الدين والعلم والغد: سماع شرقي لمقامات كونية


فئة :  مقالات

الدين والعلم والغد: سماع شرقي لمقامات كونية

لم يعد هناك من داع للتشبث بمصادرتنا على مفهوم التخلف الذي زدنا إليه إرادتنا فيه حتى صار تخليفا، منطلقين من كونه أحادي الجانب، لا يأخذ الروح في اعتباره، وماذا تفعل وتجدي هذه الروح إذا ما ظلت محاصرة بالمادة؟ قصاراها أن تبقى وعدا (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا)، ولكن هذا النصر لا يأتي من خارج الذات، بل يتحقق بشروطها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والعلاقة مع الله، نصرا وإعزازا، تبادلية ومحكومة بأسبابها الطبيعية، وإلا كانت خلافة الإنسان عبثا ولعبا (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).

وعلى كل حال، فإن المشهد العالمي والعلمي والمعرفي والتقني والحركي والتنظيمي، الذي توصلنا طيوفه بعد مرور الزمن، وبعد انتهاء المهلة أحيانا، تحولات كبرى، لا جدال في ندرة أو عدم مشاركتنا فيها إنتاجا وانتفاعا، أنجزت على مدى عقود أو عقد واحد من السنين، فبلغت من حيث الحجم مجمل ما أنجزته البشرية على مدى عمرها المديد، ولأن الكم في مجال العلم والكشف غير محايد ويختزن معطيات كيفية، فقد غدت هذه الإنجازات وبدت متحولات نوعية واضحة الدلالات والمؤشرات، ودخلت تعبيراتها في صميم أنظمة القيم والأفكار والحراك الاجتماعي والجدل اليومي، ولكي نلحق أو نبقى، حتى لا نستلحق أو نفنى، لا بد لنا من مواكبتها واستبيان مساراتها طموحا إلى تكييفها والتكيف بها ومعها، لا باعتبارها تفريعات طارئة على أصول حضارية لا شأن لنا بها، بل باعتبارها حاويات لأصول عامة في المعرفة تنامت خارج اهتمامنا عربا ومسلمين، شرقا أو جنوبا من المعمورة، من دون أن نغفل استثناءات كانت أقل حساسية وأكثر إقداما، بكرت في حسم خياراتها فتجاوزت أزماتها وعاشت عصرها، وهذه ليست دعوة متأخرة إلى مطابقتها (اليابان مثلا) ونبقى مدعويين إلى تمثل تجربتها على أساس خصوصياتنا التي بالغنا في حسابها فحولناها إلى عوائق، ولو كنا راعيناها بقدر ما تقتضي كضرورات هوية لتحولت إلى حوافز وأسباب نهوض ... وعوامل صيانة لهذا النهوض.

ولابد من التشديد على هذه المسألة منعا لإعادة الكلام حول الإسلام كمانع حضاري كما في مخيلة تيار التغريب أو في جهالة دعاة الانغلاق، ومنعا كذلك لإعادة الكلام عن الاستعمار كعائق مطلق... فما من منكر في الدنيا أن الإسلام كان له دور التأسيس في التاريخ العلمي والحضاري العالمي، ما يعني أنه في داخله يمتلك أسباب التقدم، ولكن شرطه، الخارجي، نحن، كف في لحظة عن التحقيق الملائم للاستمرار والمراكمة، وأما مخيلة تيار التغريب التي تضارعها ضررا وإعاقة هواجس تيار الانغلاق بحجة التحصين والحفاظ على الذات، فإنها لا شفاء لها إلا بالعلم والوصول معه وبه إلى حيث يقتضي ويصل، وبذلك تتحول العلاقة بالآخر، الغالب في لحظة، عن نصاب الالتحاق إلى نصاب التكافؤ والمنافسة ويتحول الاستعمار من استحواذ يطفئ الرغبة والإرادة في التقدم، إلى تحد من شأنه إذا ما تم استيعابه جيدا أن ينتج حوافز إضافية مؤثرة في التقدم نمطا ووتيرة وهدفا، هنا أعيد التأكيد على مثال اليابان وأشير إلى المثال الراهن في أسيا (آسيان)، رغم الصحوة الغربية والأمريكية تحديدا على المعاني التي يحملها هذا المثال والانتباه إلى مخاطره التنموية على الاندفاع الأمريكي نحو إعادة ارتهان مقدرات الشعوب، لأن ذلك يؤكد أهميته وطليعيته وكونه مثالا يمكن احتذاؤه بشكل أو آخر، هنا وهناك وهنالك، وإن كان جاء متأخرا، فإنه لا يجوز لنا(كعرب) أن نؤخر أو نتأخر عن الموعد الذي يبدو أنه قد يكون الموعد الأخير على هذا المفصل الحضاري الكوني الشائك.

ما من مجتمع من المجتمعات البشرية، تحققت لديه درجة من التحضر والتمدن، كابر في تجاهل الأسئلة التي كانت تطرحها المنعطفات الاجتماعية والعلمية، وكانت المسألة الحاسمة باستمرار، هي الإجابة أو الاستجابة التي تعدها المجتمعات فتتقدم أو تتأخر، وفي كلا الحالتين تترتب عليها ضرائب وأعباء وإشكاليات، وما نحن على مدخله أو موعد معه الآن يمثل فراقا نوعيا أو افتراقا بين عنقود الأسئلة والمساءلات القديمة، وبين عنقود الأسئلة والمساءلات الجديدة أو المتوقعة التي بدأت بشائرها أو نذرها بالظهور المتسارع.

فبعد التردد طويلا بين هوية الفرد وهوية الجماعة، بين ذاتية الفرد وموضوعية وذاتية الجماعة وموضوعيتها، بين أصالة الفرد وأصالة الجماعة... بين أولوية الفرد وأولوية الجماعة... مثلا، وبعد اشتغال النهجين الغربيين على هذه المسألة وفي اتجاهين متعاكسين بين التجربة الاشتراكية والتجربة الديموقراطية الليبرالية، وبعد وقوف مجتمعات عدة، من بينها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وما سميت مجتمعات عالم ثالثية عموما، بعد توقفها عن البث في هذا الموضوع أو دخولها في نمط تجريبي يقترب من الاشتراكية شكلا أو من الديمقراطية والليبرالية شكلا، مع الإبقاء أو استبقاء السالب و المقيد من البنى القديمة على مدعى الأصالة، وظهور قراءات للراهن والماضي بحثا عن توازن في الرؤية لم ينجز نظريا ولا عمليا...بعد هذا كله، أصبح الفرد والجماعة الآخذان في التشكل على المعطيات الحديثة والمستحدثة والمتوقعة، مدفوعين مندفعين إلى خيارات مختلفة نوعيا وجذريا؛ فذاتية الفرد يستبد بها النزوع إلى التخلص من شروط تحققها العامة، ليصبح فضاء لا يتجاوز حدود كينونته الموضوعية (جسده) وتعود (روحه) من تجوالها في الآفاق البعيدة عن الطقوس وعادات ومناخات الجسد، حيث ينكسر الزمان والمكان وتفيض الروح عن حاويتها الجثمانية...تعود الآن هذه الروح لتلتحق بالجسد وتضارعه طولا وعرضا وعمقا شوقا ورغبة وحركة...وكأن هذا المنقلب يعيد توحيد الروح والجسد على نصاب نقيض للنصاب القديم، بعض ملامحه توقف الجدل بين الروح والجسد، إذعان الروح للجسد، تماما ككل عمليات التوحيد القسري التي تأسست على الغلبة.

إذن، فالجسد الفرد على أهبة أن يعلن سلطانه ويستنفر حيوياتها الفائضة عن متطلبات العيش المحض والتناسل والتكاثر، ولتغلق هذه الحيويات تاريخ انقسامها إلى مكبوت أو مهذب أو فلت من أي نصاب وازن، وتلتئم على سياق كوني جامع يحمل تهديدا بالتلاشي تحت وطأة الاندفاع في الإشباع الذي يعيد توليد الرغبات والطلبات التي تنبت عليها كل أنواع الإحباط والمرض الجسدي والنفسي الذي يسابق العلم فيسبق العلم من بين كل المتسابقين معه، وما ينذر ببطلان الفلسفة وتعطيل غيرها من حقول الرؤية. أما جسم الاجتماع، فهو إلى تحرر من جاذب الالتئام على شعور جمعي معتدل لا يلغي الذات، ومنه إلى جاذب التخفف والتخفيف من المشتركات الجامعة وقياس الوجود والهوية على حجم ومساحة الفرد، تحقيقا للانعتاق في صورته التي لا تلتزم بقواعد مسبقة، موروثة أو مستنبطة.

لعل ذلك هو ما يترشح الآن، بصورته الأولية الآخذة في الشياع عالميا، من سلوكيات و سلوكات يومية واتجاهات وتوجهات ثقافية تتعدى شأن الفرد والجماعة كموضوعات، إلى شأن الجوامع والنواظم الأعظم، من الوطن والاجتماع الوطني إلى الدولة والأمة والمكان والزمان والذاكرة والدين حتى في مفهومه السالب (اللا دين) خروجا من كل ما يحتمل التعميم و الإطلاق، حتى لو كان إلحادا أو علمانية أو عدمية أو شيوعية أو مشاعية أو أدرية، وإذا ما بدت أصقاع في الدنيا في منجى الآن من هذه الرياح الشديدة الإخصاب.

كمجاهل أفريقيا مثلا، فإن أمراض العصر (السيدا) بما تملك أساسا من قابلية الانتشار، وبالحرية التى استمتعت من خلالها المجتمعات البدائية بضيق مساحة المحرم الجسدى، فإن الجسد البدائى على موعد مع نهاية لأفراحه التاريخية، ليصبح بذاته حراما، وبمقتضى حريته نفسها، وليبدأ بالبحث لنفسه عن سلطة أخرى قد لا تتحقق، قد لا يكون فى عمر الجسد البدائى فسحة لتحقيقها، إذن فالمنجى ليس إلا عطلة مؤقتة شارفت نهايتها، لتعود الروح البدائية فيستبد قلقها على الجسد، مكانها، من دون أن يكون لها حظ فى شىء من سلطان.

إلى ذلك، فإننا على سعة هذه المعمورة، وبصرف النظر عن مدى تحضرنا، مهددون بفقدان القدرة العصبية على استيعاب الانقلابات العملية وتداعيتها الذهنية والنفسية والاجتماعية، إذا ما بقيت وتيرتها على هذه السرعة، فضلا عن تناميها والمزيد من تسارعها. أما إذا توقفت أو انكفأت أو تفجرت، فإن السلامة تصبح أبعد منالا...إذن تكون الدنيا قد امتلأت جورا وظلما ... فمن يمنع من من تقع القيامة وانتظارها، وهل يحق للمتدين إذن أن يتوعد، على أساس الوعد بانقلاب بحجم الانقلابات الجيولوجية العظمى، كأن يتحول القطب المتجمد الشمالى إلى منطقة صحرواية شديدة الحرارة ...هل أذنت النبوءات الصعبة باحتمال تحقق على سياق تطور علمى مشهود ودال (هرمجود) (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش).

إن الصورة المرئية لهذه التوترات، مستمرة من خلال آليات تشكلها فى تفكيك الرابط التاريخى والحضاري (ما بعد البدائي) بين الفرد والفرد، بين الفرد والجماعة، بين الجماعة والجماعة، وبين الفرد والجماعة من جهة، وبين المتفق على دعوته قضايا، كبرى أو صغرى من جهة أخرى...وليست المسألة كلها هنا، فقد يمكن أن يكون ذلك محتملا أو متضمنا لدلالات إيجابية؟ لو أن الرابط تحول إلى جهة أخرى، لو أن هناك احتمالا رابط يبقى أو يتغير إلى رابط مخالف أو مضاد، وهو ليس كذلك، وإلا فمن يأتى هذا الانحدار السريع والحاد والشامل فى الفنون والآداب، باعتبارها المنزل الأخير للنبض والوهج والحيوية؟ من أين يأتى هذا الهباء وهذا اليباس فى الحياة اليومية التى تتجه إلى المزيد من الانطفاء والضيق والبرم وغياب المعنى والانكفاء على الذات، على صدفة الذات وقوقعتها الفارغة والمفرغة؟ ومن أين يأتى هذا الفصام الشديد والثقيل بين التطورات العلمية التى كان من شأنها أن توسع المشترك العلمى وتحوله إلى مكون ومحدد ثقافي مبرأ من احتمالات الحياد والحيرة؛ أي من دون أن يكون اتساعه وعمقه وانتشاره وتواتره عازلا للمشترك الروحى والوجدانى؟ فى حين أن تحول المنجزات العلمية إلى كميات محايدة ثقافيا أو بديلة للثقافة أو ناقضة لها يفسح فى الأفق لارتسام ما يمكن اعتباره منعطفا أخلاقيا سالبا، بالمعنى العلمى للأخلاق، بما هى مكون لحمى للاجتماع، لا يحفظه إلا الموازنة نظريا وعلميا بين الذات والموضوع بين الرغبة والتمنع والامتناع، بين العام و الخاص، بين المحلى والعالمى، بين المطلق والمحدود، بين الأنا الفردى والأنا الجمعي، بين الغيب والشهود، بين الشاهد والمشهود، بين الحاضر والغائب، بين المستحق والمتوقع والمحال، بين المرجو و الميسور، بين الروح والجسد، بين العقل والحب، بين الليل والنهار، بين الربيع والخريف، بين الإله والمتأله، بين الجيل والجيل والجبل والجبل، بين البيئة والإنسان، بين الشىء ومعناه، بين المعنى ولباسه والتباسه، بين الدال والمدلول والدلالة، بين المفكر والمسقط ولا يسقط، بين الفن والعلم والحياة، إذن: يعود العلم مصدرا من مصادر الحياة، شرطا من شروطها، شرطا أعظم، يجددها كما يتجدد بها ويساجلها، مرة تغلبه ومرة يغلبها، فترضى ويرضى، من دون تعسف أو إكراه أو إذعان ..بدل أن تنفصل الحياة عن العلم وينفصل عنها، وتنزع إلى مصادرته أو المصادرة عليه، أو ينزع إلى إفقارها أو تعطيلها، فتغدو الحياة حسابات جافة جارحة، ويغدو العلم مثابة جهالة ويباب ويصبح الفن لاحقا ساكنا دونيا، تأتيه معيارية تعطله من مناخات مغايرة له روحا وريحا ورائحة، لونا وكثافة، وشكلا لا يفارق مضمونه إلا بالقسر والكسر.

في هذا المشتبك بين العلم والحياة، وبينهما الثقافة بمفهومها الحي، في الصدر منه أو فى الرأس، سدة للدين، يتسنمها الجدير من جماعة أو رعيل، الباحث الذي يرى إلى الأبعد والأعمق و يتحرك باستمرار، ليضيف لا ليستهلك فيهلك ويهلك، ليكشف ويكتشف لا ليخفى فيختفى، ليتناغم لا ليتنافر، ويكون الدين أعلى، بقدر ما يتصل ويتواصل، يغدق ويمنح، يتباسط ويبسط ويبسط وينبسط (إن هذا الدين المتين فأوغلوا فيه برفق ولا تكونوا كالراكب المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع). (حدثوا الناس على قدر عقولهم) وعقول الناس، معارفهم وهمومهم ومخاوفهم وأسئلتهم، تكون كبيرة أو تكون صغيرة... و بقدر ما يقارب المعنيون بالدين، من أهل الاختصاص، بين حدود الأرض و بين حدود السماء، بين المعارف المحصلة وبين الحقيقة التى تبقى قائمة على ثنائية الدنيا والآخرة والكون والظهور وجدلية الظاهر والباطن المعلن والمضمر، وعلى تبادلية السر والكشف أو الانكشاف وتعاقبهما كما الليل والنهار والشمس والقمر,,. يكون الدين أعلى وأحلى.

إذن فالقضية، مفهوما وواقعا إلى هجران، إلى مزيد من الهجران، (الوحدة مثلا)...ليس المقام هنا مقام قبول أو رفض أو إدانة أو بحث عن دليل أو بدائل، إنه واقع قائم مرهون استمراره وتفاقمه أو تعديل مساره فى اتجاه إيجابى، بتخصيب حقل الأفكار مع الحفاظ على شرط الغائية فى نظامها وحياتها تبادلها، على أساس إمكان وضرورة الاعتدال بين الفرضيات الغائية المستحيلة (الشيوعية مثلا)، وبين الفرضيات الصعبة التى تنهض صعوبتها باعثا على الحيوية والإبداع على طريق إثباتها وتحقيقها (العولمة مثلا) بما قد تعينه من أنسنة و تكافؤ وما قد تعنيه أو أنسنة وتكافؤ وما قد تعنيه أو تعنيه فعلا-الآن- من استحواذ أو استلحاق بما يستتبعان من تفكيك وإلغاء لكيانات وجماعات وثقافات.

ربما كان ذلك احتياطيا لسلامة صورة الإنسان وموقعه الذى يهتز على شبكية العين المعاصرة، حتى ليبدو وكأنه المساحة المسقطة بين القضية والفكرة، وهو – الإنسان لم يستقم على مكانه ومقامه كما استقام فى الأطروحة الدينية السماوية التوحيدية، وإذا ما كانت الدنيا (من دون ترذيل) قد زحزحته هنا أو هناك، فى زمن أو آخر، فإن النص الدينى التأسيسى، رغم كل الأوهام التى قاربته بمسبقاتها التى أوصلتها إلى فهم مغاير أو مناقض لمنطوقه ومفهومه الإنسانى الكوني، فإن حال الإنسان ومآله لا يزالان، وهما باقيان فى مصاف الغاية الأولى التى تبرر الدين فيبرر نفسه ويتبرر بها (السبت من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت)... وهذا الأصل، أو الأصل الأول فيما يتصل بالإنسان والحياة، موصول أساسا بأصل الدين فى ماهيته وتعريفه الذي ينأى به عن كونه كونا مفارقا للكون، إلى كونه مشروع كشف وتثبيت ومطابقة مع الكون وكائناته وعلاقاتها وحيثياتها وما يعتمل فى داخلها، على النسق الذي كونه المكون الذى هو منه وإليه الدين والإنسان، وهو الديان.

وعلى هذه القناعة الراسخة لدى العلماء والعارفين والشهداء والصديقين، من أهل الأنس والإناسة و التوحيد والتوحد والإيمان والأمان والأمنة والسؤال الذى يختم بالسؤال، لأن (فوق كل ذي علم عليم) .يتبرأ الدين ويبرأ، حقيقة وشريعة، ومسارا وسيرا تاريخيا، عن كونه مبتدعا أو مخترعا للكون ومحتوياته إلى كونه كاشفا، منهجا كاشفا، لقوانين وعلل وأسباب وحكمة ومسارات وسنن اجتماعية وتاريخية وحكمة ومسارات وسنن اجتماعية وتاريخية وطبيعية، تحتفظ بمستوى من الثبات، لا يرقى إلى مستوى السبية الطبيعية وإن كان يشاكلها، ويبقى محكوما بالمتغيرات فى الفكر والواقع حتى لا يسقط فى وهدة الجبرية الأطروحة من احتمال الحياة وتفتح فى جسمها بابا واسعا للأسطرة والجدل الذهنى الصرف (إنما يخشى الله من عباده العلماء) إذن، فالخشية ثمرة المعرفة، وكلما زادت هذه، تبعتها تلك فى الزيادة.

ويبقى الإشكال الأكثر راهنية وعمومية هو أن التحولات النوعية الملحوظة بوضوح تحمل احتمالا بأن يكون هذا القرن قرنا قاطعا مع الدين، حتى لو لم تكن هناك أطروحة للقطع على غرار الأطروحة الماركسية أو الوجودية التى أتت من سياق تطور الغرب وإشكاليته التى نبتت على مقولات التحرير والتنوير التى أعقبت توسعا في الحراك الكنسي اتخذ ذريعة للمعطى السلبي الذي قام عليه فيما قام عصر النهضة في الغرب الذي رأى في حراك الكنيسة وتعقيداته فرصته لإعلان الفراق بين الدين والعقل بعد ما أقامه_العقل_ مرجعا ومصدرا وحاكما من دون تعريف دقيق (هل هذا ممكن أصلا)؟

لعل ذلك هو البداية لما انتهت إليه إشكالية الغرب اللبيرالي الذي لا يفكر الآن بالعودة إلى مكان تعود فيه المسألة بين العقل والدين إلى حيويتها، ومن هنا كانت إشكاليات مجتمعات البلاد الاسكندينافية التي لم تقع في محذور الجبرية والشمولية الاشتراكية، أكثر تعقيدا من إشكاليات المجتمعات التي كانت اشتراكية والتي تعود الآن لتلتقي على أطروحة بديلة للنهوض، لا داعي للتقليل من صعوبتها، خاصة وأن السلبيات التي كانت تكتنف التجربة السابقة أشد وضوحا من الإيجابيات المفترضة أو المأمولة كرافعة منهجية لمحاولة النهوض، وقد استطاع غورباتشوف في مقاربته للمسألة في البيروسترويكا أن يقدم نقدا علميا واقعيا للتجربة من دون أن يصف دليلا للبديل. وعندما يبدأ التفكير من نقطة احتمال أن يكون القرن المقبل قاطعا مع الدين قطعا مغايرا لما عهدناه وأصعب، فإن هذه المغايرة نفسها، بالمعطيات التي تحكمها، تتيح لنا رؤية أخرى تقوم على احتمال أن يكون هذا القرن قرن العودة الواسعة إلى الدين، وليس بالضرورة أن تكون السعة مرادفة للعمق، أو تكون مطابقة للقيم الروحية الدينية أو المسلمات أو الضروريات من القيم والأفكار الدينية المعروفة في الأقل، ولربما، أو كما هو بين في المقدمات المشهودة، ربما شكلت العودة إلى الدين لونا من ألوان الاحتجاج على الحالة التي أخذت تنتجها مرحلة ما بعد الحداثة من تهميش ومن سيادة قيم وأفكار تزيد مساحة المحبطين والمقهورين، وتدخل القهر إلى مساحات لم يبلغها من قبل في نسيج الذات البشرية، وهذا مما يمكن مدخلا جديدا إلى نقض الدين بمجافاة مصادره ونظمه المعرفية الأصلية، فيصبح الدين تعريفا، بحجم الاعتقاد بشيء ما، بالشيطان أو العدم، ولربما ظهرت منازع وظواهر أخرى تذهب إلى نفس الينابيع ولكن عن غير طريق، وعلى جثة الآخر الآخرين وجائهم، وإن كان ذلك الآن ليس بدعا، لأنه يحدث كما حدث ويحدث تحت مظلة الدين، فإنه ربما كان صائرا إلى درجة من العمومية المدمرة، والمؤشرات بالغة الوضوح والخطوة الآن. ويخترع أو يبتدع أو ينتج لتبريره أو تعميمه دينا أو أديانا موازية تشكله على معايير ومقاييس ومعرفة أخرى تختلط بالسحر والخرافة والميل الحاد إلى تخريب الكون والاجتماع البشري من خلال إعادة الأسطورة على معطيات علمية ودعاوى متخيلة أو متوهمة أو مصطنعة ... وتوسع رقعة مقدساتها وتضيق رقعة المقدسات العامة المعهودة والجامعة لأهل الإيمان، أو للناس، للخلق، عيال الله.

المسلمون المعنيون والمسيحيون المعنيون، يرون أن هذه الاحتمالات والمسارات تعنيهم، أو لا بد أن يروا ذلك، وإذا ما كان لنا كمسلمين ملاذ نظري (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وإن كنت أميل هنا إلى أن دلالة الآية تذهب إلى الحفظ في الغيب، لأن الشهود حاشد بحالات اتخاذ آيات الله هزوا ... وإذا كان ثبات القرآن مسلمة لا شية فيها، فإن هناك من يرى أن النص هو قارئه أيضا. والقارئ زمان ومكان وأسئلة وأجوبة صحيحة أو متعسفة. فلا بد لنا أن نحفظ ذواتنا بالتنزيل ومن أجله ومن أجلنا لا بد لرعيلنا، لجسدنا البشري الراهن من ملاذ، إذا ما كانت المسألة فعلا كما نؤمن هي مسألة حساب و ثواب وعقاب وقيامة، وكنا نقرأ الآية (وقفوهم إنهم مسؤولون) ونقرأ التاريخ وعلامات الأزمنة.

على ألا تبقى السهولة مسيطرة على منطقنا في اختزال الغرب والحضارة الغربية في سلبياتها البنيوية (حسب الواقع أو حسب وجهة نظرنا) أو سلبياتها التي حكمت نمط علاقتها بنا وعلاقتنا بها، ويبقى مكان لإدانة الغرب وصب اللعنات على رأسه، لأنه أسهم كعامل متدخل في توجيه قابليتنا المكتسبة، عن وعي منه وسوء نية، في حال من قوته، وحال من ضعفنا، قابليتنا على التخلف وإعطاء الأولوية لغير الأولى.

بتركيز شديد، فإن ما رآه الرعيل الفكري والعلمي على مفصل القرن الماضي والحالي كان صوابا ولا يزال؛ فمسألة التقدم على أرضية التخلف (على واقع التخلف) هي مسألة ذات أولية أكيدة، وإذا ما كان الإسلاميون والقوميون والحداثيون عموما، قد افترقوا في أطروحات التقدم منهجيا والتقوا في بعض التفاصيل، فإن الخلاف المنهجي بقي دون التأثير والامتداد إلى معرفة ما لا يريدون، وما يريدون، وظل الخلاف على طريقة الوصول إلى الخلاص من غير المراد إلى المراد.

إن إعطاء الأولوية لمسألة الهوية، المتحققة دائما والمفتوحة في ملامح منها، ودائما على التجدد والإضافة والإسقاط أيضا، والتي تبقي نظرة الآخر إليك أكثر من مسألة اختلاف وذات مدخلية واضحة في تحديدها. إن إعطاء هذه المسألة أولوية مطلقة يبدو أحيانا وكأنه تقديم لغير الملح على الملح، أو للمهم على الأهم، ما جعل المسلمين والعرب يبدون باستمرار متوترين تجاه الآخر، ولو كانت مسألة التقدم التي تحفظ الهوية في المحصلة هي المستأثرة بالاهتمام لأصبحت التوترات في اتجاه آخر، في اتجاه ما يصون الهوية في تحدداتها وتعبيراتها المختلفة وأفقها المفتوح على الآخر وعلى الجديد. وأختم بتذكري لهيدغر "الهوية سيرورة وليست كينونة".