الردّة: قراءة في النص وتاريخ المفهوم


فئة :  مقالات

الردّة: قراءة في النص وتاريخ المفهوم

الردّة: قراءة في النص وتاريخ المفهوم

ذكاء طالب داود

المقدمة:

يعد مفهوم الردّة من الموروثات التي حملت آثاراً كبيرة على الفكر السياسي الإسلامي، وعلى الأمة الإسلامية طيلة مسيرتها، كما لم تتم معالجة مآلات ما خلّفه مفهوم الردّة أو الارتداد؛ بل أخذ حيزاً واسعاً في الأبواب الفقهية، وعند مختلف المذاهب... والغريب أن الكثير من المفاهيم الفقهية قد أخذت مشغلها من الاجتهاد والتجديد، لكن مفهوم الردة لم يأخذ مساحته من تلك الاجتهادات وإعادة تقييمه بقراءة عقلانية تتلاءم ومتطلبات العصر، بل أصبح هذا المفهوم من التابوهات التي يصعب مناقشته أو إعادة تقييمه، بالرغم من خطورته في العقل الإسلامي والفكر السياسي الإسلامي. سنقسم ورقتنا هذه، إلى قسمين:

- موقف القرآن من الارتداد،

- الردة؛ قراءة في تاريخ المفهوم.

المحور الأول: موقف القرآن من الارتداد

تعامل القرآن الكريم بوضوح في آيات عدّة، مع من يعود إلى دينه أو يُغيّر دينه، وكان واضحاً في التعامل معهم، وصريحاً فيما إذا كان هناك عقاب إجرائي مادي في الدنيا أو عقاب أُخروي فقط. وفي هذا الشأن سنستعرض آيات عدة، تخص ما نقول ونقرؤها بتأنٍ. وسنجملها في نقاط عدّة على النحو الآتي:

1- عند قراءتنا للنص القرآني، نجد أن بعثة الأنبياء إلى أقوامهم هدفها هداية الناس واستقامتهم، والهداية لا تأتي بالقوة والخوف، وإنما بالقول اللّين - كما بعث موسى عند تبليغه فرعون بلين القول - وكذلك بالحجّة والإقناع والمنطق. فضلاً عن حرية اختيار الناس في اختيار معتقداتها بعد التبليغ، ومنها قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقا﴾ (الكهف: 29).

2- كما أسلفنا، فالهداية تأتي بالإقناع والقول الحسن، لا بالقسوة والبطش والإجبار، وفي ذلك قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 256).

3- تعامل القرآن الكريم مع غير المسلمين بكامل الاحترام، ودعا إلى الحوار معهم دون إجبارهم، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46). ليس هذا فحسب، وإنما دعاهم إلى وحدة الكلمة ووحدة العبادة، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64). والسؤال هنا؛ إذا كان هناك "ردّة" في الإسلام، إذن كيف يحترم النص القرآني أهل الكتاب، ويقتل من يعتنق أديانهم؟ ألا يخالف هذا مبدأ الإكراه؟

4- ذكر الله سبحانه الردّة عن الدين بآيات عدة، منها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 217). وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائد: 54). وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ (النساء: 137). وهناك آيات أخرى... وما نريد أن نوضحه من آيات الارتداد عن الدين في الآيات المذكورة سلفاً، تحمل عقاباً أُخروياً، دون أي عقاب إجرائي وجسدي في الدنيا. ولا يوجد في النص القرآني ما يشير إلى قتل من يترك دينه أو يبدّله، وإنما له عذاب وعقاب أخروي بحسب النصوص المذكورة أعلاه.

ذكر النص القرآني عقوبات دنيوية وإجرائية صريحة، على أمور أدنى من ترك الدين، كالحرابة (قطع الطرق وسرقة أموال الناس) والقتل بغير حق، وغيرها من الأمور. فهل يُعقل أن يذكر الله عقوبات دنيوية بشكل صريح، ولم يذكر ما هو أهم وأكبر كترك الدين أو تبديله؟! وإذا كانت الآيات الكريمة لم تحمل عقوبات بالقتل أو الحبس، أنّى لأصحاب التفاسير[1] - كالقرطبي والزمخشري والنيسابوري والطبرسي والألوسي وغيرهم - بالقول بحُجّية وجود عقوبات شديدة وقاسية في الدنيا؟

إذا قالوا إنها من السنّة، فإنهم سيوقعون أنفسهم في إشكالية مخالفة السنّة للنص القرآني، وهذا الأمر غير منطقي، إذ من - المفترض - أنّ السنّة لا تخالف النص. فالعقوبات الدنيوية التي ذكرها النص القرآني ليست أكبر من ترك الدين والمعتقد، وإنما لأنها تضر الجماعة والمجتمع. أما تبديل الدين وغيره، فإنها من الأمور العقدية الفردية، ولا تحمل آثاراً اجتماعية، كقطع الطريق وإيذاء الناس وقتلهم وسرقة أموالهم وما شابه. أليست العقيدة من انعقاد القلب على أمرٍ ما والعزم بالقصد البليغ؟ فكيف يُجبر الإنسان بالقوة؟! يمكن إجبار الجسد على الإيمان، لكن ماذا عن القلب؟!.. إذن حتى نفهم سياق ما حدث، ومن أحال العقوبة الأخروية إلى دنيوية، سنتطرق في المحور الموالي إلى الظروف التاريخية والسياسية التي حملت إسباغاً ظاهره ديني، وباطنه سياسي.

المحور الثاني: الردة؛ قراءة تاريخ المفهوم

منذ أن توفي النبي دخل المسلمون بمرحلة جديدة وصعبة، إذ لم يتفقوا على من يقودهم بعد النبي، فتفرقوا بينهم، واختلفوا أيّما اختلاف في شرعية من يحكم وما هي آلية تنصيبه، خصوصاً عند علّية القوم وسادتها، حتى اجتمع نفر منهم في تولية أبي بكر الصديق للحكم بعد اجتماع السقيفة المشهور. ونتيجة لكل المتغيرات التي حدثت بعد وفاة الرسول محمد، واجه الخليفة أبو بكر، مشكلات عدّة أبرزها:

1- ظهور شخصيات تدّعي النبوة، وانضمام قبائل عدة إلى مسيلمة الكذاب، منهم قبائل حنيفة واليمامة، كما انضم إلى طليحة الأسدي قبائل طيء وأسد وآخرون - بحسب بعض المصادر - فادّعى النبوة مثل مسيلمة، وكان على أبي بكر أن يواجه مدّعو النبوة وأنصارهم[2].

2- مدّعو النبوة وأنصارهم لم يكونوا كل المشهد في تلك الحقبة الخطيرة، وإنما كان هناك من رفض شرعية أبي بكر، وهناك من امتنع عن البيعة، وكذلك امتنع عن دفع الحقوق الشرعية، وأبرزها الزكاة. ولأن البيئة الإسلامية في تلك الفترة كان فيها تداخل ديني، قبلي، وسياسي، كان على أبي بكر أن يتعامل مع القبيلة بأخذ الطاعة والحقوق منهم كما كان لرسول الله. وفي هذا الشأن جاء في صحيح مسلم؛ أنّه "لمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطّاب لأبي بكر: كيف تقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله. فمن قال: لا إله إلاّ الله فقد عصم منّي ماله ونفسه وإلاّ بحقّه. وحسابه على اللّه" فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزّكاة. فإنّ الزّكاة حقّ المال. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطّاب: فو الله. ما هو إلاّ أن رأيت الله عزّ وجلّ قد شرح صدر أبي بكر للقتال. فعرفت أنّه الحقّ"[3].

ممّا تقدّم؛ كان أبو بكر يسعى إلى تثبيت أركان حكمه وكسب شرعيته، سواء بالرضا، أو بالقوة. ومن فترة حكمه انطلق مفهوم "الردّة" للسيطرة على التشظّي السياسي والاجتماعي والقبلي، فدخل مفهوم "الردّة" في صلب الأحداث المتوالية، وتحت عنوانه شُنّت حروب متعددة الجبهات، مرّة على مدّعي النبوة وأتباعهم ومريديهم، ومرّة على مانعي الزكاة، وأخرى على أخذ البيعة ممن لم يُبايع.

ظاهر الخلاف كان لإرساء حكم الإسلام وحفظ الشريعة، لكن باطنه كان سياسياً وليس عَقَدياً، وذلك ما نراه من تباين في وجهات النظر بين أبي بكر وعمر بخصوص كيفية قتال الناس، على الرغم من أن النبي عصم مال ونفس من قال لا إله إلاّ الله. فضلاً عن الموقف الخلافي الذي حصل بينهما في قضية مقتل مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد - بحجة الردّة - وتزوج امرأته، ممّا أغضب الخليفة عمر بن الخطاب منه، وتذكر المصادر عن تلك الحادثة، أنه «لما علم أبو بكر الصديق أبى أن يصدق إلا عند عودة خالد بن الوليد، أما عمر بن الخطاب، فقال لخالد عند عودته: أرئاء! قتلت امرأً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك". وبقي الأمر في صدر عمر بن الخطاب حتى تولى الخلافة، فقام بعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش قُبيل معركة اليرموك[4]. وهذا الخلاف إنما يعكس خلافاً سياسياً بحتاً لا أكثر.

يتضح مما تقدم، أن الخليفة أبو بكر، إنما عمل على ترسيخ حكمه وتوطيد سلطانه، وأخذ المقبولية من الأمة ولو بالإكراه، وكان ذلك الحراك والمعارك التي خاضها الخليفة الأول، تحمل في ظاهرها بعداً دينياً، من خلال ربط الخليفة بين الصلاة والزكاة، وبين العقال الذي كان الناس يؤدونه إلى رسول الله ومنعوه منه. لكن باطن تلك الحروب، لم تكن أكثر من أهداف سياسية غرضها تعزيز الحكم وجمع الأمة تحت رايته.

استمر مفهوم "الردّة" في الانتشار، إذ أصبح أداة يسوّغها الملوك والسلاطين عبر التاريخ الإسلامي لإقصاء المختلفين معهم، والمعارضين لهم. وليس هذا فحسب؛ أصبح هذا المفهوم أحد المرتكزات الأساسية التي تستخدمها الجماعات المتطرفة والمتشددة لإقصاء من يختلف معهم في الدين أو المذهب أو الرأي، أو حتى من يُخالف طريقتهم وفكرهم ورأيهم. وقد سوّغها تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في البطش والقتل والإقصاء في مواقف كثيرة.

القراءة الواحدة لهذا المفهوم لا تكفي، وإنما تحتاج قراءات كثيرة لتفكيكه بأبعاده التاريخية والسياسية. إذن هذا موجز عن مفهوم "الردّة"، الذي اتسع وتطور وراح يأخذ شروطاً وأبعاداً في الموسوعات الفقهية عند جميع المذاهب، وحمل معه آثاراً سلبية في عالمنا المعاصر.

[1]- للاطلاع على آراء المفسرين يُنظر: نعمان عبد الرزاق السامرائي، أحكام المرتد في الشريعة الإسلامية: دراسة مقارنة، ط2، (دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض/السعودية، 1983)، ص 21-23

[2]- يُنظر: أحمد صبحي منصور، حدّ الردّة، ط1، (دار الانتشار العربي، بيروت، 2008)، ص42

[3]- صحيح مسلم، الحديث 32، ط1، ج1، (دار الكتب العلميّة، بيروت، 1991)، ص ص 51-52

[4]- يُنظر: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، أيام العرب في الإسلام، ط3، (دار إحياء الكتب، القاهرة، 1968)، ص163