الجنسانية قبل الزّوجية: من الزنا إلى الفساد إلى الحرية الفردية


فئة :  مقالات

الجنسانية قبل الزّوجية: من الزنا إلى الفساد إلى الحرية الفردية

يعاني الشباب المغربي غير المتزوج تأرجحا كبيرا في نظرته إلى جنسانيته من حيث إنه ممزق بين مرجعيات ثلاث؛ الأولى إسلامية تعتبر تلك الجنسانية زنا محرما، والثانية قانونية تعرفها كفساد مجرم، وتذهب الثالثة إلى الاعتراف بها كحرية فردية وكحق أساسي من حقوق الإنسان. معنى ذلك أن الجنسانية قبل الزوجية جنسانية مركبة من سلوكيات ومشاعر ورؤى مختلفة، بل متعارضة ومتناقضة. صحيح أن الطابع المركب الممزق قائم في السلوك الجنسي، وهو وحاصل لا يمكن نفيه، إلا أنه تمزق في صيرورة متواصلة، في حالة انتقال من مفهوم الزنا الذي كان مفهوما سيّدا وسائدا بالإجماع إلى مفهوم الحرية الفردية والحق الإنساني منذ العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين مرورا بمفهوم الفساد الذي تبنته الدولة المغربية منذ 1962 في قانونها الجنائي. ما هي أوجه وأسباب هذا الانتقال؟ كيف تتوجه الجنسانية قبل الزوجية إلى ضرب من الطهر؛ أي إلى التخلص التدريجي من تهمتي - مصطلحي الزنا والفساد؟ وما هي المعوقات الحالية لتطهير الجنسانية قبل الزوجية من حمولاتها الدينية - القانونية السلبية؟

الزنا، تلك الكبيرة

في القرآن، نجد تحريم الزنا في الآية التالية: "َولَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا"، (الإسراء، 32). أما حد (عقاب) الزنا الفاحشة، ففي الآية "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..." (النور، 2). والمثير للانتباه أن حد الزنا يختلف في الحديث، حيث يقول الرسول: "لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: النّفس بالنّفس، والثيّب (المتزوج) الزّاني، والتّارك لدينه المفارق للجماعة". ما سر الاختلاف بين القرآن وبين الحديث في حد الزنا؟ لماذا نجد الحديث أعنف وأشد من القرآن في معاقبة الزنا؟ هل يحق للسنة نسخ القرآن؟ من أجل تفسير الاختلاف بين النصين المرجعيين، لا بد من التذكير بالآية القائلة: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". والمقصود بالشيخ والشيخة الرجل والمرأة المحصنين. فالمتزوج (ة) الزاني (ة) يعاقب بالرجم في الحديث بالرجوع إلى حكم تلك الآية، رغم كونها آية منسوخة في سورة الأحزاب، وهي آية رفعها الله من القرآن. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن حكمها باق، رغم رفعها ونسخها.

وللتوفيق بين حكم القرآن بالجلد (في الآية غير المنسوخة) وحكم الحديث بالقتل، (رجما، "الولد للفراش وللعاهر الحجر")، ذهب بعض العلماء إلى القول بتنفيذ الرجم على الزاني (ة) المحصن (ة) وبمعاقبة الزاني (ة) غير المحصن (ة) بمائة جلدة. والحكم شديد في كلتا الحالتين، لأن الزنا يعتبر من الكبائر التي تهدد الأمة بالاختلاط في الأنساب والأموال. وقد تم تغليف هذا الخطر الاقتصادي بمقصد الحفاظ على العرض، والعرض أحد مقاصد الشريعة إلى جانب الحياة والدين والعقل والمال. ونظرا لشدة حد الزنا (رجم أو جلد)، تشددت الشريعة في شروط إثباته، حيث ارتأت أن البينة إما شهادة أو إقرار. وتعني الشهادة شهادة أربعة شهود يعاينون الزنا لحظة وقوعه، ويعاينون بالأخص إيلاج الذكر في الفرج. ورغم استحالة هذه الشهادة، فقد حث الفقهاء على عدم الإدلاء بالشهادة في هذا الموضوع احتراما للحياة الخاصة ولعدم إشاعة الفاحشة بين المسلمين. أما الإقرار كبينة على الزنا، فيعني الاعتراف الإرادي الحر من طرف الزاني (ة) أربع مرات متباعدة في الزمن. ويمكن للمقر (ة) إمكانية التراجع عن الاعتراف. ومن إيجابيات الإقرار المثيرة أنه لا يتضمن اسم الشريك في الزنا، فلا يؤدي بالتالي إلى البحث عن الشريك، بل يخص مقترفه فقط. ومن المثير أيضا الحث على عدم ملاحقة الزاني (ة) إذا هرب (ة) أثناء تنفيذ الحد.

الواقع أن علمنة الجنسانية ما هي إلا تعبير غير ديني عن القيم الجنسية السامية التي أوجدها العقل الإنساني بشكل جنيني في الكثير من الديانات

وبما أن تهمة الزنا ترد في معظم الأحيان ضد النساء (لأن جنسانية المرأة تبدأ مع الزواج وتقتصر على الزوج الواحد)، فقد شرع القرآن اللعان كوسيلة تمكن الزوجة من الإفلات من الحد في حال اتهامها بالزنا من طرف الزوج. أيضا، ذهب فقهاء السنة (باسثتناء المالكية)، إلى عدم اعتبار الحمل بينة على الزنا نظرا لكون الحمل يمكن أن ينتج عن وطء غير إرادي (نوم عميق، غيبوبة...). وهو ما يمكن اعتباره تمييزا جندريا إيجابيا لصالح الفتاة العازب الحامل، أولا نظرا لخصوصيتها البيولوجية، وثانيا كتعويض عن كونها تعاني من تمييز جندري سلبي (بالمقارنة مع الفتى المسلم الأعزب) يكمن في عدم حقها في الجنس مع ما ملكت يمينها لا قبل الزواج ولا أثناءه ولا بعده.

وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ الاجتماعي لم يتناول بالدراسة تطبيق الحدود الشرعية في حق الزناة في المغرب، ولم تشر إلى تأرجح محتمل بين الرجم والجلد. وعند إلقاء نظرة خاطفة على النوازل الفقهية كمصدر لكتابة التاريخ الاجتماعي، تبدى لنا أنها لا تتطرق إلى حد الزناة بقدر ما تهتم بتأبيد أو بعدم تأبيد تحريم الزواج بين الزانيين كما ورد في "نوازل العلمي".

الفساد، علمنة تخفيفية غير تحريرية

إن الانتقال من مصطلح الزنا إلى مصطلح الفساد في المغرب تم إبان الحماية الفرنسية التي لم تطبق حدود الشريعة في معاقبة الزنا، وإنما قوانين زجرية (حبس وغرامة) مستوحاة من القانون الجنائي الفرنسي، حفاظا على نقاء الأسرة. وقد تمت "مغربة" فرنسية لتلك القوانين سنة 1953 قبل صدور القانون الجنائي المغربي بعد الاستقلال سنة 1962، والذي يعرف العلاقة الجنسية قبل الزوجية كفساد حسب ما ورد في الفصل 490 منه: "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد، ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة". وكما في الشريعة، تطرح جنحة الفساد معضلة إثباتها. هنا تقر المسطرة الجنائية أن الفساد لا يثبت إلا 1) بناء على محضر رسمي يحرره ضابط الشرطة القضائية في حالة التلبس 2) أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم 3) أو اعتراف قضائي، وهي وسائل ثلاث يصعب تحقيقها وتطبيقها. فالتلبس ينبغي أن يكون معاينا من طرف ضابط الشرطة القضائية، وليس من طرف الشهود، ثم إن معاينة الخلوة والتجرد من الثياب واستعمال وسائل التجميل ووجود عوازل ذكرية لا تعني مشاهدة الفعل الجنسي المادي المكون للجنحة، وإنما فقط آثار وأمارات، وهي مجرد قرائن على وقوع الفساد، لكنها ليست دليلا قاطعا على وقوعه. أما الاعتراف الكتابي، فيقصد به ما يكتبه المتهم في مجلة أو رسالة أو مؤلف أو جريدة، ليقر أنه ارتكب فعلا جنسيا قبل-زوجي. ونظرا لكون مثل هذه الكتابة نادرة الوقوع، فقد ذهب المجلس الأعلى إلى أن "الاعتراف المحرر من لدن الضابطة القضائية والموقع عليه من طرف صاحبه ينزل منزلة اعتراف تضمنته مكاتب"، وهو الاجتهاد القضائي الذي لا يتماشى مع السياسة الجنائية الحديثة التي تدعو إلى أن ن يكون تفسير النصوص القانونية لمصلحة المتهم وليس ضده. وأخيرا، يقصد بالاعتراف القضائي ذلك الاعتراف الطوعي والحر الذي يصدر أمام النيابة العامة أو أمام قاضي التحقيق أو أمام هيئة الحكم. لكنه أمر نادر الوقوع أيضا. ورغم أن الاعتراف أمام الشرطة ا لقضائية اعتراف غير قضائي ومشبوه، فإن القضاء المغربي يأخذه بعين الاعتبار، ونادرا ما يتم استبعاده مع العلم أنه ليس طوعيا ولا حرّا ولا حقيقيا في الكثير من الأحيان.

من هذا العرض السريع لجنحة الفساد ووسائل إثباتها، ومقارنة مع الزنا، يمكن الخلوص إلى أن القانون الجنائي المغربي يحافظ على قمع الجنسانية قبل الزوجية الموجود أصلا في الشريعة. لكن رغم رعايته للأخلاق الجنسية الإسلامية الأبيسية، حقق القانون الجنائي نوعا من العلمنة. فعلى مستوى المصطلح، تم التخلي عن مصطلح زنا غير المحصن، وتم استبداله بمصطلح الفساد، وهو ما أدى إلى الانتقال من اعتبار الجنسانية قبل الزوجية من أقصى الجرائم (من الكبائر) إلى اعتبارها مجرد جنحة لا ترقى إلى مستوى الجناية. وفي الانتقال من الزنا إلى الفساد، هناك أيضا تلطيف من وزن الجنسانية قبل الزوجية وخطورتها على المجتمع والفرد، وهو التلطيف الذي يتجلى في استبدال الحدود الشرعية القاسية (الرجم أو الجلد) بعقوبة حبسية يمكن ألا تتجاوز شهرا واحدا، ويمكن أن تكون موقوفة التنفيذ. من هنا نلاحظ وجود ترابط بين قسوة الحد الشرعي، وبين صعوبة الإثبات من جهة، وترابطا بين "لطف" العقوبة القانونية وسهولة الإثبات من جهة ثانية.

إن هذه العلمنة التي تحققت في الانتقال من مصطلح الزنا إلى مصطلح الفساد علمنة ملطفة ومخففة لا تعني أبدا تحرير الجنسانية قبل الزوجية من المعيارية الإسلامية، لكنها تشكل مرحلة انتقالية دالة في الطريق إلى الحرية الجنسية كحرية فردية تنتمي إلى حقوق الإنسان الأساسية.

الجنس كحرية فردية مسروقة

وهذا ما يحدث بالفعل على صعيد الواقع اليومي المغربي الذي يتميز بانفجار جنسي لا مثيل له في الماضي. وتشكل الجنسانية قبل الزوجية المظهر الرئيسي لذلك الانفجار، حيث يبين آخر بحث في الموضوع سنة 2013 (من طرف وزارة الصحة) أن نسبة 56 ٪ من الشباب (من كلا الجنسين) لها ممارسات جنسية قبل زوجية غير فرجية، وأن 25٪ لها ممارسات جنسية كاملة. وهي نسبة عالية جدا تحيل على الملايين من الشبان والشابات. في مقابل هذا الفيض الجنسي، "تعترف" النيابة العامة أن 17280 حالة فساد فقط توبعت سنة 2017. مما يعني أن هذا الرقم ما هو إلا الجزء الظاهر من الجبل الثلجي. وبالتالي يتجلى بوضوح أن الممارسة الجنسية قبل الزوجية موجة عارمة يعجز القمع الجنسي القضائي عن إيقافها ومكافحتها. وبالتالي، أصبح القانون متخلفا عن الواقع وغدا لا يساير تغيره في الحقل الجنسي. ما هو سبب ذلك العجز؟ يعبر الانفجار الجنسي ما قبل الزوجي عن عدم واقعية الدعوة الإسلامية إلى الإمساك الجنسي قبل الزواج بالنظر إلى تأخر سن الزواج (لاعتبارات اقتصادية هيكلية)، وبسبب بزوغ وتغلغل قيم جنسية جديدة، حداثية وتحررية، في المجتمع المغربي. وهي قيم تنتشر بفضل باحثين جامعيين في الموضوع يؤسسون علميا للحرية الجنسية وللحق في الجنس (مثل كاتب هذه الورقة) انطلاقا من دراسات سوسيولوجية ميدانية وتنظيرية. في هذا الإطار، كان عبد الصمد الديالمي أول من طالب سنة 2007، باسمه كمثقف، بحذف الفصول 489 و490 و491 من القانون الجنائي؛ أي بانسحاب الدولة كممارسة للقمع الجنسي من خلال قانون وضعي يعلمن التحريم الديني للجنسانية المثلية، والقبل الزوجية والخارج الزوجية. وللتدقيق، تصبح الخيانة الزوجية مجرد قضية مدنية يطالب فيها الطرف المتضرر بالطلاق وبتعويض مادي؛ بمعنى أن النيابة العامة والشرطة القضائية تتوقفان عن التدخل فيها بفضل حذفها كجنحة من القانون الجنائي. وجدت هذه المطالبة آذانا صاغية في المجتمع المدني منذ 2010، حيث أقدمت بعض الجمعيات على المطالبة بالتوقف عن تجريم العلاقات الجنسية الرضائية. على رأس تلك الجمعيات "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" وجمعية "عدالة"... وتجدر الإشارة أيضا إلى دور البرامج الوطنية المتعلقة بالتنظيم العائلي وبمكافحة الأمراض المنقولة جنسيا، وببعض جوانب الصحة الإنجابية في نشر بعض القيم الحداثية المتعلقة بالحياة الجنسية عند المغاربة.

حرية جنسية معولمة، لكن غير مقننة دوليا

في نظر الحركة الإسلاموية، الراديكالية منها بالخصوص، تشكل الحرية الجنسية والحقوق الجنسية وحقوق الإنسان بعدا من أبعاد الإمبريالية الثقافية الجديدة

علاوة على ضغط الواقع الذي يفرض حذف القوانين المناهضة للحق في الجنس الرضائي قبل الزواج، لكي يصبح ذلك الجنس مسؤولا وحاميا لذاته، تلعب المرجعية الحقوقية الدولية دورا مهما في الحث على تحقيق ضمان صحة المواطن الجنسية من خلال الاعتراف له بحريته الجنسية الفردية، وهي حرية لا تتحقق إلا باحترام الحق في نشاط جنسي متراضي قبل الزواج وأثناءه وبعده، والحق في إنجاب أو عدم إنجاب أطفال خارج الزواج وداخله، والحق في تغيير الجنس البيولوجي تماشيا مع الجنس النفسي (أي مع الهوية الجندرية)... فبالنسبة إلى المنظمة العالمية للصحة وللفيدرالية الدولية للتنظيم العائلي، لا صحة جنسية دون احترام تلك الحقوق الجنسية، ولا مواطنة للإنسان دون حرية جنسية يتصرف بفضلها ككائن راشد ومسؤول. إن الحقوق الجنسية الفردية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وهي حقوق تناهض التمييز واللامساواة على أساس الجنس والجندر والهوية الجندرية والميل الجنسي والحالة الزوجية. من ثم، يدعو المبدأ السابع من "إعلان الفيدرالية الدولية للتنظيم العائلي" إلى إلزام الدول باحترام وحماية وإرضاء الحقوق الجنسية لكل فاعل جنسي دون تمييز.

في نظر الحركة الإسلاموية، الراديكالية منها بالخصوص، تشكل الحرية الجنسية والحقوق الجنسية وحقوق الإنسان بعدا من أبعاد الإمبريالية الثقافية الجديدة. فهي تعتبرها قيما غربية، رأسمالية وليبرالية، تهدد الإسلام والدول الإسلامية. ويرى التحليل الإسلاموي الراديكالي أن النساء والعزاب والمثليين والمزدوجي الجنسانية والمتحولين الجندريين دمى تستعملها القوى الإمبريالية الجديدة قصد نسف الإسلام وهدم المجتمعات الإسلامية من الداخل، وذلك من خلال تحريض تلك الفئات على المطالبة بالحريات والحقوق الجنسية. وبالتالي، هناك دعوة إسلاموية لمقاومة المد التغريبي وهناك جهاد إسلاموي ضد الدول الإسلامية لجبرها على عدم تبني حقوق الإنسان وبرامج الصحة الجنسية والإنجابية. وطبعا تنجح الإسلاموية في ردع القبول القطري للحقوق والحريات الفردية، لأن معظم السلطات السياسية في الدول الإسلامية توظف الإسلام من أجل إضفاء الشرعية على ذاتها. من هنا سهر الكثير من الدول الإسلامية على حماية القيم الجنسية الإسلامية السائدة في الإسلام السائد، وهي القيم التي ترفض الجنسانية غير الزوجية والجنسانية المثلية. من ثم رفض قطري متعدد وعلى مستوى "مؤتمر الدول الإسلامية" لمفاهيم الحرية الجنسية والميل الجنسي والهوية الجندرية، وهو رفض مبدئي أدى إلى عدم التصويت على معاهدات واتفاقيات دولية تلزم الدول بعدم تجريم الحرية والحقوق الجنسية. هكذا ظلت الدول التي تمارس القمع الجنسي على مواطنيها دولا غير جانحة، غير مضطرة لملائمة قوانينها مع القوانين الدولية في الحقل الجنسي، إذ لا وجود لقوانين دولية في ذلك الحقل.

من أجل تجاوز هذه المعضلة، لا بد من نسف الترابط الذي بنته الإسلاموية العالمية بين الحقوق الجنسية والغرب، ولا بد من تبيان أن الحقوق الجنسية تنتمي إلى الحداثة وليس إلى الغرب. فالحداثة بناء تاريخي ساهمت فيه كل الحضارات وكل الأديان دون استثناء، والأمر يتجلى بالخصوص في حقل الحداثة الجنسية. فمن بين أبعاد الحداثة الجنسية الإعلاء من شأن المتعة وجعل المتعة الهدف الرئيس للفعل الجنسي، وهو الشيء الذي ساهم الإسلام في إرسائه، حيث اعترف بشرعية العزل كتقنية مانعة للحمل لتجعل من المتعة الهدف الأول للفعل الجنسي. ثم إن الإسلام اعترف للزوجة بحقها في المتعة الجنسية واعترف لها بالحق في التطليق في حالة عدم رضاها الجنسي. نقطتان كافيتان للتأكيد أن الإسلام ساهم في بناء الحداثة الجنسية كمجموعة من الحقوق الجنسية. والقول بتوسيع تلك الحقوق لا يتنافى مع مقاصدية الإسلام في الحفاظ على العرض. كيف ذلك؟

إن تحريم الجنسانية قبل الزوجية، كان موجها بالأساس إلى الفتاة المسلمة بالنظر إلى تمكين الفتى من التسري قبل الزواج. ويعني ذلك أن إلزام الفتاة بالإمساك الجنسي قبل الزوجي هو إلزامها بالحفاظ على عذريتها قصد تجنب حمل غير شرعي. فالطفل غير الشرعي يهدد الأمن السلالي من حيث إنه يهدد نقاء النسب ويسبب اختلاط الأنساب والأموال. هذا هو الخطر الحقيقي الكامن في مفهوم العرض وفي اعتبار الحنسانية قبل الزوجية فاحشة ودنسا. وبالتالي يتضح أن الإمساك الجنسي قبل الزوجي شكل التقنية الأساسية لمنع الحمل قبل الزواج. اليوم، بالإمكان التوفيق بين الجنسانية قبل الزوجية، وبين منع الحمل وتحديد هوية الوالد بفضل التقنيات العلمية الحديثة. بتعبير أبسط، يمكن اجتناب الحمل قبل الزواج ويمكن تشخيص الوالد وتحويله إلى أب قانوني حتي لا يظل "اللقيط" لقيطا. من هنا يتبين أن تحريم زنا غير المحصن مرتبط بظروف تاريخية واجتماعية معينة وبإمكانيات تقنية محدودة، وهي الظروف التي تم تجاوزها اليوم. فلماذا التشبت بالتحريم أو بالتجريم؟

خاتمة

من الضروري توقف الدول الإسلامية عن تحريم زنا غير المحصن وعن تجريم "الفساد". ومن الضروري أيضا أن تتوقف عن مناهضة التصويت على مشاريع المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تسعى إلى تجريم رفض الحرية والحقوق الجنسية للأفراد؛ وذلك انطلاقا من مساهمة الإسلام في بناء الحداثة الجنسية كحقوق جنسية في المتعة، وفي احترام الحياة الخاصة. فالإسلام يحث على الستر وعلى عدم إشاعة "الفاحشة".

صحيح أن حقوق الإنسان أداة لنقد دول قمعية، وهي وسيلة للسير بالإنسانية إلى ما هو أفضل، لكنها تظل وإلى اليوم حقلا صراعيا، وبالتالي ينبغي العمل على توسيع الحقوق والحريات. والواقع أن علمنة الجنسانية ما هي إلا تعبير غير ديني عن القيم الجنسية السامية التي أوجدها العقل الإنساني بشكل جنيني في الكثير من الديانات، ومن ضمنها الإسلام. فالعلمنة امتداد وتمديد للأديان في إيجابياتها بشكل يتجاوز الخصوصيات قصد توحيد البشر حول العقل.

وبشكل أعم، لا تعني العلمنة إقصاء الإسلام من حياة الفرد، وإنما تعني تطهير الدين من السياسية؛ وذلك من خلال أربعة مبادئ أساسية:

- أولا، لا تضفي السلطة السياسية شرعية إسلامية على نفسها من أجل كسب شرعية سياسية،

- ثانيا، لا تستصدر السلطة السياسية القوانين من النصوص الإسلامية المرجعية،

- ثالثا، لا تفرض السلطة السياسية الإسلام كدين الدولة على مواطنيها، بل تقر دستوريا بحريتي العقيدة والضمير،

- رابعا، لا تجعل السلطة السياسية من المدرسة العمومية مصنعا لإنتاج مسلمين، وإنما فضاء محايدا لدراسة علمية لكل لأديان الرئيسية ومجالا لصناعة المواطن الحر.

إن العلمنة بهذا المعنى، هي الكفيلة لوحدها بتحقيق إيمان صادق وحقيقي لدى الفرد، وهي التي تجعل الدولة تتعامل مع الفرد كإنسان راشد يتحمل مسؤولية اختياراته الحياتية، وعلى رأسها اختياراته الجنسانية.