الثقافة… توجيه للفكر وللسلوك


فئة :  مقالات

الثقافة… توجيه للفكر وللسلوك

في تعريف الثقافة بأبعادها المندمجة:

ما يمكننا أن نستفيده من تعاريف المعاجم اللغوية للفظ (ثقف) على اختلاف وتعدد مشتقاتها، ما تذهب إليه من كونالـــ"ثقف" هو الحذق الماهر، الذي له قدرة وبديهة حاضرة شاهدة على الفهم والاستيعاب والتفاعل الإيجابي مع الأفكار والأشياء. وتلك في العمق هي إحدى خصائص الثقافة في تعريفاتها المعاصرة. فهذا التعريف هو الأكثر ملاءمة مع مقتضيات العصر وتطور المفهوم، وإن كانت بعض التعاريف الأخرى لا تبعد عن هذا السياق، إذا ما نظر إليها من زاوية ضرورة ارتباط الثقافة بأصل أو هوية ومرجعية معينة. ولا يغيب عنا في هذا التعريف السريع الدلالات الأجنبية المختلفة التي حملها المفهوم من التداول الغربي بمختلف مدارسه في بناء المفهوم (culture) الذي ابتدأ بالمعنى الحسي المرتبط بالأرض، وانتهى إلى المعنى الفكري والرمزي المرتبط بالأفكار والدلالات والقيم وما إلى ذلك.

"ثقف" هو الحذق الماهر، الذي له قدرة وبديهة حاضرة شاهدة على الفهم والاستيعاب والتفاعل الإيجابي مع الأفكار والأشياء

ولو أردنا التماس تعريف ومعنى جامع للثقافة يعبر عن كامل خصوصية ودلالة المفهوم ويستوعب تطوره التاريخي، لقلنا: إنها جماع العلوم والمعارف واللغات والعادات... المغذية لفكر وسلوك الإنسان، وأنها المحدد والمشخص لهوية الجماعة والمعبر عن اختياراتها وقناعاتها المختلفة.

وأهم ما يمكن التركيز عليه هنا، البعد العملي والسلوكي في الثقافة دفعا لتوهم أنها نظرية وحسب، وتجريدية ترتبط بالأفكار والقيم والمثل ولا علاقة لها بالسلوك والعمل. وهذا من أفسد التعريفات التي تختزل هذا المفهوم وتضعف قدرته البنائية والتفاعلية؛ مثله في ذلك مثل من يختزلها في مجرد أغان وفلكلور وأهازيج دون تمكينها من البنى الفكرية والروحية العميقة للإنسان.

ولهذا كما هو مسطر في عنوان المداخلة الموفق؛ فالثقافة فعلا إطار لتحديد وتوجيه سلوكيات الإنسان من الأحداث الجارية حوله؛ فالذي يدفع الإنسان إلى الفعل فكرة في الذهن، والأفكار هي المزود الأول للثقافة... وكل سلوك الإنسان يتحدد من خلال توجه ثقافي عام كما يتحدد من خلال أفكار جزئية محددة. ولقد كان مالك بن نبي رحمه الله موفقا في تعريفها بأنها... "نظرية في السلوك كما هي نظرية في المعرفة".

وما قلناه بإيجاز بخصوص تعريف مفهوم الثقافة، يستوجب في الواقع استئنافا تجديديا في هذا التعريف بما يجعلها تسترجع الدلالات الكلية الشاملة والمستوعبة، ومن ثم استرجاع قدرتها على معالجة وتوجيه سلوك الإنسان وأفعاله، بل وتفسير الفعل والسلوك والمواقف وتفهمها من خلال المدخل الثقافي أولا قبل أي مدخل آخر، باعتباره الأقدر على التقويم والتصحيح والعلاج والتوجيه.

الثقافة جماع العلوم والمعارف واللغات والعادات... المغذية لفكر وسلوك الإنسان، وأنها المحدد والمشخص لهوية الجماعة والمعبر عن اختياراتها وقناعاتها المختلفة.

1- في شمولية واستيعابية الثقافة وخطورة تجزيئها:

تقدم أن الثقافة كيان شامل ومستوعب معبر عن الهوية والخصوصية، يمتد في التاريخ القديم والحديث، يتعلق بفكر الإنسان وسلوكه، وقبل الحديث عن بعض خصائص هذا المفهوم وعن خطورة تجزيئه، يمكننا إثارة الحديث عن دوائر انتمائه، والتي بموجب الوعي بها يتحدد كذلك سلوك وتصرف الإنسان إزاء هذه الدوائر، حيث لا يبقى معها تعارض أو تقابل في ذهن الإنسان، فيجعل بعضها خصمها أو ضدا لبعض.

يتعلق الأمر بدوائر الهوية الدينية والفكرية والجغرافية وغيرها، حيث ينبغي أن تنتظم في سياق تكاملي لا تقابلي؛ فالدائرة الدينية مشتركة بين جميع المسلمين، والتي يفترض أن تكون عنصر لحمة ووحدة وانسجام بينهم، لكن هذه الدائرة لا تنفي أن تكون لها خصوصيات جغرافية داخلها، بل حتى حدود قطرية أو إقليمية مادامت واقعا؛ فالانتماء إلى القطر أو الإقليم لا يعارض مطلقا الانتماء إلى الأمة، والاشتغال على بناء وتقويم القطر والإقليم اشتغال حقيقي على بناء وتقوية كيان الأمة. مادامت الأمة في نهاية المطاف هي مجموع الأقطار والأقاليم المنضوية تحتها، ومن هنا الغنى والتنوع الثقافي الذي زخرت به حضارة الإسلام حينما انفتحت على تشكلات اجتماعية وثقافية وحضارية مختلفة في آسيا وأوربا وإفريقيا، استوعبتها في أصول كلية جامعة، كالتوحيد والعدل والحرية... وتركت لها مساحات خاصة للتعبير عن ذاتها وكيانها وتجاربها أو خوصياتها في ظل تلك الأصول. وهذا الفرق بين المنظور الإسلامي القرآني للتفاعل الحضاري والثقافي، فيكف بالمخالفين له من احترام كثير من خصوصياتهم واختياراتهم، وبين منظورات أخرى تأبى إلا التنميط والأحاديةوالنسخ المكررة. ومخطئ من يظن أنه ينتمي للأمة وحسب، وأن عمله هو للأمة وحسب، ولا يهمه في شيء إصلاح وتنمية دائرته الأولى؛ فهو إما يضع لبنة صلبة في جدار الأمة، أو يضع بدلها لبنة واهية، ولا يحيل هذا ضرورة على تبني مقولة "الإقليم القاعدة" أو "القائد الزعيم"؛ إذ كل الأقاليم والأقطار مدعوة للنهوض وكل الزعماء مدعوون للقيادة العادلة.

 الثقافة فعلا إطار لتحديد وتوجيه سلوكيات الإنسان من الأحداث الجارية حوله؛ فالذي يدفع الإنسان إلى الفعل فكرة في الذهن، والأفكار هي المزود الأول للثقافة

ويمكن أن نذكر من خصائص الثقافة التي تدرأ آفة الجزئية عنها:

= أنها كلية؛ أي أنها تركيب لعناصر مختلفة هي في العمق اهتمامات الإنسان المختلفة وتوجهاته وسلوكاته المختلفة، تصوغ في النهاية اختياراته وقراراته. يصدق ذلك على الكيان الفرد، كما يصدق على الكيان الجماعة.

= أنها تعددية متنوعة: وذلك تبعا لمكوناتها وروافدها بما يدرأ عنها آفة الأحادية والتنميط، وهما أخطر شيء يمكن أن يتهدد فكر وسلوك الإنسان، حينها لا يكون أمامه إلا خيارا واحدا دائما، وليس له سعة من الخيارات والبدائل. والتأكيد على أصل التعددية أو التنوع في الثقافة هو تأكيد على غناها وإمكاناتها التي يمكن أن تزود بها أفرادها.

= أنها تفاعلية تشاركية: منفتحة وليست منغلقة قابلة للتواصل والتفاعل مع غيرها من الثقافات، إذ لا توجد الثقافة المحض الخالصة؛ فحتى الأديان وعلى رأسها دين الإسلام، يدعو إلى الانفتاح واستيعاب كل الحكم والتجارب المفيدة، لأنها في نهاية المطاف إنما تخدم مصلحة وسعادة الإنسان في دنياه أو في أخراه أو فيهما معا. وهذا هو معنى التدافع، والتعارف، والجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، والدعوة إلى السير في الأرض والنظر إلى تجارب الأمم... وغير ذلك مما وردت فيه نصوص كثيرة... فمن أخطر الآفات المعطلة لمبدأ التفاعل في الثقافة انغلاقها وانحباسها في أطر معينة، إذ هي بذلك تصبح كيانا آخر وليس الثقافة، يسيج به أصحابه أنفسهم، ويسهمون بذلك في إضعاف ثقافة الأمة ككل أمام تحديات الثقافات الكونية المختلفة.

= أنها بنائية تكوينية؛ أي أنها تسهم في بناء الوعي والفكر وتحصين التربية والسلوك من خلال زادها القيمي الذي تتوفر عليه، حيث تدرأ عن نفسها تهمة النظرية والتجريد، والسطحية والتهميش، التي لا يلبث من لم يدركها ينسبها إليها من غير وعي وتدبر للأسف.

ويمكن التماس خصائص أخرى كثيرة للثقافة، لكن أظن ما تقدم كاف لبيان الغرض والمطلوب في علاقته بالعنوان موضوع المداخلة.

الغنى والتنوع الثقافي الذي زخرت به حضارة الإسلام حينما انفتحت على تشكلات اجتماعية وثقافية وحضارية مختلفة في آسيا وأوربا وإفريقيا، استوعبتها في أصول كلية جامعة، كالتوحيد والعدل والحرية

2- الثقافة مدخلا إصلاحيا وقائيا توجيهيا وتفسيريا للأحداث:

نستشف من خصائص الثقافة المتقدمة، أنها أقدر من غيرها على الإصلاح والوقاية والعلاج وأقدر من غيرها على تفسير الأحداث وتحديد الاختلالات، لأنها تتجه إلى المكونات العميقة في الفكر التي تترتب عليها السلوكات والأفعال. لذا فالمثقف يبقى أقدر من غيره على التشخيص ووضع العلاجات مثله في ذلك، مثل الطبيب.

للأسف في كثير من بلدان العالم العربي، تحتل الثقافة دائما مواقع هامشية، وتعطي للسياسة الأدوار الطلائعية والريادية، وهذا خلل خطير في ترتيب الأولويات، ولهذا دائما هي تعاني من اختلالات كثيرة ومشكلات خطيرة تصل حد الإرهاب والتطرف وإراقة الدماء.

تبقى للسياسة آليات اشتغالها الخاصة، باعتبارها تدبيرا يغلب عليه التقلب والتغير واعتبار المصالح العاجلة أو الآجلة، لكنها قطعا لا يمكنها أن تمارس دور الثقافة، ولا أن تحل محلها في خصائصها ومكوناتها التي ألمحنا إلى بعضها.

فعلاج السياسي موضعي لحظي في الغالب، لكن علاج المثقف عميق وشامل للبنية وما يحيط بها، لذا كان من المفروض أن تتوجه السياسة بالثقافة لا أن توجهها؛ فالثقافة قدرة خارقة على الوقاية والعلاج من خلال إحكام وإتقان مكوناتها في التعليم والتربية الجيدة، في الفن والتعبير الجيد، في الإعلام والتوجيه الجيد، في القراءة والتكوين الجيد/ في العادات والأعراف الجيدة... وما إلى ذلك، وكلها مداخل إلى التأهيل الفكري والنفسي الموجه لسلوك الإنسان.

المثقف يبقى أقدر من غيره على التشخيص ووضع العلاجات مثله في ذلك، مثل الطبيب.

3- الثقافة والقدرة التواصلية:

تحدثنا سلفا عن دوائر الثقافة التي تنتهي إلى دائرة الأمة، ونضيف أن فوق هذه الدائرة دائرة الإنسانية والعالم، مما يطرح بقوة دور المشترك الثقافي بين الأمم والشعوب، والثقافة الأكثر انسجاما في بنياتها والأكثر قوة في أدائها، يمكنها أن تسهم بدور مقدر في هذا المشترك، إسهاما إيجابيا لا استبداديا طبعا، يعترف بالآخر ودوره وحقه ولا يلغيه.

للأسف هناك ثقافات، ليست العولمة إلا تعبيرا عنها، تنحو منحى القطبية الواحدية والهيمنة والإقصاء، مهما زعمت الشراكة والحوار والاعتراف بالآخر.

ونعتقد أن ثقافتنا الإسلامية فيها بحكم عالمية وإنسانية خطابها من إمكانات التواصل ما يؤهلها إلى الإسهام والتفاعل الإيجابي مع سائر الثقافات، لكن للأسف كثير من مقوماتها لم تستثمر بعد بما يكفي، بل ولم تتضح بعد بما يكفي. ولعل من أبرز وأهم الاختلالات في هذا الاتجاه حالة الانقسام الثنائي والتجزئة الفكرية بين تيارات "التقليد" وتيارات "الحداثة"، علما أن هذه تقسيمات طارئة لا أصل لها. والمنظور الإسلامي للفكر والعلم والمعرفة منظور تطوري تقدمي دائما، ومعظم الإشكالات المطروحة ههنا مستعارة من تجربة الغرب في صراع مؤسساته المعروف تاريخيا؛ فلا معنى لانغلاق تيار "الحداثة" على قيم الدين وإمكاناته التحررية والإبداعية والتواصلية، كما لا معنى لانغلاق تيار "التقليد" على متاحات العصر وإيجابيات الحداثة وقيم التطور والرقي.

ثقافتنا الإسلامية بحكم عالمية وإنسانية خطابها من إمكانات التواصل ما يؤهلها إلى الإسهام والتفاعل الإيجابي مع سائر الثقافات

ونعتقد مرة أخرى، أن إمكانات الثقافة الإسلامية هائلة جدا في فتح حوار داخلي بين أبنائها نحو آفاق عمل مشتركة، تماما كما هي في فتح تثاقف كوني وعالمي مع الثقافات والحضارات والأديان المختلفة.

والمثقف الحقيقي أخيرا، هو من يتجنب التخندق في هذه الدائرة أو تلك، يقارب ويحلل ويعالج وفق منظور استيعابي جامع ومؤسس. أما إذا كان طرفا من أطراف الصراع، فدوره كمثقف قد انتهى ولو ادعى ذلك. فمن تشبث بالأطراف والهوامش بقي فيها، ومن سلك الجمع الشامل والمستوعب المؤسس بشكل علمي وسنني لنموذجه الثقافي، القائم على دعائم الهوية والتاريخ، والمنفتح على إمكانات وخبرات العصر، كان موجها ومؤثرا وفي مركز الثقل، وذا مستقبل بنائي إصلاحي إن شاء الله.