضمَنُ للنساء فقط لكونهن إناثاً. إنه لأمر مستغرب، أن يعطى حق التصويت للنساء بشكل متساوٍ مع الرجال، ويكون مشروعاً عملها وتعلمها، ودخولها الميدان الاقتصادي إسوة بالرجال، ولكن حين يتعلق الأمر بالحياة الخاصة للمرأة وبأحوالها الشخصية، تعامل المرأة كإنسان غير متساوٍ وغير متكافئ مع الرجل. يظهر هذا التمييز في مجال قانون الأحوال الشخصية، حق منح الجنسية، التحرر من العنف، الحق في الطلاق، في الإرث المتساوي، في حضانة الأطفال.

إن علاقة الدولة بالمواطن وتحديدًا علاقة الدولة بالمواطنة- المرأة هي علاقة غير متوازنة وتمييزية...إن هذا متأتٍّ من كون هذه الدول ودساتيرها تستند إلى الشريعة الإسلامية، حيث تنظر الدولة نظرة مزدوجة المعايير، تمييزية، وتضع قوانين خاصة للرجال وأخرى للنساء. إن هذا يظهر علاقة الدولة بمواطنيها، كعلاقة قائمة على اضطهاد المرأة. وتظهر رؤية الدولة حول حجم الحقوق والحريات التي تتمتع بها، فإن كان فحوى القوانين والدساتير يستند إلى الدين، سيؤدي بالضرورة إلى عدم اعتبار النساء مواطنات كاملات أو متساويات الحقوق والقيمة. ولم يختلف دستور سوريا عما كتب في دساتير البلدان العربية.

ولكن، إن كنا نتحدث عن أنظمة لم تذكر بأنها دينية، ولا إسلامية، كما في سوريا، التي أقرت المادة الثالثة من الدستور الصادر عام 2012 بأن "الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع"[17]، فماذا عسى أن تكون سياسة وتشريعات دولة يحكمها جمع يؤمن عقائديًّا بنظام يتبنى وسطية فقهية جامعة "بين الغلو من جهة، والإسلام الصوفي من جهة أخرى"؟[18]

حقوق النساء في العهد الجديد

على الرغم من مرور بضعة أشهر على العهد الجديد، لا يزال خطاب الساسة الجدد يتسم بالغموض، والمرونة الزائدة، واستخدام التعابير الفضفاضة. يقول البعض إنه لازال مبكرًا الحديث عما يريده النظام الجديد. ونحن قد شهدنا في السنوات الماضية تحت حكم جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام في إدلب ومعاملتها للنساء، والتي تعطينا نموذجاً عن كيف يتعامل هذا التنظيم مع حقوق ومكانة المرأة في المجتمع. إنه نموذج يقرع لنا جرس إنذار عما ستكون عليه سلطة هذا التنظيم، إذا ما استتب الحكم لهم. ترسم الحركات الإسلامية صورة واحدة للمرأة، وهي أنها تابع، قاصر، مكمل للرجل، لا تملك الولاية على نفسها، ويمتلك الرجل الوصاية عليها، وتعزز هذه الوصاية كامل المنظومة السياسية والقانونية والثقافية والاجتماعية. تعدّ الحركات الإسلامية، كحركات ذكورية أبوية، المرأة هي "الآخر" بتعبير سيمون دو بوفوار، حيث يحتل الرجل المكانة الأساسية والمهيمنة في الأسرة، وهو يمتلك حقوقاً وصلاحيات لا تمتلكها ولا يُقرُّ لها بها مثل حق الإرث، شهادتها تعادل نصف شهادة الرجل، عدم قدرتها على طلب حق الطلاق بسهولة مثل الرجل، إرغامها على الخضوع وجلبها لبيت الطاعة- بالنسبة إلى الزوجات-، حرمانها مما يجنى من أموال خلال فترة معيشتهما المشتركة، واعتبار ما يجنى من مال هو حصة للرجل فقط. وإعطاء الرجل حق ممارسة العنف باسم "تأديب المرأة". تشترط قوانين الأحوال الشخصية أمر تقديم النفقة للزوجة بإمتاع وتمكين المرأة من نفسها للرجل. رُسِمَ لها في ظل هذا النظام، أن تكون في حاجة إلى مرشد وموجّه وضابط أخلاق يقيها من "شر الانحراف". هذا التقسيم حسب الجنس هو ما جعل الرجل سيّدًا في المنزل والمرأة ما هي إلا تابع. لم تكتف حركات الإسلام السياسي، كحركات سياسية معاصرة، ولدت منذ أوائل القرن المنصرم بما نصّت عليه الشريعة في الأحوال الشخصية، بل وصلت إلى حد التدخل في الحريات الشخصية والمدنية؛ فكل هذه الحركات فرضت الحجاب الإجباري على النساء، كقرار سياسي، وليس كخيار فردي متاح للأفراد من النساء.

بالتأكيد، وغني عن الذكر، فإن المعاملة والمكانة الدونية للمرأة في المجتمع تحددت منذ عصور وقبل ولادة الأديان الإبراهيمية وقبل مجيء الإسلام. جاءت الأديان ومنها الإسلام، لتكرسه، وتديمه وتستمر به. وما قامت به الحركات الإسلامية على اختلاف طوائفها ومدارسها وفقهائها هو تطبيق لما ورد فيه. إن الاختلاف في التفاسير، أو حتى في حدود الحقوق والحريات التي تقرّ بها هذه الحركات الإسلامية، مـتأتٍّ ونابع من السياقات والصراعات السياسية والاقتصادية في البلدان التي ولدت فيها هذه التيارات. وما ستقوم به الحكومة الجديدة، ووفقاً لتعبير عائشة الدبس، خلق "النموذج السوري"، سيأخذ بنظر الاعتبار السياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي لهذا البلد.

حقوق النساء وقوانين الشريعة

تدور معركة الحركة النسوية في المنطقة الناطقة بالعربية اليوم حول قضية الأحوال الشخصية، حيث بقيت قوانين الأحوال الشخصية متخلفة ومتأخرة عمّا حققته النساء من حقوق متساوية في العمل والتعلم استدعاها كل من تطور النظام الرأسمالي وحاجة السوق من جهة، إضافة إلى تصاعد نضالات الحركة النسوية والتحررية إلى مساواة المرأة بالرجل، إلا أن أمور الزواج والطلاق والإرث والحضانة لازالت تنص بدونية واضحة على مكانة المرأة مقارنة بالرجل؛ وذلك بسبب سعي الدول والحكومات إلى إبقاء هذه القوانين مستندة إلى الشريعة الإسلامية فقط حين يتعلق الأمر بحقوق المرأة ومساواتها، وإلا كيف نفسر عدم بقاء عقوبات من قبيل قطع الأيدي والقصاص التي هي أيضا عقوبات ينص عليها الدين الإسلامي؟

إن خطاب المساواة بين الجنسين، لا يتلاءم وخطاب وصاية الرجل أو قوامة الرجل على المرأة. إن ما تسعى له النساء وما يتطلعن إليه هو كسر علاقة القوة التي تنظم حياتهن وحقوقهن، والتي تعمل لصالح الرجل. إنهن يسعين إلى تغيير تلك العلاقة غير المتكافئة، وغير المتوازنة ولا المتساوية نحو علاقة قائمة على أساس المساواة والعدالة بين الجنسين. هذا ما تتطلع له النساء في عموم المنطقة، وما يجري في سوريا ليس استثناءً.

لم تَسلَم مناداة النساء والرجال بمطلب المساواة من الاتهامات والتشويه؛ فالمعادون لحقوق المرأة يطلقون على كل محاولة للمطالبة بحقوق مواطنة متساوية، والمساواة بين الجنسين وإنهاء العنف ضد النساء كـ"مفاهيم غربية، تهدف إلى تمزيق قيم المجتمع، وتفكيك الأسرة، وهدم العادات والتقاليد". كذلك تكرر بعض النسويات الإسلاميات وغيرهن من شخصيات بأن ليس هنالك اضطهادًا للمرأة في الإسلام، حيث يجري الاستشهاد بوجود نساء بارزات في عهد الدولة الإسلامية على امتداد تاريخها. إن وجود شخصيات بارزة وقيادية ومفكرة وعالمة وسياسية من بين النساء لا يعني أن النساء بخير، وأنهن نلن حقوقهن. فوجود نساء بارزات أو حتى قائدات شيء، ووجود الملايين من النساء المطحونات بالعمل المنزلي والعمل الإنتاجي، وانعدام نيلهن لأيّ حقوق، ومعاناتهن من العنف والاضطهاد شيء آخر تماماً. مثلما كانت مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا لا تعكس حال النساء العاملات في ذلك البلد، بل كانت بتشريعاتها وسياساتها مناهضة للنساء والعاملات على الأخص.

الحركة المطلبية النسوية السورية

أغلب ظنّي أنني لا أستبق الأحداث بالقول إننا نبدأ صفحة جديدة من النضال النسوي والتحرري والمساواتي مع أحزاب الإسلام السياسي التي سيطرت على السلطة في دمشق. منذ الثورة على النظام في سوريا عام 2011 ولحد يومنا هذا. لم تخضع النساء في سوريا للقمع في المجتمع ولاستلاب الحريات السياسية والعامة منها أو تلك الموجهة ضد النساء، بل أسهمن بمختلف الأشكال عبر تشكيلهن لمنظمات المجتمع المدني، عبر تقديم مختلف أشكال الدعم أثناء النزوح، وعبر تحمل مسؤوليات الأسرة التي غاب عنها رجالها، عبر التنظيم النسوي خارج سوريا، عبر تشكيل المبادرات المختلفة للتدخل في رسم المصير السياسي للمجتمع بشكل عام وللإسهام في صياغة حقوقهن بشكل خاص. ها هن يعدن بكل شجاعة وجرأة ليطالبن بالتغيير، رغم غموض الأوضاع وعدم وضوح الآفاق المستقبلية التي تنتظر البلاد. الآن شرعت المنظمات النسوية السورية بالعودة إلى سوريا منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد لوضع مطالبهن على أجندة النظام الجديد.

إن حركات الإسلام السياسي، كحركات متأثرة بالسياقات السياسية والاجتماعية المحلية والضغوطات الإقليمية أو الخارجية، تقوم بممارسة عملها للحفاظ على وجودها في سدة الحكم، ولا تستطيع أن تديم سيطرتها فقط باللجوء إلى العنف، بل تضطر إلى المساومات، التراجع، اتباع تاكتيكات مختلفة، تقديم تنازلات، ويعتمد هذا على توازن القوى في كل لحظة تاريخية. لذا هي قابلة للاستجابة للضغط النسوي والتحرري. إن مثال التغييرات التي حدثت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يعطي دليلاً على ذلك، حيث تراجعت الجمهورية الإسلامية عن عدد من ممارساتها، والتي قامت بها في بداية تأسيسها، بفعل وتأثير حركة الاحتجاجات النسوية والجماهيرية الجارية في المجتمع. إن فرض الحجاب بشكل قسري في إيران، لم يعد كما كان بعد مرور أربعة عقود على فرضه. فالاحتجاجات ضد الحجاب الإجباري أدت إلى إحداث ثورة، كما شهدنا في أيلول من عام 2022 حين نشبت احتجاجات على إثر مقتل الشابة مهسا أميني نظرًا إلى عدم التزامها بارتداء الحجاب الإسلامي. كذلك ما حدث في العراق، يظهر لنا نموذجاً آخرًا على تغيير الأحزاب الإسلامية لسياساتها من أجل تمكينها من الاستمرار في السلطة، وسط رفض شعبي. ما بدأته الميلشيات الإسلامية الشيعية في العراق بعد 2003 من قتل النساء في وسط وجنوب العراق لفرض الحجاب الإسلامي، قد تغير لاحقاً بعد انفضاح حقيقة هذه الأحزاب أمام الجماهير التي خرجت للشارع، وهي تهتف في مظاهراتها "باسم الدين باكونا- سرقونا- الحرامية". إن انكشاف هذه الطبيعة، جعلتهم تحت ضغط الشارع، الأمر الذي أدى إلى تراجعهم لاحقاً عن الأعمال التي يقومون بها، وخاصة تجاه النساء. لذا، لا سبيل لهذه الحركات غير إبداء المرونة، وتقديم التنازلات، من أجل أن تطيل فترة حكمها على المجتمع. ففي آخر المطاف، نحن نتحدث هنا، عن ثروات المجتمع، ومصالح اقتصادية لطبقة حاكمة تريد إدامة حكمها، فلا بد أن تتعامل مع الوقائع على أرض الواقع.

لا أظنّ شخصيًّا وبرأيي، لن يتسنى تحقيق المساواة بين الجنسين عبر إعادة ترجمة وتفسير النصوص الدينية والبحث عن تلك الحقوق في ثنايا الكتب. إن التعامل الدوني والتمييزي ضد المرأة هو جزء لا يتجزأ من الحركات الإسلامية، بل إنه تعبير عن "فصيلة دمها". ولا أعتقد كذلك بأن تغيير جنس المفسرين من الرجال إلى النساء سيوصلنا إلى نتائج مختلفة. وإلا كم 1400 عام، سنحتاج إلى معرفة الإسلام الحقيقي أو "الترجمة" الحقيقية للإسلام؟ أعتقد إن كفّت الحركات الإسلامية عن التمييز ضد المرأة، وعن تبرير العنف، والوصاية على النساء، إن أقرت بالمساواة بين الجنسين- الأمر الذي ترفضه الحركات الإسلامية- فإنها ستكف عن أن تكون إسلامية.

إن إمكانية انتزاع الحقوق، وتغيير الأوضاع بما هو لصالح المرأة، يتأتى عبر الضغط من تلك القوى والحركات الضاغطة في المجتمع. والشعار الذي يجب أن يرفع في كل بلدان المنطقة، وفي سوريا هو شعار "فصل الدين عن الدولة، والقوانين، والتعليم". والاستعانة بما وصلت إليه البشرية من إنجازات صاغتها على شكل اتفاقيات ووثائق تتعلق بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة وحقوق الطفل، حيث كلها، جاءت نتيجة نضالات مريرة وعديدة في كل أنحاء العالم.

يجب أن تكون القوانين التي تحكمنا هي قوانين وضعية من صنع البشر، حتى يتسنى لنا تغييرها، إما أن تفرض علينا قوانين، ويقال لنا إن هذه قوانينا غير قابلة للتغيير، مقدسة، ثابتة، وهي مُنَزّلَة من السماء، ما هي في الحقيقة إلا طريقة للقمع ولإسكاتنا عن المطالبة بحقوق أفضل لحياتنا.

نحن في حرب، هذا واقع وليس تشاؤماً، هم باسم "الشرعية" يريدون فرض الشريعة علينا، ونحن باسم حقنا في نيل مطالبنا، نريد الاستفادة من الاتفاقيات الدولية والتشريعات العالمية التي وضعتها البشرية. لذلك، إذن نُعَّرِفُ جوهر الحركات الإسلامية كحركات أبوية ذكورية، فإن الدفاع عن الحقوق والمساواة بين الجنسين، هو توجيه ضربة إلى هذا النظام الأبوي الذكوري الذي يوفر الدين له الحصانة، بل والحصن الأقوى للدفاع عنه. لذا، يجب أن نرفع شعارنا في سوريا وفي البلدان الناطقة بالعربية بفصل الدين عن الدولة؛ لأن الدولة لا دين لها.

د. حسام الدين درويش:

أشكرك كثيرًا، ودعيني أقول لك إن مداخلتك مستفزة بالمعنى الفكري، إن لم يكن بمعانٍ أخرى، وسنعود لمناقشة هذه النظرة الواحدة التي تفترض أن هذا الإسلام لن يتغير، هذا إسلام سياسي مهما تغيرت الأشكال، فمضمونه واحد.

نعود إلى د. أنس الطريقي، وشكرًا على صبرك معنا حتى النهاية.

د. أنس الطريقي أستاذ محاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس -جامعة تونس، متخصص في الحضارة الحديثة والمعاصرة، حصل على درجة الماجستير عن رسالته "العلمانية بين دعاتها ومعارضيها"، ثم نال الدكتوراه بأطروحة عنوانها "الدولة الدينية في الفكر العربي المعاصر". يهتم مشروعه العلمي بقضايا التجديد الديني والسياسي، وله فيه مقالات عديدة. من أبرز كتاباته الأخيرة؛ "استئناف الدولة في تونس ومشكلة المشروعية".

د. أنس الطريقي:

وضع المرأة السوريّة في ضوء حالة الانتقال السياسيّ الرّاهن

تحاول هذه الورقة أن تستشرف التحدّيات المرفوعة في وجه المرأة السوريّة في ضوء المآل الذي آلت إليه الثورة السوريّة على النّظام الحاكم؛ أي في ضوء قيام سلطة الأمر الواقع ذات الإيديولوجيا الإسلامويّة المنضوية تحت تعريف جامع للإسلام السياسيّ، توسّع منذ نهايات القرن العشرين ليتجاوز حدوده المرجعيّة الأصليّة المرتبطة بجماعة الإخوان المصريّة، ليشمل كلّ أطياف الحركة الإسلاميّة الساعية إلى إقامة الدولة الإسلاميّة.

ولأجل طبيعتها الاستشرافيّة هذه، فهي تحمل كلّ الاحتياطات المنهجيّة للدراسات المستقبليّة، خصوصاً وهي تمارس مقاربة تتابع الأحداث والوقائع في حركيّتها وتشكّلها؛ أي قبل أن تستقرّ على وضع نهائيّ يمثّل معطى قابلاً للمعاينة والتحليل والتفسير.

ولهذه الدواعي، ربّما تجد هذه الورقة مرجع صدقيّتها، فضلاً عن مستنداتها الحجاجيّة، في عرض منطقيّتها الخاصّة، أو نموذجها المنطقيّ الموجّه للتفكير فيها. ومن هذه الزاوية تؤسّس هذه الورقة، محتوى تكهّنها بالتحدّيات التي تواجهها المرأة السوريّة، على تبيّن أوّليّ لمدى أصالة الإسلام السياسيّ في سوريّة. فإنّ الهدف من هذا التبيّن -ونتيجته استباقاً هي الإجابة بالإيجاب- أن نؤكّد –وهذه مقدّمة من مقدّماتنا- أنّ الإسلام السياسيّ الحاكم في سوريّة في الوقت الرّاهن في صورته السلفيّة المتشدّدة، هو وريث لإسلام سياسيّ أصوليّ متجذّر في تاريخ سورية الحديثة منذ ثلاثينيات القرن العشرين. والمعنى الذي نبنيه على هذه المقدّمة أنّ ما تواجهه المرأة السوريّة، كالإنسان السوريّ عامّة، ليس حالة عرضيّة سيطويها المسار الأصليّ للتاريخ السوريّ المعاصر طبيعيًّا، وإنّما هو معنى تاريخيّ قائم بذاته في هذا التاريخ السوريّ المعاصر. وتبعاً لذلك، فما من شكّ في أنّه سيجد له روابط ثابتة لن تمكّنه فحسب من الاستمرار، إنّما هي ستمدّه بقنوات التأثير، ودعاماته التي تجعله يمثّل خيارًا، وإن ببعض التعديلات، لشريحة واسعة من المجتمع السوري، تغذّت ذاكرتها على تاريخ المقاومة الإسلاميّة الأولى لاستبداد النظام البعثيّ العلوي بعد أن استولى على الدولة، وأعلن نظام الحزب الواحد عقب انقلاب 1963. فلا يستغرب حينئذ أن يجد هذا الإسلام الأصوليّ في المجتمع السوري نفسه، لا بالترهيب وحده، من يوفّر له القاعدة الدنيا التي تمنحه مساحة التحرّك ضمن الأطياف المشكّلة للإجماع العامّ.

وإذ يكتمل عرض عناصر هذا التبيّن الذي نؤكّد بموجبه أصالة الإسلام السياسيّ الحاكم في الوضع السوريّ الرّاهن، فإنّنا نمرّ في هذه الورقة، إلى استشراف التحدّيات المرفوعة في وجه المرأة السوريّة استنادًا إلى عرض حقيقة موقفه منها. فلمّا كان وضعها المتوقّع سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا رهيناً لهذا الموقف، فإنّ الخيارات المتاحة أمامها في أفق الحفاظ على صفتها المواطنيّة، لن تكون إلاّ في حدود المنافذ التي يمنحها واقع الدولة القائم في سوريّة، حتّى وهي في صورتها الدولتيّة الدنيا التي جاءت الثورة في الأصل لتطويرها بالحريّة.

1- تاريخيّة الإسلام السياسيّ في سوريا

من حلب في ثلاثينيات القرن العشرين، من جمعيّة شباب محمّد الخيريّة، يمكن أن نرسم تاريخ الإسلام السياسيّ في سوريا؛ فمنها كان أوّل تنظيم إخوانيّ بعد عمليّة توحيد جمعت كلّ الحساسيّات الإسلاميّة، نجح في إنجازها مصطفى السباعيّ، أوّل سوري حاصل على شهادة الدكتوراه في الشريعة من الأزهر، ومؤسّس كليّة الشريعة بالجامعة السوريّة، وأوّل مراقب عام لجماعة الإخوان بسوريّة (بين 1945و1961)، وصاحب مدوّنة فكريّة إسلاميّة واسعة، من عناوينها ثلاثيّته في الأحوال الشخصيّة، وكتاب: المرأة بين الفقه والقانون. ليس غريباً تبعاً لذلك التكوين الإسلاميّ المحافظ، أن يكون محتوى هذين العنوانين في شأن المرأة، تكرارًا حرفيًّا لآراء علماء الفقه الإسلاميّ القدامى، في شأن قوامة الرجل، وحرمان المرأة الحقّ من أيّ ولاية سياسيّة، كحرمانها من أيّ ولاية دينيّة، في تناسق مع جعل شهادتها بنصف قيمة شهادة الرّجل. وهذه الأفكار، من ضمن سائر عناصر التصوّر الإسلاميّ التقليديّ التي أدرجها الإخوان في إيديولوجيا سياسيّة، لن تتغيّر عند إخوان سوريا. بعد مرحلة الوجود العلنيّ والتأسيس (بين 1946 و1963)، التي كان فيها للإخوان تغلغل اجتماعيّ وانخراط خيري، على عدّة واجهات كالتعليم والصحافة والمستشفيات والنوادي الرياضيّة والمؤسّسات الاقتصاديّة، سيدخل الإسلام السياسيّ في علاقة صراعيّة مع السلطة السياسيّة، منذ وصول حزب البعث السوري إلى سدّة الحكم عام 1963، وشروعه في تطبيق سياسة الحزب الواحد التي تحوّلت إلى نظام معلن للدولة، مع صعود حافظ الأسد إلى سدّة الحكم عام 1970. وخلال كلّ التاريخ الفاصل الذي ينتهي بالثورة السوريّة، وتكوين الجيش السوري الحرّ، وإعلان المجلس الوطنيّ السوريّ، فإنّ اسم الإخوان السوريّين سيرتبط باسم النضال ضدّ النظام البعثي، وباسم مدينة حماة التي كانت شاهدة على اضطهادهم من قبل النّظام في مناسبتين معلومتين على الأقل (1964، 1982)، والتي اختلطت فيها دماؤهم بدماء المدنيّين، في الغارات الانتقاميّة التي شنّها النظام على المدينة.

ربّما يبيّن هذا أنّ الإسلام السياسيّ في صورته التقليديّة الإخوانيّة، متجذّر في تاريخ سوريا المعاصر، بل إنّ له موطئ قدم في الشرعيّة التاريخيّة والسياسيّة. فهل يعني هذا أنّ النّظام الحالي، وهو متحدّر من فرعه المتشدّد أنّنا إزاء استئناف لتيّار أصيل قد يفيد من تلك الأصالة التاريخيّة، ليمثّل واقعاً فعليًّا لا مجرّد حالة عرضيّة؟

لتفسير إجابتنا بالإيجاب عن هذا السؤال، يكفينا الإشارة إلى حقيقة التقاطعات الجوهريّة بين أطياف الحركة الإسلاميّة بكلّ فروعها السياسيّة، على قاعدة جامعة هي الفكر الإخوانيّ. فمن المعلوم أنّ التيّارات الجهاديّة، بداية بالجهاد العالميّ الأفغاني ومنظّره المعروف عبد اللّه عزّام (ت1989)، وصولاً إلى تنظيم القاعدة، ثمّ تنظيم الدولة الإسلاميّة بالعراق والشام، حتّى انفصال جبهة النصرة، وتحوّلها إلى هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، نشأت من تقاطع بين السلفيّة النجديّة الوهابيّة، والفكر الإخوانيّ في تنظيريّته القطبيّة المصريّة. ولئن وقع هذا التلاقح منذ سبعينيات القرن العشرين، لمّا استقدم الإخوان إلى العربيّة السعوديّة، في إطار إفادة من الخبرة المصريّة في مجال تنظيم التعليم خاصّة، فإنّ أثره كان بالغا على تحويل السلفيّة الوهابيّة إلى إسلام حركيّ، ودّع تأفّفه الأصليّ من السياسة، ليصبح فصيل منه واسع كالسلفيّة السروريّة، أبرز المشاركين في ما سمّي بأحداث الصحوة الإسلاميّة بالسعوديّة (ما بين 1980 و2000)، بقيادة صحويّين معروفين أمثال سلمان العودة وسفر الحوالي. ولنا لإثبات هذا التقاطع المؤكّد في علم أساسيّ للسلفيّة هو ناصر الدين الألباني(ت1999)، دليل على أنّنا في شأن السلطة القائمة حاليًّا في سوريا واقعيًّا إزاء إسلام حركيّ متأرجح بين الحدّين السلفيّ الرّاديكاليّ والإخوانيّ على الأقلّ. فناصر الدين الألباني السوريّ النشأة والتكوين الدينيّ والإشعاع العلميّ في علم الحديث، تجتمع عنده سائر الأعلام المنظّرة للجهاد الإسلاميّ، فمن تلاميذه المتأثّرين بالفكر الإخوانيّ، وبتشدّده القطبيّ خاصّة، المنظّر الجامع لكلّ الحركات الجهاديّة، وشيخ المجاهدين في كلّ أرجاء العالم، الفلسطينيّ عبد اللّه عزّام، صاحب "موسوعة الذخائر العظام" التي ستمثّل المرجع الأعلى لكلّ الحركات الجهاديّة دون استثناء. ومن تلاميذه أيضا المنظّر الجهاديّ أبو قتادة الفلسطينيّ (و1960)، ومنهم أيضا تلميذ عزّام أبو مصعب السوري (اختفى 2012) صاحب كتاب "دعوة المقاومة الإسلاميّة العالميّة". ومن تلاميذه في سوريا أيضا السلفيّ عدنان العرعور (و1948) الذي دعم الثورة على بشّار الأسد، والسلفيّ الإخوانيّ السوريّ محمّد المبارك..

هل نحن إذن إزاء وضع سياسيّ تحكمه حساسيّة فكريّة إسلاميّة محافظة، إن لم نقل إنّها متشدّدة صفويّة؟ وهل هي حساسيّة أصيلة متجذّرة في سوريا، ممّا يمدّها برصيد تاريخيّ واجتماعيّ، قد يوفّر لها أنصارها، أو القدر الأدنى من الشرعيّة، وتبعا لذلك يحوّلها إلى خيار قائم له ديمومة، أو على الأقلّ مؤثّر، لا مجرّد حالة عرضيّة؟

يبدو الأمر كذلك على الأقلّ من الناحية الفكريّة. وفي ظلّ هذا الوضع الذي لا يمنح المرأة من الحقوق، بل هو يتعامل معها خارج منظومة الحقّ، برؤية طبيعيّة إسلاميّة شديدة الفقهيّة والحرفيّة، يتوقّع معها كلّ سيناريوهات التمييز والعزل والمراقبة، ما هي التحدّيات المرفوعة في وجه المرأة السوريّة؟

2- تحدّيات في مواجهة المرأة السوريّة

نعتمد ونحن نفكّر في ما يمكن فعله من قبل المرأة السوريّة، للدفاع عن مكتسبات وضعها الحديث، من زاوية نظر متعلّقة بدولة المواطنة بصفتها النموذج الأعلى للانتظام السياسيّ في الوقت الرّاهن، المنظور المقارن، الذي نستلهم فيه التجربة التونسيّة في هذا المجال. فعلى الاختلافات التاريخيّة، والفكريّة، والإنسانيّة بين التجربتين التونسيّة والسوريّة، فقد عرفت تونس تجربة حكم نسبيّ لحزب سياسيّ إسلاميّ يتبنّى المرجعيّة الإخوانيّة. وكان للمرأة في تلك التجربة دور فاعل في التصدّي لكلّ محاولاته المتردّدة التي بذلها لتغيير صورة المجتمع، أو لأسلمته بعض الأسلمة على الأقل. من المؤكّد أنّنا لا نجد في تفكير زعيم الحزب الإسلاميّ التونسيّ ومنظّره الأساسيّ راشد الغنّوشي ما نجده في كتابات منظّر الحزب الإخواني السوريّ وزعيمه الرّوحي مصطفى السباعيّ، إلاّ أنّهما يتّفقان في الأساسيّات. فيتعلّق السباعي في كتابه "المرأة بين الفقه والقانون" بتأكيد الفوارق الإسلاميّة بين المرأة والرّجل، فلا شهادتها مساوية لشهادة الرجل، ولا حظّها من الميراث كحظّه، وهي في كلتا الحالتين نصف الرّجل. ولا لها الحقّ في الولاية السياسيّة ولا الدينيّة، فالقرآن "يحتّم (القرآن) أن تكون رئاسة الدولة العليا للرّجل" (ط4، 2010، ص29)؛ لأنّ هذه الوظيفة كوظائف أخرى لا تتفق مع تكوين المرأة النفسيّ والعاطفيّ، ومع طبيعتها المحدّدة في الإسلام. وبالمقابل، لا يرى الغنّوشي مانعاً من تولّيها سائر الوظائف السياسيّة، وحتّى ولاية القضاء، إلاّ أنّه يتقيّد بالرفض الإسلاميّ التقليدي للولاية العامّة السياسيّة؛ أي رئاسة الدولة، فـ "الممنوع هو الولاية العامّة للمرأة على الرّجال" (المرأة بين القرآن وواقع المسلمين، ط2000، ص119). إنّ النظرة الطبيعيّة هي نفسها للمرأة التي تجعل عند الغنّوشي "الوظيفة الجنسيّة هي جوهر الأنثى" (ص54).

وقياساً إلى ما فعلته المرأة التونسيّة في التصدّي لمحاولات الحزب الإسلاميّ التونسي تغيير صورة المجتمع والدولة، ونظنّه ضروريًّا في الوقت الرّاهن للمرأة السوريّة، يتوجّب على المرأة السوريّة التفكير من داخل منطق العمل السلمي الحواريّ المواطنيّ، الذي لا بديل عنه، في ما نسمّيه الحضور في المجال العامّ والظهور (présence and visibility). نفسّر هذا المصطلح بزاوية نظر تأويليّة بأنّ الإنسان لا يوجد ولا يعبّر عن وجوده بالكلمة وحدها، أو باللّغة، إنّما هو يوجد بجسده بصفته كتلة مرئيّة، وبأصواته، وألوانه، وحركته في الفضاء، ويوجد كذلك برموزه، وعلاماته، وآثاره. هذه كلّها تجعل الإنسان موجودًا مرئيًّا، يؤثّر حتّى بصمته في من يراه. والحضور والظهور في المجال العامّ هو إشعار بالوجود في الفضاء المشترك بين الجميع الذي يمثّله الشارع، وتأثير بالظهور في الأطراف الأخرى المتواجدة فيه. وتماما كما يوجد الإنسان بذاته، فإنّه يوجد في التفات مستمرّ إلى ما هو خارجه، فيعمل فيه ذلك الخارج بكلّ مكوّناته وأبعاده، ولا سيما الآخر الإنسانيّ الذي يحدّده تماماً كما يتحدّد به. وهكذا يحدث التأثير المتبادل بين الإنسان وما يحيط به، في جدلٍ أفقيّ، حاملٍ للجميع، محدّد لهم حتماً. ومتى ارتقينا فوق هذا التفسير الفينومينولوجي والتأويليّ للوجود الإنسانيّ، وأفدنا منه في كيفيّات الحضور والظهور في المجال العامّ، رأينا صور حضور المرأة التونسيّة، كالحضور المطلوب للمرأة في المجال العامّ السوريّ، حضورًا جسديًّا وصوتيًّا ولغويًّا في المسيرات الكثيرة التي خرجت فيها للشوارع مظهرة وجودها، بكلّ أساليب الظهور ووسائله المرئيّة، والمسموعة. كما كان حضورها مؤسّسيًّا، في كلّ مؤسّسات المشاركة السياسيّة، بداية بالأحزاب، وصولاً إلى الجمعيّات المشكّلة للمجتمع المدنيّ، كالجمعيّات النسويّة، والحقوقيّة، والبيئيّة، والفكريّة. وكان للمرأة حضور وظهور بالفنون بتنوّع أشكالها وأنواعها، وكان لها أيضاً حضورٌ اجتماعيٌّ متزايد مقصود، عبر مختلف الوسائط الإعلاميّة، والثقافيّة.

قد يأخذنا الاسترسال في شرح أشكال الحضور والظهور البسيطة، التي تضمن تشكيل وعي جماعي مفتوح على تمكين المرأة ممّا يحصّنها من احتمالات ارتداد إسلاميّ شديد المحافظة عن مكتسبات المرأة السوريّة المتحقّقة، على الرغم من مشكلات الدولة السابقة البعثيّة، إلاّ أنّ ما نظنّ ضرورة التنصيص عليه، أن يكون هذا الحضور مدفوعاً بالرغبة في الحوار. فليس منه بدّ إذا أردنا الاحتفاظ للسياسة بمعناها الأصليّ انتقالاً من حلّ مشكلات العيش الجماعي من العنف إلى الكلمة والحوار. وبعيدًا عن منطق التحيّز لهذا الطرف أو ذاك، وخارج دائرة هذا التفكير القائم على الإقصاء المتبادل الذي لم تجنِ منه المجتمعات العربيّة إلى حدّ الآن، سوى مشكلات متزايدة في الاندماج الجماعي وغياب الولاء الحقيقي لفكرة الدولة بما هي فضاء تعايش الجميع، فإنّ ما ينبغي التذكير به أن لا حوار ممكن دون تواضع، يتخلّى فيه كلّ طرفٍ عن تمركزه الذاتيّ، ويعترف فيه كلّ طرفٍ للآخر بحقّه في التفكير والوجود. ومنذئذ يكون البحث عن سبل التعايش بحثاً عن الاتفاق التقاطعيّ بمصطلح رولزي (نسبة إلى جون رولز)، يقصد ذلك الموضع المشترك الذي يمكن أن تلتقي فيه الرؤى والمصالح والإرادات. من ذلك البحث وفي اتّجاهه يتعيّن أن يذهب الجميع.

د. حسام الدين درويش:

من الواضح أن هناك تعدّدًا وتنوعاً في وجهات النظر، ونحن نرى في ذلك غنى، بغض النظر عن انحياز جزئي أو شخصيّ لهذه الرؤية أو تلك، وأنا لا أتبنّى أي وجهة نظر كاملة؛ فهناك تقاطعات مع هذه الرؤية أو تلك، وأرى في ذلك غنى وإثراءً للنقاش. لكن من الواضح أيضاً أن هناك اختلافاً حقيقيًّا، وهذا الاختلاف هو ما سنحاول مناقشته وإبراز أبعاده.

سأحاول أن أطرح تعليقاً أو سؤالاً على كل مداخلة قُدّمت، ثم سنفتح، كالعادة، المجال لكل الحاضرات والحاضرين لطرح أسئلتهم.

سأبدأ بالدكتورة ناجية، ثم الدكتورة مية الرحبي؛

د. ناجية كما قلت صدقاً، إن مداخلتك غنية ومثيرة للتفكير، لكن سأركز على نقطتين؛ مع العلم أن هناك نقاطا أخرى، يمكن تناولها من خلال المداخلات الأخرى.

في النقطة الأولى، تبدو لي رؤيتك للعلاقة بين الماضي والحاضر إشكالية، وأنا أختلف معها. تفيد رؤيتك أن هناك ماضياً يؤثر في الحاضر؛ أي إن الماضي هو الفاعل، والحاضر هو المنفعل بهذا الماضي، وهذا التأثير هو المشكلة، والحل هو أن نقوم بالحد من التأثيرات السلبية لهذا الماضي؛ وذلك بنقد التراث. هذه الخطاطة التي قدمتها، سأعارضها برؤية ترى أن الحاضر هو الذي يؤثر في الماضي، ويقدم صياغة له ويستحضره؛ الماضي لا يحضر لوحده، وإنما يُستحضر. إذن حضور الماضي يمرّ عبر انشغالات الحاضر ورؤيته؛ ذُكر ابن تيمية في الأسبوع الماضي، وابن تيمة لم يكن أحدٌ يعرفه إلا بعد أن تم استحضاره، هو لم يحضر لوحده، وبالتالي إلى أي حدّ يكون الماضي هو المسؤول؟ وهذه رؤية أخرى للماضوية التي تجعل الثقل في الماضي هو الذي يؤثر، والحاضر مجرد ضحية.

النقطة الثانية، ولأقل إنها ذات خصوصية تونسية. في إحدى جلسات مؤتمر حضرته، قالت إحدى المشاركات، "نحن بنات بورقيبة"، وقد بدا لي هذا التعبير غريباً بعض الشيء، من خارج تونس. فبورقيبة معروف كزعيم إصلاحي، ولكنه دكتاتور مستبدّ وغير ديمقراطي، وبدا في مداخلات هذا الحاضر، أننا بحاجة إلى استبداد، أو على الأقل نتغافل عنه؛ على اعتبار أن التحديث يفرض من فوق، وأنتم تعلمون كيف قام بورقيبة بالتحديث في مجال حقوق المرأة، وتونس هي الأكثر تقدّماً في هذه المدونة، وتنافسها المغرب، وقد اختلفنا في هذا. إذن ثمة تحديث حصل من مستبدٍّ عادلٍ، لكن إلى أيّ حد يجعل هذا القضية النسوية قضية مضادة للديمقراطية أو قضية غير ديمقراطية أو قضية معزولة؛ لأنها يمكن أن تتحالف مع الاستبداد خوفاً من هذا المجتمع الذي يُنتقد من هذا التراث ومن هذه الثقافة؟

د. ناجية الوريمي:

شكرًا أستاذ حسام، فقط لأوضح للحضور الكريم، أنا مجبرة على المغادرة، لذلك طلبت من الأستاذ حسام أن يقدمني، لو سمحتم طبعاً.

سؤالان مهمّان؛ بالنسبة إلى السؤال الأول بطبيعة الحال الماضي لا يحضر هكذا لوحده، وإنما الوعي العربي المأزوم هو الذي تشبث به ورأى فيه بديلاً. المشكلة في الحقيقة، بدأت منذ عصر النهضة؛ لأن ثمة مهام فكرية نقدية لم تنجز، وحضر الماضي حضورًا لينقذ هوية مهددة بالاستعمار.. وحضر الماضي حضورًا تبريريًّا، واعتُبر في حدّ ذاته بديلاً بمختلف تياراته. حتى ما أخذه هؤلاء المفكرون عن الغرب، حاولوا أن يوجدوا له جذورًا في الماضي، ثم استمر الأمر مع استمرار الأزمة. وفي علم الاجتماع كل مجتمع عريق يمر بأزمة، يلجأ إلى ماضيه، يتمثّله بطريقته، وهذا الماضي المتخيل هو الذي تنتجه هذه مخيلة مأزومة لتواجه مشاكلها في الحاضر، أنا متفقة معك تماماً في هذا.

د. حسام الدين درويش:

سأعيد صياغة المسألة: المجتمع لا يلجأ إلى التراث لوحده؛ فالناس العاديون لا يلجؤون إليه بشكل مستقل، وإنما يحضر أو يُستحضر من قبل قوى هي الحاكمة. ومن ثمة، النقد ينبغي أن يوجه إلى السياسة والقوى الحاكمة...

د. ناجية الوريمي:

القوى المؤثرة؛ هناك الخطاب العالِم الذي يمكن أن يتحكم في الثقافة الشعبية وفي الثقافة المتداولة؛ فما ساد منذ عصر النهضة -وأكاد أقول إلى اليوم- هو استحضار مَرَضي للماضي، هو تخيّل الماضي بوصفه ماضياً نموذجيًّا، يمكن أن نحذو حذوه لنحلّ مشاكل اليوم، وهذا عائدٌ إلى أزمة يمر بها المجتمع العربي، ولم يستطع تجاوزها إلى اليوم. المشكلة طبعاً في الوعي العربي، ليس هناك ماضٍ يحضر بطبيعته، حتى هوية الماضي نحن من يشكلها، أي الحاضر هو الذي يشكلها، وهو الذي يصوغها بالطريقة التي تخدم أغراضاً بالأساس إيديولوجية، أيًّا كانت هذه النزعات الأيديولوجية.

د. حسام الدين درويش:

إذا استخدمنا المصطلح الذي ذكرته د. زهيدة؛ فقد قدمت الإسلام السياسي وأخريات في الندوة، على أنه من أسباب الوضع السيئ.

د. ناجية الوريمي:

هو نتيجة وسبب، هو في الوقت نفسه نتيجة للأزمة.

د. حسام الدين درويش:

أنت استبقت السؤال، هي قدمته على أنه نتيجة أكثر، وليس سبباً، أنتِ قدمته على أساس أنه سبب، وهي قدمته على أساس أنه نتيجة.

د. ناجية الوريمي:

وفي كلتا الحالتين، يصح الأمر؛ الإسلام السياسي هو نتيجة الأزمة، ولكن دخل بعد ذلك في المنظومة وأصبح جزءًا من الأزمة.

د. حسام الدين درويش:

وماذا عن السؤال الثاني؟

د. ناجية الوريمي:

بالنسبة إلى التجربة البورقيبية، أنا في نظري لا يمكن أن نلجأ إلى نوع من الإطلاق في تقييم التجارب؛ كل تجربة سياسية فيها مزايا وفيها نقائص. والتجربة البورقيبية لا أحد ينكر أنها كرست الاستبداد السياسي؛ مفهوم الفردية وعبادة الفرد مورست في تونس الاستقلال، ربما أقول عدم وجود تقاليد ديمقراطية منذ العهد البورقيبي، كانت له نتائج ليست محمودة، حتى بعد الفترة البورقيبية، ولكن لا يمكن بأيّ حالٍ أن نهمل النزوع التحديثي الذي اختاره بورقيبة. أعتقد أن ما قام به في مجلة الأحوال الشخصية، وما قام به في مجال التعليم عموماً، وفي مجال الصحة إلى غير ذلك.. تجني تونس ثماره إلى اليوم..

د. حسام الدين درويش:

لم يكن الغرض من كلامي تقييماً، بالمعنى السلبي أو الإيجابي للتجربة البورقيبية، ولكن السؤال المطروح هو: إلى أيّ حدٍّ ترتبط القضية النسوية أو قضية المرأة في العالم العربي والإسلامي في هذه باستبداد علماني هنا؛ لأن الإسلامية كما ذكرت د. نادية تمثل بمعنى ما، عقبة. بالتأكيد عقبة في وجه حقوق المرأة. سؤالي هنا، إلى أيّ حدٍّ يعتبر هذا التحديث من فوق، الذي يتم رغم المجتمع، ضروريًّا؟ وهل هو تعبير عن المجتمع؟

د. ناجية الوريمي:

إذا كانت هناك تجربة سعت إلى نوع من الديمقراطية الاجتماعية، لا يمكن أن نقول إنها اختيار استبدادي؛ يعني أن نمكّن المرأة من حقوقها، ليس قرارًا استبداديًّا؛ فالاستبداد له نتائج سلبيّة على حقوق المواطنين، وفي هذا الصدد ربما استعمال مصطلح استبداد في هذا المجال -يعني مجال تحديث الوضع الاجتماعي- لا أعتقد أنه يستقيم كثيرًا.

د. حسام الدين درويش:

بالمعنى السياسي؟

د. ناجية الوريمي:

لو سمحت، أنا في مداخلتي ذكرت أن الإرادة السياسية لها دخلٌ -شئنا أم أبينا أيًّا كانت هذه الإرادة السياسية- لها دخلٌ في تغيير الواقع، إذا ما نظرنا إلى السياسة بوصفها تحديد الاختيارات العامة للمجتمع وتوفير الظروف الملائمة لذلك، فإن هذه الإرادة السياسية قادرة -ولن أقول هي المحددة- على أن تغير الواقع في هذا الاتجاه أو في ذاك. أقول من حسن حظ تونس في هذا الجانب بالذات، أنها توفرت لها إرادة سياسية، سارت في اتجاه التحديث، ولكن هذا لا يعني أن التجربة بصفة عامة في كل المجالات تجربة إيجابية، طبعاً لا. أنا ضد هذه الأحكام المطلقة، في كل تجربة، في كل اختيار، في كل إيديولوجيا، في كل الظواهر، لا بدّ لنا أن نميز بين المستويات. ولأوضّح ذلك ربما أعكس السؤال: هل أعطى هذا الاختيار أكله؟ في الواقع التونسي، نعم أعطى أكله، أعتقد أن ما تتمتع به المرأة التونسية اليوم هو تأكيد لهذه الإجابة. وكنت ذكرت مؤشرًا لفت انتباهي، بصفتي جامعية، وهو أنّ نسبة هامّة، ما يقارب ال 70% من الطلبة في تونس من الإناث، والمتخرجون من الجامعة التونسية هم من الإناث بنسبة 70%. طبعاً، أنا لا أعتبر هذا معطى إيجابيًّا، لأن في هذا جوانب سلبية، ولكن مهما كان الأمر، يمكن أن ننظر إلى هذه الظاهرة بوصفها نتيجة من النتائج التي تحققت في إطار السياسة الاجتماعية التحديثية التي اتُّبِعت في تونس، وأعتقد أنّ هذه الظاهرة تظل معطى إيجابيًّا إلى حد ما، إذ ليس معنى هذا أن المطلوب هو أن نفضل المرأة على الرجل، لا. الظاهرة قد ننظر إليها من زاوية مدى تمكن المرأة من التعليم في تونس، ولكن أيضاً يجب أن نثير جانبها السلبي؛ يعني لا بد من مراعاة التوازن الاجتماعي والثقافي إلى غير ذلك..

د. حسام الدين درويش:

إذن، فلنقل في عدم الإطلاق في المجال السياسي، من حيث الحريات السياسية، التعددية الحزبية، وعدم الفردية المؤسساتية، لا أعرف ليته لا يوجد أصلاً.

د. ناجية الوريمي:

قلت أنا لست موافقة على الجانب الآخر؛ يعني جانب عدم تكريس تقاليد الديمقراطية.

د. حسام الدين درويِش:

د. ناجية، هذه المثنوية هي التي كانت الغرض من سؤالي؛ من جانب أول هناك إنجازات رائعة، ليس فقط في قضية المرأة وحقوقها، بل أيضاً في مستوى التعليم والصحة، وهذه مسائل كانت مهمة وغاية في الأهمية، لكن من جانب آخر لدينا نظام علماني، بالمعنى السياسي، استبدادي؛ أي إنه لا يقبل الرأي الآخر. سؤالي هو: إلى أيّ حدّ يمكن أن تكون هذه الثنائية قدرًا علينا، أم إنه يمكن التخلص منها، حيث نتمكن من الجمع بين الأمرين، وأنا ربطتها بما قالته د. نادية بأن طالما أن هناك إسلامية أو دينية في النظام السياسي، فلا يمكن أن يكون هذا النظام منصفاً لقضايا المرأة.

شكرًا جزيلاً لك د. ناجية.

د. ناجية الوريمي:

شكرًا لكم جميعاً، وأرجو المعذرة، فأنا مضطرة على أن أغادر، شكرًا لكم.

د. حسام الدين درويش:

قالت د. ميّة الرحبي سؤالاً مفاده أنه في ظل النظام الأسدي الذي هو بمعنى ما علماني، وهذه مسألة إشكالية، حيث تصفه بالعلماني، وفي ظل هذا النظام، لم تنل المرأة حقوقها، فكيف سيكون حال المرأة في ظل نظام إسلامي؟ هذا السؤال كنت أودّ أن أناقشه معها بجدية؛ أي بطريقة استفهامية، وليس على أنه سؤال بلاغي أو خطابي تكون الإجابة متضمنة فيه.

د. ميادة، دعيني أعود معك إلى مسألة اللغة. في عصر سابق، كان اللغويون يسوّغون عدم استخدام صيغة التأنيث أو المؤنثة في بعض الكلمات، مثل "رئيس" بدلاً من "رئيسة" أو "زعيم" بدلاً من "زعيمة"، معتبرين أن استخدام "رئيسة" كان فائضًا عن الحاجة. كان يُقال غالبًا إن "الرئيس" هو الرئيس، وليس "رئيسة"، وكذلك "الزعيم" هو الزعيم، وليس "زعيمة"، و"المدير" هو المدير، وليس "مديرة". إذا كان هذا السبب مقبولًا في ذلك العصر، مع الأخذ في الاعتبار التفاوت بين العصور، فهو لم يعد مقبولًا في عصرنا الحالي.

عندما تحدثت د. نادية عن الأديان، قلت لها إن الفلسفات في العصور السابقة، كانت لديها نظرة دونية جدًّا تجاه المرأة؛ مثلما كان الحال مع أرسطو وأفلاطون...شيء يندى له الجبين، عندما نستعيد رؤيتهم للمرأة. ولكن إذا كان ذلك هو المسوغ سابقاً، فهو لم يعد موجودًا حالياً.

تحدثت د. ناجية عن عددٍ كبيرٍ من المتعلمات والخريجات، وبالتالي المديرات والرئيسات في فروع عدة، لكن مع ذلك هناك خجل أو حياء من استخدام هذه الألفاظ المؤنثة، على الرغم من أن السبب الذي كان موجودا في الماضي قد زال. في رأيك، لماذا هذا الحياء؟ هل هو مجرد عادة؟ وكما تعرفين، اللغة العربية مرتبطة بالمقدس، وهناك ثقافات ومنها العربية والفرنسية، الخطأ اللغوي فيها خطيئة، وليس هناك تسامح كبير معه، وأنتِ أشرتِ إلى أن هذه المسألة ذات بعد ثقافي؛ يعني مرتبطة بثقافة ومؤسسات، حبذا لو تتناولين هذه النقطة.

د. ميادة كيالي:

تقول جيردا ليرنر في إحدى المقابلات، وقد سألوها عن موضوع ذكورية الأديان، ومع تفوق المجتمع الأبوي، رجعت إلى التاريخ، وبحثت لأرى هل فعلاً كان هذا الشيء قدرًا وقانوناً إلهياً، ليكون المجتمع بقيادة الرجل، وأضافت إن الظروف التي نشأت فيها الحضارات القديمة والأديان كانت النقلات الحضارية هي التي أهلت هذه القيادة الأبوية. أما الآن، فلسنا في حاجة لهذه القيادة؛ لأن الظروف تغيرت. الشيء نفسه نقوله نحن في كثير من الأمور التي كانت صحيحة قبل الإسلام أو في ظل الإسلام، لم تعد صالحة اليوم؛ لأن المجتمعات تطورت، وتطورت الحاجة إلى تأويل جديد، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى تجديد في اللغة؛ ففي القرآن نفسه، توجد استعمالات للمثنى بصيغة معينة، ويعد هذا تطورًا في اللغة، لكن لا أحد ينظر إليها بإمكانية استخدامها.

د. حسام الدين درويش:

هذا ليس بالضرورة خروجاً عن الإسلام أو عليه، هذا من وجهة نظرك، أنا أستشهد بالدكتورة نادية أكثر من مرة، تحضيرًا للسؤال الذي سأسأله لها، لكن ليس بالضرورة أن يكون خروجاً عن الإسلام أو عليه، بل يمكن أن يتم ذلك من خلال رؤية إسلامية.

د. ميادة كيالي:

صحيح، أنا لفت انتباهي كثيرًا ما أشار إليه د. أنس في حديثه، حين قال إن الإسلام السياسي متجذّر في سوريا، وله جذور ممتدة. بخلاف هذا، أنا أقول إن الدين الشعبي متجذّر في سوريا بشكل كبير، وهذا هو الحاضنة الدينية، والتي يمكن أخذها بعين الاعتبار، حين نأتي على تقريع أو مدح المنظومة اليوم. لذلك، يجب مراعاة أن ثمة أناساً متمسكون بهذه العتبة الدينية الجميلة بالنسبة إليهم دون إغفال ظروف الظلم والقهر. فنحن ليست لدينا القدرة على تخيل كيف كانوا يتحملون هذا القهر بدون هذا الشعور الديني. لذلك، نحن في حاجة إلى الحفاظ على هذا الشعور الديني، وفي الوقت نفسه نحوّله إلى منصة استبداد باسم الله تعود على رقابنا. لما علقت على البوست، وقال لي هذا الشخص: "مع احترامي لشخصك الكريم، كيف يمكن لنا تأنيث كلمة شخص؟"، فأجبته بالقول: "يمكن لنا أن نستخدم كلمات أخرى، مثل الذات، المهم قد نجد طريقة، وهذا لا مشكلة فيه". أحد الأشخاص ردّ علي في البوست نفسه: "دعونا نرى المرأة، أين هي، وهي تشتغل بالأعمال الصحية، وتشتغل بالإطفاء، وتشتغل بكذا...". للأسف هذا الشخص الذي يتحدث هو سوري، والمرأة السورية قامت بعمل جبّار في هذا المجال، فهي أمّ وأب ومصنع، كم من الأعمال كانت تقوم بها. من الذي أخذ قرارات في حياة هؤلاء الأطفال الذين تيتموا؟ من الذي قاد هذه الدفة؟ لهذا السبب وقفة المرأة واستمراريتها وقدرتها على تربية أولادها وحماية نفسها، رغم كل الظروف، وهذا هو ما استطاعت القيام به، قررت أن تعيش وتصمد تحمي باقي الأطفال، هي من دفنت أولادها ودفنت زوجها. فلذلك، تغيير اللغة هو انعكاس لهذه العقلية التي يجب الانفلات منها...

د. حسام الدين درويش:

للإنصاف الاثنتان معكما حق؛ من جهة أولى دور المرأة الفاعل خصوصاً في وقت الحاجة، عندما تصبح ربّة الأسرة وأمّها وأباها، لا شك أن دورها رئيس وفاعلٌ ومهم جدًّا، لكن سؤالها هنا كان على المستوى القيادي في المجال العام؛ يعني هذا الدور المسؤول في أن تسهم في اتخاذ القرارات هنا دور ضعيف، مقابل أن حضورها في المستوى الاجتماعي أو المجتمعي أقوى، خصوصاً في هذه الظروف.

د. ميادة كيالي:

لدينا نماذج كثيرة؛ فالنساء اللائي أعرفهنّ قمن بأعمالٍ تطوعية على مدى سنوات، وأسسن جمعيات للتعليم، مشاغل للسيدات، وجمعن تبرعات، وهذا أراه عملاً كبيرًا جدًّا، أخذت المرأة فيه قرارًا، واستطاعت أن تكمل. اليوم، نحن في حاجة حتى نظل فعلاً رافعين السقف، ونحن شريكات في كل هذه المراحل التي تمت، وشريكات لرسم المستقبل ...

د. حسام الدين درويش:

كل هذه الأمثلة فقط لتبين أنها على الأقل من حيث المبدأ والطبيعة، المرأة قادرة، وليست في حاجة إلى أن تثبت ذلك، الفكرة الأساسية هي أن يكون هناك إنصاف في إعطائها المجال لتمارس هذه القدرات، ولتمارس هذه التأثيرات. شكرًا جزيلاً د. ميادة.

أبدأ بغزل بجملة قالتها د. زهيدة، وهي بالنسبة لي فلسفية، الإجابة الفلسفية هي الإجابة بنعم ولا، ليس نعم مطلقة، وليس لا مطلقة، سواء كان هذا الأمر متعلقاً بالعلماني أو الإسلامي، في الواقع الحاضر أو في المستقبل، وخصوصاً هنا على المستقبل الذي لايزال مفتوح الآفاق.

بدأت د. زهيدة بنقطة مفادها أن الدين أصبح مكوناً رئيساً للهوية الثقافية، ربما لا يختلف على ذلك عموماً، لكن من وجهة نظرك بأيّ معنى أصبح مكوناً للهوية السياسية، وليس الثقافية؟ هل هذا يعني كما قال د. أنس، إنه طبيعي، صناعي، سيء، إيجابي؟ هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، رأيتِ أننا تعودنا على قراءة الجوانب المضيئة من الماضي، وذكرتِ صحيفة المدينة. في رأيي هناك من يركز على الجوانب المضيئة، وينسى الجوانب المظلمة، وهناك من يركز على المظلمة، وينسى المضيئة؛ بمعنى أننا نستحضر ما نريد. هل ترين بالفعل أننا نركز على الجوانب المضيئة عموماً في القراءات، أم إن قراءة الفكر العربي للتراث كانت، في الغالب، نقدية أكثر من كونها بنّاءة؟

أخيرًا بالمقارنة مع تركيا، ما يغيب عن معظم المقارنين الذين يتخذون تركيا نموذجاً بالفعل، هو أن إسلامية النظام السياسي أو التوجه الحزبي بنيت على علمانية راسخة في الدولة ومؤسساتها وقوانينها ودستورها؛ فإلى أي حد يمكن اتباع النموذج التركي من دون هذه الأسس العلمانية في الدولة الراسخة.

د. زهيدة درويش:

شكرًا على هذه الأسئلة، والتي تناولت فيها جوانب عدة؛ في ما يتعلق بالدين كثقافة، والدين كسياسة، فأنا قلت هو العنصر الطاغي اليوم في الهوية الثقافية. حضرتك، ميزت بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، الواقع أن هناك تقاطعات بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، وهناك علاقة تقريباً جدلية بين الهوية الثقافية والهوية السياسية؛ يعني الواحدة تفعل في الأخرى. عندما يكون المجتمع مجتمعاً إسلاميًّا محافظاً، وأنا أنطلق اليوم من ملاحظة الواقع وليس من كتب. أنا ألاحظ التحولات الاجتماعية في المجتمعات العربية، خاصة في المشرق العربي، وأجد أن هناك تقدماً كبيرًا للعنصر الديني في الهوية على حساب العناصر الأخرى؛ يعني في عصر النهضة انطلقت القومية العربية، لتجد قواسم مشتركة أو لتكون العنصر الأساسي في تكوين الهوية؛ المفهوم القومي. تدريجيًّا، وخاصة في العقود الأخيرة، انحسر هذا المفهوم القومي لأسباب عدة لصلاح الإسلام السياسي. فإذن عندما يكون المجتمع متقبلاً؛ وذلك لعدة أسباب، يعني هناك الفقر، هناك التربية في المدارس، التعليم، التفاوت الاجتماعي، التفاوت الثقافي. عندما يكون المجتمع مؤهلاً لتقبل الإسلام السياسي؛ لأنه في أكثريته مجتمع محافظ؛ فذلك يسهل الأمر على الإسلام السياسي للانتشار. هذا في ما يتعلق بالسؤال الأول.

السؤال الثاني يتعلق بالجوانب المضيئة والجوانب المظلمة؛ إذا أخذنا المناهج التعليمية، سواء في الجامعات أو في المدارس، يقدم لنا الماضي كأنه النموذج الأمثل الذي يجب أن نحتذي به، وهناك فعلاً تعمية على كل الجوانب المعتمة. طبعاً، هناك تيارات تنويرية في المجتمعات العربية، هناك مفكرون يحاولون فعلا قراءة موضوعية للتراث، حيث نستطيع أن نستلهم منه النقاط الحية، أن نستلهم ما يستطيع أن يخدم الواقع، وفي الوقت نفسه، أن نبين ما فهي من ثغرات، وما فيه من مشكلات، ولكن التيار الطاغي المؤسساتي، هو السياسة؛ يعني السياسات التعليمية إجمالاً هي سياسات تقوم على تمجيد الماضي، معظم الذين تناولوا الماضي بالنقد، هذا موضع تجريح وانتقاد إلى حد التكفير.

في ما يتعلق بالإسلام التركي، الإسلام السياسي التركي؛ لأنه مشروط أو لأنه يستند على تراث علماني متأصل في المجتمع، لا يستطيع أن يتطرف؛ يعني لا يمكن أن نقارن الإسلام السياسي في العالم العربي بالإسلام السياسي التركي. إجمالاً، المجتمعات العربية في أغلبيتها مجتمعات تنحو نحو الإسلام المحافظ التقليدي الذكوري، وهذه هي إجابتي الحقيقة.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً، الفكرة هنا، دعيني أقدمها بهذا الاختصار والاختزال: إذا كانت المشكلة اجتماعية ثقافية، فإلى أيّ حد يمكن لهذا المجتمع أن يكون عنصرًا أو أداة أو أساساً لديمقراطية ما؛ الديمقراطية بمعنى أن يعبر المجتمع عن نفسه سياسيًّا، أم إننا نحن في حاجة إلى تحديث من فوق، كما حصل في تونس أو حتى في تركيا أو غيرها؟

د. زهيدة درويش:

أنا أعتقد من خلال قناعتي الذاتية، أن التحديث في عالمنا العربي يجري من فوق، ويجب أن يجري من فوق؛ لأن القاعدة ليست مهيأة بعد.

د. حسام الدين درويش:

د. نادية ببساطة، مقابل شعار "الإسلام هو الحلّ"، من الواضح أن العلمانية هي الحلّ؛ أي فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن السياسة. المشكلة تكمن في الطابع الإسلامي أو الديني للسياسة؛ فطالما بعدٌ إسلاميٌّ أو بعدٌ ديني، فلن يكون هناك حلٌّ، هذه هي النظرة العامة.

قبل الندوة، دار نقاش حول أن المشكلة تكمن في الدين، وهذه رؤية يمكن أخذها بجدّية، خاصة وأن الأديان نشأت في عصور سابقة، لم يكن بإمكانها تبنّي الرؤية الحقوقية الكونية لمسائل المساواة، لم يكن ذلك ممكناً لأيّ طرف في التشريعات الدينية آنذاك، بل إن الفلسفة التي كانت سائدة في مختلف العصور، سواء في الأديان أو في الأساطير، لم تكن تنطلق من مفهوم المساواة.

ومع ذلك، هناك تأويلات دينية مختلفة، وهناك من يرى، إمكانية تحقيق المساواة الحقوقية الكاملة بالاستناد إلى رؤية إسلامية. سمعت ذ. أسماء تتحدث عن نسوية إسلامية، تنادي بالمساواة من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. وهنا يطرح السؤال: إلى أيّ حد يمكن التمسك فعلاً بهذه الرؤية العامة التي ترى أن الأديان، والإسلام، والإسلام السياسي، لا يقدمون أيّ جديد؟ وهذا ما قدمه د. أنس الطريقي

وإذا نظرنا بتمعّن، سنجد فوارق كبيرة بين تجارب الإسلام السياسي في تركيا وتونس ومصر وسوريا. هناك اختلافات حقيقية، رغم الانتقادات التي وُجّهت إلى راشد الغنوشي، فإنه يمثل تقدّمًا كبيرًا مقارنة بالإسلام السياسي في سوريا أو مصر. فإلى أيّ حدّ يمكن قبول هذه النظرة العامة معرفيًّا وسياسيًّا؟

وكأن هذه النظرة تؤدي إلى حرب إقصاء، تقوم على منطق "نحن أو هم"، كما هو الحال في سوريا، حيث كان الصراع صراع وجود أكثر من كونه صراع حدود، بينما أصبح اليوم صراع حدود وليس صراع وجود كما كان في عهد النظام الأسدي. فإلى أيّ حد هذه النظرة العامة إيديولوجية بمعناها الأحادي أكثر من كونها معرفية وسياسية؟ فهي ليست سياسية؛ لأنها تنبذ التفاوض مع الطرف الآخر، وتتبنى منطق "نحن أو أنتم"، وليست معرفية؛ لأنها لا تأخذ في الاعتبار التمايزات بين الأطراف المختلفة. وكذلك حقوق المرأة ليست مسألة محسومة أو وجبة جاهزة، نحصل عليها أو لا، بل نحن في حاجة، كما أشرت أنتِ، إلى نضال وصراع ضمن علاقات القوة لتغييرها. من هنا، قد لا تكون هذه النظرة مفيدة، إذا تم تبني موقف "نحن أو هم"، بدلاً من الصراع في سياقه المعقد. وبهذا المعنى، أرى في رؤيتك نوعاً من "العلمانوية الجوهرانية"، حيث يتم التعامل مع الدين، والإسلام، والإسلام السياسي، ككيانات ذات جوهر ثابت لا يتغير، ما يستدعي الإقصاء كشرط لحلّ الإشكال. على أيّ حال، لقد كان كلامك مثيرًا للتفكير بشكل كبير.

د. نادية محمود:

شكرًا جزيلاً د. حسام، أعتقد أن بعض المتحدثات قبلي، تحدثنَ عن بروز الحركات الإسلامية كحركات معاصرة أساساً حدثت في القرن العشرين؛ 1400 سنة ونحن نعيش تحت ظل الإسلام، الناس تصلي وتصوم. لما تحررنا من الاستعمار في القرن الأخير، وبدأت القومية العربية تتكلم عن النهضة وعن التصنيع؛ وهذه هي شعارات القومية، إلا أن عجز الأحزاب القومية عن الإجابة عن الحاجات الاجتماعية، الحاجات التي نتحدث عنها في السياسات الاجتماعية، وتتضمن مختلف المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وصلت هذه الحركات إلى طريق مسدود. ظهرت الحركات الإسلامية كحركات سياسية، تسعة من أجل طرح نفسها كبديل السلطة السياسية، وتقدم نظاماً سياسيًّا لإدارة المجتمع. يعني حركة حسن البنا، حركة الإخوان المسلمين ظهرت في وجه النظام الملكي والهيمنة البريطانية عليه، حيث أرجع سبب خراب البلاد والفساد لتفشي القيم الغربية. لذلك دعا إلى أن الإسلام هو الحلّ. فهذه الحركات هي حركات معاصرة أولاً، وفرضت نفسها على المجتمعات في بلدانها. في إيران لم تكن ثورة الشعب ضد الشاه إسلامية، لكن الجمهورية التي أسست بعد انهيار الشاه كانت إسلامية. وفرض النمط الإسلامي من قبل الجمهورية الجديدة على الناس. مثلا النساء اللائي خرجن في 8 آذار بعد الثورة عام 1979، كنّ من دون حجاب، ورفضن فرض الحجاب الإجباري الذي كان قد صدر من قبل السلطة الجديدة. فُرض عليهن بالعنف، وبالإرهاب. قتلت العديد من النساء في إيران بسبب فرض النمط الإسلامي على المسلمين. المسلمون ناس يؤدون الفرائص الخمسة، يصلون ويصومون، ويؤدون فريضة الحج، لكنهم أبناء هذا العصر، وليسوا أبناء تورا بورا، أو أبناء الكهوف. لذلك، فرض الإسلام السياسي كحركة سياسية على هذه المجتمعات، وفرض عليهم النمط الإسلامي المتشدد بالعيش. كلنا نتذكر ما حدث في 15آب 2021، حين رجعت حركة طالبان إلى السلطة في المجتمع الأفغاني، تعلق الناس بأجنحة الطائرات هرباً من هذه السلطة. إن كان المسلمون يؤمنون ويؤيدون هذه القوى، لماذا يهربون من حكم إسلامي؟ لماذا يقوم المسلمون بثورات ضد السلطة الإسلامية؟ لقد جرت أسلمة المجتمعات بالقمع. أنا واحدة من الناس أنحدر من عائلة مسلمة من الطائفة الشيعية، لم يفرض علينا أحد في الأسرة الحجاب، ويؤمنون بالتعليم، ويؤمنون بعمل المرأة؛ إلا أن فرض الحجاب هو أمر سياسي فرض من قبل جهات سياسية وبالعنف. نحن نتحدث عن سلطة سياسية استبدادية استخدمت الدين كأيديولوجية ضد المسلمين أنفسهم. أكثر الانتفاضات والاحتجاجات التي حصلت خلال العشر سنوات الأخيرة في العراق، حصلت في المناطق التي تسمى بين "شيعية" كانت ضد الحكم الشيعي. إذن، هنالك فرض للإسلام السياسي على المسلمين، يجب أن نفرق بين ممارسات الدين كإيمان كعقيدة كنمط حياة، وبين أسلمة المجتمع بالقوة. الآن الفصل بين الرجال والنساء، والذي تكلمتم عنه في الندوة السابقة، في وسائل المواصلات، أيّ مسلم سوري فكر في هذا الأمر؟ وهل يقبل أيّ سوري مؤمن هذا الأمر؟ قد يقبل البعض ممكن، لكن هذا ليس جزء من ثقافة المجتمع؛ أي الفصل في وسائل المواصلات. لماذا هذا الإرغام؟ لماذا هذه الأسلمة؟ لأن هنالك طبقة حاكمة، سلطة حاكمة، تعرف أنها إذا تهاونت في أسلمة المجتمع، سيزيلها المجتمع.

د. حسام الدين درويش:

هناك من يرى أن الإسلام السياسي هو تعبير عن الإسلام الثقافي، وقد عبّرت د. زهيدة جزئيًّا عن هذه النظرة. في المقابل، هناك رؤية أخرى ترى أن الإسلام السياسي يُفرض على المجتمع. لكن ألا يمكن أن يكون الإسلام السياسي مجرد أحد الأطراف في العملية السياسية؟ وبهذا المعنى، يمكن قبوله أو رفضه دون أن يمتلك سلطة فرض نفسه على الآخرين، أو الادعاء بأنه المعبّر الوحيد عن إرادة الشعب؛ أي إنه، بين الرؤية التي تعتبره مفروضًا، والتي تتبنينها، وبين الرؤية التي تعتبره تعبيرًا حقيقيًّا عن الثقافة، ألا يمكن أن يكون هناك موقف وسطي يجمع بينهما؟

د. نادية محمود:

الآن، جاء أحمد الشرع وقال يمكن فصل تاريخه عن تاريخ داعش، وهو يفكر في نموذج سوري يختلف عن الأحزاب السياسية أو الإسلام السياسي في المنطقة. مسألة الإسلام الثقافي، والتي تحدثت عنها قبلي زهيدة، هي ليست المغذية للإسلام السياسي، الإسلام السياسي حركة سياسية -في حالة سوريا-جاءوا على الدبابات، وفرضوا رؤيتهم على المجتمع، وسننتظر لنرى، بالضبط مثل ما الإسلام السياسي الشيعي جاء على الدبابات الأمريكية، وفرض نفسه بالقوة، وبدأ يضع مجموعة تشريعات أسوأ من تشريعات صدام حسين في ما يخص قضية المرأة تحديدًا. الان قضية حقوق المرأة وقضية ما يسمى بالأقليات. بالنسبة إلى قضية الأقليات، هي تعبير مغرض، ولا أؤمن به، حيث إن الجميع هم أبناء هذا البلد، فلماذا يكونون "أقليات". إن تصنيف الناس على أساس ديني هو أمر مغرض، ويسعى إلى تحقيق أهداف سياسية. وبالنسبة إلى الإسلام، إذا لم تكن هنالك قضية حقوق المرأة، والحجاب، فلن يكون هنالك أيّ فرق بين الإسلام السياسي وأيّ حركة سياسية أخرى، أي حركة سياسية يمكن أن تعرف هويتها من خلال خطابها وموقفها من قضية المرأة.

د. حسام الدين درويش:

دعيني أختم معك بهذه النقطة، وتحديدًا فيما يتعلق بقضية المرأة. يبدو أن هناك افتراضًا بوجود رؤية واحدة، وكأن الإسلام السياسي متجانس في مواقفه تجاه هذه القضية. ولكن، إذا نظرنا إلى الإسلام السياسي في تونس أو المغرب، أي الأحزاب السياسية هناك، ألا ترين أن موقفها يختلف جذريًّا عن موقف الإسلام السياسي في مصر أو سوريا، على سبيل المثال؟

صحيح أنهم قد يتفقون في بعض المسائل الأخرى، لكن هذه نقطة غاية في الأهمية ولا ينبغي التقليل منها، خصوصًا في سياق موضوع هذه الندوة. لذلك، من الضروري التمييز بين التيارات المختلفة داخل الإسلام السياسي، فليس هناك إسلام سياسي واحد، بل إسلامات سياسية متعددة بهذا المعنى.

د. نادية محمود:

في بداية كلامي، تحدثت عن تجربة البوسنا ومسلمي البوسنا، وقلت إن السياقات السياسية والاقتصادية في تلك البلدان هي التي تقرر ما هو الشكل، أو ما هي الحدود التي تتحرك فيها هذه الأحزاب الإسلامية، وهذه الأحزاب هي ليست فقط نازلة من المريخ، نزلت من كوكب آخر ببراشوت على المجتمعات. بالتأكيد هم جزء من هذا البلد، وهم قوة سياسية في هذا البلد، ويعرفون حدود المقبول وغير المقبول في هذا البلد، ويتحركون في هذا السياق؛ يعني حين يتكلم الشرع عن نموذج جديد أو يتحدث عن المؤتمر الوطني يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحالي، أو حتى تجنّبهم الإجابة عن الأسئلة، مثل مسألة القاضيات أو مسألة الشريعة، يحاولون تلافي الإجابة عن هذه القضية في المرحلة الراهنة، وما أن يستتب الأمر لهم حتى يظهروا بالشكل الممكن الذي يريدونه؛ مسألة الفصل بين الجنسين، مسألة الحجاب إلخ، هذه ليست قضايا بسيطة أو ثانوية، هذه في جوهر السلطة السياسية.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً. دعيني أقول إنه بعد أن قدّمتِ لي تمهيدًا لشنّ "قصف مدفعي" على إجابة د. أنس، وجدتُ نفسي في موقف صعب عندما قلتِ إن الإسلام لا يهبط بالمظلة، بل إنه يُفرض على المجتمع وليس مجرد تعبير عنه. أما الجملة الثانية، فقد زادت الأمر تعقيدًا بالنسبة لي...

د. نادية محمود:

الذي أريد قوله، إن تيارات الإسلام السياسي هي تيارات منبثقة من المجتمع، قد تدعمها قوى خارجية، ولكن لديها وجود محلّي، ولكنها تسعى إلى فرض برامجها وسياساتها على المجتمع بالقوة وبالعنف. هذه الحركات ليست نتاج الثقافة الإسلامية في المجتمع، أو الإسلام الثقافي، هذه حركات سياسية من تيارات سياسية داخل المجتمع. وهنالك فرق بين الاثنين، وإلا كيف تفسر أن المسلمين يثورون على الحكومات الإسلامية؟

د. حسام الدين درويش:

إذا عدنا إلى التجربة السياسية في سوريا، سأركز على النقطة الأولى التي تحدث عنها د. أنس: هل الإسلام السياسي، بمعناه الأصيل، متجذّر في المجتمع السوري أم لا؟ أنتم تعرفون أن هذا المصطلح إشكالي، وكانت إجابته: نعم. إذا كان الأمر كذلك، وكان الإسلام السياسي متجذّرًا تاريخيًّا، فمن المؤكد أنه كان موجودًا منذ نشأة سوريا، بل وأسهم في تأسيسها كدولة منذ المؤتمر التأسيسي الأول. لكن في أول انتخابات حزبية، كان حضوره ضئيلاً جدًّا، حيث لم يحصل إلا على مقعد أو مقعدين، حتى إن زعيم حزب الإخوان المسلمين، مصطفى السباعي، خسر في الانتخابات النيابية.

من ناحية أخرى، لماذا يجب التمييز؟ كنتُ أتحدث مع د. نادية عن الفرق بين الإسلام السياسي الموجود حالياً في السلطة والإسلام الإخواني، هناك انفصال واضح بينهما اليوم. ليس هناك تعيينات متبادلة بين الطرفين، بل هناك تباعدات لأسباب سياسية أو دينية، إلخ.

في هذا السياق، أستحضر ما قاله د. عزيز العظمة، وهو معروف بعلمانيته الشديدة. في أحد لقاءاته، أشار إلى أن الإسلام السلفي غريب أو يريد أن يكون غريبًا، مستندًا إلى المقولة المعروفة: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا". وأكد أن بعض الجماعات، مثل جماعة الجولاني أو الشرع، غريبة عن الثقافة السياسية السورية؛ أي إنها ليست أصيلة ولا متجذرة ولا تعبر عن المجتمع، رغم أنها جزء منه. لكنه أوضح أن طريقة لباسها، وأسلوب حياتها، وحتى خطابها، ليست جزءًا من النسيج السوري المعتاد، بل تبدو وكأنها جاءت من "اللامكان"؛ أي من خارج الأفق الثقافي لهذا المجتمع. فالانتساب إلى هذه الجماعات أو أي تيارات سلفية جهادية لا يحدث تلقائيًّا، وإنما من خلال إعادة تنشئة الأفراد ضمن مسار أيديولوجي محدد، مما يعني خضوعهم لعملية إعادة تأهيل اجتماعية وتعبوية تختلف عن التنشئة الاعتيادية. وهنا أُعيد ما قالته د. نادية: إن هذا التيار قد فُرِض على المجتمع أكثر مما كان تعبيرًا عنه.

سؤالي هنا هو استشكال لما ذكرته: ما أهمية هذا السؤال أصلاً؟ ما أهمية أن يكون الإسلام السياسي أصيلاً ومتجذّرًا؟ ما يهمني هو كيف سيتعامل معي، كيف سيتعامل مع الاختلاف، كيف سيتعامل مع التنوع؟ قضايا الأصالة وعدم الأصالة، كما تعلمون، تبقى مسائل إشكالية، وقد رأينا مع هايدغر وأدورنو كيف يمكن انتقاد مفهوم الأصالة نفسه. لذلك، من ناحية أولى، أختلف مع إجابتك التي تصف الإسلام السياسي بأنه أصيل ومتجذّر. ومن ناحية ثانية، أتساءل عن معنى أو أهمية هذا السؤال أصلاً.

د. أنس الطريقي:

في بداية الحديث، قلت إنني أمارس المنظور التأويلي أو الهرمينوطيقي، وأرى أن الإنسان موجودٌ في موارد متعددة، وقلت إنني أتبنّى المنظور المركب؛ لأن الواقع مركب من خيالات وأفكار ومعتقدات وتاريخ. وسؤالي عن مدى أصالة هذا المكون الظاهر في المجتمع السوري الآن، الإسلام السياسي، هدفه أن ننظر، هل يمثل جزءًا من تركيبة الواقع السوري، حتى من مصدر تاريخي بعيد أم لا؟ هو جزء من تركيبة هذا الواقع، وأنا أنظر إلى هذا الواقع بوصفه مركّباً من تصورات وخيالات ومشاريع، إن شئنا، تقدم، يراها كل فصيل بالطريقة التي يراها. فإذا كان هذا الإسلام موجودًا ومغروساً منذ التاريخ القديم لسوريا، فهذا معناه أنه جزء من هذه التركيبة المركبة للمجتمع السوري، ولو لم يكن جزءًا منها، لما كان بإمكانه أن ينتصر أو أن يلقى تأييدا شعبيًّا. أعطيك مثالاً: وقعت في تونس أحداث بنقردان، هجوم على مدينة جنوبية مع الحدود الليبية، من تصدّى لها؟ هجوم إرهابي من قبل قوة جهادية أرادت الاستحواذ على مدينة بنقردان، وتحويلها إلى إمارة إسلامية، أول من تصدى لها هم المواطنون. لماذا يقبل المجتمع السوري أو جزء منه، ويهلل ويفرح بقدوم هذه الثورة عن طريق إسلاميين أو جهاديين. بطبيعة الحال، هناك من يفرح لزوال الاستبداد، وهناك من يفرح كذلك؛ لأن الناس ليسوا غرباء عنه؛ لأنهم من ناحية معينة يمثلون، إن شئنا جانباً متطرفاً لتصوره عن الحياة، وهو تصور إسلاميٌّ، تصوره ديني عن الحياة، تصوره حرفي عن الحياة، وحتى إن كان هؤلاء جهاديون متطرفون، فهم بالنسبة إليه مقبولون إلى حد ما. السؤال عن الأصالة، وهل هذا نبت عجيب وغريب مثل ما يقول الأستاذ عزيز العظمة؟ أنا لا أعتقد أنه نبت عجيب وغريب، لو لم تكن له جذور في الذاكرة، تعرفون أن مصطفى السباعي عن حركة الإخوان المسلمين السورية، شاركت في كل الأحداث التاريخية المفصلية في تاريخ سوريا، شاركت في حرب 1948، شاركت في الوحدة السورية المصرية، وأخذت منها موقفاً فريدًا من نوعه، وفي ما بعد تصدّت لحافظ الأسد، ودخلت معه في مواجهة، ثم تصدّت لبشار الأسد ودخلت معه في مواجهة. ولما جاءت الثورة السورية، كانت في زعامة القوى المعارضة، وهذا لابد أن يكسبها شرعية كبيرة لدى الناس.

د. حسام الدين درويش:

دعني أستكمل هذا بسؤال طرحه د. صابر السويسي، حيث بدا وكأنه يريد التركيز على نقطة أخرى، يمكن استحضارها ضمن ثنائية الحضور والظهور والغياب.

في إشارة أولى، أودّ أن أوضح أنني ضد مقولة "أهل مكة أدرى بشعابها"، فأحيانًا قد يكون أهل المدينة، أو حتى أهل خيبر، أكثر دراية بمكة من أهلها. لكن في الحالة السورية، بدا لي أن من هم خارج "مكة السورية" لا يدركون بعض الحقائق الجوهرية.

على سبيل المثال، تساءلتَ عن سبب فرح بعض السوريين بوصول الإدارة الجديدة إلى السلطة، لكن الحدث لم يكن مجرد وصول هؤلاء إلى السلطة، فذلك لم يكن جوهر الانقسام في مشاعر الناس. الحدث الرئيس كان سقوط نظام حكم دام 54 عاماً، نظام بدا حتى وقت قريب أنه من المستحيل أن ينهار، مما ولّد إحساسًا عميقًا بفقدان الأمل بأشد معانيه المؤلمة. وبالتالي، كان الاحتفاء مرتبطًا بزوال هذا النظام أكثر منه بتأييد مباشر للجولاني أو غيره، ولم يكن خيار الناس متعلقًا بتفضيل أحدهم، بل بواقع لم يترك لهم خيارات تذكر.

أما المسألة الثانية، التي أشرتَ إليها في مداخلتك، وأشار إليها د. صابر، فهي أن النظام أو الواقع السياسي الحالي، مهما كانت رؤيتك له، سواء كانت سلبية أو غير ذلك، فإنه بلا شك يفسح المجال لإمكانات لم تكن متاحة في سوريا لعقود. على سبيل المثال، ظهور حركة سياسية نسوية معارضة ومستقلة، تستطيع أن تعقد مؤتمرًا علنياً داخل سوريا، كان أمرًا غير ممكن سابقاً.

إذن، إذا عدنا إلى ثنائية الحضور والغياب، نجد أن هناك اليوم فرصة لحضور وظهور قوى أخرى، غير الجولاني وغير الإسلام السياسي. وبالتالي، إلى أيّ حد ينبغي التركيز على هذه النقطة؟ فالمسألة ليست مقارنة بين هذا النظام ونظام الأسد من حيث الأفضلية أو السوء، بل تتعلق بالإمكانيات التي يتيحها الواقع السياسي الحالي، والتي تسمح لشخصيات مثل د. ميّة الرحبي، وغيرها من السوريين والسوريات، بالنضال والسعي لإحداث تغيير.

فما رأيك في هذه الثنائية بين الحضور والظهور؟ وإلى أيّ مدى ترى أن هذا الواقع الجديد يفتح إمكانيات مهمة في هذا السياق، بناءً على رؤيتك حول فكرة الحضور والظهور التي تحدثتَ عنها، والتي شدّد د. صابر على أهمية التركيز عليها؟

د. أنس الطريقي:

ما المقصود بفكرة الحضور بالضبط؟ نحن نتحدث عن هذا الإنسان الذي يعيش، كيف يمارس وجوده، كيف يبرز أنه حاضر، وأنه موجود. بطبيعة الحال نحن نحذر من منظور تأويلي فيه هذا الإرث الهيدغري، وأشياء كثيرة جدًّا أنتم تعلمونها. علينا أن نظهر أنفسنا في المجال العام؛ لأن المجال العام حتى الحضور الجسماني، حتى نكون مرئيّين في هذا المجال العام، له دورٌ في تغذية المخيلة السياسية العامة التي يمكن أن تتجه نحوها الجماعة السورية المتشكلة الآن، والباحثة عن مستقبل. هذا المجال، نعم يسمح بإمكانيات كثيرة جدًّا للحضور وللظهور؛ لأن بطبيعة الحال كما ذكرنا أن هذا الإسلام السياسي له قاعدة اجتماعية ربما توافق على وجوده، ولكن سوريا لها تاريخ كامل أيضاً مليء بالإمكانات التحررية التي ستدافع عن نفسها حتماً، ولا بد أن تدافع عن نفسها. وأعتقد أن المجال العام صار هناك هذا المفهوم الهابرماسي، إن شئنا، والشارع هو الذي نُرى فيه ونحتل مكاناً، نحتل حيّزًا في هذا المكان في الفضاء العمومي عن طريق اللغة مثل ما أشارت الأستاذة سابقاً، وعن طريق حتى الظهور الجسدي في المظاهرات في المسيرات، والظهور الفكري. وما يحدث الآن، هذه الندوة التي تقوم بها د. ميادة وتحت إشرافها ومبادرتها هي نوعٌ من هذا الظهور الذي أنا سعيد بالمشاركة فيه.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً. ننتقل الآن إلى الأستاذة أسماء كفتارو.

تركْتُكِ للأخير عمدًا، حتى تستمعي إلى حجم الانتقادات المطروحة وتكوني مستعدة للرد عليها.

المشكلة هنا ليست فقط في إسلامية النظام، بل في أن كونه إسلاميًّا أو دينيًّا يجعله غير قادر على إنصاف المرأة لأسباب عدة، وهذا ما أثبته الواقع. عندما تحدثتِ، أشرتِ إلى علمانية النظام الأسدي، وقلتِ إن عدم إنصافه للمرأة حصل رغم علمانيته، وليس بسببها، ولم يكن ذلك باسمها. لكن في ظل رؤية إسلامية- ولا أقول "الرؤية الإسلامية" بالمطلق، بل رؤية تدّعي أنها إسلامية أو دينية - فإن هذا الظلم يحصل باسم الإسلام نفسه، وباسم هذه الرؤية الإسلامية. هذه هي النقطة الأولى.

أما النقطة الثانية، فمن الصعب إنكار أن الإسلام، في زمنه، عندما نشأ في سياق البعث، حقق تقدماً هائلًا في مجال الحقوق الإنسانية، بما في ذلك حقوق المرأة. لكن القول إنه كان "أول ثورة" في هذا المجال، فتلك مسألة خلافية، وبالتأكيد لم يكن "آخر ثورة"، فقد جاءت لاحقاً ثورات حداثية أخرى قدمت إنجازات كبيرة مقارنة بالعصور السابقة.

أما النقطة الثالثة والأخيرة، فهي إشكالية، وأتمنى لو كانت د. ميّة معنا؛ لأنها تعارض هذا الطرح. إنها مسألة النسوية الإسلامية، وهنا أستعين بآراء الأستاذ جاد الكريم جباعي وآخرين مثل ياسين حافظ: إلى أيّ حدّ قد تلتهم الصفة الموصوف؟ بمعنى، هل يمكن أن تلتهم "الإسلامية" مفهوم "النسوية"، حيث يصبح من غير الممكن التوفيق بينهما؟ أم إن النسوية يمكن أن تكون إسلامية دون أن يُلغي أحد الطرفين الآخر؟ شخصيًّا، أرى أنه يمكن الجمع بينهما، كما يرى كثيرون غيري. فما رأيكِ؟

ذ. أسماء كفتارو:

بالتأكيد أنا معك د. حسام؛ لأننا نحن اليوم ما نتعرض له من إبعاد وظلم بسبب الرؤية الإسلامية الموجودة بهذا التكوين، لكن حتى نكون أكثر منطقية وأكثر قبولاً، يجب نحن كذلك، أن نمسك العصا من النصف. د. نادية تقول إن أسلمة المجتمع تأتي بالقمع، لا شيء اسمه أسلمة المجتمع بالقمع، ممكن أن الحجاب جاء وفق سياسات متبعة أو قوانين موضوعة أو ثقافات وتقاليد، ولكن حقيقة لا يمكن لنا أن نقول نحن نخرج الإسلام بالقمع. الإسلام لا يخرج، والدين أفيون الشعوب. د. ميادة قالت إن الدين الشعبي، القاعدة الشعبية، الحاضنة الشعبية، نحن اليوم لدينا مشكلة، كما تكلمت أعتقد د. زهيدة، على أن التغيير دائماً يبدأ من فوق هذا أنا أومن به 100%. الإرادة السياسية دائماً هي من تقوم بالتغيير، ولكن إذا قامت الإرادة السياسية حسب هوى الناس ورضاهم، أنت خرجت إلى الشارع السوري، ورأيت ماذا يجري. تكلم د. أنس من تونس، ود. نادية من العراق، هل ذهب أحد إلى سوريا، ورأى ما يجري فيها؟ نحن حين عارضنا في 2007، مادة 245 المتعلقة بقانون العقوبات، والتي تسمح بقتل الرجل لمحرمه؛ أي قتل المرأة بداعي الشرب. وكان يأتينا رفض إباحة الرذيلة، وإباحة الفاحشة، فكانت ردود فعل الناس غريبة. توجد دائماً تعبئة ضد أي تغيير، يأتي من منطلق علماني أو من منطلق حقوقي. ثمة ناس يراقبون، مثلا حين تقول سيداو، معناه إباحة الفاحشة وإباحة الشذوذ، ونشوز المرأة وتمردها على زوجها وعلى واجباتها، يقدمون أكثر من درس أو محاضرة عن الأشياء السلبية التي لا علاقة لها بالموضوع، ويحرضون الناس على أي مشروع تحاول تقديمه. بمجرد أن قلت في قناة سكاي نيوز، إن المرأة قادرة على أن تكون وزيرة دفاع أو تكون في الوزارات السيادية، رائدة في مجتمعها، قامت علينا الدنيا كلها بسبب بيان صدر عن رجل دين. طيب، حين تريد مخاطبة الناس، عليك أن تقول لهم: "لا الدين غلط، لا الدين غير صحيح، لا؛ الدين ليس هكذا، عندنا نص موازٍ يعطي الحق، دعونا نأخذ النصوص الموازية التي تمنحنا الحقوق، وبالتالي نحارب الناس بدينهم وبمعتقداتهم". لذلك، فنحن لدينا نصٌّ موازٍ، علينا استخدامه. في 2007، خرجت إلى الصاخور في حلب، وجدت مناطق محافظة جدًّا لدرجة أنها قريبة اليوم من أحمد الشرع وفكره، مجرد أنني قلت لهم عن حقوق المرأة في الإسلام: "تلعنها الملائكة إذا لم تلبّ رغبة زوجها..."، استغربوا، هل الدين لا يلعننا، لا يرفضنا؟ فتوعية الناس هي إحدى أهم مهام الناس، كي نقول إن الإسلام السياسي أو الحركات السياسية المغطاة بالإسلام، لا تستطيع التحكم في المجتمع، بإمكانها رفض القرارات والآراء. اليوم، حين تكلمت د. ميادة عن اللغة، ونحن نتحدث عن الجندر، القرآن مجندر في اللغة، وأول آية في الجندرة في سورة الأحزاب آية 34، عندما مرت أم عمارة على النبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: "ما أرى كلّ شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء"، فنزلت الآية في الجندرة، يعني التأنيث الساكنة، نون النسوة موجودة في القرآن. كنت في إحدى المرات أتحدث عن الموضوع، فسألني أحد رجال الدين من السعودية، وقال لي: أنت من أين تأتين بهذه الأفكار، وكأنها أفكار شيطانية، وأنا آتي بها من أمهات الكتب، من القرطبي وابن كثير؛

د. حسام الدين درويش:

حبّذا نختم بمسألة النسوية الإسلامية

ذ. أسماء كفتارو:

ما هي النسوية؟ أليست هي إعطاء الحقوق ورفع الظلم ورفع التمييز؟ أليس هذا هو المطلوب من النسوية؟ طيب إذا أنت لديك هذا النص موجود في الإسلام، وأنا أستحضره بكل احترام وأدب، إذن أنا بإمكاني رفض ما تقوله السيدة نادية، التاريخ الذي يعود إلى 1400 سنة. أنا في حياتي لن أقبل هذا، ولا يُقبل شكل خطابي، ومن ثم حين تخاطب الناس عليك أن تخاطبهم بلغتهم، ونحن لدينا شيء يعلي من شأننا؛ النسوية الإسلامية.

وأنت تريد أن تمنح المرأة حقها، يوجد لديك نص يقول بمساواة المرأة والرجل في كل القضايا. مثلا، إذا نحن نتكلم عن المغرب، حق الكد والسعاية، والذي يبحث فيه الأزهر، واليوم تبحث فيه الإمارات، والذي يمنح المرأة نصف مال زوجها دون الميراث، بصفتها جزءًا من تنمية أو استثمار مع الزوج بغض النظر عن أيّ كيفية. ثمة نصٌّ في موروثنا يؤكد حق المرأة في الإسلام؛ فقد ذهبت حبيبة بنت زريق عند عمر بن الخطاب، وقالت له: "ورثة زوجي ظلموني". إذن، لماذا نحن نبتعد عن النصوص التي تعطينا النسوية كما هي في الإسلام، وليست نسوية سيداو؟

د. حسام الدين درويش:

على العكس من الرأي الذي يقول إن الإسلامية ستأكل النسوية.

ذ. أسماء كفتارو:

لا يجب ن نكون رافضين للإسلام بأشكاله؛ السيدة نادية تتكلم عن سوريا وعن أحمد الشرع، وأنا أتفق معها في كثير من النقاط، ولكن ما رأيها هي؟ البرلمان العراقي حين أعاد تعديل قانون تزويج القاصرات، وكان على مبدأ ديني، ونحن كنسويات أثار حفيظتنا النقاش الذي دار في هذا البرلمان.

د. حسام الدين درويش:

إذا بدأنا من سؤال ريم، نقدك الذكي بطريقة ذكية للسيدة أسماء، لماذا نقد الموروث؟ سيدة أسماء، نحن لا نعود إلى صراع التأويلات كما قال ذ. عادل. هذا صراع فقهيٌّ، ونحن نبقى في النصوص ولا يمكننا الخروج منها لنفهم الواقع. والطريقة التي تقدمينها أنت تعيدنا إلى الانحباس في النصوص وصراع التأويلات.

بالنسبة إلى التجربة البورقيبية، على الرغم من أن ذ. وسام وصف نفسه بالعلماني، إلا أنه قال إن الإسلام السياسي من حقه أن يوجد بطريقة إيجابية. وطرح سؤالًا وجهه للمختصين في التجربة التونسية والعارفين بها: إلى أيّ حد يمكن أخذ نموذج عام من فوق غير ديمقراطي؟ وإلى أي حد يمكن للنضال النسوي أن ينفصل عن النضال الديمقراطي؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن يتحالف مع مستبد ديمقراطي بالمعنى السياسي المحدد مثل التعددية الحزبية، الانتخابات الحرة، وتداول السلطة؟ هل هذا خيار بالنسبة إلى النسويات، أم هو مستبعد ويجب أن يكون نضالاً من أجل حقوق المرأة ونضالاً من أجل الديمقراطية؟

على العكس من ذ. وسام الذي يرى أن الإسلام السياسي والنسوية الإسلامية خيارٌ ممكن، يقول ذ. عادل إنه مع د. نادية: "الإسلامية في السياسة مضادة للديمقراطية، للوطنية، للنسوية، وللعدالة الاجتماعية، أو للعدالة عمومًا؛ لأنها لا تؤمن بالمساواة الحقوقية". وهذه النقطة موجودة في التاريخ، في النصوص، وفي الممارسة.

ذ. أسماء كفتارو:

شكرًا ريم، أنت محامية سورية، والمفروض أنك تعرفين أين تكمن الخفايا التي يجب أن نركز عليها ونشتغل. نحن خلال 13 أو 14 عاماً، لا نستطيع صياغة مبدأ دستوري واحد، ونحن أمام إشكالية كبيرة في كيفية التعاطي مع الإدارة الجديدة، وكيف يمكن لنا إثبات الحقوق، وخلق دولة مواطنة، دولة قانون، دستور يحقق المواطنة؛ هذا الشيء كلّه، أنت تعرفينه، وتعرفين كذلك أنهم لن يقبلوا إلا أن يكون المرجع بالتشريع؛ فالمصدر التشريعي هو الشريعة الإسلامية. وأنا لست مستعدة لإلغاء النص الثابت، وهو النص السماوي، النص القرآني، علينا أن نؤول النص القرآني، وليس الفقه. أنا معك، أن يلغى الفقه، ويصاغ منذ البداية؛ فقه معاصر، فقه حداثي، هذا نحن في حاجة إليه، ولكن التأويل، تأويل القرآن نحن في حاجة إليه كذلك، وليس هذا خطأ، بل هو واجب مفروض علينا. لماذا نحن ملزمون، منذ 14 سنة، وأنا أرى ما يجري على طاولات المفاوضات، وكيف في أربع سنوات، كانوا في اللجنة الدستورية يصوتون ضد الشريعة الإسلامية، في كل كلمة حتى السيادة، حتى الأراضي، حتى الجغرافيا، كل شيء يتم تحويله إلى الشريعة الإسلامية. ومن ثم، فنحن اليوم معنيون كثيرًا بأخذ نصوصنا الموازية المعنية بالديمقراطية، والتي تثبت الديمقراطية، وفي يوم ما ستجعلنا نفصل الدين عن الدولة، غير أن هذا يحتاج إلى خطوة خطوة. أنت أمام مجتمع معبأ، والأستاذ عادل أعادنا إلى الثمانينيات من خلال حادثة صغيرة، وقال إن السبب وراء هذه الحادثة هو أن المجتمع بأسره أصبح ينظر إلى فرض الحجاب كرد فعل عكسي. وأصبح حوالي 80% من النساء السوريات محجبات. هذا حدث بالفعل، لكنه لم يكن بسبب الحادثة بحد ذاتها، بل لأن البعث ترك المجال للجماعات الدينية للعمل، فاشتغلت الحادثة بالشكل الذي تريده جماعة الباني، جماعة كفتارو، وجماعة الرفاعية. وبذلك، نشأ لدينا هذا الشكل من التحجيب المبالغ فيه، الذي وصل إلى نسبة 80%.

لكن اليوم، عندما أسمع عن فرض الحجاب على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما زرت الشام الأسبوع الماضي، توقعت أن أرى البنات مرتديات الحجاب، ولكن لم أجد هذا في الواقع. وهذا ليس دفاعًا عن أي شيء، بل حقيقةً، أنا أتمنى الديمقراطية، وأتمنى فصل الدين عن الدولة، وأتمنى أن نحقق الديمقراطية والمساواة والأمان من خلال قوانيننا. وهذا ليس بالأمر السهل أبدًا. اليوم صدر نص لمبادئ دستورية، وهو متداول في مواقع التواصل الاجتماعي، يتحدث عن دين الدولة، ورئيس الدولة، مصدر التشريع، لغة الدولة، وهذا كله ينفيه ذ. عادل، وينفي أيّ فكرة عن الديمقراطية، أيّ فكرة في احترام المكونات، وفي احترام المعتقدات المختلفة على أرض سوريا. وقلت أنت كذلك، إننا علينا كسب قدر المستطاع مع أحمد الشرع، ونحاول جلب الكرة إلى ملعبنا قدر المستطاع قصد تحقيق أكبر قدر ممكن من المكتسبات التي تحقق لنا المساواة والديمقراطية والمواطنة لكل أبناء المجتمع السوري، وليس مرأة ورجل، أو مسيحي ومسلم. نحن نطمح أن يعيش كل المجتمع السوري تحت سقف قانون واحد. أنا معك 100%، إلا أنني أعود وأقول لريم، ما جعل المجتمع السوري يرفض فكرة العلمانية، ويقبل فكرة المواثيق الدولية هو حالة التعبئة التي عاشها المجتمع. وأنتِ، بما أنكِ خرجتِ من سوريا منذ 13 أو 14 سنة، فأنتِ تعرفين جيدًا كيف يصبح المجتمع السوري في حالة تعبئة، حيث يرفض أي فكرة ننادي بها.

د. حسام الدين درويش:

دعونا ننتقل إلى موضوع الاختلاف. د. زهيدة، نود أن نسمع رأيكِ. يبدو أنكِ تقولين "نعم" و "لا" للطرفين؛ هل الإسلام السياسي هو قدر هذه المجتمعات بالفعل أم ليس بالضرورة؟ وهل هو سيء كما يقول ذ. عادل، بمعنى أنه مضادٌّ للمواطنة وحقوق المرأة والديمقراطية، أم هو كما قال ذ. وسام، منسجم ومتناغم؟ هذان سؤالان، ولم أتمكن من تحديد وجهة نظركِ بوضوح فيهما.

د. زهيدة درويش:

الإسلام السياسي من وجهة نظري سيء.

د. حسام الدين درويش:

هل هو قدر؟

د. زهيدة درويش:

هل هو قدر؟ لا، هو ليس قدرًا. ولذلك قلت إن الرهان اليوم هو على قوى المجتمع الحيّة في سوريا، وقدرتها على مقاومة فرض نظام سياسي إسلامي. وأعتقد أن هناك في المجتمع السوري من الإرث الثقافي والفكري ما يمكنه من ذلك، خاصة بالإضافة إلى ما عانى منه الشعب السوري من استبداد في ظل نظام الأسد، الذي يسلحه ويحضره لكي يقاوم نوعًا آخر من الاستبداد، قد يكون ربما ليس أقل خطرًا من الاستبداد العلماني لنظام الأسد.

د. حسام الدين درويش:

طيب حتى تكون الصورة واضحة، هل هو سيء بالضرورة أم يمكن أن يتناغم أو ينسجم؟

د. زهيدة درويش:

الإسلام السياسي، نعم ولا؛ يعني في عملية تفاعل بين مجتمع ونظام. الأستاذة أسماء تفضلت، وقالت إن المجتمع السوري اليوم في غالبيته، وأنا أتفق معها، مجتمع متديّن. هل التدين يهيئ لأرضية صالحة لتقبل نظام سياسي إسلامي بأقل عدائية؟ ربما، هل الإسلام السياسي سيء بالضرورة؟ إذا استطاع الإسلام السياسي أن ينفتح على الديمقراطية، وأن يتقبل الآخر، فلن يكون سلبيًّا 100%، ولكن الشرط هو القوى التي تستطيع مواجهته، مدى قدرة هذه القوى على الوقوف في وجه المد الآتي علينا، والذي تدعمه كما هو واضح قوى أجنبية.

د. حسام الدين درويش:

جزيل الشكر، د. نادية، في مقابل هذه النعم ولا، يظن أن لديك لا مطلقة، ليست مشروطة، هل الإسلام السياسي سيء بالضرورة؟ ليس بالضرورة، بشكل عام "نعم"، لكن ربما تكون "لا"، ما رأيك في الإجابات أو في السؤال؟ هل هو قدر؟ أنتِ تقولين ليس قدرًا، وهل هو سلبي أم إيجابي؟ وإلى أي حد مشروطة هذه السلبية والإيجابية بالظروف التي تحدثت عنها د. زهيدة؟

د. نادية محمود:

أكيد ليس قدرًا، وأنا أعتقد بشكل عام، أيّ حركة سياسية إسلامية أو غير إسلامية، إذا عجزت، وأنا أنطلق من دراستي وبحثي الأكاديمي، عن تقديم إجابات للمجتمع، إذا لم توفر فرص عمل، إذا لم توفر الأمان الاقتصادي، إذا لم تحل مشكلة السكن، إذا لم توفر الصحة، إذا لم توفر التعليم، إذا لم توفر الرعاية الاجتماعية للمسنين، إذا لم تعتن بالبيئة، إذا لم تعتن بكل هذه القضايا مع بعضها، ستكون لديها مشكلة مع المجتمع، وستواجه بالاحتجاجات إسلامية أو علمانية. هناك حاجات عند الناس، ويجب الاستجابة لها بشكل عام. فيما يتعلق بقضية المرأة، هنالك تمييز ضد المرأة كونها أنثى، وهذا موجود في الأديان، وموجود في الفكر الأبوي، الأحزاب القومية العربية، تضع المرأة بمكانة الأم، لقول الشاعر:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتهاأعدت شعباً طيب الأعراق

ويمجد دورها في الحروب، ودورها في بناء البلد كمجاهدة، ودورها في الصناعة، لكنهم لا يتحدثون عن أن ثمة تمييزًا جنسيًّا ولا عدالة ولا مساواة بين الرجل والمرأة في قضايا الأحوال الشخصية. هذه القضية لا يمسونها، حتى التيار القومي والتيار القومي الكردي، كل التيارات القومية. الفكر الأبوي ليس حكرًا على الإسلام، بل هو موجود منذ القدم، هناك قوة أحيته واستفادت منه لأسباب سياسية ولمصالح سياسية واقتصادية. فالإمساك بالسلطة يعني ثروات، يعني كل إمكانيات المجتمع تكون تحت اليد. فبالتأكيد هو ليس قدرًا على الإطلاق، حركات الإسلام السياسي جاءت في النصف الثاني من القرن العشرين؛ بدأت مع مجيء الجمهورية الاسلامية في إيران، وجاءت في مرحلة الحرب الباردة، لمواجهة الاتحاد السوفياتي ومواجهة الشيوعية، وأمريكا تحديدًا هي التي قوّت حركات الإسلام السياسي، وحركة طالبان، وكانت السعودية طرفاً في الموضوع بقصد ضرب الشيوعية. أساساً كان هذا عملاً سياسيًّا، عودة الاسلام إلى الحكم عمل سياسي من أطراف سياسية داخلية ومحلية. إضافة إلى ذلك، كان هناك أمل عند الناس الذين علقوا آمالهم على حركة الإسلام السياسي علّها توفر لهم الحلّ، كما ادعى الإسلاميون أو الإخوان المسلمون، أن الإسلام هو الحلّ، لكن بعد حكم السودان، تبين لنا كيف كان الحكم. حركة الجهاد الإسلامي في الجزائر، كلنا نتذكر ما الذي عملته في التسعينيات في المجتمع، كذلك إيران معدلات الفقر ازدادت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حسب أرقام الاقتصاديين أكثر مما كان الفقر موجودًا في زمن الشاه. بالنسبة إلى المرأة، وكما قلت في مداخلتي الأولى، إذا الإسلام السياسي وافق على ما يلي:

الإرث يكون متساوياً، والمرأة لها حقوق متساوية في الطلاق، ولها حقوق متساوية الزواج، لها حقوق متساوية في الحضانة، كل المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية تقوم على مبدأ المساواة. إذا أقرت الحركات الإسلامية بهذا المبدأ، أنا أعتقد أنها ستكف عن أن تكون إسلامية.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً، السؤال الذي سأطرحه وأختم به، ويملك كل شخص منكم إمكانية الإجابة عنه، ويضيف إذا ما كانت لديها أو لديه كلمة أخيرة في هذا الموضوع في حدود دقيقتين أو ثلاث.

السؤال الذي تم طرحه، ولم تتم الإجابة عنه بدقة، وفي رأيي يتعلق بصلب الموضوع الذي نتناوله، هو علاقة النضال الحقوقي النسوي عموماً بالاستبداد والديمقراطية. هل النضال النسوي الحقوقي هو عمليًّا جزء من النضال من أجل الديمقراطية، أم إنه لأسباب تتعلق بالتحديث من فوق ببنية المجتمعات، يتطلب الفصل أو يمكن أن يسمح بالفصل بين المسارين؟ حيث يكون على الطريقة البورقيبية، ولهذا استحضارها مفيدٌ، حيث يمكن أن ينفصل عن النضال الديمقراطي في المعنى السياسي، ويحصل تحديث للمجتمع بداية، ومن ثم يكون المجتمع جاهزًا لمسألة الديمقراطية بالمعنى السياسي.

إذن هذا هو السؤال، هل النضال النسوي جزء من النضال الديمقراطي أم لا يمكن أن يكون جزءًا حليفاً من عملية غير ديمقراطية، نظام غير ديمقراطي، لكنه علماني؟ فبدل أن تكون الديمقراطية هي الحلّ للمسألة النسوية، تكون العلمانية حتى لو كانت استبدادية؟

نبدأ بالدكتور أنس، انطلاقاً من تجربة بورقيبة، إلى أيّ حد هي نموذج؟ وهل النضال النسوي هو جزء من النضال الديمقراطي أم يمكن أن يكون مرتبطاً بلا ديمقراطية بالمعنى السياسي على نمط بورقيبة؟

د. أنس الطريقي:

لا بد أن يكون النضال النسوي جزءًا من النضال من أجل الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية لا تقوم إلا إذا استعدنا قيمة الإنسان، والنضال النسوي هو جزءٌ من هذه الاستعادة الضرورية؛ فاستعادة القيمة للإنسان تجري من ناحية المرأة. فإن فكّرنا في الفصل بين الأمرين، فإن هذا النضال لن يحقق شيئًا مطلقاً. أما بالنسبة إلى تجربة بورقيبة، فهي تجربة خاصة؛ لأن عملية سنّ قانون الأحوال الشخصية كانت مبكرة جدًّا بُعَيد الاستقلال، لم تطرح بعد مسألة الديمقراطية؛ فبعد أن خرجت الدول العربية من مرحلة الاستعمار، دخلت كلها تقريباً في مرحلة الحزب الواحد الذي سيبني الأمة، وبورقيبة استغل الفرصة التاريخية، فأصدر مجلة الأحوال الشخصية، وأنجز عملية تحديث، وأول ما بدأ، بدأ بالمرأة، وعرف كيف يستغل اللحظة التاريخية، لم يفكر الشعب التونسي وقتها، لا في استبداد ولا في ديمقراطية، بل مازال في نشوة الخروج من الاستعمار، والمجاهد الأكبر هو الذي سيبني الأمة، وهذا وقع في مصر بالصورة نفسها تقريباً مع عبد الناصر. ومن ثم، لا يمكن تكرار هذه التجربة بالصورة نفسها، فلكل مجال خصوصياته التاريخية، شكرًا.

د. حسام الدين درويش:

في رأيك، لا يمكن تعميم التجربة، ومن ثم مسألة إشكالية التحديث من فوق قد تقتضي عدم ديمقراطية النظام، أنت تختلف معها.

سأنتقل إلى من أظن أنها تختلف معك. د. زهيدة؛ النضال أو قضية النسوية، حقوق المرأة هي مسألة ديمقراطية بالضرورة، ولا يمكن أن تكون جزءًا من تحديث غير ديمقراطي من الأعلى. لديّ انطباع، أرجو أن تصححي لي، أنك قد تختلفين مع هذه النظرة، أن أوضاع المجتمعات وأوضاع التوجه الثقافي السائد، قد تتطلب نوعاً من التحديث من فوق من دون استشارة المجتمع؟

د. زهيدة درويش:

أنا أعتقد أنه في المجتمعات العربية نحن في حاجة إلى التحديث من فوق، وإلا سيكون المسار طويلاً جدًّا. فيما يتعلق بمسار النسوية وعلاقتها بالديمقراطية، في رأيي، يجب أن يكون المسار غير منفصل عن المطالبة بالديمقراطية بشكل عام، والدفاع عن حقوق المواطن. فالمطالبة عن حقوق النساء يجب ألا تنفصل عن المطالبة بحقوق المواطن والإنسان عموماً؛ يعني يجب أن يتكامل النضال النسوي مع النضال في سبيل حقوق الإنسان ودولة المواطنة. لكن إذا اعتمدنا على الواقع الراهن في المجتمعات العربية، سيكون المسار طويلاً جدًّا، إذا حدث التغيير من تحت، هل سيأتي التغيير من فوق؟ حالياً، البشائر ليست متوفرة. لهذا، رغم فرحتنا بسقوط الأسد وتحرر سوريا ولبنان، إلا أننا نتابع بقلق ما يجري حالياً في سوريا؛ لأننا لا نريد أن نستبدل نظاماً استبداديًّا بنظام استبدادي آخر يرتكز على خلفية دينية، ويرى أنه على صواب؛ لأن الحق المطلق معه، وهو الحق الإلهي. للأسف، الوضع شائك جدًّا، وثمة تحديات كبيرة، مع وجود قوى متعددة في سوريا، مع أن المجتمع منهكٌ، قام من أزمات حرب دامت مدتها 11 سنة، أنهكت سوريا؛ قسم كبير من القوى الحية هاجر إلى الخارج، زد على ذلك أزمة اقتصادية. وأنا شخصيًّا، رغم حذري، أتمنى أن يلجم المجتمع السوري مدّ أو قوة هذا النظام الإسلامي، ونحن نرى مؤشراته على صعيد المجتمع، وعلى صعيد حقوق المرأة بشكل خاص، على أنها مؤشرات سلبية. طبعًا، الإسلام السياسي لا يعني الإسلام. هناك فرق كبير بين الدين واستغلال الدين في السياسة. ولكن كما ذكرت في كلامي، بما أن هذا المجتمع منهك، كما أشارت إحدى الزميلات، قد يكون الالتفات إلى الدين بسبب غياب الحقوق، مثل الفقر والتهميش، إلخ. كما أوضحت د. نادية من العراق هذه المسائل. ربما يلجأ الناس إلى الإسلام لعلهم يجدون عدالة، ولكن في منظوري، العدالة لا تتحقق، وهذه قناعتي، إلا بفصل الدين عن الدولة، وبالمساواة بين المواطنين. الدين هو فضاء ينتمي إلى الفضاء الخاص، ويجب الفصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام. وكل دولة دينية لا يمكن أن تقوم إلا على الإقصاء والتهميش، وأن تلغي المساواة بين المواطنين. هذا رأيي باختصار. وأنا لست عالمة اجتماع.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك، الآن الوضع في سوريا من جميع النواحي تقريباً، أفضل طبعاً، باستثناء النواحي الاقتصادية التي هي في حالة يرثى لها، والخدمات التي يُتوقع أن تتحسن سريعاً، لكن من حيث الحريات وإمكانيات التغيير، الوضع أفضل من أيّ وقت خلال 30-40 سنة الماضية على الأقل، رغم أن هناك بعض الإشارات التي تثير القلق، إلا أن المسألة هي أنه إذا بنينا توقعاتنا على أساس رؤيتنا لأيديولوجية القائمين، فمن المحتمل أن نكون متشائمين كما ذكرت، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنهم ليسوا الفاعلين الوحيدين، وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك؛ فهناك قوى أخرى قد تسهم في هذا التغيير؛ فالمخاوف التي تقدمينها مشروعة، ولكن لا يمكننا تحويلها إلى توقعات، وبالتالي نتشاءم.

د. زهيدة درويش:

ليس توقعات، أن اشترطت مدة قوة حراك القوى الحيّة في مواجهة المشروع؛ هناك صراع ناس ترغب في الشدة، وناس ترغب في اللّين.

د. حسام الدين درويش:

د. نادية خير من يشد

د. نادية محمود:

أنا أعتقد أن النضال النسوي مستمرٌّ، أكيد الأوضاع الديمقراطية وحرية التعبير ستوفر ظروفاً أفضل للحركات النسوية، حتى في الغرب لحد الساعة المنظمات النسوية موجودة، وثمة فارق في الأجور؛ يعني هنالك فجوة بين الرجال والنساء في الأجور، فهذا التمييز الجنسي موجود حتى في الدول الغربية المتقدمة ودول علمانية؛ لأن هناك نظاماً رأسماليًّا يحكم تلك البلدان، وتتم الاستفادة من هذه الفوارق ما بين الرجال والنساء من أجل كسب فوائد مالية أكثر. النضال مستمر عند المرأة السورية، ونضالات المرأة السورية منذ 2011 حتى اليوم، تأسيسها لمنظمات مختلفة؛ الحركة السياسية النسوية، شبكة...منظمات نسوية عديدة. وبقدر ما تستطيع القوى النسوية والتحررية في سوريا أن تغير موازين القوى لصالحها تستطيع أن تفرض وتنتزع مطالبها حتى من الحركات الإسلامية في البلد.

د. حسام الدين درويش:

لو سمحت، السؤال كان عن علاقة الحراك النسوي أو القضية النسوية بمسألة الديمقراطية من ناحية، أو بالاستبداد والتحديث من فوق من ناحية أخرى.

د. زهيدة درويش:

أنا أتفق مع د. أنس حين قال إن النضال النسوي هو جزء من النضال الديمقراطي، ومن ثم يجب أن يكون النظام النسوي جزءًا من عملية الديمقراطية، مثل حرية التعبير عن الرأي، وحرية التنظيم، وبقية الحريات. وبالتأكيد، توجد صلة ما بين الاثنين، لكن أعود وأقول إن النضال النسوي يحتاج إلى أن يكون حاضرًا كيفما كان إطار الحكم. طبعاً، إذا كان النظام ديمقراطيًّا، فسيعطي فسحة أوسع، لكن حتى في الأنظمة الأقل ديمقراطية، هناك طرائق أخرى ووسائل مختلفة يمكن أن تدفع النساء بحركتهم النسوية إلى الأمام.

د. حسام الدين درويش:

إذن، النضال النسوي هو نضال ديمقراطي من أجل الديمقراطية بالضرورة. أما مسألة الاستبداد الذي يمكن أن يحدث من فوق، فهذه مسألة لا توافقين عليها.

ذ. أسماء كفتارو:

أكيد أن النضال النسوي يتوازى مع الديمقراطية، وإذا لم تكن ديمقراطية، فلا وجود لنضال نسوي، فالنضال كأنه عراك، لكن أنا مع التغيير يأتي من الفوق؛ لأنك أمام مجتمعات. لو كان عندنا نظام ديمقراطي، لا سامح الله، سيكون حظنا جميلاً، وفعلا بدأ التغيير من فوق، وهذا سيكون شيئًا جميلاً، دائماً حين تأخذ الإرادة السياسية قرارات لتحسين الوضع الراهن للمجتمعات، فهذا يخفف علينا النضال، وهو باقٍ، ويرسخ فكرة النسوية والحقوق، وأداء الواجبات. لهذا، فأنا مع فكرة النضال النسوي والديمقراطية معاً، وأن الله أكرمنا بنظام ديمقراطي.

د. حسام الدين درويش:

أنتِ مع الجميع، لا تريدين إغضاب أحد؛ أنتِ مع الإصلاح من فوق ومن تحت...

ذ. أسماء كفتارو:

أنتَ قلتَ إن الإيجابية هي القدرة على الاشتغال والتغيير، إذا بقينا نبحث عن السلبيات، ونقول لا أمل لدينا، وأنه يستحيل أن نغير شيئًا، نحن نبحث ونجد في كل مكان شيئًا إيجابيًّا؛ ففي الفحم تجد الألماس. نحن ندرك أن الواقع فعلاً مرعب ومخيف، ولكن ثمة جوانب فيها بعض الآفاق، التي يمكن أن نتكلم عنها، مثل ما تفضل ذ. عادل؛ أي نحاول قدر المستطاع، أنا مع فصل الدين عن الدولة، مع الديمقراطية، مع دولة المواطنة، أنا مع نايلة طبارة. نحاول ونسعى، لتثبيت ركائزنا، ونعمل على رفع مبادئنا، وهذا ليس بالأمر السهل. نحن نواجه مواقع مرعبة، ولكن نحتاج إلى دولة، وبالتالي نبحث عن الإيجابية لنقول إن لدينا شيئًا موازياً، يمكن من خلاله خلق أفق نحقق فيه ما نطمح إليه على المدى القريب والبعيد.

د. حسام الدين درويش:

البحث عن الإيجابيات ليس بحثاً عن مستحيل كما كان سابقاً؛ الآن هناك إمكانيات حقيقية وفعلية.

ذ. أسماء كفتارو:

أنت تفضلت وقلت إنه منذ 54 سنة، اليوم يعقد اجتماع نسائي نسوي لشبكة النساء السياسيات في الشام، ولما خرجت النساء في اعتصام بالحجاز لرفع لافتات مناهضة لعبيدة الأرناؤوط، لا أحد قام ومنعهن، وقال لهن ارجعن إلى بيوتكن؛ فهذا شيء جميل ومريح، وفي هذا إيجابية قد نعوّل عليها. نحن في ما سبق، لما كنا نتجول في الشوارع، كنتُ أضع منديلاً، فيقولون لي ضعي نظارة سوداء على عيونك، كان هذا قبل 20 عاماً، لكن اليوم ذهبت إلى الشام، ولم يكلمني أحد.

د. حسام الدين درويش:

إذن، هناك ترحيب بالتحديث من فوق؟

ذ. أسماء كفتارو:

هي فرصة د. حسام، هي مرحلة، سيفتحون اليوم الأفق للحريات، فإما نغتنمها، ونرفع السقف من مطالبنا، وإما نقف عند كلمة لا أمل، وبالتالي لا نحقق شيئًا. لهذا، أقول البحث عن طرق حتى لو كانت ضيقة، نعمل على توسيعها بطرائقنا وأساليبنا، ونحقق مع المدى القريب أو البعيد أشياءً كثيرة.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك.

د. ميادة كيالي:

مع وصولنا إلى ختام هذه الندوة، أودّ أن أؤكد أهمية دور الفكر والنقاش الحرّ في خلق أجواء تحترم التنوع والاختلاف؛ لأن هذا هو الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل أفضل. ما نحاول القيام به في مؤمنون بلا حدود هو تعزيز هذه الأجواء، من خلال التركيز على الحوار المفتوح الذي يضع الاحتمال الإيجابي بدلاً من الافتراض السلبي.

فيما يتعلق بالوضع في سوريا، علينا أن نتذكر أن الإدارة الحالية تتأثر بالجوّ العام وردود الأفعال، وقد تكون مستعدة للاستجابة، إذا ما أتيح لها خطاب واقعي ومسؤول لا يستبق الشر أو التشديد في الأحكام. لذلك، من مسؤوليتنا أن نصوغ خطابنا وأفكارنا بطريقة تُحفّز الحوار والتفاعل، بدلاً من إثارة المخاوف أو تأجيج الصراعات.

أؤمن أن النقاش الحر والتفكير النقدي هما أدواتنا الأهم في مواجهة التحديات، وأن احترام التنوع هو طريقنا لإيجاد حلول حقيقية لمشكلاتنا. أشكر الجميع على حضورهم ومشاركتهم، وأتطلع إلى أن يكون هذا النقاش خطوة إضافية نحو بناء مستقبل أكثر عدالة وانفتاحاً.

[1]. ابن قيّم الجوزيّة، أخبار النساء، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1983، ص 5

[2]. أحمد بن تيميّة، فتاوى النساء، تحقيق وتقديم علي أحمد عبد العال الطهطاوي، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2002، ص 101

[3]. المصدر نفسه، ص 102

[4]. أبو الفرج بن الجوزي، أحكام النساء، القاهرة، مكتبة ابن تيميّة، 1997، ص ص 6- 7

[5]. المصدر نفسه، ص ص 101، 102

[6]. المصدر نفسه، ص 108

[7]. المصدر نفسه، ص ص 216- 217

[8]. المصدر نفسه، ص 125

[9]. أبو الوليد بن رشد، الضروريّ في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، تقديم محمّد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1998، ص 124

[10]. المصدر نفسه، ص 124

[11]. المصدر نفسه، ص 126

[12]. Pierre Bourdieu, «Champ du pouvoir et division du travail de domination. in, Actes de la recherche en sciences sociales, 2011/5 (n° 190), pp. 126-139

[13]. إقبال بركة: "في مسألة الحجاب"، المرأة في المجتمعات العربية، أعمال المؤتمر العربي والدولي، تشرين الأول/أكتوبر 2013، منشورات جامعة الروح القدس، بيروت، ص. 117

[14]. محمد الشرفي: “Islam et Liberté: le malentendu historique”, Albin Michel, Paris, 1997, pp.161-162

[15]. نايلة طبارة: “L’Islam pensé par une femme”, Bayard, Paris, 2018, p.185

[16]. سهيلة زين العابدين حماد: المرأة المسلمة بين النص الديني والواقع الاجتماعي، المرأة في المجتمعات العربية، سبق ذكره، ص. 43

[17]. https://www.constituteproject.org/constitution/Syria_2012?lang=ar

[18]. https://orientxxi.info/magazine/article7877