"الدين والنص والحقيقة، قراءة تحليلية في فكر محمد أركون"


فئة :  قراءات في كتب

"الدين والنص والحقيقة، قراءة تحليلية في فكر محمد أركون"

لا أعتقد أن عرض الكتاب الذي بين أيدينا الآن، سيكون أمرا بسيطا، بل مركبا، فأنا هنا لا أعرض أفكار كاتب الكتاب، وإنما أعرض رؤيته لأفكار مفكر آخر، وهو ما يعني أن العرض سيتم على درجتين؛ عرض أفكار المفكر كموضوع، ثم عرض أفكار المفكر كذات فاعلة، وسيأتي العرض مركبا بقدر تركيب الكتاب. بعبارة أخرى، يتناول د. مصطفى الحسن، في كتابه: الدين والنص والحقيقة، أفكار محمد أركون، بشأن الثلاثة مفاهيم سالفة الذكر، وهو ما يعني أن مهمة عرض هذا الكتاب ستكون شاقة نوعا ما، بالنظر إلى المؤلفين، وبالنظر إلى طبيعة الموضوع محل الدراسة. برع الكاتب في تسكين محمد أركون في السياق الفكري والنظري الذي ينتمي إليه؛ حيث قام في الفصل الأول من الكتاب بوضع مقدمة نظرية عن الحداثة ونشأتها؛ فخصص جزءًا عن نشأة الحداثة الأوروبية، وأبرز معالمها، ثم نشأة الحداثة العربية وأبرز معالمها، إذ يرى أركون من أوائل من ابتدأوا مشروع الحداثة العربية؛ إن لم يكن هو أول من ابتدأها، ثم انتقل بعد ذلك إلى نشأة وتكوين محمد أركون، من خلال عرض لتجربته كأمازيغي في بيئة عربية عانت ثقافته الشفهية التهميش لعدم التدوين، ثم انطلق الكاتب بعد ذلك في عرض رؤية أركون للواقع وتقسيمه للتاريخ الإسلامي.

بعد الخريطة الذهنية المعرفية التي وضعها الكاتب ليحدد مكان محمد أركون عليها، انطلق يوضح بعد ذلك نموذج محمد أركون المعرفي، وكيفية تأثره بالغرب رغم لومهم، وانتقاله إلى الشرق ليكمل رؤيته ويطبقها، إلا أن الكاتب وقع في تناقض، فرغم عرضه لأرسطو وسقراط في البداية على أنهما موحدين، جاء واستبعد ذلك عندما طرح تساؤله على فكر أركون في أن الفكر الإغريقي مبني على التوحيد، كما لم يشر الكاتب إلى هذا التناقض، ولم يحاول تفسيره. لم يعلق د. الحسن في معرض حديثه عن نموذج أركون المعرفي، وطرحه لآرائه عن التصوف، عن هذا الجانب من المعرفة (التصوف)، وتركها بتعميماتها وأخطائها، وكما نعلم، فهناك في التصوف مذاهب وتيارات، ولا يعتقد كل المتصوفة بالاتحاد مع الله، ويكفي هنا أن نشير إلى فكرة التصوف والعرفان عند صدر المتألهين الشيرازي، المعروف بملا صدرا، حينما قسم أسفار الإنسان في هذه الرحلة إلى أربعة أسفار، وضح خلالها شديد التمايز بين الكينونة البشرية والإلهية. أيضًا في معرض عرض الحسن لأفكار أركون ورؤيته إلى أن الأنا البشرية تتحد مع الأنا الإلهية؛ حيث رآها الحسن غامضة ومتناقضة؛ لأن أركون عاد ونفى الاتحاد وأثبت التعالي لله، كان يمكن له أن يجد مفسرا لذلك في الحديث القدسي: لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فأكون أنا سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته".

انتقل الحسن بعد ذلك إلى نموذج أركون في فهم التراث ومفتاحه في قراءة التاريخ، أو بعبارة أخرى، محاولة الإجابة على سؤال: ما هي قواعد الفهم عنده؟ وهنا يبرع الحسن مرة أخرى في تسكين نموذج أركون وفق سياق نشأة أركون، باعتباره أمازيغي، والثقافة الأمازيغية ثقافة شفهية، ويربط ذلك بفكر أركون، الذي أسقط تجربته الأمازيغية على النص المقدس، إذ يسقط أركون المعاناة الثقافية التي شهدها بنفسه حين كان صغيرا في قريته، وهي أن الثقافة الأمازيغية هي ثقافة شفهية، وطبيعة المجتمعات الشفهية أنها تفقد جزءًا من تراثها لعدم قدرتها على تدوينه، وذلك في مقابل المدونة لها، على لحظة جمع القرآن؛ فيرى أنه لا يمكن أبدا الثقة في الثقافة المكتوبة، لأن كل ذلك، تم عبر تزوير، فلابد أن هناك روايات هامشية تمت تنحيتها وردمت لعدم تدوينها، كما يرى أن أبا بكر حذف وأضاف لفرض تكريس سلطته. والواقع أن طرح أركون في هذه المسألة، إن كان منطقي المضمون إلا أنه غير مقبول المنطلق؛ لأن طاقة النص القرآني الذي بين أيدينا الآن لم تنفذ؛ فيجد تعارضا بين عقيدة التوحيد التي يؤمن بها، والنص "الذي زعم" أنه يضمها بين دفتيه، كما أن أركون هنا وكذلك الحسن، لم يحاولا البحث في كل ما كتب باسم الإسلام، والقرآن سواء من نطلق عليهم صفة مسلمين، أو حتى مارقين يدعون الإسلام، ليقول بهذه الفرضية.

ينطلق الحسن بعد ذلك إلى أقسام مشروع أركون الذي يراه يرتكز على ركيزتين؛ المستشرقين من ناحية، والإسلاميين من ناحية أخرى؛ حيث دعا أركون إلى مشروع كبير عن الدراسات القرآنية يعنى بتطبيق المنهج التاريخي الفيلولوجي عند دراسة النص القرآني. انتقل الكاتب د. الحسن بعد ذلك إلى توضيح نشأة الحداثة العربية، في سياق الاستشراق؛ أي البحث عن تأثير الاستشراق في الحداثة العربية، وهل هي من مكوناته؟ أو أسهمت في ظهوره؛ حيث يرى الكاتب أن اكتشاف النموذج الاستشراقي هو الطريق الأفضل للإجابة عن هذه التساؤلات. يعرف الكاتب المستشرق بأنه كل من يقوم بدراسة الشرق أو تدريسه بغض النظر عن خلفيته الأكاديمية، حتى وإن استخدمها، وهو هنا يسقط عنصر الديانة في تعريف المستشرق، في الوقت الذي يرى فيه عاطف العراقي ضرورة أن يكون المستشرق غير مسلم، حتى وإن اعتنق الإسلام بعد ذلك، ولعل ما يحمد للحسن في هذا السياق، تزويد الكتاب بهوامش توضيحية للمفاهيم والأعلام. انطلق الكاتب بعد ذلك، إلى إفراد جزء خاص عن تطور الاستشراق في النصف الثاني من القرن العشرين، حين بدأ المستشرق يبدي اقتراحاته في الفهم الصحيح للإسلام، أمثال ماسينيون، وغب، كما أفرد الكاتب هامشا تفصيليا بدرجة كبيرة للحديث عن هذين المستشرقين، وتقديم نبذة عن حياة كل منهما، وشرح بعد ذلك كيفية ارتباط الحداثة بتطور الاستشراق، من عدة نواح؛ حيث يرى أن الاستشراق يعد مكونا أساسيا للحداثة العربية، ثم يركز على فكرة ما بعد تحول الاستشراق إلى عمل سياسي، وإخفاقاته العلمية، وهو ما جعل الساحة متاحة لظهور اتجاه جديد، إلا أن الكاتب في هذا السياق، إما أنه يقول ما يعتقده كرأي، أو أغفل إسناد كلامه إلى أبحاث علمية أكاديمية موثقة، وإلا فمن أين أتى بهذه التعميمات عن الاستشراق وأثره في الحداثة العربية.

انتقل الكاتب بعد ذلك، إلى بحث أثر الاستشراق في فكر محمد أركون، فوجد أن إثبات هذه العلاقة يعد ضربا من العبث؛ فهي واضحة كعين الشمس!! إذ أن أركون دائما ما كان يثني على المستشرقين، ويثق في تكوينهم العلمي، وآلياتهم في نقد التراث الإسلامي، بل إن أركون يرى في نقد الاستشراق، خطأ منهجيا، والحقيقة أن الأمر قد يفهم هكذا، فهناك قول ينسب للإمام أبو حامد الغزالي: "نقبل الحق حتى لو كان مكتوبا في كتب أهل الباطل"، فغالبا ما يفتح لنا أولاء الحضارات الأخرى آفاق بحثية ومعرفية مهمة، تساعدنا في كشف مكنون النص، وإمكانياته، وطاقته المعرفية، فلم الأخذ بمبدأ معاد لها من البداية؟!

ومع ذلك ينتقد أركون الاستشراق، ويرتكز نقده كما يخبرنا الحسن على أمرين: إن الاستشراق يصر على مهمته الوصفية تجاه الشرق؛ أي أن مهمته استكشافية، وأن الاستشراق لا يلتفت للتقدم العلمي في دراسة التاريخ، فهو لا يزال متمسكا بالمنهج اللغوي الفيليولوجي الذي يعود للقرن التاسع عشر. وهنا يثار التساؤل الآتي: ما هي التحولات في الدراسات التاريخية الحديثة التي يسعى أركون إلى إدماجها في الاستشراق؟ يرى أركون أن كل المجتمعات البشرية خاضعة لآليات التحول والتغير والتطور، وإن كل ما يحدث في المجتمعات البشرية هو نتيجة اللعبة المستمرة للقوى الخارجية والداخلية، وإن كل ما يحدث من أمور ميتافيزيقية من صنع الفاعلين الاجتماعيين. ينتقل بعد ذلك الكاتب لعرض رؤية أركون لما يسميه "الظاهرة الدينية"، ويبين الإشكاليات التي يمكن حدوثها إزاء ذلك، أن تدرس الدين كاختراع بشري لأجل تصور الحقيقة؛ فكل مقدس أو مدنس بفعل البشر، وهذا ناشئ من النسبية المطلقة، أو أن تدرس الدين كحقيقة إلهية ثم كيفية تلقيها من قبل البشر، وهذا ناشئ من ثبات الحقيقة ونسبية البشر في القدرة على الوصول إليها. انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن النزعة الإنسانية في فكر محمد أركون؛ حيث عرض للنزعة الإنسانية في الحداثة الغربية، إذ يرى أنها حركة تحرير للإنسان عن طريق اكتشاف القيم الأخلاقية والفكرية في الأدبيات اليونانية، لذلك كان المفكرون الإنسانيون يهتمون بالشعر اهتماما بالغا، وكذا الأدب بشكل عام، ولذا ارتبطت النزعة الإنسانية، ارتباطا وثيقا باللغات واللسانيات.

ثم انتقل بعد ذلك إلى مأزق النزعة الإنسانية، وهو غير منفك الصلة عن مأزق الحداثة بشكل عام، إذ اكتفت الأنسنة بالتلاعب اللفظي في الصالونات الأدبية المنفصلة عن الحياة اليومية، للطبقات الكادحة والمهمشة والمستبعدة إلى الدرجة التي عرفها العالم في الثورات البروليتارية، ووصل هذا الرفض للأنسنة الشكلانية إلى حد إعلان موت الإنسان. يتحدث أركون في هذا السياق عن نزعتين إنسيتين، وهما: النزعة الإنسية الدينية، سواء مسيحية أو مسلمة، والنزعة الإنسية العلمانية، إذ يرى الأولى أنها ناقصة ومقيدة وغير حقيقية؛ لأنها تتمركز حول الآلهة، ويعتقد المؤمنون أن الآلهة تمتلك الحقيقة الكاملة، وهنا يخلط أركون بين الدين والأنظمة الدينية، إذ يقول أن الأنظمة الدينية تمارس فعلها على هيئة الحقائق المطلقة التي تتماهى مع الدين، ويستطرد أركون في ذلك حيث يرى أن مساوئ هذه الأنظمة كثيرة، يذكر منها أن الذات الإنسانية فيها لا تمتلك حرية كاملة. لم يوضح الحسن مفهوم أركون للنزعة العلمانية، وإن كان قد أضمرها، حسب فهمي، في رؤية أركون للنزعة الإنسية المنشودة، وهي المعبرة عن أفكار ما بعد الحداثة، وإن كان لا يحبذ هذه التسمية، لإشارتها إلى انهزام المشروع، ويرى تسميتها بـ "العقل الاستطلاعي المستقبلي"، ويعرفها أركون بـ "أنها المزج بين الثقافات والحضارات وصهرها في بوتقة ما وبيئة ما". انتقل الكاتب بعد ذلك إلى بحث مفهوم الظاهرة الدينية في فكر أركون؛ حيث عرض لعدة تعريفات مختلفة، استقرأها في تعريف أخير للظاهرة الدينية في العموم، باعتبارها الاعتقاد بقوى عليا، تليه محاولات لاسترضاء هذه القوى. لقد استنكر أركون كثرة الدراسات الغربية عن الأديان المختلفة، واستبعادها للإسلام كدين وكموضوع للدراسة، لاسيما من قبل الأنثروبولوجيا الدينية؛ حيث استطرد في ذلك مشيرا إلى أن معرفتهم عن الإسلام لا تخولهم لأن ينتجوا معرفة جادة عن الظاهرة الدينية في العموم.

انطلق الكاتب بعد ذلك في عرض أثر الحداثة على الدين، أو دين الحداثة؛ حيث عرض للتطورات الأربعة التي أدخلتها الحداثة على الدين وفقًا لكازانوفا؛ الإصلاح البروتستانتي، نشأة الدولة الحديثة، نمو الرأسمالية الحديثة بداية الثورة العلمية الحديثة، كما ألمح إلى النقد الذي تعرض له الدين في عصر التنوير: البعد المعرفي ضد الأفكار الميتافيزيقية، البعد المعرفي ضد فكرة الإله، بعد سياسي ضد المؤسسات الدينية. وخلص الكاتب إلى أن الاعتقاد بنظرية موت الدين فقدت مصداقيتها؛ فجميع الأدلة تدل على عودة الدين. عرج الكاتب بعد ذلك على مفهوم العقل عند محمد أركون، فبدأ بفحص العقل الديني في أعمال الأخير، موضحا كيف يصف أركون عقل العصور الوسطى، بأنه كان لاهوتيا لغويا، كانت اللغة فيه تعني الارتباط المباشر بين الدال و المدلول. جدير بالذكر أن وصف أركون هذا يشمل كل عقل ديني، ويرى أن الأديان تحمل سلبيات عدة، منها رفض القيم والرموز والتأويلات المضادة لها، ولا يعد العقل الديني الإسلامي استثناء في هذا المقام. لا أعتقد أن محمد أركون، قد جانبه الصواب حينما فسر ذلك؛ حيث ميز بين ما يريده القرآن من التعرف إلى الشيء وليس المعرفة الحقيقية به؛ فالأولى تعني أن يكتفي المرء بمعرفة شيء معروف سابقا لديه؛ والثانية هي أن يكتشف شيئا لم تكن لديه أية صورة عنه. في العقل المؤمن كل شيء معروف وللأبد في النصوص المقدسة الدينية، ولعل هذا يذكرنا بأزمة الإعجاز العلمي في القرآن، وكونها خطابا انتحاريا يواجه النص الديني. لا أجد أي مبرر للكاتب حينما يعرض مشكلات أركون، وينتقد معالجته لها، دون أن يساعد في حلها، بل الأنكى من ذلك، أنه يواجهها بمشكلات الحداثة الغربية، التي يعتز بها أركون؛ فعندما عاب أركون على العقل الديني ارتباطه بأشخاص، لم يوافقه الكاتب، بل راح يعدد له عيوب الحداثة الغربية في أنها هي الأخرى ارتبطت بأشخاص.

انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن الأرثوذكسية الإسلامية عند محمد أركون، وإن كنت أرى تداخلا مفاهيميا أشبه بالخلط غير السليم، لا سيما في استخدام كلمة "أرثوذكسية إسلامية"، للإشارة إلى المذهب السني، وإن كانت الأدبيات الغربية دأبت على استخدامه، إلا أنه يمكن نقد هذا الاستخدام، واستخدام المذهب السني أو التنويه لذلك في هامش هذا الجزء أيضا. لا أعلم مصدر الخلط الحقيقي، هل من عند أركون، أم من فهم د. مصطفى الحسن، حين تعرض لرأي أركون عن مكونات التراث؛ فذكر العنف، التقديس، الحقيقة، ثم عقب على ذلك بقوله: إن هذه الأركان الثلاثة لكل تراث مشكل للكينونة الجماعية أو للوجود الجماعي، وهناك فارق بين الكينونة Being، والوجود Existence، فيمكن أن يكون الوجود مثبت، والكينونة منتفية. في الفصل السادس، ناقش د. الحسن النزعة التاريخية عند محمد أركون، وكعادته بدأ بمقدمة نظرية عن مفهوم النزعة التاريخية، انتقل بعدها لعرض رؤية أركون في هذا السياق، والحقيقة أن أركون يركز على البعد التاريخي في الإسلام، واعتمد التراث وكأنه دين مما أوقعه في مأزق، وكان الأجدر به أن يعمل مشروعه الفكري في نقده ويوفر على نفسه الكثير، كما كان يكفيه في ذلك أن يطلع على الإنتاج البشري الإسلامي بروافده المتنوعة. ما فتئ أركون أن وجد مكانا لأزمة معرفة تاريخية ثم أحكم حياكته عليه، بعد أن ملأه مشكلات عصية على الحل، كما هي عصية على التقديم؛ فرأى أن النسخة القرآنية الحالية محرفة، شأنها شأن أي نص تاريخي لم يسلم من التحريف، ورأى أن القرآن محرف لأسباب سياسية، كما أغلق هذا النقاش، ليخرج لنا خراجا دون معالجة له سوى البتر، وهو أن كل الوثائق التي تثبت هذا التحريف قد دمرت!!

تحدث الحسن بعد ذلك عن تجربة أركون في توظيف النزعة التاريخية في النص القرآني، باعتبار القرآن حدث يحدث لأول مرة في التاريخ، ومع عدم وجود تدوين للنص الشفهي الذي أنتجه الرسول، وقت إنتاجه، فإن هذه الحالة الأولية الطازجة قد ضاعت للأبد.أعتقد أن حالة الأزمة المعرفية التي يواجهها أركون تجد حلها في الاطلاع المستمر لما أنتجه المفكرون المسلمون، مثل د. محمد شحرور، وتركيزه على العطاء المتجدد للمفاهيم القرآنية، بشكل منضبط منهجيا إلى حد كبير، أو على الأقل، فهو يقدم مساعدة مختلفة قد تسمن بعض الشيء، كذا فقد أهمل أركون التجربة الكشفية في هذا السياق، ولم ينتبه لها الحسن. اختتم الحسن كتابه بموضوع اللسانيات في فكر أركون، وكيف اعتمدها كمدخل لفهم النص القرآني والتعامل معه؛ حيث عرج في البداية على المنعطف اللغوي في الفلسفة، ثم انطلق إلى اللسانيات في العصر الحديث، وقد أفرد لها جزءًا غير ضئيل؛ فتحدث عن الاتجاه التحليلي، التأويلي بمرحلتيه، كما عرض لأهم رواده، هايدجر، ريكور، ثم الاتجاه البنيوي، ثم ما بعد البنيوية ورائدها ميشيل فوكو. انطلق بعد ذلك، إلى طرح اللسانيات في فكر محمد أركون؛ حيث طرح التساؤل الآتي: طبقا لأي آلية ينبني المعنى؟؟ أو يتحجب ويتعرى؟ وأورد بعد ذلك العلاقة الجدلية بين اللغة والثقافة والفكر؛ حيث يرى أركون، أن الاهتمام باللحظة التدشينية الأولى تأتي أهميتها من ارتباط تجربة المدينة المنورة بمكة بالخطاب القرآني، وضرورة بحث العلاقة بينهم لاكتشاف العلاقة بين اللغة والفكر والتاريخ. وأنهى الكاتب صفحات كتابه بخاتمة فاتحة للبحث في طبيعة فكر محمد أركون، هل كان عدميا يئس من إدراك الحقيقة؛ فنفى وجودها؟