الدولة الإسلامية جدل السياسي والديني: قراءة في كتاب النبوة والسياسة


فئة :  قراءات في كتب

الدولة الإسلامية جدل السياسي والديني:  قراءة في كتاب النبوة والسياسة

تمهيد:

يطرح هذا الكتاب إشكالية محورية شغلت الفكر السياسي الإسلامي منذ نشأته إلى الآن، وهي جدلية العلاقة بين الديني والسياسي في بناء وتشكيل الدولة الإسلامية. وفي هذا السياق، يتم طرح سؤال محوري:

هل تمت إقامة الدولة الإسلامية في العهد النبوي خصوصًا على عامل الدين فقط أم السياسة أم عليهما معا؟

يتبنى هذا الكتاب فكرة بناء الدولة الإسلامية على العامل السياسي والديني، لذا لا يجوز الفصل بينهما، خصوصًا أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع في سلطته الجانبين السياسي والديني؛ فقد كان النبي (ص) رئيسًا للدولة بالمفهوم السياسي يقود المعارك، ويعقد الاتفاقيات والمعاهدات وغيرها من الأفعال السياسية، إلى جانب كونه يوحى إليه. ولقد صدر هذا الكتاب (النبوة والسياسة) عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ويشمل مقدمة وثمانية فصول وخاتمة، المقدمة (ص9-12)

ثم مدخل بعنوان: (في المصادر الكلاسيكية للسيرة النبوية) ص13. أما الفصل الأول، فقد جاء بعنوان: (المسألة الإسلامية في إسلام الصدر الأول: النص والاجتهاد) ص37-58، والفصل الثاني يندرج تحت عنوان: (الجماعة والسياسة ووالسلطة ما قبل نظرية السياسة) ص59-71، وجاء الفصل الثالث موسوما ب: (التوحيد عقيدة واجتماعًا) ص81-96. أما الفصل الرابع، فيحمل عنوان: (الحرب والمفاوضة) ص97-113. وجاء الفصل الخامس بعنوان: (الدمج والتمايز) ص115-136، بينما كان الفصل السادس بعنوان (التنظيم السياسي والإداري) ص137-160. أما الفصل السابع، فعنوانه (اقتصاد المدينة: الغنيمة وفلسفة التوزيع) ص161-179، وورد الفصل الثامن بعنوان: (الكاريزما المحمدية) ص185-195، ثم الخاتمة ص199-204

تطرح المقدمة فكرة قيام الجماعة السياسية في الإسلام، وكيف أنها امتدت إلى ما بعد وفاة الرسول، وكيف أن وفاته (ص) كشفت عن سهولة تفكك نسيج الجماعة الداخلي (حروب الردة وغيرها) ويجب الإشارة في هذا السياق إلى أن العلاقة بين الديني والسياسي ظلت تفرض نفسها على الجماعة الإسلامية حتى اليوم، ثم تطرقت المقدمة للحديث عن المصادر الكلاسيكية للسيرة النبوية، وكيف أن كل محاولة لإعادة التفكير في السيرة النبوية تتبعها محاولة لإعادة بنائها في الوعي على مقتضى مقدمات موجهة، سواء أكانت هذه المقدمات معلنة أو مضمرة، ومن ثم عندما يكون الهدف بيان تداخل السياسي مع الديني في السيرة، هنا فقط تبدو المقدمات والفرضيات التأسيسية أوضح في مقاصدها، وهذه المحاولة تقدم نفسها كمحاولة لإعادة تأسيس صلات الوصل بين وقائع السيرة بما يجعلها سيرة سياسية في جانب كبير من حوادثها.[1]

وبناء على تلك المحاولة، سنجد أنفسنا أمام ثلاثة أنواع من المصادر تمثل المدونة الإجمالية للأثر المكتوب حول السيرة: 1- المصادر الكلاسيكية للسيرة؛ أي كتب السيرة التقليدية. 2- المصادر الغربية (الاستشراقية) الحديثة والمعاصرة. 3- المصادر العربية الحديثة والمعاصرة، وفي هذا السياق تمثل المصادر الكلاسيكية الإسلامية المخزن الأساسي للمعلومات (الروايات والأخبار) مادتها المرجعية. واستنتاجًا مما سبق، نتوصل إلى نتيجة مفاداتها أن السيرة النبوية هي أوضح وأطول سيرة بين سير جميع الرسل والأنبياء، وهذا الوضوح يتمثل في فيض الروايات عن يوميات النبي وتفاصيلها بعد المبعث. أما من جهة طولها، فلأنها استغرقت قرابة ثلث عمر النبي في مرحلة دعوته.[2]

ويجب الإشارة هنا إلى حقيقة مهمة، وهي تأخر تدوين وقائع السيرة النبوية، والسبب في ذلك يرجع إلى تأخر عملية التدوين نفسها في مجالات المعرفة العربية الإسلامية كافة، ومن هنا فإذا كان تدوين السيرة قد تأخر لمدة مئة عام على وفاة الرسول، فلأن مسائل الصراع على السلطة والدولة تأخرت إلى عهد قيام الدولة الأموية (وأنا لا أتفق مع هذا الطرح، لأن الصراع على الدولة والحكم بدأ مباشرة عقب وفاة النبي، وخير شاهد على ذلك ما حدث في سقيفة بني ساعدة) ويشير إلى أن القول والفعل النبويين (السنة) هما مادة تلك السيرة. وبالتالي، فإن تدوين السيرة سيكون لاحقا على جمع الأحاديث النبوية والتدقيق في صحة نسبتها إلى الرسول. ويجب الإشارة إلى أن هذا التأخر في تدوين السيرة النبوية نتجت عنه مشكلات عدة على صعيد صدقية ما نقله كتاب المغازي والسير والإخباريون عن العهد النبوي، ودقة روايتهم وأسانيدهم فيها، وفي ختام تحليل تلك المصادر الكلاسيكية الأساسية للسيرة النبوية ينتهي هذا التحليل إلى وجود موقفين: الموقف الأول يستند إلى منطلقات اجتماعية-سياسية ويذهب إلى القول بالحاجة للتعامل مع تلك المصادر بوصفها مادة مرجعية مقبولة. الموقف الثاني يستند إلى مقدمات معرفية ترى أن فحوص تلك المصادر ومعيار ودرجة الحجية العلمية والأمانة التاريخية، يمثلان المدخل الأنسب إلى إعادة التفكير في السيرة.[3]

ثم يستعرض الكتاب بالتحليل المسألة السياسية في إسلام الصدر الأول بين النص والاجتهاد، وهنا يشير المؤلف إلى أن المسلمين لم يتوقفوا طيلة تاريخهم المديد عن تنزيل مسائل السياسة والدولة والسلطان السياسي منزلة الموضوع الأجدر بالعناية، ومن هنا لا نستطيع أو يتعذر وعي الفارق الزمني والديني في جماعة المسلمين، وفي هذا السياق، هناك سؤال ملح، وهو ما الموقع الذي احتلته المسألة السياسية في الإسلام نصًّا وتجربة تاريخية، وكيف وعاها المسلمون الأوائل في صدر الإسلام؟ بداية يشار إلى الإسلام عادة على أنه رسالة دينية ومشروع سياسي في نفس الوقت، وقد كرس تلك الصلة بعمق بين السياسي والديني صعود الصحوة الإسلامية منذ الحرب العالمية الثانية، وقيام دولة باكستان على الفكرة الدينية، كما أن هذه الصلة بين السياسي والديني قد ترددت أصداء الوعي الإسلامي المعاصر بها في كتابات رشيد رضا - المودودي - سيد قطب، حيث بات مألوفًا أن يتم تعريف الإسلام بأنه دين ودولة (أعتقد من وجهة نظري أن هذه الفكرة كانت منذ عهد النبوة وما بعده في عهد الخلفاء الراشدين، لأن الإسلام جمع أيضا بين السياسي والديني) وهناك سؤال آخر لا يقل أهمية عن المسألة السياسية، وهو سؤال يدور حول مركزية المسألة السياسية في الإسلام؟ والإجابة تتضمن القول إن تلك المسألة السياسية كانت رئيسة في الإسلام منذ بداياته، وهذا من خلال وجوه ثلاثة: أولا لأن الرسالة تحتاج إلى جماعة سياسية تحملها، ثانيًا تحتاج إلى سلطان سياسي يوطدها وينطق باسمها، ثالثًا فرضت نفسها على المسلمين منذ اليوم الأول، لغياب قائد كيان المسلمين في المدينة رسول الإسلام إليهم[4].

وفي هذا الاتجاه ينبغي أن نشير إلى أن الإسلام المدني أرهص بتحويل الجماعة المكية التي تكون وجدانها الاعتقادي في الإسلام المكي ابتداء، وتعمق في تجربة الهجرة إلى المدينة - إلى جماعة سياسية، وبناء على ذلك لم يكن التحول تفصيلًا عاديًا في تاريخ الرسالة فحسب، بل كونه نقل الجماعة الإسلامية من الاجتماع الديني إلى الاجتماع السياسي، وكل هذا مهد الطريق إلى إعادة تأسيس الإسلام من حيث هو رسالة إيمانية ومشروع سياسي في تلازم عضوي غير قابل للانفكاك من حيث هو دين ودولة، ثم يحلل بعد ذلك جدلية العلاقة بين السياسي والديني بعد فترة النبوة؛ أي بعد وفاة النبي، وما حاجة الرسالة إلى سلطان سياسي يحفظها ويضمن لها الاستمرارية، والسؤال إذا كان هناك تضافر بين السياسي والديني قد تحقق في العهد النبوي، فكيف بعد أن بات مصير جماعة المسلمين مرهونًا بتدبيرهم لأنفسهم بعد انقطاع الوحي وغياب منصب النبوة (لا أتفق مع هذا المصطلح منصب النبوة لأنها ليست منصبا سياسيا، بل اصطفاء إلهي) والإجابة عن ذلك السؤال، أن الدعوة في عز سلطة الوحي ومرجعية النبوة، في حاجة إلى سلطان سياسي ينتظم بها حالها. أما بعد غياب النبي وانقطاع الوحي، باتت الدعوة بحاجة مضاعفة إلى ذلك السلطان السياسي الذي به تستوي وتنتشر.[5]

وبناء على ذلك، فإن التجربة النبوية في دولة المدينة كانت هي النموذج الذي يستمد منه المسلمون فكرهم عن السلطان السياسي والديني. لذا، عندما حدثت متغيرات اجتماعية وسياسية بعد حقبة النبوة اقتضى ذلك مقاربة أخرى للمسألة السياسية، كان الاجتهاد فيها مع وجود النص الديني (آيتي الشورى) الأداة التي حل بها إعضال الخلافة. ويؤكد في ذلك السياق، أن نصوص الإسلام لم تصنع دولة، لأنها لم تشرع لاجتماع سياسي، لكن المسلمين صنعوا تلك الدولة، كما أن مجال السياسة في الإسلام نشأ بعيدًا عن أية قداسة دينية (لا أوافق على تلك الرؤية لأن الدولة في الإسلام قامت بتوجيه وإرشاد من قواعد الشريعة وآيات القرآن وأحاديث الرسول، بل إن الاجتهاد أحيانا كان مرتبطا بالنص أو يدور حول روح النص) ويرى أن نظام الاجتماع السياسي الإسلامي وظيفته تتمثل في إعادة إنتاج الاجتماع الديني؛ أي إعادة إنتاج الجماعة والأمة.[6]

من هنا يتضح لنا تلازم وتلاحم السياسي والديني في بواكير الإسلام وخصوصًا في دولة المدينة، ومحاولة الحفاظ على هذا التلازم في عصر الخلفاء الراشدين.

ويتبنى المؤلف الفرضية القائلة إن السياسة بحثت لنفسها عن شرعية جديدة بعد غياب الشرعية النبوية، وهذا له ما يبرره من التاريخ، وهو تاريخ المسلمين في حقبة الخلافة الراشدة وما تلاها من أحقاب، ولم يكن الذي بررها سياسيا دائما؛ أي منفصلًا عن الدين، لذا هناك فكرتان أساسيتان حكمتا نظرة المسلمين إلى أنفسهم وإلى دورهم في التاريخ هما: فكرة الجماعة، وفكرة الفتح الإسلامي، وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى حقيقة مهمة، وهي أن وقائع التطور التاريخي التي عاشتها الجماعة الاعتقادية الإسلامية قادت إلى رفع درجة الحاجة الجماعية إلى الدولة والسلطان السياسي، إما لتحقيق الرسالة عبر الفتوح، أو ترجمة الجماعة الاعتقادية إلى جماعة سياسية.

وبناء على ما سبق من هذه المقدمات، نتوصل إلى حقيقتين؛ أولهما: أن الديناميات السياسية الذاتية في الاجتماع الإسلامي كانت كبيرة، حيث قادت إلى تكوين جماعة سياسية، ثانيهما: أن السياسة في التجربة الإسلامية لم تكن تقدم نفسها كممارسة فقط، وإنما أيضا كموضوع لتفكير سيفضي بالمسلمين إلى تأسيس مجاله المعرفي من الفقه إلى نظرية الخلافة.[7]

ثم يتطرق حديث المؤلف عن فرضية تبدو بديهية، وهي أن الرسالة أو الدعوة المحمدية هي دعوة دينية توحيدية. وفي هذا السياق، فإن الدعوة قامت على عدة دعائم كان منها الحامل السياسي، لذا يؤكد أن التجربة النبوية حملت بداخلها مشروعا سياسيا. يجب أن نعيد اكتشاف هذا الوجه السياسي من الدعوة والسيرة النبويتين، ويتم ذلك من خلال تقصي بعض تجلياته فيهما، وهناك لحظتان يجب التركيز عليهما: اللحظة الأولى لحظة الدعوة، الثانية لحظة الإنشاء والبناء للجماعة الإسلامية المدنية. ومن أجل ذلك، سوف يتم التركيز على الدعوة إلى التوحيد والتوحيد بالدعوة. ونلفت الانتباه إلى أن العرب قبل الإسلام لم تكن تجهل فكرة الله، وهذا واضحا من خلال إشارة القرآن في أكثر من أيه تدعو إلى التوحيد، بالإضافة إلى أنهم يسمون بعض أبنائهم باسم عبد الله، ومن هنا لم تكن رسالة التوحيد إذن تعريفا بالله في وسط عربي يجحده وإنما توحيد له، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن تعبد محمد قبل البعثة في غار حراء يمثل هجرة للموروث الديني الوثني عند قريش، ثم الوحي ونزوله على الرسول يمثل هجرة ثانية مع الموروث القرشي الوثني، كل هذا ترتب عليه أن تكون الدعوة توحيدية.[8]

وبناء على ذلك، يجب أن نلفت الانتباه إلى أن الدعوة إلى التوحيد أخذت الشطر الأكبر من العمل النبوي في مكة. وفي هذا السياق، فإن التوحيد الديني ليس فعلًا متعاليا عن الاجتماعي والسياسي، بل متصل بهما اتصال العلة بالمعلول، ولقد أنتج أمة روحية خلال حقبة الدعوة وما بعدها، لكنه في الأثناء فتح الطريق أمام تأسيس اجتماع سياسي هو الأول في تاريخ العرب. وبعد ذلك، يؤكد أن أحد الوجوه البارزة للسياسة في المجال الديني هي الحرب؛ فالحرب فعل من أفعال السياسة في تجربة الدعوة (وأنا أتحفظ على هذا الطرح لأن القتال والحرب جاء من خلال توجيه قرآني في حالة صد ورد العدوان على المسلمين) كما كانت الحرب تمثل حاجة سياسية إلى ضرب مصالح قريش، ويجب الأخذ في الاعتبار أن الديني والسياسي في الحرب متكاملان ومرتبطان؛ فالأمر بتبليغ الدعوة ونشر الرسالة، يأتي من خلال الحرب أو الجهاد.[9]

وبناء على ذلك، نشير إلى أن الحرب تملك مفردات سياسية لا يجب إغفالها منها توفير الموارد المالية لبناء الجيش، ثم تأمين الموارد الاقتصادية لدولة الدعوة، ثم يدلل المؤلف على أن الحرب من مفردات السياسة من خلال حديث الرسول (ص) أن الحرب خدعة بمعنى أنها أكثر من إرادة مؤمنة لدى من يخوضونها دفاعا عن مبدأ متمتعين بالعناية الإلهية. إنها ميزان قوى وذكاء سياسي، ويجب الآخذ في الاعتبار أن عوامل مثل التخطيط والكفاءة في القتال وحجية رأي من استشير كلها تمثل عوامل سياسية في الحرب النبوية.

ثم يعرج على بيان صفة الدمج والتمايز في التجربة النبوية، وكيف أننا نلحظ أشكالًا مختلفة من حضور التمايز بين الديني والسياسي في سائر لحظات التجربة النبوية في مكة والمدينة، ورغم ذلك فهناك صعوبات متعلقة بالتمييز بين الديني والسياسي من أهمها: صعوبة وضع حدود زمنية فاصلة بين اكتمال الدعوة. ويستعرض بعد ذلك أهم آليات التمكين السياسي التي أوجدت الدولة في أحضان الدعوة، ومن أهم هذه الآليات (الصهر والدمج)، حيث إن مجتمع الجزيرة العربية كان يقوم على عصبية القبيلة وقرابة الدم والرحم. لذا، كان من الصعب إخراج الجماعة الإسلامية الجديدة من تضامنها التقليدي، ونلفت الانتباه هنا إلى أن تمييز قرابة الرحم داخل قبيلة قريش في مرحلة الدعوة كان آلية من آليات الدمج والصهر لتكوين الجماعة الإسلامية، أيضا قيام مجتمع المدينة المؤمنة على ثنائية المهاجرين والأنصار احتاج من أجل إعادة بنائه وتوحيده إلى صهر تلك الثنائية من خلال مبدأ المؤاخاة[10]. وبالإضافة إلى استراتيجية الدمج والصهر كما في المؤاخاة، هناك استراتيجية التمييز والتمايز، وكانت ترتكز على بناء الفواصل والتمايزات بين الهويات الدينية وإقامة السياسة والدولة والأمة على تلك الفواصل وتصفية اليهود وإجلائهم عن المدينة، وتنتمي تلك التصفية إلى حاجة حيوية لدى الجماعة الإسلامية إلى التمييز والتمايز الديني بوصفهما شكلًا من أشكال إعادة بناء المجال السياسي المدني، ومن هنا نتوصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت الحرب على قريش بهدف التوحيد، فإنها في حالة اليهود صرفت إلى تأسيس علاقات التمييز والتمايز عن غير أهل الإسلام؛ أي الخروج بالجماعة من المشترك العقدي؛ أي الماهية الخاصة إلى ما يتميز به المسلمون مليا.[11]

ثم يشير بعد ذلك إلى أن دولة المدينة في عهدها النبوي وضعت دولة المسلمين اللاحقة، سواء في تنظيمها السياسي-الإداري أو في نظامها الاقتصادي، وفي هذا السياق يوجد اثنان من الشواهد يمثلان الدليل الناصع على قيام تلك الدولة: أول تلك الظواهر أو الشواهد وجود شكل من التنظيم السياسي-الإداري لأمور الجماعة الإسلامية في المدينة، ثانيها قيام نواة نظام اقتصادي قادت إليه الغزوات.

ومع ذلك، قد يقول قائل إن دولة المدينة لم تستكمل عناصر البناء القانوني-الإداري للدولة، فإن هذا لا يمنعنا من القول إن لحظات سياسية قامت في الممارسة النبوية على قواعد ومؤسسات لم يكن صعبا إدراك خلفيتها، وكذلك لم يكن صعبا رؤية وظيفة التنظيم السياسي والإداري الممكن الذي رافقها، ومثل صحابة رسول الله أول نخبة سياسية في الإسلام، ومن هذه النخبة تشكل الجسم السياسي والإداري للدولة الجديدة، وهذا الجهاز الإداري السياسي يمثل مجموعة من الوظائف الحساسة في مجال إدارة دولة المدينة، وكان من أهم هذه الوظائف النيابة عن الرسول في المدينة أثناء خروجه إلى الغزوات، والقضاة وجباية الزكاة والجزية، ومن هنا أديرت تجربة البناء السياسي في المدينة بكفاءة عالية، تكفي للقول إن شكلًا من التنظيم الإداري-السياسي كان وراء ذلك.[12]

ولقد تعددت وجوه هذه الإدارة وتداخلت مستوياتها على نحو غير قابل للعزل، ومن أهم هذه التجليات للإدارة في التجربة النبوية، صرف شطر من المراسلات النبوية إلى مخاطبة الجسم الإداري لدولة المسلمين، كذلك صرف الرسول (ص) الشطر الأكبر من دعوته إلى تنظيم الاجتماع السياسي الإسلامي في الخارج، وتمثل ذلك في مراسلاته لكسرى وقيصر وغيرهم من الملوك.

والجانب الثالث في الجهاز الإداري-السياسي هو الجانب الاقتصادي، وهو لا يقل أهمية عن الجانب السياسي الإداري، ومن أهم توفير الحالة الاقتصادية لبناء الدولة الإسلامية في العهد النبوي، الحرب، والحرب تحتاج إلى موارد لتكوين جيش من المقاتلين وتجهيزه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحرب وتحصيل الغنائم، ومن هنا شكلت الغنيمة وسيلة إنتاج ومنتوج في نفس الوقت، فهي وسيلة إنتاج لأنها الأداة الوحيدة التي كانت متاحة لتراكم الثروة، وتعظيم الموارد. أما لأنها منتوج فلأنها الشكل الوحيد المتحصل من العملية الاقتصادية، وبناء على ذلك نرى أن الغنيمة تمثل خيرات يجري استدرارها بالقوة والغلبة. ويجب أن نشير هنا إلى أن الغنم الحربي في الإسلام لم تكن في جملة الربح غير المشروع، وإنما من مستحقات جهاد المسلمين، وجوهر عملية توزيع الغنائم يمثل مبدأ دينيا واجتماعيا وأخلاقيا، يقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي، لأن المقاتلين يعطون المخلّفين الذين أقعدتهم الأعذار مثل المرضى ووغيرهم[13]. ومن هنا نتج عن الغنيمة إلى جانب فكرة الإحسان الديني فكرة المال العام التي هي من أسس الدولة.

ثم ينتقل بنا المؤلف إلى تحليل كاريزما النبي محمد (ص) المشرع ورئيس الدولة، ويلقي الضوء على تلك الكاريزما التي تداخلت فيها كثير من الصفات والسمات، جعلت من شخصية الرسول شخصية تحظى بإعجاب ليس فقط أصحابه، بل كل من تعامل معه خارج دائرة أصحابه، وهذه الكاريزمية لم تكن لكونه نبيا يوحى إليه، بل من حيث هو إنسان يملك قدرات شخصية جعلته يحظى بالاحترام والتقدير من كل من تعامل معه. ويجب الإشارة هنا إلى أن الشخصية الكاريزمية بدأت تتكون منذ بداية الدعوة وكانت تجمع بين الشجاعة والهيبة، ومن هنا أصبح النبي (ص) مثالًا يقتدى به وقدوة لكل المؤمنين، ولقد وجدت مجموعة من الخصال والسجايا في شخصية الرسول جعلت منها كاريزما متفردة، منها رباطة الجأش أمام النائبات والتحديات، وأيضا إدارته لأمور الدولة، وحسن التخطيط، وحكمته وهدوءه وسماحته وعفوه على الفقراء.[14]

ومن أهم تلك الصفات أيضا التي قامت بدور محوري في كاريزما النبي (ص) الشجاعة، حيث كان الرسول شجاعا في الحق، وفي كل المواقف التي مر بها في حياته، خصوصًا في حالة الحروب كان يتقدم الصفوف ولا يخشى الموت، أيضا من الصفات المحورية في تلك الشخصية الكاريزمية التطابق في القول والعمل في السلوك النبوي.

الخاتمة:

بعد هذا التحليل لارتباط السياسي بالديني في التجربة النبوية في دولة المدينة، نتوصل إلى جملة من النتائج والاستنتاجات من أهمها:

1- أن الحديث عن وجود لحظة سياسية في المشروع النبوي أمر ممكن، لأن الكثير من وقائع هذا المشروع ويومياته وحواراته تتصل بالسياسة وبالأفعال السياسية، وتصعب نسبتها إلى الدين فقط، ومن أمثلة تلك الحوادث السياسية تجهيز الجيوش، خوض الحروب، عقد التحالفات.

2- وقوع التلازم بين الديني والسياسي في التجربة النبوية، ولم تكن السياسة منفصلة عن الدين في المشروع النبوي، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن محكومة به أو مجرد فرع من فروعه (وهنا لا أتفق معه في هذا الطرح، لأن الأمور السياسية كانت في أحيان كثيرة تسير على هدي القرآن والسنة في كثير من التشريعات، مثل توزيع الغنائم وإدارة الحروب)؛ ومن أدلة تلازم السياسي والديني في التجربة النبوية، أن الرسول جمع في سلطته بين الجانب السياسي والديني، فهو رئيس دولة بالمفهوم السياسي، ومشرع يوحى إليه، من كل ذلك نرى تداخل السياسي والديني في التجربة النبوية في دولة المدينة.

[1]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص 10

[2]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 13. وأيضا انظر. جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1988، ص 11

[3]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 27

[4]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 37

[5]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 43

[6]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 53

[7]- المرجع السابق: ص 74

[8]- عبد الإله بلقزيز: النبوة السياسة، ص 83، أيضا انظر للمؤلف. الإسلام والسياسة ودور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص 43

[9]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 100

[10]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 121 - 123

[11]- المرجع السابق: ص 130

[12]-عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 144 - 147

[13]- عبد الإله بلقزيز: النبوة والسياسة، ص 167 - 170

[14]- المرجع السابق: ص 190 - 193