"الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط" لمحمّد لطيف


فئة :  قراءات في كتب

"الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط" لمحمّد لطيف

تقديم كتاب "الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط" لمحمّد لطيف([1])


التعريف بالكاتب (محمد لطيف) صاحب الكتاب موضوع القراءة:

محمد لطيف: أستاذ التاريخ في كلية الآداب في جامعة ابن زهر بأكادير، مهتم بالتاريخ الاجتماعي بالمغرب خلال العصر الوسيط، وحاصل على شهادة الدكتوراه في موضوع "الحياة الأسرية في المغرب الأقصى خلال العصر المريني (668- 869هـ/ 1269- 1465م)، أشرف عليها د. أحمد المحمودي، في وحدة البحث والتكوين في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس. صدرت له، إلى جانب الكتاب موضوع القراءة، عدد من الدراسات منها: "بنية الأسرة البدوية وخصائصها في المغرب الأقصى خلال القرنين 8-9 هـ/14-15 م"، ضمن الأسرة البدوية في تاريخ المغرب، تنسيق حليمة بنكرعي، منشورات كلية الآداب في القنيطرة، 2006م، ص ص 44-61. و"تعليم الطفل وعلاقته بوضعية الأسرة في المغرب القرن السادس الهجري- الثاني عشر الميلادي"، ضمن مجلة أمل، التاريخ، الثقافة، المجتمع، ع 30، 2004م، ص ص 17- 25. وله تأليف مشترك مع تيتاو حميد بعنوان: "ملامح من التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لقبائل (آيت عطا) من خلال أمثالها: مساهمة في تدوين الأمثال الأمازيغية"، مطبعة النجاح الجديدة، 2003م.

تقديم:

على الرغم من حداثة عهد الكتابة التاريخية المغربية بمواضيع التاريخ الاجتماعي، إلا أن بعض قضايا المجتمع المغربي خلال العصر الوسيط، حظيت، خلال العقود القليلة الماضية، بنوع من الاهتمام من قِبل عدد من الباحثين، الذين اتجهت جهودهم إلى حقول جديدة، تَنْدُرُ الإشارة إليها في المصادر. وهكذا، سعت بعض الدراسات إلى تسليط الأضواء على جوانب غامضة من تاريخ مجتمع المغرب الأقصى، بالاعتماد على مناهج متنوعة[2]، فهيأت، بذلك، أرضية مهمّة يمكن للباحثين الاعتماد عليها لسبر أغوار ظواهر اجتماعية طالها النسيان، وفي مقدّمتها موضوع الأسرة، الذي ظلّ نصيبه من الأبحاث والدراسات ضعيفًا، بحكم تركيز الكتابة التاريخية التقليدية على تاريخ الأُسَر والسلالات الحاكمة.

في خضمّ هذا المخاض العسير للتاريخ الاجتماعي بالمغرب، وتاريخ الأسرة المغربيّة على وجه التحديد، صدر مؤخرًا كتاب بعنوان "الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط"، للباحث المغربي محماد لطيف. وهو، في الأصل، جزء من أطروحة دكتوراه نُوقشت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، في جامعة المولى إسماعيل بمكناس سنة 2009م، تحت عنوان "الحياة الأسرية في المغرب الأقصى خلال العصر المريني، 668- 869هـ/ 1269- 1465م"[3].

مضامين الكتاب:

تندرج هذه الدراسة ضمن مواضيع التاريخ الاجتماعي، هذا الحقل التاريخي الجديد[4]، الذي يتداخل مع علوم إنسانية أخرى، خاصة علم الاجتماع، ويهتم بالأشخاص العاديين، والفئات المهمّشة في المجتمع، عبر دراسة وتفكيك شبكة العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها، بخلاف التاريخ السياسي والعسكري الذي يركّز اهتمامه على الزعماء والقادة السياسيّين والعسكريّين.

على هذا الأساس، حاول الكاتب "تركيب إحدى الحلقات المفقودة في التاريخ الاجتماعي للمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط، والغوص في العمق لإلقاء أضواء كاشفة على بعض من القضايا المرتبطة بمؤسسة الأسرة والزواج"[5]، من خلال البحث في مميزات بُنْيَانِها الداخلي، واستكشاف العلاقات التي ربطت بين عناصرها ومكوّناتها، وبينها وبين باقي هياكل التشكيلة الاجتماعية المغربية الوسيطية؛ هذه القضايا التي شكّلت السؤال الرئيسي الذي عمل "لطيف" على تفكيكه والإجابة عليه، وذلك في كتاب من حوالي (150 صفحة) من الحجم المتوسط، ضمّ قسمين اثنين، علاوة على الملاحق.

في القسم الأول من الكتاب: تناول الكاتب موضوع "الزواج والأسرة عند سلاطين الدولة المرينية"، من خلال ثلاثة مباحث؛ خُصّص أولها لمعالجة ظاهرة الزواج، كنسق سياسي في تاريخ بني مرين؛ حيث عزا الباحث اعتماد هذا الأسلوب، إلى رغبة بني مرين في تعويض غياب الدعوة الدينية عن مشروعهم، والوقوف أمام ظروف التشتّت وعدم الإجماع التي لازمت قيام دولتهم. كما سجّل طغيان الأهداف السياسة على زواجات أمراء بني مرين، بفعل تأثير الصراع "المريني العبدوادي" الذي جعل الطرفيْن يتهافتان، معًا، على المصاهرة مع البيت الحفصي القويّ آنذاك[6].

غير أنّ زيجات الأمراء والسلاطين المرينيّين، لم تقتصر على الأميرات الحفصيّات؛ بل امتدت لتشمل نساء البلاط النصري في غرناطة، وأيضًا، نساء ينحدرن من عصبيّات نافذة؛ (أمازيغية، وعربيّة، وشريفة). كما عرفت فترة بني مرين، ما أطلق عليه، محمد لطيف "زواج القربى العائلي" بهدف تهدئة الخواطر داخل البيت الحاكم. وفضلًا عن ذلك، رصد المبحث بعض الزيجات التي هدفت إلى الترقّي الاجتماعي.

وكان المبحث الثاني: فرصة ليطلعنا الباحث على بنية وخصائص أسَر البلاط المريني؛ حيث خلصت الدراسة إلى أنّ تطور الدولة المرينية، وتحسّن الأحوال المادية لسلاطينها، أَثّرا على المظاهر والأبعاد الرمزية لاحتفالات الخطبة والزواج، وقيمة المهور المقدّمة من طرف سلاطين وأمراء بني مرين، والتي كانت مرتفعة جدًّا، فعلى سبيل المثال؛ بلغت قيمة مهر السلطان أبي الحسن المريني مع الأميرة (عزونة بنت أبي بكر الحفصي)، خمسة عشر ألف دينار (عملة ذهبية)، ومئتي خادم[7]. كما كانت هذه الزيجات تمرّ بأجواء احتفالية، يغلب عليها طابع استعراض القوة والجاه. هذا، ولم يغفل الكاتب الإشارة إلى الأدوار المهمة التي قامت بها بعض نساء البلاط المريني في الحياة السياسية، كما لم يفته اقتحام العوالم المغلقة للحياة داخل هذا البلاط، من خلال الوقوف على وضعية (السراري والمحظيات) في قصور بني مرين؛ حيث سجّلَ غلبة غرضَيْ "الاستزادة من العصبة باستيلادهن، ورشف المزيد من المتعة الجنسية"[8].

أما القسم الثاني: الذي حمل عنوان "الزواجات والعلاقات الأسرية لدى رجال التصوّف"، فقد قسّمه لطيف محمد إلى ثلاثة مباحث؛ تناول أوّلها: مكانة المرأة عند المتصوّفة، الذين يبدو من خلال بعض النصوص المناقبية، أنّهم كانوا يحملون صورة سلبيّة عنها، عكستها بعض ما احتفظت به مصادر الفترة من نصوص، نورد منها، هذا البيت الشعري المنسوب إلى أحد متصوّفة القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي):

وتَوّق من خداع النساء حبائلًا            إن النساء حبائل الشيطان[9].

أمّا فيما يتعلق بجهود المرأة المتصوّفة من أجل تحسين صورتها ووضعيتها، فقد أكّد الباحث أنّ "التصوّف النسويّ" سمح لها بأن تجد ذاتها، نسبيًّا، في المجتمع الذكوري؛ "بل استطاعت بعضهنّ إلغاء ذلك الحكم الذي كان يقرّ بأفضليّة الرجال على النساء"[10].

في المبحث الثاني، الموسوم بالمتصوّفة والزواج: أوضح الكاتب الأثر البالغ لصورة المرأة في ذهنية المتصوّفة الذكور، على موقفهم من الزواج؛ حيث مال عدد منهم إلى العزوبية، غير أنه يذكر، بالمقابل، بعض المتصوّفة الذين تزوّجوا، مشيرًا إلى تراجع العزوبية في صفوف المتصوّفة خلال العصر المريني مقارنة بالعصور السابقة.

أما المبحث الثالث، فقد أفرده الكاتب: لتبيان الأثر البالغ للمسلك الصوفي في الحياة الزوجية للصوفيين، وقدّم نماذج لمتصوفة اختاروا حياة الانزواء والتخلّي عن زوجاتهم، غير عابئين بالأضرار المادية والمعنوية الجسيمة التي يخلّفها هذا السلوك على زوجاتهم وأطفالهم. غير أنّ هذه الحالة لم تكن عامّة؛ إذ وُجدت أسر صوفية عاشت "حياة أسرية هادئة اتسمت بالانسجام والهدوء وحسن العشرة"[11]. هذا وقد تخللت فصول الدراسة؛ جداول قام فيها (لطيف) بجرد لأسماء وأصول أمّهات وزوجات بعض أمراء وسلاطين دول المغرب خلال العصر الوسيط، ومعطيات ديمغرافية أخرى حول عدد أبناء بعض سلاطين بني مرين، وحالات العزوف عن الزواج عند المتصوّفة.

ملاحظات نقديّة:

من الواضح جدًّا، أنّ الكاتب حاول مراقبة تطوّر بنيات الأسرة المغربية، عبر التركيز على الفترة الأخيرة من العصر الوسيط، وراقب هذه البنيات مراقبة دقيقة مُعزّزة بنصوص وشواهد تاريخية متنوّعة. وفي خضمّ قراءتنا لهذه الدراسة القيّمة، استرعت انتباهنا بعض الملاحظات؛ كان أوّلها: العنوان الذي وضعه (لطيف) لمؤلَّفه، وهو: "الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط"؛ إذ يبدو عنوانًا عامًّا وفضفاضًا، ويوحي بأنّ الكاتب سيتناول، بالدرس والتحليل، قضايا ومكوّنات البنية الأسرية كجزء من البنية الاجتماعية للمجتمع المغربي الوسيط، بيد أنّ فصول الدراسة، اكتفت بدراسة الأسرة عند سلاطين بني مرين، وعند متصوّفة هذا العصر.

أما من حيث فترة الدراسة؛ فقد حصر الكاتب، في مقدّمة الكتاب، عبارة "العصر الوسيط" التي وردت في العنوان، في "فضاء زمني يمتد من القرن السادس حتى التاسع الهجري"[12]، إلاّ أنّ القرن المدروس، فعلًا، في الكتاب، هو القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، مع استثناء جداول الملاحق التي وردت فيها إشارات إلى زيجات سلاطين ومتصوّفة، مرابطينَ وموحدينَ.

من الناحية المنهجية: نوّع المؤلف المناهج المعتمدة في الدراسة؛ فقد حاول نفض غبار النسيان والتهميش عن قضايا الزواج والعلاقات الأسرية، انطلاقًا من "مقاربة استرجاعية"، انطلقت من أواخر العصر المريني إلى الفترات السابقة، بيد أنّ طبيعة الموضوع، الذي يعدّ من مواضيع الأمد الطويل، باعتباره جزءًا من تاريخ بنياتٍ (جغرافية، واقتصادية، واجتماعية، وذهنيةٍ) متأصلة وبطيئة التطور، جعلت الدراسة لا تبالي كثيرًا برصد الثابت والمتغيّر في البنية الأسرية المغربية، والظواهر المرتبطة بها. ذلك أنّ الأسرة خلال العصر المريني، لم تكن وليدة السياقات التاريخية التي رافقت مراحل قوة وضعف الدولة المرينية؛ بل هي جزء من بنية اجتماعية بعيدة المدى في سيرورة تشكّلها.

واجه الباحث ندرة الإشارات المصدرية في التركيز على تصوّرات وتمثلات كلّ من رجال السياسة والمتصوّفة، للأسرة والمرأة والزواج، بالاعتماد على كتب التاريخ العام والمناقب، على الخصوص، غير أنّ الصورة التي يرسمها هذان النوعان كانت من المصادر فئوية؛ إذ لا يمكن أن تعكس واقع المجتمع المغربي المتنوّع. وهكذا، فقد ظلّ حضور الأسرة البدوية والطفل، باهتًا، في جلّ محاور الدراسة، كما أنّ تركيز الباحث على الأسرة المسلمة، على اعتبار أنّ المسلمين يشكّلون الأغلبية الساحقة من سكّان المغرب خلال العصر الوسيط، جعل شرائح أخرى من المجتمع المغربي شبه غائبة؛ وفي مقدّمتها؛ الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية، والفئات الاجتماعية المهمشة، كالعبيد والمرتزقة، التي تعايشت مع باقي مكوّنات المجتمع المغربي الوسيطي.

اتّسمت الدراسة بتوظيف المقاربة الكمية، عبر إعمال الديمغرافيا التاريخية، اعتمادًا على العيّنات التي تمكّن الباحث من لملمة شتاتها من عشرات المتون الوسيطية. لكن، مع ذلك، بدا واضحًا تركيزه على واقع الأسرة خلال فترات السلم والرخاء، في حين، كان واقع الأسرة زمن الكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات، التي كان يعرفها المجال المدروس، بين الفينة والأخرى، ضعيف الحضور.

خاتمة:

على العموم، يمكن القول: إنّ هذه الدراسة مثّلت إسهامًا نوعيًّا في مسار إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي للمغرب، ولَبِنَة أساسية في موضوع جديد؛ حيث كشفت عن جوانب مهمّة من موضوع الأسرة والزواج أواخر العصر الوسيط، ووفّرت، إلى جانب أبحاث أخرى في الموضوع، منطلقًا للباحثين لسبر أغوار مؤسّسة الأسرة، وما يتشعّب عنها من قضايا وإشكاليات عند شرائح واسعة لا تزال مهمّشة، سواء تعلق الأمر بالفئات المهمّشة من المجتمع، وفي مقدّمتها؛ العبيد، والمرتزقة من السود، والأتراك، والروم، أو بالأقليات الدينية اليهوديّة والمسيحيّة.


[1] طباعة ونشر سوس، ط 1، أكادير، 2015م.

[2] للمزيد من التفصيل حول ما كُتب في التاريخ الاجتماعي للمغرب قبل الاستعمار، يرجى مراجعة: جماعة من المؤلفين، البحث في تاريخ المغرب، حصيلة وتقييم، منشورات كلية الآداب في الرباط، 1989م، وحبيدة محمد، كتابة التاريخ، قراءات وتأويلات، دار أبي رقراق، ط 1، الرباط، 2013م، ص ص 111- 152.

[3] حصل الباحث على درجة الدكتوراه في التاريخ بميزة مشرّف جدًّا. للمزيد من المعلومات، يمكن مراجعة التقرير الذي أنجزه محمد لطيف حول أطروحته، على الموقع الإلكتروني لمجلة رباط الكتب على الرابط التالي: http: //ribatalkoutoub.com/?p=706، تمّت الزيارة بتاريخ 08/ 11/ 2016م.

[4] تشير مجموعة من الدراسات، إلى أنّ التاريخ الاجتماعي تبلور، تدريجيًّا، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولمزيد من التوسّع في الموضوع؛ يمكن العودة إلى: جاك لوغوف وآخرون، التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم: محمد الطاهر المنصوري، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007م، ص 438. والتيمومي الهادي، المدارس التاريخية الحديثة، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، 2013م، ص ص 179- 180.

[5] محمد لطيف، م. س، ص 7.

[6] حول العلاقات بين دول وإمارات الغرب الإسلامي، خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، يمكن العودة إلى: عزاوي أحمد، الغرب الإسلامي (خلال القرنين السابع والثامن الهجريين)، دراسة وتحليل لرسائله، 3 أجزاء، الرباط، 2006م.

[7] كان السلطان أبو الحسن المريني تزوّجها بعد وفاة زوجته فاطمة، وهي أخت عزونة، في معركة طريف عام 741هـ، المصدر نفسه، ص ص 42-43.

[8] المصدر نفسه، ص 57.

[9] المصدر نفسه، ص 77. نقلًا عن ابن الزيات التادلي، التشوّف إلى رجال التصوّف، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب في الرباط، ط 1، 1984م، ص 259.

[10] محمد لطيف، م. س، ص 86.

[11] المصدر نفسه، ص 112.

[12] المصدر نفسه، ص 9.