الشـريـعة وإصلاح التشريع


فئة :  مقالات

الشـريـعة وإصلاح التشريع

الشـريـعة وإصلاح التشريع*


المقدمة:

رفع بعيد الثورات العربية الأخيرة، أو ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي، شعار "نريد تطبيق الشريعة" ولم يكن هذا الشعار وليد لحظته؛ فهو من المبادئ الكبرى للفكر السياسي الإسلامي ولكل الحركات الدينية السلفية والجهادية التي أعدت مشروعا قاعدته الماضي الإسلامي منذ تحول لين العريكة في التيار السلفي خلال القرن التاسع عشر إلى تصلب في الأصولية الإسلامية التي يمثلها فكر الإخوان مع حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة، وحزب التحرير الإسلامي مع تقي الدين النبهاني. هكذا يؤسس عبد القادر عودة مثلا لفكرة حاكمية الله، مشددا على أن الإسلام "ليس عقيدة فحسب ولكنه عقيدة ونظام وليس دينا فقط، وإنما دين ودولة". (عودة، 1951، ص61) ويذهب سيد قطب إلى أن مجتمعات الإسلام في العصر الحالي ليست سوى "مجتمعات جاهلية" (قطب، د.ت، ص187) لابد من إعدادها الإعداد المناسب لتقبل الشريعة الإسلامية. أما أبو الأعلى المودودي، فيرى "أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة، وأن المسلمين ليسوا بأمة كأمم العالم، بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره، ويأتي بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي".(المودودي، د.ت، ص ص 23-24)ولا بد من أن تكون الشريعة الإسلامية – بما هي في نظره قانون إلا هي- هي الموجه الرئيس في اختيارات المسلم. يقول: "نحن نعلم أن المعرفة البشرية محدودة فكل إنسان في كل عصر لا يعرف لوحده الخير من الشر والضار من النافع. إن مصادر المعرفة البشرية من المحدودية بحيث يعسر معها أن تقدم الحقيقة الخالصة. لهذا السبب، فإن الله قلل من مزالق الخطأ ووهب الجنس البشري برمته قانونه الذي هو شرعة قويمة وكاملة".(Maudoudi, n.d, p142)إن الشريعة بهذا المعنى، هي تمثيل حي وتجسيد واقعي لإرادة الله وليست اجتهادا بشريا لفهم الرسالة الإلهية.

كانت الدعوات إلى تطبيق الشريعة تتردد أصداؤها هنا وهناك من أنحاء العالم الإسلامي في مصر وسوريا وباكستان وشمال إفريقيا وعرف السودان تجربة خاصة بدأت من الاستقلال واتخذت شكلا سياسيا مباشرا بعد ثورة 1969 التي تزعمها النميري بمحاولات التوفيق بين مبادئ الشريعة الإسلامية والقانون الإنجليزي قبل أن يحسم الأمر في سبتمبر 1983 بإيحاء من حسن الترابي ويأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية والتخلي عن كل ما يتصل بالقوانين الوضعية. وفي أثناء ذلك، كانت الثورة الإيرانية تزود دعاة تطبيق الشريعة بزخم من التجييش الديني والتأجيج النفسي أعمى الجميع عن البحث في كيفيات التطبيق ومضمون ما سنطبقه.

واليوم وبعد الثورات العربية وصعود الأحزاب ذات المرجعيات الدينية إلى الحكم وانتشار الحركات الجهادية في مناطق عديدة من العالم، رفع من جديد شعار تطبيق الشريعة. وكان لابد من صياغة الأسئلة: ما هي الشريعة؟ ممّ تتكون؟ لماذا ندعو إلى تطبيق الشريعة؟ من يخول له تطبيق الشريعة؟ لم ندعو لتطبيق الشريعة وقد فشل تطبيقها في إيران والسودان وباكستان؟ وماذا يضيرنا لو أخذنا بمقاصد الشريعة؟

1- الشريعة بين الاستعمال المعجمي والاستعمال المصطلحي:

الحقيقة أن لفظ "شريعة" شأنه شأن كثير من المفاهيم الدينية والفقهية تعرض لعملية انزياح دلالي أثناء التأصيل، وأثناء الجدل الكلامي والفقهي الذي عرفه التاريخ الإسلامي المشحون؛ ذلك أن لفظ "السنة" مثلا خرج هو أيضا من سياق المعجم في دلالته على الطريق عموما أو على مجرى الماء ليدل بعد ذلك على الطريق القويم المقترن بمنهج النبي، فخرج من الحركة إلى الثبات ومن الحسيّة إلى التجريد "لاعتبارات مذهبية عقائدية ولغوية تبدت أساسا من خلال التفاسير التي ثبتت دلالة السنة في معنى المعيارية في حين أن اللغويين، وإن لحقهم تأثير حركة تثبيت معنى اللفظ خصوصا بعد القرن الثالث، فإنهم حافظوا عموما على التعدد الدلالي الذي كانت تمثله كلمة السنة في أصل تداولها اللغوي عند العرب".(ذويب، 2005، ص ص 29-30)، وهكذا كان شأن الشريعة فقد تأسس لها في علم التصوف مقابل هو الحقيقة، وتأسس لها في الفلسفة مقابل هو الحكمة كما تأسس العقل مقابلا للشرع في الكلام. لكن الشريعة التي نسبت إلى الفقهاء وأصحاب السلطة كانت بالمرصاد لكل من ينال من هيبتها وسطوتها على النفوس، مما اضطر بعض المتصوفة إلى القول بأن الشريعة للعامة من أصحاب الظاهر. أما أهل الباطن من المتصوفة، فهم منقطعون إلى طلب الحقيقة عبر الاتصال بالله مباشرة دون وسائط للعبادات "وبطبيعة الحال كان لابد أن تثير مثل هذه الأقوال ردود فعل عنيفة من جانب الفقهاء، فكانت تهمة "الباطني" تعني العداء الصريح للدين وبالتالي للدولة ونظام المجتمع".(الجابري، 1990، ص 278)

أما اليوم، فيمكن الحديث عن مقابلة بين الشريعة، وهي قانون إلهي في نظر المدافعين عنها والقانون الوضعي، وهو مجهود العقل البشري. لكن متى بالضبط تحول لفظ الشريعة من معناه المعجمي إلى الدلالة الاصطلاحية؟ وكيف عرف هذا المفهوم تمددا (Etirement) حينا وتقلصا (Rétrécissement)حينا آخر وتعويما يشبه زوال الصفة المصطلحية أحيانا (Déterminologisation). في هذا المقام تصبح العودة إلى الأصول اللغوية أمرا أكيدا، لأن مفردة لا يمكن اكتناه أغوارها إلا إذا اعتبرناها داخل النظام المعجمي، سيما وأن اللسانيات تبين أن المصطلحات لا تتخلص كليا من دلالتها كوحدات لسانية. (بن طالب، 1990، ص26)

جاء في لسان العرب أن الشريعة "مورد الماء الذي تشرع فيه الدواب. وشرع الوارد: تناول الماء بفيه" والشريعة والشراع والمشرعة هي المواضع التي ينحدر الماء منها. والعرب لا تسمي شريعة "إلا ما كان الموضع في مائه عِدا لا انقطاع له ويكون ظاهرا معينا". وفي المثل "أهون السقي التشريع" وذلك لأن مورد الإبل "إذا ورد بها الشريعة لم يتعب في إسقاء الماء لها فلا تحتاج مع ظهور مائها إلى نزع بالعلق من البئر ولا حثيٍ في الحوض". وفي اللسان أيضا أن"الشِرعة هي المنهاج أو الطريق".

وجاء في مختار الصِحاح للرازي "الشريعة: شرعة الماء، وهي مورد الشاربة والشريعة أيضا ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم أي سن والشارع الطريق الأعظم وشرع في الأمر أي خاض... وقولهم الناس في هذا الأمر شرع أي سواء والشرعة الشريعة".

وقال الزبيدي في تاج العروس "وسميت الشريعة تشبيها بشريعة الماء بحيث أن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة روي وتطهر".

إذن، فإن مفهوم الشريعة في الأصل له معنى متصل بالمكان، هو إذن مفهوم ذو دلالة حسية تتصل بالموضع الذي ينحدر منه الماء وتشرع فيه الدواب، ثم صار يستخدم لكل طريق حسا أو معنى بلا دلالة محددة على استقامة في الطريق أو رشد في المذهب، إذ يمكن أن تكون الشرعة سبيلا قويما، ويمكن أن نكون سبيلا معوجا ويمكن أن تكون واحدة من سبل كثيرة. وقد تفطن الرازي في مفاتيح الغيب إلى هذا التعدد الدلالي، فقال: "لفظ الشرعة في اشتقاقه وجهان: الأول معنى شرع: بين وأوضح. قال ابن السكيت: لفظ الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وسلخته. الثاني: شرع مأخوذ من الشروع في الشيء، وهو الدخول فيه والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها". (الرازي، 1990، ص 12) وأضاف تعليقا على الآية 48 من سورة المائدة أن كلمة "شرعة" جاءت في سياق خطاب للأمم الثلاث، وهي أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" (المائدة/44) ثم قوله: "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ"(المائدة/46) ثم قوله: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ" (المائدة/48) إلى قوله: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، وهو يعني "شرائع مختلفة: للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة"(الرازي، 1990، ص 12) والشريعة هي الطريقة، قال الجرجاني في التعريفات: "الشريعة هي الائتمار بالتزام العبودية وقيل الشريعة هي الطريق في الدين". (الجرجاني، 1971، ص 67)

لقد ورد اشتقاق الجذر (ش، ر، ع) في القرآن بعض المرات التي نعتقد يقينا أنها لم تكن تحمل المعنى التشريعي الذي أراده له الفقهاء بعد ذلك. وحضر لفظ "شريعة" في القرآن مرة واحدة في قوله تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا" (الجاثية/18). قال معمر ابن المثنى في مجاز القرآن: "على شريعة: على طريقة وسنة". (ابن المثنى، د.ت، ص 299) وقال الرازي في التفسير الكبير: "على طريقة ومنهاج من أمر الدين". أما كلمة "شرعة" في قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا". (المائدة/48) فقد قال معمر ابن المثنى "شرعة: أي سنة، منهاجا أي سبيلا واضحا بينا".(ابن المثنى، د.ت، ص 78)، وعندما أشار القرآن إلى الفكر التشريعي لم يستعمل كلمة "شريعة"، وإنما وردت الأحكام التشريعية بصيغ أخرى منها الأمر كقوله: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ"(الأعراف/29) أو النهي "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ" (الأنعام/151) ثم اعتبر ذلك من باب الوصية حين ختم الآية بقوله: "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ". والأمر الأشد دلالة أن مصطلح "شريعة" لم يكن يستعمل في الخطاب الإسلامي عموما إلا بمعناه المعجمي، إذ لم نعثر قبل النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة على المصطلح في دلالته القانونية والتشريعية. ففي الشعر الجاهلي يستعمل اللفظ بمعنى مورد الماء ويستعمل الفعل "شرع" بمعنى "خاض في الأمر" أو "ابتدع أمرا" قال معمر ابن المثنى في قوله تعالى: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ" (الشورى/21)؛ "أي ابتدعوا". (ابن المثنى، د.ت، ص 296) وفي قوله تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" (الشورى/13). قال ابن الأعرابي فيما أورده صاحب اللسان "شرع: أي أظهر". والشرع في اللغة المساواة وشرع إليه أسرع. قال بشر ابن أبي خازم: أقصد حجرا قبل ذلك والقنا شرع إليه وقد أكب على الفم.

إذن لاوجود للمعنى التشريعي في كلمة "شريعة" لا في الشعر الجاهلي ولا في القرآن ولا في الحديث النبوي، ولم نجده في مجاز القرآن لمعمر ابن المثنى، بل أن هذا اللغوي والمفسر اذا تحدث فيما يهم التشريع أو الحدود وجدناه يستخدم مصطلحات أخرى، مثل قوله في تفسير الآية: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا" (المائدة/38) "وفي الفريضة السارق والسارقة جزاؤهما أن نقطع أيديهما". (ابن المثنى، د.ت، ص 77) وقد عثرنا على لفظ "شريعة" في "نهج البلاغة" ولكنه لم يتجاوز معنى الطريق أو المنهج "... والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم وغور العلم وزهرة الحكم ورساخة الحلم فمن فهم علم غور العلم ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا".(الرضي، د.ت، ص ص 630-631)،ولم نجد للفظ "شريعة" معنى قانونيا أو فقهيا في كتابات ابن المقفع أو في رسالة الشافعي. أما الجاحظ، فقلما ترد في كتاباته، فإن هي ظهرت فبمعنى عام يدل على السبيل الأخلاقي الذي عليه الدين أو العرف. جاء في البيان والتبيين: "قال سعيد بن سَلَم لأمير المؤمنين المأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما بلاني في أمير المؤمنين من قصده إليَّ بحديثه وإشارته إليَّ بطرفه لقد كان ذلك من أعظم ما تفرضه الشريعة وتوجبه الحرية". (الجاحظ، د.ت، ص 232)، وتكرر اللفظ مرات في كتابه "التاج في أخلاق الملوك" في معنى ملتصق بالمعنى التوراتي، لا سيما حين تحدث عن عقاب أنو شروان لأحد من خانه من رجاله بقوله: "وكانت عقوبة تلك الجناية توجب القتل في الشريعة". (الجاحظ، 1332هـ، ص 19)، إذن متى صار مصطلح الشريعة ذا تحديد فقهي ودخل دائرة الاختصاص العلمي في الثقافة العربية الإسلامية؟

لئن لم يكن لدينا تحديد زمني دقيق لتاريخ دخول هذا المصطلح حيز الاستعمال التقني، فإن هناك كثيرا من القرائن التي تدل على أن مصطلح "الشريعة" صار متداولا بمعنى فقهي وتشريعي ما، في زمن تميز بالجدل الديني العقائدي بين المذاهب والفرق الإسلامية من جهة، وبين هذه الفرق والمذاهب وأصحاب الأديان والنحل غير الإسلامية من جهة أخرى. ونحن، إنما نشير إلى هذا الجدل الحيوي الخلاق الذي كان محتدما آنذاك لثلاثة أسباب على الأقل:

-الأول أن الجدل الديني والعقائدي يستلزم بصورة أو بأخرى الحديث عن التشريع والشرائع بيانا أو مقارنة، توسعا أو تأصيلا.

-الثاني أن لفظ "شريعة" كان من المصطلحات اللصيقة بالفكر الديني اليهودي، لاسيما وأن اليهود يشيرون إلى شريعتهم بلفظ "توراة" (Torah) ويعني في اللغة قانون. ويفرق اليهود بين الشريعة المكتوبة (التوراة والأنبياء والكتب؛ أي الواردة في أسفار موسى الخمسة وباقي العهد القديم) والشريعة الشفوية، وهي شروحات الحاخامات التي سجلت في التلمود وغيره من الكتب، مثل الكابالا(1). علما وأن بعض المزامير كانت تشير إلى محمد وتبشر به وبشريعته حسب ما يذكر ابن قتيبة (ت 276هـ) في "أعلام النبوة"، فأحد هذه المزامير يقول: "تقلد أيها الجبار بالسيف فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك" (انظر: مزمور45. 3-6) يقول ابن قيم الجوزية: "فمن متقلد السيف من الأنبياء غير نبينا من خرت الأمم تحته غيره من قورنت شرائعه بالهيبة...". (شميدكه، 2012، صيف، ص 311)

-الثالث أن كلمة "شريعة" كانت تشير إلى قوانين شعوب أخرى قبل الإسلام، مثل القوانين الرومانية "فمن المحقق أن مصر والشام كانت تحكمها محاكم رومانية بالقانون الروماني فلما جاء الإسلام ودخل قوم من هؤلاء المحكومين فيه وخضع له غيرهم كان من الطبيعي أن يعرضوا تقاضيهم القديم وآراء محاكمهم القديمة على الإسلام". (أمين، 1975، ص 248)، وكانت كلمة "شريعة" جزءا من هذا الخطاب المقارن.

لقد ظهرت الانشقاقات في صفوف المسلمين منذ وفاة النبي، وشكلت الخلافة أولى مسائل الاختلاف وبذرت الجدل والكلام ثم تكونت الفرق والمذاهب، وازدادت بازدياد تعقد الحياة السياسية وكثرة الفتن، وازدحم قصاد الإسلام على بابه من كل حدب وصوب "وفي أوائل القرن الثاني للهجرة ظهر أثر من دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية، فكثير من هؤلاء أسلموا ورؤوسهم مملوءة بأديانهم القديمة... وسرعان ما أثاروا في الإسلام المسائل التي تثار في أديانهم". (أمين، 1975، ص 299) وكان المعتزلة من أوائل من تسلح بسلاح عدوه للرد عليه. ولا شك أن كلمة شريعة، وهي كلمة أثيرة لدى اليهود قد دخلت سياق السجال بمعناها التلمودي، خاصة وأنها وردت "في التوراة حوالي مائتي مرة، وهي تشير دائما إلى الإرادة الإلهية الموحى بها تقديرا للسلوك الإنساني"(العشماوي، 1992، ص22)؛بمعنى أن استعمالها في الأول ظل في الغالب محصورا في معنى "طريقة" أو "شعيرة". لكن هذا المعنى تبدل حين تطورت كلمة شريعة لتشمل الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وصارت تطلق "على معنى القانون الذي يطلق بصفة عامة على كل قاعدة مطردة... وبعد ذلك – ونتيجة لظهور التلمود – أطلق اللفظ على كل أسفار العهد القديم". (العشماوي، 1992، ص ص 25-26)

إذن، بات لفظ "شريعة" في الديانة الموسوية يشمل الأحكام والفرائض والوصايا وصار الاستعمال يضم الوحي والشرح والتمثل والآداب؛ فكان لابد أن يتسرب معنى هذا الاستعمال إلى الثقافة الإسلامية في عصر اشتد فيه مرجل المناقشات والمطارحات. يقول أحمد أمين في فجر الإسلام: "كان لليهود أثر كبير في اللغة العربية فقد أدخلوا عليها كلمات كثيرة لم يكن يعرفها العرب ومصطلحات دينية لم يكن لهم بها علم... أضف إلى ذلك أن اليهودية حلت بجزيرة العرب بعد أن تأثرت بالثقافة اليونانية تأثرا كبيرا، لأنها ظلت قرونا تحت الحكم اليوناني الروماني". (أمين، 1975، ص 25) ووجوه الالتقاء ليست في التأثير المتبادل للمصطلحات فحسب، وإنما أيضا في انزياح اللفظ من المعنى العام إلى المعنى التشريعي، وفي تحول التقديس من النص / الأصل إلى النصوص الحافة.وقد طرق اليهود كثيرا من المسائل التي سيتناولها المسلمون بالدرس والتمحيص والتنظير بعد ذلك "فقد بحثوا في النسخ وقالوا إن الشريعة لا تكون إلا واحدة وقد بدأت بموسى وتمت به فلا يجوز النسخ لأن النسخ بداء ولا يجوز البداء على الله وتكلموا في التشبيه... وتعرضوا للرجعة...". (أمين، د.ت، ص 335)

كان لفظ "شريعة" في اللغة العربية يعني مورد الشاربة ثم صار يعني الطريق عامة، ثم تطور ليدل على المنهج والمذهب بإطلاق قبل أن يصير دالا على الطريق القويم والمنهج السوي تحديدا، ثم يكتسب دلالة اصطلاحية فقهية. إن كلمة "شريعة" ليست مفهوما، وإنما بالأحرى تراكم مفاهيم ومجموع انزياحات، لكن داخل سياق معين وفي زمن محدد ينزع المفهوم إلى الاستقرار، حتى إذا كثر استعماله واستخدامه وترجرج بين الخطاب الرسمي وكثرة التداول الشعبي تميع وصار يطلق على ظواهر مختلفة وأحيانا متباينة. فماذا يعني بالشريعة أولئك الذين ينادون بتطبيق الشريعة اليوم؟

لقد عبرت دائرة المعارف الإسلامية عن صعوبة تحديد هذا المصطلح نتيجة أنه يسترفد من مصادر عديدة أهمها القرآن والسنة واجتهادات الصحابة وتخريجات الفقهاء قياسا وإجماعا، بالإضافة إلى أنه يستند إلى "آراء عربية قديمة وبدوية: قانون التعامل بمدينة مكة التي كانت مدينة تجارية وقانون الملكية في واحة المدينة والقانون العرفي الذي كان في البلاد المفتوحة، وهو قانون روماني إقليمي إلى حدما وقانون هندي..."(شاخت، ج.، ص 246) وقد احتفظ الإسلام بكل ذلك وصهره في تشريعاته ثم جمعت الشريعة ما هو من باب العبادات مع ما هو من باب المعاملات مع ما هو من باب الآداب والسلوكات اليومية التي أصبحت كلها محكومة بأحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه... ولهذا السبب لم تعد دائرة المعارف الإسلامية الشريعة قانونا لا بالمعنى الحديث ولا من جهة المادة: "ذلك أنها وهي القانون الخلقي الذي لا يتطرق إليه الباطل تشمل جملة الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والعائلية والفردية لمعتنقي الإسلام على أوسع نطاق وبدون تقييد كما تشمل حياة أهل الأديان الأخرى الذين يسمح لهم بالحياة بين المسلمين ما دام نشاطهم بريئا من العداوة للإسلام". (شاخت، ج.، ص 245)

إننا نجد بين التفاسير وكتب الفقه والحديث اختلافات حقيقية في تعريف "الشريعة". فالطبري في معرض تفسيره للآية 48 من سورة المائدة يقول "وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن ذلك قيل لشريعة الماء شريعة، لأنه يشرع منها إلى الماء ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع لشروع أهله فيه ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء هو شرع أي سواء... فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمه وسبيلا واضحا يعمل به" ويورد الطبري مجموعة من الأحاديث التي تبني اختلافا في تأويل كلمة "شريعة" منها ما يرى أن الشرائع مختلفة (التوراة، الإنجيل، القرآن) والدين واحد (التوحيد، الرسل...) ومنها ما يرى أن القرآن نزل للجميع وجعل لكل واحد طريقا إليه، فصارت كلمة "شريعة" تعني السبيل فحسب. وفي معرض تفسيره للآية 18 من سورة الجاثية يقول: "على شريعة من الأمر: على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا... عن ابن عباس (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) قال يقول: على هدى من الأمر وبينة.. . وعن قتادة قوله... والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي... وقال ابن زيد في قوله (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) قال: الشريعة: الدين".

والرازي في تفسيره للآية 48 من سورة المائدة، يقول: "والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها. فالشريعة فعيلةبمعنى مفعولة، وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها" وفي تفسيره للآية 18 من سورة الجاثية يقول: "... أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية".

أما ابن حزم في الجزء الأول من الإحكام، فقد اعتبر أن "الشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله والحكم منها للناسخ".(العجمي، 1998، ج1، ص 825) وجاء في الجزء الرابع من الموافقات للشاطبي أن "الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا" (العجمي، 1998، ج1، ص 826)، وبين ابن عابدين في نسمات الأسحار أن "الشرائع جمع شريعة أي مشروعة تتناول العلل والأسباب والشروط والأحكام".(العجمي، 1998، ج1، ص 799). أما القشيري في رسالته، فقد عرف الشريعة بأنها "أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فأمرها غير محصول. والشريعة جاءت بتكليف من الخالق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر". (القشيري، 2006، ص44)

ما نلاحظه في هذه التعريفات المقتبسة من التراث التفسيري والصوفي والأصولي أن الشريعة تتخذ حينا معنى لغويا هو الطريق والمذهب بإطلاق، وأحيانا معنى عاما للدين وأحيانا أخرى لما يشرعه الله في كتابه وعن طريق نبيه وأحيانا أخرى يكون دالا على أحكام الكتاب والسنة والفقه وكل الاجتهادات والآداب والأعراف الموروثة. ولنا في الفكر الحديث مظهر آخر من مظاهر الالتباس. فهذا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور على سبيل المثاليقول في التحرير والتنوير بمناسبة شرحه للآية 18 من سورة الجاثية: "والشريعة: الدين والملة المتبعة". (بن عاشور، 1984، ج25، ص 348) لكنه في مقدمة كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية يخصص الشريعة في تعريفها ويفصلها عن العبادات بقوله: "وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرة بأن تخص باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وتراجيحها، مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع. فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع؛ فالمندوب والمكروه ليسا بمرادين لي. كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة ولها أسرار أخرى تتعلق بسياسة النفس وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع". (بن عاشور، 1366 هـ، ص ص 7-8)

وهذا الشيخ مهدي فضل الله لا يميز بين العقيدة والشريعة، ويستعمل المصطلحين في الدلالة نفسها كأن يقول: "إن معظم المفكرين المسلمين المعاصرين يميزون تمييزا حاسما بين الفلسفة والشريعة ولا يرون أن ثمة قاسما مشتركا بينهما. فهنالك فرق كبير بين منطق الفلسفة ومنطق العقيدة، بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة". (فضل الله، 1995، ص 35)

يطلق لفظ الشريعة إذن، على الدين عموما كما يطلق على كل الفرائض والأحكام والحدود، ويمكن أن يطلق على الأحكام الواردة في الكتاب والسنة فقط، ويرد أحيانا في معنى الشكل التعبدي المقابل للحقيقة القلبية كما عند المتصوفة، ويمكن أن تقابل الشريعة العقيدة؛ فتكون بمعنى أحكام المعاملات والآداب دون أحكام العبادات. ومع ذلك، يبدو أن الاستعمال الشائع للشريعة اليوم صار يضم " كل أحكام الدين ونظم العبادات وتشريعات الجزاءات والمعاملات، وما جاء في السنة النبوية وما تتضمنه آراء الفقهاء وتفاسير المفسرين ونظرات الشراح وتعاليم رجال الدين". (العشماوي، 1992، ص 30). وهذا الكم الهائل من المصادر والقوانين والأخلاقيات والوصايا يطرح قضايا ذات اعتبار خطير، لأنه يسكت عن الخلافات المتعلقة بمصادر الشريعة بكل مستوياتها وخاصة السنة ومشروعيتها وخبر الآحاد ومشروعية الاستناد إليه والصحابة ومشروعية الاعتماد عليهم والقياس واختلاف القائلين به والإجماع وإمكانية تحقيقه فضلا عن اختلاف المذاهب الفقهية السنية الأربعة واختلاف السنة عن الشيعة في كثير من القضايا والأحكام، بالإضافة إلى اختلاف الأعراف والمواضعات وتباين الآداب حسب البيئات والمجموعات العرقية والثقافية.

2- دعاة تطبيق الشريعة:

انطلقت الدعوة الإسلامية من الجزيرة العربية نحو العالم في شكل مغالبة وبسط نفوذ حينا، وفي شكل حوار حينا آخر وبلغت الفتوحات أوجها خلال مائة عام. أما داخليا، فقد تشكلت المذاهب والمدارس الفكرية ووقع استنباط طرائق مختلفة من أجل تشريع يستجيب لمتطلبات دولة قوية نافذة تمتد عسكريا وحضاريا باطراد. وأدت الاختلافات والاجتهادات إلى تعميق وعي الأمة الإسلامية بذاتها وتليين عملية الاندماج بين مختلف مكوناتها. تأسست العلوم وتقننت وتطورت المعرفة الدينية بالتوازي مع المعارف والعلوم الأخرى؛ فكانت فترة صعود وزهو حضاري، حيث الشريعة الإسلامية بقوانينها وأخلاقها وآدابها في انسجام تام مع المستوى الحضاري للشعوب آنذاك، وفي توافق طبيعي مع رؤية معينة للتنظيم السياسي والعلاقات الاجتماعية وسلم القيم. وفي الزمن الذي تلا القرون الخمسة الأولى من الحضارة الإسلامية، انقسمت الإمبراطورية مترامية الأطراف إلى دويلات وخرجت السلطة من أيدي العرب إلى أيدي العبيد والمماليك والمرتزقة. كان الدين هو أيديولوجيا الفتح والسيطرة، وكانت الشريعة تستمد أحكامها من النصوص التأسيسية ومن التجربة الحياتية المعيشة ومن أصول اجتهادية أملاها تطور العالم. وبعد فترة الانكماش والتحوط التي سميت عصور الانحطاط، وفقد فيها المسلمون كثيرا من الأراضي وكثيرا من فرص التاريخ، نشأت بفعل الاحتكاك الحضاري بالغرب أفكار ليبرالية وأخرى قومية وأخرى غيرها سلفية دينية يهمنا منها في هذا المقام التيار الديني الذي – على اختلاف تنويعاته- يتخذ من الإسلام شعارا لبناء حركات سياسية تعتبر الفترة التدشينية وعصر الصحابة النموذج الذي يجب الاقتداء به والاهتداء بهديه. هذه الحركات تعتقد أن هدفها منوط باستلام السلطة السياسية أو بإخضاع السلطة القائمة لتنفيذ مشروعها. لكنها تنسى أن هدفها هذا، لم يكن يوما سليل الضمير الإسلامي الجمعي لأن إسلام المجتمع – ولا سيما في بلاد كتونس – كان دائما معطى موضوعيا وأمرا تاريخيا وليس وجهة نظر تفرض كرها وقسر إرادة الكائن التاريخي.

إن الإسلام الذي تحقق في نسيج الزمن هو إسلام الدين والحضارة وإسلام التاريخ والمجتمع. أما التيار الديني، فيأخذ الإسلام كأيديولوجيا ويتبنى الشريعة، وهو لا يفصل بين القيم والأحكام ولا بين التنزيل والتأويل ويعتبر أن مهمته هي الدعوة إلى الإسلام الصافي. لكن الدعوة الإسلامية تحققت في الماضي وصنعت لنفسها تاريخا. واليوم، لم يعد ممكنا أن نعود إلى الدعوة، لأنها أنجزت ذاتها وصرنا إلى ما صرنا إليه. "إن تراكم التجارب التاريخية للدين والمجتمع والدولة والثقافة الإسلامية قد جعل الإسلام معطى موضوعيا ساهم في إنشائه عدد كبير من الرجال والتيارات والمذاهب كل حسب فهمه وتفسيره للنص الموحى به"(شلق، 1990، صيف، ص 47) وإن التنكر للسيرورة التاريخية والتذرع بضرورة العودة إلى النص، إنما هو إنكار للتاريخ نفسه وإنكار لما صنعه النص ذاته عبر الزمن منذ بدء الدعوة إلى الآن.

تضع بعض الجماعات الإسلامية صورة متخيلة للإسلام، وهذه الصورة منسوجة بخيوط الإطلاق والثبوتية التي تستعد الجماعات لسفك الدماء في سبيل نشرها وترسيخها. ومن هنا جاء تكفير المجتمعات الإسلامية ورميها بالجاهلية والردة. إن هذه الجماعات ترفض التاريخ فتقفز فوقه وتدعي أنها تعود إلى النص مباشرة. إنها ترفض إسلام المجتمع وتدين الحاضر، فتعلن الحرب المقدسة ضده باسم مجاهدة الجاهلية والكفر وترفع الشريعة – التي لا تعرف لها هذه الجماعات مفهوما مضبوطا – دستورا وقانونا تحاكم بهما المجتمع وتحاسبه في ضوء أحكام بعضها جزء من القوانين الوضعية الموروثة عبر الزمن، وبعضها الآخر عفا عليه التاريخ وصار جزءا من مباحث الأنثروبولوجيين.

يتأسس برنامج دعاة شعار "تطبيق الشريعة" على استراتيجية تبدأ بتحويل الشريعة إلى قانون تطبقه الدولة أو من يمثلها. "إن تحويل الشريعة إلى قانون هو أمر لم يكن واردا في تاريخ المجتمع الإسلامي منذ مراحله الأولى سوى في عهد العثمانيين والصفويين حين تم تبني مذهب واحد لدى كل منهما (المذهب الحنفي لدى العثمانيين والمذهب الجعفري لدى الصفويين)". (شلق، 1990، صيف، ص 52) فهل يستطيع مجتمع حديث أن يحكم السيطرة على زمام التشريع من خلال مذهب واحد، ويكون في الآن نفسه مسايرا للتاريخ ولكل المستجدات؟ وحين تمسك الدولة بعصا الشريعة ألا تصنع مشانق لفكر الحريات ومقاصل لروح الاختلاف؟ إن هذا الأمر يجعل الدولة تصنع لنفسها مبررات للقمع باسم القانون الإلهي. يعتقد أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" أنهم ينفذون أمر الله، وقد فاتهم أن الشريعة إن هي إلا مجموع اجتهادات بشرية عن النص، فهم إذن يرفضون قانونا وضعيا، لأنه بشري ويستبدلونه بقانون بشري آخر يظنون أنه إلهي. لم يكن الأمر إذن بعيدا عما حصل في التاريخ اليهودي، حين تحولت أدبيات التوراة إلى قانون. ولا يصبح الدين قانونا إلا حين تفرضه الدولة كما يقول سبينوزا. (سبينوزا، 2008، الفصل19) وحين تفرض الدولة ما تراه قانونا إلهيا تنتهي إلى الاستبداد، بل إلىنظام كلياني تتحول فيه العقيدة إلى معيار نقيس به كل حقيقة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع وتتضخم مصلحة المؤسسة الدينية على مصلحة الدولة، ويضحى بالفرد في سبيل تطبيق الشريعة. يقول سبينوزا: "إن مصلحة الشعب هي القانون الأسمى الذي ينبغي أن تخضع له كل التشريعات الإنسانية والإلهية".(سبينوزا، ص 426)

إن دعاة تطبيق الشريعة اليوم هم – بوعي أو بغير وعي – دعاة الفقه في سياقاته التعبدية والتعاملية والجزائية، هم يريدون لهذا الفقه أن يكون قانونا تطبيقيا في أحكام الفرائض (صلاة، زكاة...) وأحكام الحدود (سرقة، زنا...) وأحكام المعاملة (زواج، بيع...) هم يعتبرون أن الفقه الذي مثل اجتهادا تاريخيا لزمان مضى صالح لهذا العصر الذي تبدل فيه كل شيء (العلم، التكنولوجيا، موازين القوى الدولية، طبيعة المعاملات الاقتصادية، البيروقراطية، شبكات الاتصال، مصادر الثروة، أسلحة الدمار الشامل، الهندسة الوراثية، الأنترنت...) هم يقصرون مهمة العقل على الاستنباط من النص والقياس على الحكم وتشقيق الحيل الفقهية والفتاوى. لقد أعطى القرآن دروسا في الإيمان ومبادئ للعبادة وأعطى إلى جانب ذلك نماذج في المعاملات وأكبر في الإنسان دور العقل وأكد على إنسانية النبي وبشريته، لكن بدل أن يكون العقل آلة إبداع جعله الدعاة وسيلة اتباع وبدل أن يكون النبي نموذجا في أخلاقه ومعاملاته، بات نموذجا في شخصه. أعطى القرآن نماذج تاريخية من الأحكام فتأبدت النماذج. مثل القصص الذي ساقه القرآن للاعتبار فصار تاريخا كمثل آية ضربها الله للتمثيل، فصارت حكما تشريعيا في الاسترقاق حين قال تعالى: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاًعَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّيَقْدِرُعَلَى شَيْءٍ" (النحل/75) ومثل القرآن أعطى أحكاما تمثيلية على زمن فصارت قانونا لكل زمن كمثل من قيل له "ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" فظل طول عمره يصعد في الجبال.

إن مجتمعنا الإسلامي لم يحسم أبدا قضية التشريع وظل يعيش "وضعا تأويليا"(الشرفي، 1991، ص 139) للنص ويبحث عن التبرير الديني لكل حركة ولأبسط موقف، حتى أصيب بفوبيا الحرام. هذه الخصوصية الإسلامية خلقت لدى المسلم المعاصر حساسية تشريعية منعته من استقبال القانون الوضعي بما يجب من الاطمئنان. فإذا كان من فضل الشريعة أنها ذات مقاصد سامية، وكانت المقاصد في جوهرها تحقيق للمصلحة؛ فإن هذه المصلحة متغيرة باستمرار حسب الظروف والأوضاع. وملاحقة المصالح لم تدفع الفقهاء إلى فتح آفاق التأويل على الذاتية المتنوعة، بل دفعتهم إلى رجوع مستمر إلى النصوص التي أنهكت تأويلا وقياسا على القياس.

ليست المشكلة فيما نرى في الاجتهاد فقط، وإنما أيضا في القبول برؤية جديدة للكون والمجتمع قوامها الإيمان بحرية الإنسان وقدرته على تسيير شؤونه بعقله بعيدا عن كل وصاية. حين نتأمل في القانون نرى أن غاياته تتبدل حسب تبدل المصالح. أما الشريعة، فغاياتها مطلقة وكلية حددها الغزالي في باب الاستحسان من المستصفى بخمس (حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال). (الغزالي، 2010، ص 275) لكن الواقع يتغير كل لحظة والنصوص لا تتغير وأنى للنصوص أن تحيط بكل شيء وقد قال الشهرستاني قديما: "ما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى". فإذا ثبتت النصوص وكانت هي مرتكزات الاجتهاد، فلا بد أن نحول الوجهة نحو الذات التي تتلقى النصوص.غاية القانون في العصور البدائية هي السلم، وغاية القانون عند الإغريق هي المحافظة على الوضع القائم، وعلى التراتبية الموجودة، وغاية القانون في عصر اللبرالية هي إثبات الحرية وتأكيد الفرد لذاته، وبتعقد الحياة صارت غاية القانون حماية العيش المشترك وتنظيم الاستغلال المشترك للمصالح، ثم بتأثير ظهور علم النفس الذي قوض الإرادة الميتافيزيقية للقانون وبتأثير ظهور علم الاقتصاد الذي بين أهمية السوق ودور الصراع الطبقي بات لزاما أن تتغير غاية القانون إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحاجات لأكبر عدد ممكن من الناس. ولعلنا نحتاج اليوم إلى قانون يمثل "مؤسسة اجتماعية للوفاء بالحاجات الاجتماعية في مجتمع متحضر بأقل تضحية ممكنة".(باوند، 1967، ص 56)، وقد أكد الفيلسوف الفرنسي روبرت مسراحي أن الأفراد ليس لهم وجود اجتماعي وديني وثقافي وسياسي فقط، وإنما لهم أيضا بعد وجودي للرغبة والمتعة لابد من تحقيقه عن طريق التشريع والسياسة، يقول: "إن تفكير المؤسسة السياسية وكذلك عمل المشرع في أفضل الأشكال الممكنة لابد أن يبدأ انطلاقا من الحياة الفردية ومن الوجود المتعين والكامل للذوات".(Misrahi, 1995, p 17)

إن التشريع الحديث هو التشريع الذي يؤسس لسلطة القانون ويرسخ مفهوم دولة القانون الذي يحترم الفرد، باعتباره مواطنا تراعى حقوقه وحرياته ويعاقب إذا خالف القانون، وليس إذا ارتكب الإثم. إن المشكلة هي فعلا في النص كثقل أنطولوجي رهيب وليس في المقاصد أو بالأحرى، إن المشكلة هي في صلة النص بالتلقي. إننا في حاجة إلى أن نستثمر فلسفيا وأن نؤصل إبيستيمولوجيا تلك الأبعاد المقاصدية التي بشر بها العز ابن عبد السلام وبلورها الشاطبي، حيث نخرجها من سياق صياغة الأحكام استنباطا واستدلالا إلى سياق المقاصد بوصفها قيما إنسانية كونية يدل عليها الفكر الاستقرائي، وليس تدل عليها المرجعيات المؤطرة للحكم. ولعلنا في حاجة أيضا إلى إعادة النظر في التجربة الصوفية، باعتبارها تجليا عمليا لفكر المقاصد، تلك التجربة التي ترفض "مبدأ تساوق دلالة النص مع الفهم اللغوي بحسب درجة الإبلاغ والتخاطب كما يقننها النسق التداولي المشترك. فباعتبار أن مصدر النص إلهي، لابد من الإيمان بلا محدودية كثافته الدلالية المطلقة التي لا يجوز حصرها في المألوف التعبيري الإنساني... إن قلب المتلقي هو محور التأويل وليس النص ذاته بصفته حمال أوجه". (ولد أباه، 2010، صيف، ص378) ولكن لنضرب مثالا عن المآزق الناجمة عن التعارف في الشريعة بين التصور الإيتيقي الإسلامي والتصور الأخلاقي من خلال قضية النسب.

3- النسب بين الشريعة والقانون التونسي:

النسب في اللغة هو القرابة وفي الاصطلاح هو صلة الشخص بغيره على أساس القرابة القائمة على صلة الدم؛ أي صلة الإنسان بمن ينتمي إليهم من الآباء والأجداد، والمقصود أن يكون الابن معلوم الأب لا لقيطا ولا مولى ولا ابنا بالتبني.

والنسب في التشريع الإسلامي ليس مجرد علاقة دموية بين الطفل وأبيه فحسب، وإنما يشترط في هذه العلاقة أن تكون علاقة شرعية. فلئن كانت علاقة الولد بأمه ثابتة في جميع حالات الولادة شرعية أو غير شرعية، فإن علاقة الطفل بأبيه لا تثبت فقهيا إلا عن طريق الزواج الصحيح أو الفاسد أو الوطء بشبهة أو الاستلحاق. وتعتبر الشريعة الإسلامية النسب رابطة سامية، ولذلك وضعت لثبوت النسب سببا واضحا، وهو الاتصال بالمرأة ومخالطة الرجل لها بطريق من طرق الحل، فإذا تحقق ذلك الحمل أو شبهته وحصلت تلك المخالطة بين الزوج وزوجته كان الرجل أبا للولد الذي نتج عن هذه المخالطة ويؤسس الفقهاء هذا القول على حديث الرسول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وهذا الحديث يدل على عدم إمكانية إثبات نسب ابن الزنا، لأن الزنا من الفواحش المنهي عنها والمعاقب عليها بالجلد أو الرجم، لذلك يعد ابن الزنا في الشريعة الإسلامية ابنا غير شرعي مقطوع النسب من أبيه، ولو كان هذا الأب معروفا أو من الممكن معرفته. إن الطفل المولود من علاقة غير شرعية يعتبر في الفقه الإسلامي ابن سفاح، ونسبه مقطوع من صاحب الماء الذي كان علة وجوده ما لم يستلحقه استلحاقا يجيزه الشرع.

وقد أجمع الفقهاء على ألاّ توارث بين ولد الزنا ومن تسبب في حمل الأم لانقطاع النسب بينهما الذي هو سبب الإرث، وقد جرى الفقه على اعتبار ابن الزنا ملحقا بأمه وقرابتها لما رواه البخاري وأبو داود من أن الرسول (ص) جعل ميراث ابن الزنا لأمه ولورثتها من بعده، فإذا مات مجهول النسب فلأمه ولإخوته للأم وجدته للأم الحق في الإرث فيه بالفرض والباقي بالرد، إن لم يكن له ولد له في المقابل الحق في إرث أمه وإخوته للأم وقرابة الرحم من الأم كما نصت عليها الشريعة، وذلك كما لو كان ابنا شرعيا ويلحق بابن الزنا في هذه الأحكام ولد اللعان والفارق بين الاثنين أن ابن الزنا نتاج سفاح وولد اللعان نتاج فراش أنكره الزوج، فإذا تم اللعان كان حكمه حكم ولد الزنا في انقطاع النسب وعدم التوارث ووجوب التفريق بين الزوجين وتتأبد الحرمة بينهما. غير أنه إذا استلحقه الملاعن لحق وترتبت حقوق الأبوة والبنوة والواجبات وثبت التوارث بينهما.

طرحت مشكلة تكاثر الأبناء غير الشرعيين في العصر الحديث مسائل على الفقهاء، لم يستطيعوا أن يزحزحوها عما ألفوه من الأحكام، ولم يستطع التشريع الوضعي التونسي المتأثر بالشريعة الإسلامية والمتبني لمعظم أحكامها أن يجد لها حلولا جذرية، لأن المشكلة في رأينا ظلت متصلة بفهم معين للنصوص. لقد جاء قانون 1998 المتعلق بإثبات البنوة الطبيعية عن طريق الحقائق البيولوجية المعتمدة على التحليل الجيني. وهذه الحقيقة العلمية، لم تؤسس مع ذلك لشرعية العلاقة في الميراث. أما قرينة الفراش – وهي عند معظم المذاهب قرينة شكلية تتصل بعقد النكاح ولا تستلزم التيقن من الوطء – فتؤسس لكل متعلقات النسب من الشرعية إلى الأبوة إلى الولاية إلى الميراث. هكذا صارت هناك أمور كثيرة تدخل تحت طائلة الزنا، مثل الزواج العرفي وزواج الشبهة وعلاقات المراكنةوالمخادنة وطفل الأنبوب واكتراء الأرحام وشراء الحيوانات المنوية... واعتبر كل من ينجم عن هذا الضرب من العلاقات ابن زنا، فحرم من اللقب العائلي حينا ومن اللقب والميراث أحيانا.

للطفل الطبيعي في قانون 1998 أن ينتسب بالأدلة العلمية، وأن يأخذ اللقب العائلي ولكن ليس له الحق في الميراث بناء على نصوص الشريعة. وكأنه، لابد من نص من أجل أن يرث الابن أباه الذي جاء من صلبه !وكيف تكون حقوق الطفل الطبيعي الذي ثبتت نسبته لأبيه علميا أقل من حقوق ابن شرعي ينتسبان لنفس الأب؟ وأين روح العدالة في معاملة الأطفال بشكل غير متساو لسبب لم يكن لهم يد فيه؟ لقد أعطى المشرع التونسي بناء على قانون 1998 بنوة بيولوجية للابن الطبيعي وحباه باللقب العائلي ومتعه بالنفقة والحضانة، لكنه جعل الابن الشرعي وارثا والابن الطبيعي غير وارث، استنادا إلى نصوص الشريعة، بل صارت وضعية الابن بالتبني – في القانون التونسي – أفضل لأنه بمجرد صدور الحكم تخول للمتبنى كل حقوق الطفل الشرعي بما في ذلك الحق في الميراث، رغم أن هذا الطفل لا تجمعه بالأب إلا الرابطة القانونية وليس بينهما رباط دموي. والأمر نفسه مع الطفل اللقيط، فميراثه عند جمهور الفقهاء لبيت مال المسلمين، لأن الميراث لا يكون إلا بنسب مع أن الميراث في أبعاده ومقاصدهإن هو إلا تحقيق لمبدإ الاستخلاف في المال وتيسير لعملية التداول على الملكية. ليس التعارض بين النص والمصلحة، وإنما التعارض بين المصالح نفسها، مصلحة حفظ النسب ومصلحة العدالة وحفظ المال. إذًن، فالمقاصد لا تحسم القضية لأن المسألة في المقاصد ذاتها. إن فكر المقاصد في فكر الإنسان، في تأويلاته وتصريفاته للغة، واللغة لا تنبئ بأكثر مما أنبأت سابقا وإذن، فالبحث في المقاصد ليس أكثر من إلحاق مصلحة بسياق الشرع.لكن لننظر في النصوص التي اعتمدت في حرمان الابن الطبيعي من حقوقه:

-إن الآيات الموظفة لحرمان الأبناء غير الشرعيين من حقوقهم لا تتصل في الحقيقة بالأبناء، بل بمعاقبة الزاني؛ فآيات الزنا في سورة الإسراء أو في سورة النور تتحدث عن الحد عن الزاني. أما الآية التي يكثر الفقهاء من استغلالها لحرمان الأطفال غير الشرعيين من حقوقهم، فهي الآية الخامسة من سورة الأحزاب: "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ" (الأحزاب/5) رغم أن هذه الآية تتحدث عن العدل بمفهومه الاخروي من جهة، وتتصل بشريحة من الأبناء لا نعرف آباءهم. أما إذا عرفنا أصحاب الماء، فإن تنكر لحقوق الأطفال في أبيهم يصبح أمرا مستغربا خاصة إذا قرأنا ما يتلو هذه الآية في قوله تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الأحزاب/5)، حيث التأكيد على مفهوم الرحمة والغفران، وهو ما لا يتناسب مع عقاب الضحية بدل عقاب الجاني.

-بالنسبة إلى الأحاديث النبوية المعتمدة في حرمان الأبناء غير الشرعيين من حقوقهم، فأشهرها قول الرسول (ص): "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليس من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" (رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة). وهذا الحديث سيق بمناسبة نزول آية الملاعنة، وهو يقتصر على بيان العقاب الأخروي للأم الزانية أو الأب المنكر لنسب ابنه.

وثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: "اختصم سعد ابن أبي وقاص وعبد الله ابن زمعة في غلام فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة ابن أبي وقاص عهد إليّ أنه ابنه انظر إلى شبهه. قال عبد الله ابن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله (ص) فرأى شبها بينا بعتبة فقال: هو لك يا عبد الله ابن زمعة: الولد للفراش وللعاهر الحجر".هذا الحديث جعل الفراش علة للحكم بالولد؛ فالولد للفراش أي لصاحب الفراش (الزوج) وما تحمله الزوجة حال قيام النكاح الصحيح ينسب إلى زوجها، باعتباره ولده فولادة الطفل على فراش الزوجية قرينة كافية في الشريعة لكونه من الزوج، وأنه خلق من مائه.

نعتقد أن هذه الحكاية التي حسم فيها الرسول الحكم جاءت في سياق محاولة تشريعية لحماية مجتمع قبلي مفتوح العلاقات من التنازع والفوضى، وهو مجتمع كثير الاعتداد بعصبية النسب كثير الحرص على تواصل النسل من الدماء نفسها، لأن العائلات كانت تتصاهر من بعضها بحسب القرابة غالبا. على أن الشبه ليس دليلا كافيا لإثبات النسب في مجتمع من أهم خصائصه زواج الأقارب. أما في العصر الحديث، فإن وسائل المعرفة صارت دقيقة وليس من العدل أن نحرم الطفل الذي أثبت نسبه من حقوقه الشرعية حال ولادته في فراش غريب. وهذه الواقعة المروية فيها تعمد صريح من النبي لحث الناس على التعود على احترام مؤسسة الزواج ومعاقبة الزاني بحرمانه من ولده، وبالخصوص الابتعاد عن إتيان الأعراض بمجرد شبهة التشابه بين الوالد والوليد، لأنها قد تشرع الأبواب على فوضى الملاعنات والاتهامات في مجتمع قبلي دماء بعضهم من دماء بعض. غير أن اكتشاف الوسائل الطبية الحديثة وانتشار الفحوصات البيولوجية حسما الموضوع وما عاد مسموحا أن يحرم الطفل وقد عرف أباه البيولوجي من حقوقه الشرعية بما فيها الحق في الميراث. أما الأمر الآخر، فيتعلق بطفل الأنبوب إذ لو أخطأ الطبيب في تلقيح بويضة المرأة بماء رجل آخر هل نعد الابن ابنا غير شرعي، وتصير المرأة عاهرة ويصبح الرجل زانيا ويحرم الطفل من حقوقه الشرعية؟ لابد من إعادة النظر في مفهوم النسب وفي دلالة الميراث ومن إعادة النظر في الأبعاد القصية لمقاصد الشرع، حتى لا تصبح النصوص عبئا على مسايرة التاريخ، بل لا بد من إعادة النظر في مفهوم الزمن والتاريخ، وإن كانت لنا القدرة على إعادة النظر في مفهوميهما ومنزلتيهما في ثقافتنا أم أننا نظل أبدا نحاول التحايل على التاريخ، ومن ثم نعيده إلى ركبنا كما تصوره أسلافنا؟ سيقول دعاة تطبيق الشريعة، إنها تجسيد حي لمقاصد الشرع، وإذا تعارض النص مع العقل نؤول النص، وسيقول آخرون إننا لا بد من أن نحسم القضية في اتجاه تغليب المصلحة أو تقديم النص وكأن المصلحة ثابتة لا تتغير أو كأن للمصلحة معنى لا تخرج بمقتضاه عما سطره الأوائل. المسألة في اعتقادي مسألة معرفية أولا، ووجودية ثانيا.

- المعرفي فيها هو أن نتساءل عن الحقائق التاريخية والايبستمولوجية والأنطولوجية التي نجم عنها فكر المقاصد. إرجاع المقاصد إلى الماضي البعيد دليل على أن التصادم بين النص والمصلحة أصلي في الموضوع أصلا ما كان لفكر المقاصد أن ينبثق وينظر له لولا إحساس العلماء بأنهم في إحراج حقيقي مع النص، وهذا يقودنا إلى الوجه الثاني.

- الجانب الأنطولوجي الذي حاول أن يجيب عنه هايد غير: اللغة تعبر عن الوجود أم الوجود لغة في الحالة الأولى، سنبقى سجناء النص،وفي الحالة الثانية سنقرأ التاريخ والكينونة والوجود بمنظار التأويل الذي قرأ به المتصوف قديما والهيرمنيوطيقي حديثا.

الخاتمة:

ليست الشريعة أصلا من أصول الدين أو قيمة من القيم القرآنية التي تراكمت وتراكبت عبر حقب من التاريخ، وإنما الشريعة منظومة من الأحكام والحدود والأخلاقيات التي تؤسس لعلاقة الكائن بفهم معين للدين في إطار الحلال والحرام والمندوب والمكروه. والدعوة إلى استحضار الشريعة قانونا هي دعوة إلى استحضار الفقه وإحلال للماضي في الحاضر. أما ما هو أكثر من ذلك دلالة، فهو استعادة لنوع من التدين غريب عن هذا العصر عصر الإنسان الذي أكد "ميشال فوكو" أن أهم سمة لإبيستيمية الحداثة فيه هي اكتشاف الإنسان لذاته، فنهاية الميتافيزيقا ليست سوى الوجه السلبي لحدث أكثر تعقيدا "هو ظهور الإنسان". (فوكو، 1990، ص 301) صحيح أن الإنسان ليس هو أقدم إشكالية طرحت على المعرفة البشرية، ولكنه مع ذلك "اختراع حديث فيها". (فوكو، 1990، ص 313) كانت الميتافيزيقا قد غيبت الإنسان وجعلته ثنيا في صفحة الوجود ومن آيات تغييبه أن خلقت بينه وبين العالم، وبينه وبين ما وراء العالم وسائط: الأنبياء والرسل والشرائع. الشريعة تريد أن تفتك لها مكانا في زمن الحداثة، في زمن اللا وسائط، في زمن الإيمان بقدرة العقل الإنساني على تنظيم شؤون حياته بنفسه، وهو زمن الإيمان بأن الله حين كف عن التدخل في التاريخ نهائيا بانقطاع الوحي قد أوعز للإنسان أن يتحمل مسؤولية وجوده في الكون بما وهبه من ملكات العقل وحسن التدبير. بهذا يستحق الإنسان فهم المعنى الجديد للألوهية، وهو معنى يشرف الإنسان، لأنه يصله بالذات الإلهية في تداع حر خصب بلا وصاية أو إملاء. فالتحول الذي تعرفه البشرية اليوم ليس تحولا من سلم للقيم إلى سلم آخر، وإنما هو تحول من التعصب لدين ما أو التشدد في إيمان ما إلى الوفاء للقيم النبيلة على اعتبار أن الوفاء – كما يقول سبونفيل – هو ما يبقى من الإيمان حين نظن أننا أضعناه.

الهوامش والتعليقات:

(1). هناك تلمودان، وهما التلمود البابلي والتلمود الفلسطيني. والمشنا (أي النصوص) واحدة في الإثنين. أما الجمارة (الشروح)، فهي في البابلي أربعة أضعاف ما في الفلسطيني ولغة الجمارة في التلمودين هي الأرامية. أما لغة المشنا، فهي العبرية الجديدة ومعظم المشنا نصوص قانونية وقرارات (هالاخا). أما الجمارة، فبعضها إعادة نص قانوني وبعضها الآخر قصص (هاجادا).

قائمة المصادر والمراجع:

-ابن المثنى، معمر. مجاز القرآن. مكتبة مشكاة الإسلامية.

-أمين، أحمد. (1975). فجر الإسلام. بيروت: دار الكتاب العربي.

-أمين، أحمد. ضحى الإسلام. (ط 8).مصر.

-باوند، روسكو. (1967). مدخل إلى فلسفة القانون. (دباغ، صلاح. مسلم،أحمد. ترجمة) بيروت: المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر.

-بن طالب، عثمان. (1990). علم المصطلح بين المعجمية وعلم الدلالة. كتاب جماعي بعنوان "تأسيس القضية الاصطلاحية". تونس.

-بن عاشور، محمد الطاهر. (1366هـ). مقاصد الشريعة الإسلامية. (ط1). تونس: المطبعة الفنية.

-بن عاشور، محمد الطاهر. (1984). التحرير والتنوير. الدار التونسية للنشر.

-الجابري، محمد عابد. (1990). بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية. (ط3). مركز دراسات الوحدة العربية.

-الجاحظ. (د.ت). البيان والتبيين. (فوزي العطوي، محقّق). بيروت:دار صعب.

-الجاحظ. (1332 هـ). التاج في أخلاق الملوك. (أحمد زكي باشا، محقّق). القاهرة: المطبعة الأميريّة.

-الجرجاني، أبو الحسن. (1971). التعريفات. الدار التونسية للنشر.

-شاخت، ج. فصل "شريعة". (د.ت). في دائرة المعارف الإسلامية. (يصدرها باللغة العربيّة، أحمد الشنتاوي، إبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس. وبمراجعة محمد مهدي علام). مج 13

-ذويب، حمادي. (2005). السنة بين الأصول والتاريخ. (ط 1). المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي.

-الرازي، فخر الدين. (1990). التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب. (ط 1). المجلد السادس - الجزء 11. بيروت: دار الكتب العلمية.

-الرضي، الشريف. نهج البلاغة (ضمن الأعمال الكاملة).

-سبينوزا. (2008). رسالة في اللاهوت والسياسة. (حنفي،حسن. ترجمة وتقديم). دار التنوير للطباعة والنشر.

-الشرفي، عبد المجيد. (1991). الإسلام والحداثة. الدار التونسية للنشر.

-شلق، الفضل. (1990، صيف). الاجتهاد وأزمة الحضارة العربية. مجلة الاجتهاد. العدد الثامن. السنة الثانية.

-شميدكه، سابينا.(2012، صيف). تلقي المسلمين للمواد المعرفية التوراتية. مجلة التفاهم. السنة العاشرة.

-العجمي، رفيق. (1998). موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمين. (ط 1). الجزء الأول، مكتبة لبنان ناشرون.

-العشماوي، محمد سعيد. (1992). أصول الشريعة. (ط 3). سينا للنشر.

-عودة، عبد القادر. (1951). الإسلام وأوضاعنا السياسية. (ط 1). القاهرة.

-الغزالي، أبو حامد. (2010). المستصفى في علم الأصول. دار الكتب العلمية.

-فضل الله، مهدي. (1995). العقل والشريعة: مباحث في الأبستمولوجيا العربية الإسلامية. (ط1). بيروت: دار الطليعة.

-فوكو، ميشال. (1990). الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي.

-القشيري، (2006). الرسالة القشيرية. (ط2). بيروت: دار صادر.

-قطب،سيد. (د.ت). الإسلام ومشكلات الحضارة. بيروت

-المودودي، أبو الأعلى. الجهاد في سبيل الله.ضمن تأليف جماعي بعنوان الجهاد في سبيل الله.

-ولد أباه، السيد. (2012، صيف). الأخلاق والقيم في الدين والفقه الإسلامي من منظور فلسفة الأخلاق. مجلة التفاهم. السنة العاشرة.

-Maudoudi,AbulA’La. (n.d). Comprendre l’Islam, traduit et publié sous l’égide de Islam fondation, England.

-Misrahi,Robert. (1995). Existence et Démocratie. PUF.


*- نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "الإصلاح الديني بعد الربيع العربي: ضروراته، رهاناته ومتطلّباته"، بتاريخ 22-23-24 فيفري، سوسة، تونس.