العرب لم يغزوا إسبانيا - ثورة الإسلام في الغرب
فئة : قراءات في كتب
العرب لم يغزوا إسبانيا - ثورة الإسلام في الغرب
إغناسيو أولاغي (-1974م)
ترجمة، علي المنوفي، طارق شعبان
فكرة الكتاب
الحديث عن الجزيرة الإيبيرية تحكمه سرديتان وفق ما ترسخ عبر الزمن، والسرديتان المسلم بهما بين طرفين يختلفان في المرجعية الفكرية والتصورية؛ مسلمة الفتح الإسلامي للجزيرة الإيبيرية، وهي سردية يقول بها العالم الإسلامي، مقابل سردية الغرب التي تقول بالغزو الإسلامي والعربي للجزيرة الإيبيرية 711هـ. فما يسميه المسلمون بسقوط الأندلس، يسميه الغربيون بحروب الاسترداد. فهل بالفعل وصل الإسلام إلى الجزيرة الإيبيرية فتحا/غزوا، أم هناك مقتضيات وأسباب أخرى في ظهوره ووصوله؟ هل هناك بالفعل حروب استرداد أم هي سحق جماعة بشرية (المورسكيون) من لدن نفس الشعب والثقافة التي تنتمي إليها؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت من وراء إجابة وحفر معرفي في مختلف المسلمات التي يقول بها الغرب والشرق معا، وهي مسلمات متضادة ومتعارضة، بين مفهومي: الغزو والفتح.
هناك مقاربة خرجت بالكامل عن السرديات المعروفة، وهي للإسباني إغناسيو أولاغي (-1974م) صاحب مؤلف "العرب لم يغزوا إسبانيا ثورة الإسلام في الغرب" ومفاد طرحه أن "الوجود الإسلامي في الأندلس لم يكن فتحا عسكريا أو جهادا مسلحا، مبتغيا تمددا دينيا، بل كان حركة أفكار متصارعة ومتشابكة، تقدمت فيها الفكرة/ القوة التي عمقت رؤية العالم للإسلام على أنه دين الفكرة والحضارة"[1] فإغناسيو من خلال طرحه هذا "ينفي حدوث استعمار عربي لإسبانيا حيث يرى أن نشأة الحضارة الإسلامية في الأندلس كانت نتيجة تقبل الإسبان لها، بسبب التقارب الكبير بين العقيدة المسيحية الأريوسية التي كانت سائدة قبل مجيئ المسلمين؛ لأن اعتقاد الإسبان بتلك العقيدة التوحيدية ترفض الثالوث، جعلهم يرون في الإسلام دينا منسجما مع تصورهم الاعتقادي، مما سهل نفوذه في وجدانهم الديني".[2]
لا شك أن مضمون الكتاب وطرحه، مثير للجدل وللوجدان الإسباني، ومثير للجدل كذلك للوجدان والتاريخ العربي الإسلامي؛ لأنه يشكل خروجا على سرديتين مختلفتين ومتعارضتين؛ وتقوي إحداهما الأخرى بشكل غير واع وغير مقصود؛ فالسردية الإسلامية التي تقول بالفتح، فيها تضخيم للذات الإسلامية التي ترى في نفسها، أنها استطاعت في لحظة زمنية نشر الإسلام وثقافته، والسردية التي تقول بالغزو، تخفي واقعا ثقافيا ودينيا كانت عليه الجزيرة الإيبيرية قبل 711م جعلها تقترب من ثقافة الإسلام ورسالته.
شكل مضمون الكتاب انقلابا جذريا على كثير من المسلمات التي ركزها التوجه الكلاسيكي اليميني المحافظ في الثقافة الإسبانية، نتيجة تصوراته الأيديولوجية للتاريخ ولبناء المجتمع الإسباني القائم على الأحادية في الدين والثقافة وفي كل شيء. بينما ثقافة الأندلس كانت تقوم على التنوع والتعدد والاختلاف، وهي سمة أصيلة في الجزيرة الإيبيرية تماشيا مع تحليل الكاتب، الأمر الذي جعل من وصول الاسلام أمرا سهلا وسلسا، وهو أمر يدعو إلى الخروج من الانسداد الذي وقعت فيه إسبانيا في نظرتها للذات للآخر، بوهم أن ما وقع في القرن الثامن الميلادي يعد استعمار إسلامي للأراضي الإسبانية الكاثوليكية الرومانية، وهو قصد ضمني وتبرير لطرد مسلمي الأندلس بداية القرن السادس عشر الميلادي من طرف الملكان فيرديناند الثاني وأليزابيت الأولى.[3] الكتاب يأخذنا إلى نتيجة مفادها أن طرد المورسكيين ليس بالضرورة طرد للعرب أو المسلمين، بل هو طرد لمواطنين وأناس من أصل الجزيرة الإيبيرية، وهذا لا ينفي أن من بينهم من تعود أصولهم إلى الجنس العربي والأمازيغي.
يؤكد إغناسيو أن وثائق الأندلس أتلفت، وأنه وجد صعوبات كثيرة لتعليل أفكاره، فكل ما بحوزة القارئ والباحث اليوم هي كتابات جاءت متقدمة بعقود من سنة 711م، فهو يدعو إلى إعادة قراءة هذه اللحظة التاريخية برؤية ناقدة تأخذ بعين الاعتبار كل ما تبقى من تاريخ إسبانيا الوسيط في مختلف المجالات، وقد استعان إغناسيو في بناء أطروحته بمعطيات تخص الجغرافيا والهندسة المعمارية وعلم الحفريات والإثنوغرافيا.[4]
أهم موضوعات الكتاب
يضم الكتاب مقدمة وثلاثة أبواب و(أربعة ملاحق) مقدمته الكتاب دعوة علمية للقارئ إلى اكتشاف أسرار الحضارة الإسلامية في الأندلس، في مختلف مجالات العمران. الباب الأول: بعنوان المشكلة التاريخية: وقد بسط فيه المؤلف القول متوسلا بمختلف آليات المعرفة، ليعري الجانب الأسطوري الذي صاحب السردية الغربية في تصورها لطبيعة دخول الإسلام إلى الأندلس، والذي ترى فيه غزوا وتوسعا. الباب الثاني بعنوان: الثورة الإسلامية. وقد بين المؤلف بأن حضور الإسلام في الاندلس كان ثورة محلية بررها الالتقاء والانسجام بين العقيدة المسيحية الأريوسية، وعقيدة التوحيد وما أعقبه من تقبل الإسبان في الأندلس للإسلام واندماجهم الكلي فيه وقبولهم العيش في كنفه. أما في الباب الثالث بعنوان: الفن الأندلسي: فقد خصصه المؤلف لدراسة معرفية وعلمية وتاريخية لمختلف معالم الفن الأندلسي محاولا تقديم جواب عن سر بناء مسجد قرطبة، حيث ينتصر لفكرة أن المسجد بني قبل 200 سنة من تاريخ الغزو المزعوم711م، في نظره للجزيرة الإيبيرية. أما الملاحق، فهي تضع القارئ في صورة الموضوع وتفسح مجال للحجة والبرهان على طرح المؤلف.
علم التاريخ والخروج عن المألوف
التاريخ في بعده العلمي والموضوعي، يضعنا في دائرة نزع القداسة على الماضي وعلى تصورات الناس لماضيهم وتاريخهم، ويجعلنا نخلق نوع من التوازن الموضوعي ما بين الأحداث والوقائع التي حدثت في التاريخ، وبين تصورات الناس عنها، التاريخ في بعده الغائي يدفعنا في اتجاه إعادة القراءة بنظرة جديدة تنير طريق الإنسان في الحاضر وهو يستشرف المستقبل، ليتجنب مختلف الأخطاء التي وقع فيها من قبل. فالتاريخ في نظر المؤرخين من بينهم ابن خلدون لا يعني الاكتفاء بمعرفة الوقائع والأحداث دون تحليل ونظر وأخذ للعبرة، وقد أشار ابن خلدون إلى أن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق. وتبعا لمطلب التحقيق هذا تشكلت وظهرت مختلف النظريات التي تعنى بفلسفة التاريخ، وتختلف قراءة مختلف السرديات، تبعا لاختلاف المدارس والمنطلقات والمناهج والمرجعيات.
وأهم ما ينتج عن المعرفة التاريخية الموضوعية، هي أنها تأخذ البعض إلى الخروج عن السرديات المسلم بها، ولا نقصد هنا الخروج من أجل الخروج ذاته، أو من أجل الخروج المتحيز لسردية أخرى ومقولات جزئية، بل هو خروج يراعي ما هو كوني وإنساني في القراءة والتحليل، ومراعاة طبيعة تأثير الثقافات في بعضها البعض، وطبيعة انتقال مختلف نماذج التفكير والثقافة والمعرفة من مجال جغرافي إلى آخر؛ فكبار المؤرخين والدارسين والنقاد الذين تأخذهم اجتهاداتهم العلمية إلى الخروج من دائرة ما هو مسلم به ومألوف، أغلبهم لا يفكرون من داخل مختلف المركزيات باسم الدين أو الثقافة أو العرق...لأن هم مختلف المركزيات في أبعادها السياسية والأيديولوجية يكمن في استقطاب الجمهور والاستحواذ على عاطفته من أجل هدف غايته خدمة السلطة، على حساب الحقيقة وطبيعة ما كانت عليه الأحداث في الأصل.
أمر بديهي أن تواجه الأفكار والمقاربات التي خرجت عن السرديات المألوفة، بالكثير من التهميش وعدم القبول، خاصة إن ظهرت في سياق لا يشجع على إعادة النظر في المألوف والمسلم به، بتجديد فهمه وقراءته من جديد. لم يجد إغناسيو أولاغي دار تنشر كتابه في إسبانيا وخارجها وانتظر حتى سنة 1969م بفضل تدخل الفرنسي بروديل / وتم إعادة نشره في إسبانيا عام 1974م لكن ليس بنفس عنوان الكتاب الأصلي "العرب لم يغزوا إسبانيا ثورة الإسلام في الغرب"
هناك رأي آخر يحفر في التاريخ الإسباني، باستثمار طرح إغناسيو، ويتعلق الأمر بكتاب "عندما كنا عرباً" لمؤلفه الإسباني إيميلو غونزاليس فيرين، فهو يرى أن كلّ من درس وقرأ التاريخ في إسبانيا، لا بدَّ أنّه يعرف. قصة الغزو العربي الإسلامي للجزيرة الإيبيرية عام 711م، لكن الحقيقة هي أنَّ المصادر التاريخيّة ليست واضحة. فالنّصوص الإسلاميّة التي تتناول الغزو "إسبانياً"، والفتح "عربياً"، تأخرت مدة قرن ونصف، والمصدر اللاتيني الوحيد، مجهول المؤلف، والذي يحمل عنوان "تأريخ عام 754م"، يروي حادثة دخول المسلمين، ولكنه لا يتعاطى مع الأمر ببعدٍ دينيٍّ، كما أنّه، وبشكلٍ يتّفق عليه الجميع، لا يتحدّث عن غزوٍ باسم الدّين ونشر الديانة الإسلاميّة. دفع هذا الأمر المؤرخين إلى التشكيك في الرواية المهيمنة والتأكيد أنَّ ما حدث في شبه الجزيرة العربية لم يكن غزواً ناتجاً عن حربٍ مقدسة، بل كان سلسلة من موجات الهجرة التي ولّدت عملية تعريب للمنطقة.[5]
[1] العرب لم يستعمروا إسبانيا؛ ترجمة، علي المنوفي، طارق شعبان، مركز نهوض، ط.1، 2019م، (مقدمة الكتاب مصطفى الفقي) ص.9
[2] نفسه، ص ص.13-14
[3] نفسه، ص.13
[4] نفسه، ص.14
[5] مقال: لجعفر العلواني، "حين كنّا عرباً" لـ إيميليو غونزاليس فيرين: تحرير تاريخ الأندلس، موقع العربي الجديد، بتاريخ: 21 يوليو 2020م/ https: //www.alaraby.co.uk/