وهم السلاح النووي وحجة الملائكة
فئة : مقالات
وهم السلاح النووي وحجة الملائكة
تضعنا الآية القرآنية من سورة البقرة قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)"(البقرة) أمام تحدٍّ واقعي واجه الإنسان منذ الأزل، وهو حالة الانزلاق نحو سفك الدماء والفساد في الأرض، ومسألة الفساد هذه قد يقبل عليها الإنسان أحيانا وفق مختلف مستويات المعرفة والحضارة لديه، ونشير هنا أن الإنسان في الوقت ذاته يملك من الملكات والمؤهلات ما يجعله يعرض عن الانزلاق نحو دائرة الفساد وسفك الدماء قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)﴾ (البقرة).
الحقيقة أن تاريخ الإنسان يحكمه نوع من الجدل ما بين الإصلاح، وبين سفك الدماء، فالتاريخ يحفظ لنا ما لا يعد ولا يحصى من مختلف الحروب التاي خاضها بنو الإنسان فيما بينهم، وبالأخص تلك الحروب التي خلفت من ورائها شلالات من الدم، دون أن تجلب معها مصلحة تذكر، صحيح أن الناس منذ الأزل يتصارعون فيما بينهم بفعل تحصين وحفظ مختلف المصالح المرتبطة أحيانا بتأمين المأكل والمسكن... فبعض من الحروب ربما قد تجد لها أسباب موضوعية وواقعية، لكن الحرب في الغالب تنفلت من عقال العقل والمصلحة... وتتحول إلى حالة من الفساد وسفك الداء، وهو الوصف الذي كان ظن الملائكة في الفعل الإنساني. فبالنظر إلى موضوع مختلف الأسلحة التي يمتلكها الإنسان اليوم على رأسها الأسلحة النووية، يحق لنا القول: أن جزءا مهمّا من الحضارة الحديثة يدون في دائرة الفساد وسفك الدماء.
اقترنت الحرب في العصر الحديث بالنار نتيجة إبداع واكتشاف مختلف الوسائل التي تجعل من النار أكثر فتكا ودمارا، كانت الحضارات والشعوب من قبل تقتتل بالسيف وما شابهه، لكن توظيف النار في القتل زاد في عدد القتلى وزاد في فرصة القنص والقتل من بعيد، وقد اتسع الأمر وتتطور في زماننا الى أسلحة فتاكة قد تأتي على مدن بأكملها، بل تأتي على الكرة الأرضية بأكملها، كل ذلك بفعل النار ومستلزماتها وما تحدثه من الانفجار، فالقرن العشرين شاهد على القصف الذرّي على هيروشيما وناجازاكي، وهو هجوم نووي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945م؛ إذ قتلت القنابل ما يصل إلى 140,000 شخص في هيروشيما، و80،000 في ناغازاكي ألا يعني هذا أن من بين ما يميز الحضارة الحديثة أنها حضارة عبادة الحرب؟
العالم اليوم متخم حتى النهاية بالفضلات النووية وأسلحة الدمار الشامل التي تهدد الإنسان في الحاضر والمستقبل، أليس طريق السلاح والحروب هو نفسه طريق الإرهاب؟ أليس من يملك بيده كل هذا السلاح يمتلك الإرهاب؟
القرآن يتحدث عن الإنسان بمعزل عن مختلف السياقات والانتماءات الدينية الثقافية والسياسية والاجتماعية... بأنه مرشح ليسقط في فخ الفساد وسفك الدماء، فالسقوط في دائرة الفساد يمكن أن تكون باسم الدين وذلك بالإعراض عن مقاصده الإنسانية التي تحث على الرحمة والأخوة وحرية المعتقد وكرامة الإنسان، والتعاطي مع مختلف تعاليمه بمدخل تحضر فيه الأنانية والاحتكار لصورته النبيلة، إلى درجة القول إن الذين على هذا الدين سيدخلون الجنة وغيرهم يدخلون النار، وبأن الله جل وعلا إله أتباع هذا الدين دون غيره من الأديان... وإلى غير ذلك من الأمراض النفسية والمنزلقات الفكرية والتصورية في أمر فهم الدين، التي تكون من وراء اتساع دائرة الفساد وسفك الدماء والدعوة إلى الحروب المغلفة بغلاف إيديولوجيا الحرب الدينية. وعندما نقرأ القرآن، فهو يضعنا أمام الحالة التي كان عليها البعض من اليهود والنصارى وهم، يوظفون أمر الدين من أجل مصالح شخصية ضيقة. والحقيقة أن القرآن عندما يضع أما منا نموذج تجربة بعض من اليهود والنصارى، فذلك يعني ألا نتبع منهجهم في فهم أمر الدين، لكن مع الأسف قد تجد البعض من المسلمين يحتكرون الجنة لذواتهم دون غيرهم من الناس، ويلبسون مختلف الحروب ثوب الدين، جاعلين منها حربا مقدسة، ومنهم من يسعى ليملك مختلف الأسلحة الفتاكة بوهم السيطرة والتفوق على الآخر الكافر...
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾ (البقرة) قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾ (البقرة) قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾ (المائدة).
إن السقوط في دائرة الفساد يمكن أن يكون باسم العلم، وهي الحالة التي عليها الحضارة المعاصرة اليوم، فالعلم رسالة نبيلة لكن بالإمكان تحريف العلم عن رسالته الأخلاقية وتوظيفه في لا مصلحة فيه للإنسان، نتيجة تطور مختلف العلوم تم اكتشاف خواء وفراغ الكثير من المسلمات التي يسلم بها الإنسان لعصور طويلة، ونتيجة العلم تحسنت حياة الانسان في مختلف جوانبها الاجتماعية والصحية والمادية... ونتيجة للعلم المنفلت من عقال القيم والأخلاق، انحدر المستوى الروحي عند الإنسان وقد هيمنت على جزء من جوانب حياته مختلف المظاهر والأشياء التي تعلق بها كثيرًا، في التواصل والتنقل والملبس والمأكل والمشرب والمسكن... إلى درجة سار الإنسان المعاصر اليوم يرى فيها أن الغنى يكون بامتلاك مختلف الأشياء في غفلة أن الغى عند الإنسان من جهة وجوده، يتحقق بالغنى عن الأشياء وليس بها، الأشياء ما هي إلا وسائل تساعد الإنسان في الحياة. أما إن تحولت إلى غايات من وجود الإنسان، فذلك يعني ضياع معنى الوجود عند الإنسان، وعندما يصاحب المعنى الوجودي عند الإنسان نوع من الضبابية والتيه، فذلك سيأخذه في بعض من جوانب الحياة إلى التعاطي مع العلم من زاوية توظيفه في امتلاك الأشياء، حتى ولو كان ذلك على حساب تدمير شعب بأكمله نتيجة وهم امتلاك شيء اسمه السلاح النووي، في غفلة تامة أن امتلاك الأسلحة النووية لا يفيد في شيء، خاصة مع حالة الجهل والفقر والانكفاء نحو الماضي والتمذهب الطائفي المقيت... ولا يفيد في شيء مع حالة من العجرفة والكبرياء والغطرسة.
في هذه الحالة تستوى الدول التي تمتلك الأسلحة النووية مع مختلف الدول التي تبذل أقصى جهدها من أجل ذلك، فمن هذه الزاوية لا فرق بين أمريكا وإسرائيل وإيران على مستوى سلم الأخلاق، إسرائيل وإيران دولتان توظفان الفهم المقلوب للدين الذي لا يراعي مقاصده وغاياته، بغاية القوة والتسلط. أما أمريكا فهي تقبل على ذلك بطريقتها، مرة أخرى يلفت القرآن نظرنا بأن العلم يمكن أن يورط في دائرة الفساد وسفك الدماء قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾ (الروم).
فعلى "الرغم من وهم التحكم في الطبيعة وفي الإنسان، الذي ما تنفك التقنية تنشره، وعلى الرغم من وهم الضبط والعقلنة والتنظيم الذي ما يفتأ العلم يرسّخها، فإنهما (التقنية والعلم)، سرعان ما يدفعان الإنسان نحو تشكيل مدخرات هائلة من الطاقة تنفلت من كل عقلنة، ونحو نهَم الاستهلاك الذي لا تحدّه حدود، فيجران العقل إلى أن يعمل ضد كل تعقل، بل إنهما قد يعملان في النهاية ضد الإنسان ذاته."[1] فكل ما يصبح ممكناً تقنيّاً لا يجب السماح به بالضرورة،[2] وإلا فسد حال الإنسان وكوكب الأرض الذي هو عليه، وهذا ما تنادي به الكثير من المنظمات والهيئات الدولية اليوم، بهدف إنقاذ المصير المشترك للإنسانية.[3]
العقل المسلم اليوم في حاجة أكثر مما مضى لبسط الوعي بأن امتلاك مختلف الأسلحة المدمرة لا يقدم ولا يأخر ولا يجلب معه رفاها واستقرار للشعوب، حالة الاستقرار والرفاه تتحقق نتيجة انبعاث السلام الداخلي من الأنفس التي عليها أن تتعلق بأرواحها، والتعلق بروح النفس بدل الانحسار في غرائزها الجسدية، يكون نتيجة الإعلاء من قيمة العلم والمعرفة والأخلاق. نحن اليوم في حاجة لقراءة مختلف الآيات والسور القرآنية قراءة معرفية تساعدنا لبسط طبيعة الحضور الذي ينبغي أن نكون عليه عبر العالم، حضور الذات المسلمة اليوم عبر العالم ينبغي أن يكون حضورا يتصف بالرحمة والعلم والمعرفة والأخلاق فهذه هي روح الإسلام القرآن يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
[1] عبد السلام بن عبد العالي، موقع مجلة الفيصل، العلم، هل يفكّر؟ بتاريخ: 1/1/2021م، https://www.alfaisalmag.com/?p=19874
[2] المرجع نفسه.
[3] من بينها مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي لعام 2018 هو المؤتمر الرابع والعشرون للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (COP24)، والمعروف أيضاً باسم مؤتمر كاتوفيتسه لتغير المناخ. عُقد ما بين 2 و15 ديسمبر 2018م في كاتوفيتسه، بولندا