العنف في الاجتماع العربي: بين جدليتي القوة والضعف


فئة :  قراءات في كتب

العنف في الاجتماع العربي: بين جدليتي القوة والضعف

       I.            بين يدي الكتاب: مدخل عام

يعد الكتاب[1] قيد الدرس والتحليل، تركيبا نقديا للمقاربات التي سعت إلى تفكيك وتفسير دوافع وعوامل الانفجار الكبير على مستوى إنتاج العنف بمختلف أشكاله، إذ ينتقد الكتاب النزعات التي تنحو إلى تأصيل العنف في الدول العربية من خلال استعادة النصوص التراثية والسرديات الدينية، وما يتصل بها من تأثيرات فقهية. كما ينتقد التفسيرات ذات الحمولات النفسية والاجتماعية، التي تعتبر أن الجنوح إلى العنف يجد مرجعه في الاضطرابات النفسية والذهنية والفشل الاجتماعي، مؤكدة بذلك أن العنف والانتماء إلى تنظيماته هو بمثابة تعويض لغياب الرابط الاجتماعي والإحساس بالانتماء وغياب قيم المواطنة. ومن ثم يكون العنف بمثابة تعويض معنوي عن الإحساس بالهدر والتهميش.

هذا الطرح وبالرغم من معقوليته ونجاعته في تفسير النزوع إلى السلوك العنيف، إلا أن الإيغال فيه وتعميمه كوظيفة تفسيرية وحيدة لا يستقيم من الناحية المنهجية، باعتبار العنف ظاهرة بنيوية مركبة يتداخل في تشكيلها الاجتماعي والنفسي والثقافي والاعتقادي، والبنيوي المركب، ولا يتحدد بعنصر فريد وبسيط.

ومن ناحية استقراء حالات العنف في الواقع الاجتماعي المجسد، الذي يرتبط في كثير من الوضعيات بأسباب سياسية محضة أصلها الصراع السياسي وتدبير العلاقات الاجتماعية، والتسلط المؤسساتي والضبط الأمني، باعتبار العنف صنو الممارسة السياسية وضمانا لاستمرارية وجودها "فلو لم توجد إلا بنيات اجتماعية خالية من العنف، لكان مفهوم الدولة قد اختفى، ولن يبقى إلا ما نسميه بالمعنى الدقيق للكلمة "الفوضى"، ليس العنف بطبيعة الحال هو الوسيلة الوحيدة المعتادة للدولة، هذا أمر لا جدال فيه، ولكن يبقى العنف هو وسيلتها الخاصة. إن العلاقة ما بين الدولة والعنف، في أيامنا هذه علاقة حميمية بشكل خاص"[2]؛ هذه العلاقة الحميمية كما أصل لها "ماكس فيبر" منضبطة بطبيعة الحال للمصلحة العامة التي تستند على العنف المشروع أو العنف المتعاقد بشأنه والمؤطر قانونيا، وليس العنف ذو النزعة العدوانية المرتبط بالمبالغة في استعمال القوة بأوجه غير مبررة تروم إخضاع الأفراد والجماعات دون إرادتهم.

إن إيلاء الأهمية للجوانب النفسية والاجتماعية في تفسير السلوك العنيف، لا ينبغي النظر إليه في أحاديته، بل يقتضي فهمه وفق رؤية شمولية بنيوية، بعيدا عن الادعاءات الإيديولوجية ومنطق كيل التهم. إن العامل الرئيس إذاً في توليد العنف عموما، والعنف الإرهابي تحديدا، يتمثل في توافر مجموعة من السياقات السياسية المؤثرة في اتساع وتسارع وثيرة التطرف العنيف. هذا التفسير السياسي للتطرف العنيف غالبا ما يعالج من زاوية "سياسة الهوية"، سواء هوية الذات الجماعية المرتبطة بالمسلمين فيما بينهم أو الهوية الغيرية مع الآخر المخالف. هذه المقاربة -وإن كانت تتجنب النظر الأحادي القاصر، وتتجاوز منطق التحيز والإيديولوجيا والاتهام وتضع مسافة من طروحات الاستبداد السياسي: التي تلبس العنف لبوس الدين، وفي أفضل الأحوال تربطه بالحالات النفسية- إلا أنها وباعتمادها هذا التقابل الهوياتي، سواء الذاتي (الداخلي) أو الغيري (الخارجي) تسقط من حيث لا تدري في نفس الدعاوى السابقة مرجعة العنف إلى أساس هوياتي صرف.

ولتجاوز هذا الارتباك المنهجي والتفسيري، يقترح الكتاب قيد الدرس، معالجة معضلة العنف والتطرف من زاوية سياسية والغوص في تطور دلالات مفهوم الدولة بنموذج تفسيري يمتح من نظرية الدولة بين القوة والعنف، من خلال مساءلة التجارب الواقعية للممارسة السلطوية في الدولة العربية، على اختلاف سياقاتها الثقافية وتجاربها السياسية وبنيتها الاجتماعية. ومن أجل ذلك، يقترح الكتاب ثلاثة محاور رئيسة يبني من خلالها تصوره للعلقة الجدلية بين العنف والقوة والضعف داخل البناء العام للدولة العربية، حيث عمل على بسط تشخيص عام ورصد لمعالم القوة والضعف وفي إنتاج التطرف العنيف، ثم في محور ثانٍ يسائل الكتاب نموذج العلمانية بما هو أفق لمعالجة قيم الطائفية والقطع مع بنيات ما قبل الدولة، ليقدم في الأخير نماذج وتطبيقات يختبر من خلالها الفرضيات النظرية التي أطرت أطروحة الكتاب أصالة.

    II.            الفهم التكاملي لأزمة الدولة الوطنية: العنف ومرجعياته الفكرية والسياسية                     

يحاول الكتاب في هذا الفصل، تسليط الضوء على آليات إنتاج العنف السياسي من خلال الوقوف على جدلية القوة والضعف، وإشكالات الاستبداد السياسي وبروز البنيات "ما فوق الدولة" التي زكت العنف وشرعنته وساهمت في استدامته. ويقف على جدلية العنف السياسي من جهة، وبين أزمة الدولة الوطنية من جهة ثانية في السياق المعاصر، معتمدا في تفكيكه لهذه الجدلية على نموذج تفسيري قائم على تحليل الأنماط الممكنة الناظمة لعلاقة المجتمع بالدولة في السياق العربي، حيث يقوم هذا البراديغم على نموذج  مجدال الذي يتأسس على قطيعة مع المعايير الكلاسيكية في تصنيف الدولة والمجتمع بالاعتماد على مقاييس القوة والضعف.

فالدولة الضعيفة حسب هذا النموذج، أحدثت فراغا أتاح للعصبيات اللاوطنية البروز والظهور والقوة، ما ساهم في تغييب مركزية الولاء الجامع للدولة، وأحل محلها ولاءات للطائفة والقبيلة والجماعة، وهي كلها تنظيمات ما فوق الدولة أو ما قبلها. أما الدولة القوية ، فتتغلغل في المجتمع وتعيد تشكيل بنية العلاقات الاجتماعية القائمة على سيادة مطلقة وإلغاء شبه تام لفاعلية المجتمع، عن طريق الضبط الاجتماعي الموغل في المقاربة الأمنية وممارسة التعسف والقمع والقهر، فدفعت بذلك ضحايا استبدادها إلى انتهاج أنواع متعددة من العنف السياسي. 

 ولفهم بنية الدولة ومنطق اشتغالها، يقف الكتاب على  النشأة التاريخية المستأنفة للدولة القومية في سياق مقارن بين التجربة الأوروبية الحديثة التي جاءت  فيها الدولة القومية وفق تطور طبيعي لبنية المجتمع بعد حسمه مع التقدم الكمي على مستوى مراكمة الثروة المعرفية والعلمية والتكنولوجية،  وتقدم كيفي نتيجة التعاقد الاجتماعي مع مقومات الممارسة السياسية الحديثة أساسها التداول على السلطة والمؤسسات وفصل السلط، "بعد هدم الهوة السحيقة التي تجعل الانتقال التدريجي من القبيلة البدائية إلى جهاز الدولة أمرا مستحيلا، والتي تجد مرتكزها الطبيعي في علاقة الاقتصاد التي تضع السلطة السياسية خارج القبيلة" [3] في حين أن نشأة أو ولادة الدولة القومية في السياق التداولي العربي، يمكن أن نصفها بحسب الكتاب بالولادة المشوهة أو القيصرية، أثرت بالتبع على طبيعة الوظائف والأدوار التي يمكن أن تضطلع بها الدولة القومية الحديثة، فإذا كانت الدولة القومية الأوروبية دولة موحدة وتجميعية ألفت الأوروبيين داخل نزاعات  قومية موحدة، بإحساس اجتماعي متفرد، ونجحت بذلك في خلق هوية جماعية. فإن الدولة القومية العربية، وجدت نفسها أمام مأزق تجلى في عدم نضج البنية الاجتماعية وهيكل المؤسسات السياسية  المؤطرة للعلاقات الاجتماعية، التي طغت عليها مؤسسات ما قبل الدولة كالقبيلة الطائفة والجماعة وباقي التكوينات السابقة على الدولة. 

وقد امتدت مآزق الدولة الوطنية القومية  في السياق العربي إلى محاولة إسقاط التجربة التاريخية الأوروبية بعد إلغاء الخبرات التاريخية واعتماد النموذج الحداثي في صيغته المشوهة[4]، ما أدى "إلى تفكيك المؤسسات التقليدية والفشل في توطين المؤسسات الحديثة "[5] ما أسهم في الاختلال الفادح على مستوى موازين القوى بين الدولة في السياق العربي ونظيرتها الاستعمارية، فكانت المسارعة نحو إصلاح الدولة وتقويتها في إطار التصدي لتحديات القرن التاسع عشر، فوجدت الدولة نفسها أمام مسار تحديثي لا واعي اصطدم في آخر المطاف مع عسر تقبل هذا التغيير القسري، والذي سيؤدي لاحقا إلى إفراز توترات اجتماعيه  وأزمات سياسيه وانتفاضات شعبية[6] تزكت مع تعثر المشاريع الإصلاحية الوطنية وحركات التحرر والتغيير التي تحولت إلى مرحلة الصراع حول مضمون الدولة، ليستقر الأمر في الأخير على المعيار الخارجي لوحدة الدولة العربية عوض المعيار الداخلي المختلف بشأنه.

 هذا المعيار القائم على توحيد مشروع الدولة العربية وتوجيهه لممانعة المشروع الصهيوني الذي بدوره سينكشف ضعف الرهان عليه، بعد انتقال الخط التحرري في السلطة العربية إلى نكوص ديمقراطي أنتج فيما بعد تقاطبات سياسية وإيديولوجية أسهمت في أزمة ثانية من أزمات الدولة العربية هي الانقسام السياسي والإقصاء والتسلط.

يدافع الكتاب كذلك، في سياق تشخيصه لأزمة العنف في الدولة الوطنية العربية، عن فكره مؤداها أن العنف المسلح والمحتضن تنظيميا مرده بالأساس إلى فشل المشروع التحرري الذي استحال إلى تقاطب إيديولوجي زاد من حدته طابعه الإقصائي لكل خطاب مخالف، ما ولد بنيات ما فوق الدولة لها حاضنتها الإيديولوجية وبنية مؤسسية، نافيا بذلك المقولات التبسيطية  الرابطة بين العنف المنظم والمقولات الدينية.

 فالتطرف قرين الطائفية، هذه الأخيرة لا يمكن بأي حال حصرها في خطاب محدد ديني وثيولوجي، كون العنف صنو الطائفية ويتولدان عن نزعة غارقة في تقديس الذات ومتمركزه حولها، إذ " يندمجان في  فكرة ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة والانتساب الأحادي للفرقة الناجية والمنصورة"[7] مؤطرين في ذلك بنزعة تبسيطية، يغيب عنها القدرة على التركيب والتنسيب والتشابك، وهو الأمر الذي يحظر بقوة في التصور الدياني، على ثلاثة مستويات: الفهم التأويلي النصي الذي لا يتجاوز ظاهر النص، ولا ينفذ إلى عمقه وروحه، ولا يراعي الثابت والمتغير فيه. أما المستوى الثاني، فتوظيفي مرتبط بتوليد الأفكار من النصوص، بناء على هذا الفهم التأويلي السقيم، ليتم بذلك شرعنة العنف على أساسه، ويتم في مستوى ثالث، تنزيل هذه الأحكام وتطبيقها وأجرأتها بناء على ما تم إضفاؤه من صفات التكفير وإباحة الدماء، فهناك نصوص دينية، يكون الخطأ في تنزيلها وليس في فهمها.[8]

إن الفهم السقيم والتأويل المرضي، لروح النص الديني لم يكن ليصل إلى هذه الدرجة من الحدة والتطرف لولا عوامل عملت على تغذيته ووفرت له البيئة الحاضنة للانتعاش، وعلى رأسها البيئة السياسية المغذية التي أنتجت ردة فعل متطرفة جراء استبعادها السياسي، ومثال ذلك عمل قوى النكوص والدرة على إجهاض الحلم الثوري لانتفاضات الربيع الديمقراطي، فكان الخيار الوحيد هو مبادلة العنف بالعنف وانزياح بعض القوى الثورية عن طابعها السلمي الذي حوّل حراكها إلى فعل ثوري مسلح.

بالإضافة إلى عامل لا يقل تأثيرا عن عنف الدولة الداخلي، هناك عنف خارجي أسماه الكتاب بالعنف الإمبريالي، القائم على التوحيد والتنميط القيمي والثقافي من جهة، وعلى التخوين والتحريض من جهة ثانية، ما ساهم في وصم التقاليد والأعراف والشرائع والخصوصيات الثقافية الدينية الإسلامية بالمروق عن السياق الحضاري وعن المدنية والحداثة، هذا العنف الإمبريالي قد لا يكون مباشرا بالضرورة، بل قد تتكلف به جماعات وظيفية داخلية أسماها الكتاب، بجماعات العنف الرمزي العلماني، ويقصد بها تلك الدعوات التغريبية التي تستهدف إقالة الدين وتحييده عن منطق الفعل الاجتماعي، وتعويضه بدعاوى مناقضة للخصوصية الدينية والثقافية (إلغاء نظام الإرث، الحريات الفردية المطلقة...)، والتي تحولت بحسب الكتاب في أحايين كثيرة إلى نوع خفي ولين من العنف الرمزي، بتعيير "بورديو" يستثمر أدوات إيديولوجية خفية لترسيخ هيمنته، وهي أدوات عنف غير مباشر تتجلى في مجموعة من الأجهزة القمعية غير المباشرة بتعبير "لوي ألتوسير" (ذوات الدعاية الإعلامية، مؤسسات التنشئة والوساطة الاجتماعية، الخطاب الديني المغلف بلبوس سياسي ...) .

يميل الكتاب قيد الدرس والتحليل، إلى أطروحة مفادها أن الفاعل الرئيس في تغذية العنف هو الفاعل السياسي الذي عجز عن تطوير آليات سياسية تجمع شتات الأفكار واختلاف الرؤى، ويترافع عن هذه الأطروحة بفكرة "نسقية وبنيوية" تنهل براديغمها التفسيري من نظرية السلطة، وسوسيولوجيا التغير الاجتماعي، فكلما غير النسق السياسي من بنيته، نحو الانغلاق والانسداد والتمركز، كلما غابت عنه القدرة على التفاعل الاجتماعي، وفقد مساره الطبيعي نحو الانتقال والتداول والتفاعل، وفق مبادئ التعاقب والتناوب، لتختنق مساحات التعبير وتضيق هوامش الحرية، مضيعا بذلك فرص المشاركة الجماعية، ومؤسسا لانتعاش خطابات العدمية والإحباط على شاكلة التنظيمات الإرهابية، والتطرف السياسي، الراديكالي. أما النتيجة الحتمية لهذا الانغلاق والانسداد، فهو بلا شك خلق نماذج للدولة الهجينة، التي تختلط فيها البنيات السياسية إن وجدت أصلا، مع بنيات تقليدية تعود لما قبل مرحلة الدولة( القبيلة، الجماعة، الطائفة، العيرة، جماعات المصالح...)، فتصبح الدولة أمام هشاشة مؤسساتية وضعف بنية الممارسة السياسية.

  III.            العلمانية و أزمة الدولة العربية: أية علمانية لأي مجتمع؟

بعد تشخيص الأعطاب السياسية للدولة العربية المعاصرة، وبيان تأثير هذه الأعطاب في بروز خطابات العنف والتطرف، يحاول الكتاب استشراف إمكانات معالجة هذه المآزق، بمساءلة النموذج العلماني ومدى قابليته للمساهمة في تفكيك أزمات الدولة العربية المعاصرة، ويعلن الكتاب أصالة مع الباحث "ساري حنفي" عدم الاستسلام للفهم البسيط والسطحي لمفهوم العلمانية، خاصة في صيغته الصلبة التي تعمل على محاصرة الدين وفصله عن الفضاء العام، منطلقا في ذلك من سؤال إشكالي: أية علمنة لأي مجتمع؟ حيث عمل على الإجابة مستعيدا في ذلك النقاش الذي دشن مطلع التسعينيات حول النموذج العلماني الأكثر ملاءمة لبنية المجتمعات العربية، آخذا بعين الاعتبار التحولات البنيوية التي شهدها المفهوم ورصد التغيرات التي ألحقتها بعض التخصصات على دلالة مفهوم العلمانية، وعلى رأسها علم الاجتماع الديني انطلاقا من الرعيل الأول المؤسس مع إيميل دوركهايم، وماكس فيبر، إلى آخر ما أنتج من متن نظري سوسيولوجي في دراسة الدين ومقاربة التدين، هذا التراث السوسيولوجي ذو المنحى التقدمي، والذي لطالما أخذ طابع التحفظ على الدين بوصفه إحالة على الماضي، في حين أن علم الاجتماع علم تقدمي بالضرورة.

في إطار مساءلته لنموذج العلمانية، خلص الباحث إلى أن خطاب العلمانية ذا التأصيل الحداثي وجد نفسه أمام اختبار حقيقي، تجلى أساسا في عودة خطاب الأصوليات ( العودة القوية للدين كفاعل في البنيات الاجتماعية، وكعنصر مؤطر لفضاء العام) هذه الصدمة الحداثية أجبرت الخطاب العلماني على مراجعة ذاته، والبحث عن مخرجات جديدة للتكيف مع هذا الوضع الجديد، والانتقال من خطاب العلمانية الصلب-المناقض للفاعلية العمومية للدين- إلى خطاب علماني أكثر مرونة وأكثر تعددية، الأمر الذي تجلى بالملموس في الكتابات النقدية المعاصرة التي عملت على مراجعة الخطاب العلماني، وذلك بالعودة إلى مساءلة الأصول الكانطية في نظرية العمومية، مرورا بطرح هابرماس وانتهاء بنقد مفهوم "جون راولز للعقل العمومي، "الذي دعا المواطنين، إلى أن يتحملوا مسؤولية أخلاقية، لتبرير قناعاتهم السياسية بمعزل عن معتقداتهم الدينية"[9]

ومما ساهم كذلك في التحول على مستوى مضمون الخطاب العلماني، حسب "إلريك بوب" التراجع المسجل على مستوى روابط الانتماء الديني وفق نموذج "كلوك"[10] بفعل تزايد الخلفية العلمية للتدين، وتأطير الدين والممارسة الشعائرية بترسانة قانونية.

تحديات العلمنة في الاجتماع العربي

إن التأطير النظري لمقولات ما بعد الحداثة لا يستقيم دون مراعات البناءات المجتمعية المفروض فيها احتضان هذا الخطاب، من هنا ستجد خطابات ما بعد الحداثة، نفسها أمام ثلاثة تحديات، بمثابة معيار لقابلية خطابها على التكيف مع بنيته الاجتماعية الحاضنة:

  • تحدي المكانة المركزية التي يحتلها الدين في عالم اليوم بوصفه أحد الروافد المؤطرة للبناء الاجتماعي العام المتشكل من تعددية عرقية وانتماءات ثقافية متنوعة، تتطلب نوعا من ليونة في الإدارة والتنظيم الحكيم والمعقلن لازدواجية العرقية والتعددية الثقافية من جهة، ومقتضيات الحداثة السياسية من جهة ثانية.
  • الحضور القوي للفعل الديني في المجال العام، والذي يتجاوز منطق التمثل والذهنيات المؤطرة للسلوك إلى تطوير استراتيجيات لتملك الفضاء العام، والتأثير فيه والانخراط في صراع تأميمه، بما هو مجال وسيط بين العمومي للأفراد، والفعل العمومي للدولة وأجهزتها.
  • تحديات الخطاب المعولم ورديفته النيوليبيرالية، ومساهمتهما في إعادة تشكيل المجتمعات، حيث يطرح على النموذج العلماني، سؤال عريض " كيف سيعمل مجتمع ما بعد العلمانية على تحقيق التصالح بين الدين ومقتضيات المدنية والحداثة، دون استحضار "آليات التنسيق الاجتماعي بآليات تراكم الموارد المالية والسلطة السياسية؟"[11] التي يفرضها النظام العالمي الجديد.

في سياق البحث عن وصفة لمجتمع ما بعد العلمانية بتحدياته السالفة الذكر، يقترح "ساري حنفي" أطروحتين كفيلتين بكسب هذه التحديات وتشكيل مجتمع ما بعد العلمانية:

  • أطروحة "تشارلز تايلور" النقدية لفكرة الإقصاء الكلي للدين الذي انتهجها فكر الحداثة وما بعدها مع رواد الخطاب العقلاني والوضعاني " ديكارت/ كانط/ هيوم" هذه الأطروحة تميل إلى اعتبار الدين جزءا من البناء الثقافي العام، بحكم أنه يتمثل في المخيال الجمعي للأفراد قبل أن يتجسد في شكل ممارسات وتطبيقات، ويدعو تشارلز تايلور، إلى التحول من تقريرات الإبستيمولوجيا الحديثة التي ألهت العقل ضدا على الممارسات الكنسية الدينية، فكانت بذلك ردة أفعال متطرفة على فعل متطرف، إلى هيرومنوطيقا ذات أفق تأويلي يقدم المجتمع على الفرد في العلاقة مع الذات، وتنتج نوعا التحيز القيمي عوض الحياد، وتعتبر أن المتعالي والغيبي والماورائي حاضر بقوة في إنتاج المعرفة.
  • مقاربة "ميف كوك" التي تنظر إلى الدين من زاوية الاستخدام العمومي النقدي والتجاوزي للطرح الهبرماسي، والذي يسعى إلى تقييد الحضور الديني، في المجال العام، ف "ميف كوك" ترى على أنه يجب أن يتمتع المواطنون بالاستقلال الأخلاقي أو الإيتيقي"[12] الذي يستند على مبدأ الحرية في تشكيل التصورات والاستقلالية في بناء الحدوس، وعلى رأسها التصورات والتمثلات العقدية بما يتوافق مع توجهاتهم وينسجم مع مصالحهم.

أنماط التدين الرسمي في الاجتماع العربي

  • الإسلام المؤسساتي الرسمي، أو ما يمكن أن نسميه تدين الدولة الذي تشجعه عبر مؤسساتها، وتدعمه بوصفه ترجمة للرؤية الرسمية للدولة في مجال الدين، يميل هذا النمط من الدين إلى طابع المحافظة والجمود، ويسمه التقليد وندرة الاجتهاد ومراعاة السياقات السياسية العامة
  • التدين الإحيائي: المنتمي إلى خطاب البعث والإحياء ذي النزعة الممانعة للتغريب والاستعمار، وفي أحيان أخرى للتقليد الفكري والرجعية الثقافية، ويمكن التمييز فيه بين إحيائية حركية أو إصلاحية ربطت الديني بالسياسي، وبين تنظيمات قائمة على إحياء التراث الديني في الممارسة السياسية على أساس الشرعية الدينية (الإخوان المسلمون نموذجا) وإحيائية من نوع آخر تجلت في الحركات الدينية ذات المنزع العلمي الديني السلفي مع الحركة الوهابية، التي استكانت إلى الترافع عن نموذج معين من الحكم ينبني على أدبيات "الفقه السلطاني" وطاعة ولي الأمر وضوابط الشرع.
  • نموذج التعبيرات الإسلامية الجديدة أو ما يوصف بالحركات ما بعد الإسلامية بتعبير "آصف بيات"، والتي اتخذت منحى المشاركة عوض المغالبة، وأوجدت مساحات مشتركة بين الشريعة كمرجعية عليا، وبين الممارسة السياسية وفق مبادئ المدنية والديمقراطية، فأصلت بذلك للممارسة السياسية الراشدة وفق مقاصد الشرع الكبرى، ومرتكزا في ذلك على أربعة معايير؛ منها الغيمان بالتعددية وقيم الاختلاف على المستوى الديني، كذلك التمييز بين الدين بما هو مجال للقداسة والتدبير اليومي للمواطنين الذي قد تطاله الدناسة، لذلك فالوعي مطلوب بالتدبير العقلاني الحكيم لقضايا الشأن العام ومرجعية الدولة الوطنية وما تقتضيه من تسوية بين شرائح المجتمع، على اختلاف مرجعياتهم وأفكارهم الحوارية والتواصل الفعال عوض الارتهان إلى الاستقواء بالأكثرية العددية صونا لقيم التعدد.

أية علمانية لأي نموذج

يسائل الباحث "ساري حنفي" في هذا السياق النماذج المختلفة للعلمانية، في الزمن الراهن مميزا في هذه النماذج بين:

ü     علمانية مؤمنة: أو ما يمكن تسميته بالعلمانية الصلبة أو المتشددة التي تقصي ما أمكن الدين عن المجال العمومي، بل هي علمانية شاملة تميل إلى تحييد الفاعلية الدينية عن الشأن العام، وتجعل منه معطى فرديا خاصا، أو "دينا مدنيا له قدسيته ككل الأديان ولتمنع ظهور أي دين جديد آخر"[13] وفي نزعة لائكية تسود بقوة في النموذج الغربي الذي يعلن بشكل واضح علمانية الدولة، وعدم التسامح مع تسلل أشكال الدين ورموز التدين إلى المجال العام للممارسة السياسية وشواهد ذلك كثيرة؛ آخرها السجال الدائر حول رموز التدين وأيقوناته في المجتمع الفرنسي خاصة اللباس الديني وعلى رأسه الحجاب، رفع الأذان في سويسرا، حملات "الكزينوفوبيا" في هولندا، وخطابات اليمين المتطرف في أوروبا عموما وفرنسا تحديدا، باعتبار الأخيرة تتبنى نموذج العلمانية الصلبة.

ü     علمانية رخوة: أو العلمانية المرنة، والمتصالحة مع الدين ومع رموزه، وتسمح بهامش معتبر للدين في الفعل العمومي، بل أكثر من ذلك قد تجد مؤسسات سياسية وتنظيمات حزبية بمرجعيات دينية، كما هو الحال مع الأحزاب المسيحية في كل من إيطاليا وألمانيا، وأكبر مثال معبر عن هذا النموذج، النموذج البريطاني، حيث تعتبر الملكة رئيسة للكنيسة في الوقت ذاته، ولو بشكل رمزي يصور العلاقة الوطيدة والمرنة بين المؤسسة الدينية ونظيرتها السياسية.

ü     علمانية صورية: ويمكن توصيفها بالعلمانية الوظيفية، الخادمة للسلطة السياسية، حيث إن مضمونها في حقيقة الأمر لا تتعدى منطق توظيف الدين وحقل المقدس، بشكل عكسي لتبرير شرعيتها وهيمتنها؛ فهي لا تسمح للدين بالفعل السياسي والحضور في المجال العام، لكنها لا تتوانى في استثماره والتدخل فيه بما يخدم مصالحها. فتمنع الداعية من التقول في أمور السياسة، وتبيح للسياسي استثمار المقولات الأخلاقية والخطاب الديني الوعظي خدمة لأجندات الدولة.

ü     العلمانية بما هي دعوى للدولة المدنية: ينحو هذا النموذج إلى تلطيف وتهذيب الإيحاءات الإيديولوجية لمفهوم العلمانية، ويعوضها بمبادئ الدولة المدنية، وهو خطاب ترنح حسب الكتاب مع بروز الحركات ما بعد الإسلامية وانخراطها القوي في الحياة السياسية.

مدنية الدولة أو العلمانية الجزئية بتعبير "المسيري" توافق أخلاقي على قيم التعاقد والتداول والديمقراطية، وتأصيل هذه المنظومات المفاهيمية للدولة الحديثة شرعيا، فهي تؤسس وتشرعن فاعلية الدين في المجال العام شريطة التمييز بين الدعوي والسياسي، وهي الأطروحة التي تزكت أكثر في المجتمعات المغاربية، وتقوت بعد وصول الإسلاميين للسلطة، فبرزت بذلك أطروحات فكرية ومقاصدية، لرموز دعوية تنتمي فكريا إلى مدرسة ما بعد الإسلامية، أو الحركات الإسلامية الجديدة، وتقوم –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- على وصل السياسي بالأخلاقي والقيمي في إطار ما تصطلح عليه هذه التوجهات الإسلامية الجديدة بالمساهمة في تخليق الحياة السياسية العامة، وفق التمييز بين الدعوي والسياسي، حفظا لقدسية الدين من الابتذال والاستعمال وحرصا على قيم التعايش والتعددية والاختلاف ما يسمح حسب نموذج تايلور السابق بتحقيق شرط "تجاور الإيمان وتعايشه مع عدم الإيمان".

بعد بسط مختلف هذه النماذج، يتضح وبحسب الباحث دائما، أن النموذج الأكثر ملاءمة لبيئة وخصوصية المجتمعات العربية، هو نموذج العلمانية/الدولة المدنية، المتقبلة للاختلاف والضامنة للتعددية والمبنية على التعايش.

فالدولة في عمقها انسجام مع متطلبات الوقت والراهن من تجديد وإبداع في تنظيم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع بخلفية المرجعية القيمية الكونية والإنسانية، دون تجاوز الخصوصيات والسياقات التداولية، فمن الأكيد أن المجتمعات العربية والإسلامية ذات خصوصية حضارية يتجاور فيها ثقل التاريخ وسلطة الأمس الأزلي، بتعبير "فيبر" وحمولته الثقافية والقيمية، وبالتالي إسقاط أي نموذج لعلمانية لا تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية من شأنه استنبات ظواهر مرضية في الاجتماع العربي الإسلامي كالتطرف والاستبداد والعنف، وتجعل من التقاطب مصيرا حتميا، يزيد من حدة وقوة بنيات ما فوق الدولة، لينتج ردات فعل متطرفة تصل حد الاحتراب والاقتتال.

IV.            العنف في الاجتماع العربي نماذج وتطبيقات

سعيا إلى اختبار الفرضيات التي انطلق منها الكتاب في أطروحته المركزية، التي ربطت العنف بمختلف أشكاله بالبنيات السياسية للدولة القومية العربية، يقدم الكتاب في هذا السياق مجموعة من النماذج التطبيقية للعنف في علاقته بقوة الدولة وضعفها في السياق العربي، وبالقراءة الفاحصة لمختلف هذه النماذج يتضح على أن لها قواسم مشتركة كثيرة من حيث آليات إنتاج العنف وتدبيره، والفاعلين فيه؛ فمن خلال الوقوف على تجارب كل من مصر والجزائر وليبيا وسوريا والعراق، تصدق الفرضيات المؤطرة للكتاب، والتي ترافعت عن مركزية المرجع السياسي في بناء أزمة العنف بالدولة العربية.

فقد خلص الكتاب من خلال التجربة الجزائرية إلى سوء الفهم والتقدير المتبادل بين مؤسسات الدولة، والفاعل الإسلامي، سوء التفاهم هذا أدى إلى عنف دامي طوال العشرية السوداء الممتدة زمن التسعينيات بالمجتمع الجزائري، نتيجة إشكاليات التنخيب والتركيز على المقاربة الانقسامية والبعد الثقافي عوض التنخيب بناء على خصائص سوسيوسياسية، وسيادة الإقصاء في تدبير عمليات الانتقال الديمقراطي والاقتصادي للبلاد، والذي أنتج بشكل سببي نوعا من الترهل على مستوى المؤسسات السياسية والاقتصادية، وتفكك البنى المؤسساتية. فضلا عن عدم الإدماج الاجتماعي للأصوات المعارضة ذات المرجعيات الدينية، التي كانت تعاني من نقص حاد على مستوى التعليم والثقافة والوعي السياسي والقدرات التدبيرية للبلاد. إن هذا الإقصاء والنظرة المبتورة من الجانبين حسب الكتاب، ساهم في خلق قطبية حادة بين نظام سياسي فاقد بالقوة للشرعية السياسية والاقتصادية، وتيار الإسلام السياسي الذي ركب الحراك الشعبي واستفاد من فقدان الثقة لدى المواطن الجزائري، ليعلن عن نفسه كبديل شرعي للبنيات السياسية. ينضاف إلى ذلك الهوة الثقافية التي خلفتها القبة الاستعمارية، حيث '' لم تنتج الدولة الوطنية بعد الاستقلال مؤسسات ثقافية وسياسية مشتركة، كان يمكن أن تتعارف داخلها النخب وتتصارع فيما بينها، كمنتوج ثقافي واحد لكل المجتمع وليس لجزء منه فقط ما خلف حواجز نفسية عديدة بين مكونات النخبة...ما زاد من حدة عدواتهم نتيجة لعدم معرفتهم لبعضهم البعض".[14]

في السياق ذاته، يعرج الكتاب على التجربة المصرية التي يرجع فيها العنف إلى ما أسماه "الشعور بفائض القوة" بالنسبة إلى الدولة المركزية وتسلطها وإدارتها لشؤون البلاد والعباد بقبضة من حديد، مع غياب شبه تام للمشروع السياسي القائم على المصالحة أو السياسة التفاوضية، جراء الفراغ السياسي للمعارضة المنهكة التي تم تعويضها بمعارضة ذات نزوع عنيفة.

إن العنف في التجربة السياسية المصرية بحسب الكتاب عنف منظم، بل هو "إرهاب دولة" فمن بين أهم الميكانزمات التي تساهم بها الدولة في إنتاج العنف مقابل القمع عن طريق الاعتقالات التعسفية وسياسات التعذيب، والاختفاء القسري والتصفية الجسدية والقتل خارج القانون، هذه السلوكيات المؤسسة التي تتم من خلال "عمليات مؤطرة سياسيا وقانونيا، جعل من العنف جزءا أصيلا من نمط ممارسة السلطة وليس دخيلا عليها أو استثناء لها".[15]

صحيح أن العنف في التجربة المصرية عنف متبادل بين عنف مؤسساتي وعنف التنظيمات التي استشعرت القمع ومانعته بواسطة تنظيمات عنفية مؤسسة، خاصة بعد أن فشلت التجربة الثورية في إرساء دعائم المدنية والديمقراطية، فاستحالت المعارضة السياسية من منطق السلمية إلى منطق العنف والعمل المسلح. إن العنف في مصر حسب الكتاب تأسيس سياسي (عنف الدولة) وممارسة متطرفة (عنف الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة).

أما النموذج الليبي، فيسعفنا "البراديغم الفيبيري" في فهم مرتكزاته، إذ إن السلطة في ليبيا ذات طبيعة "زعامية" تعتمد منطق الكاريزما والقيادة الأبوية في تدبيرها السياسي، ما جعل العنف وليدا لمركز واحتكار إنتاج هذه الزعامات ذات المنزع القبلي والمرتكز على ثقافة الأصول والتقاليد والمكانات الاجتماعية، بعيدا كل البعد عن طبيعة السلطة السياسية الحديثة المبنية على قيم الكفاءة والإنصاف والتداول وفصل السلط. إننا إذن أمام عنف ليس ضد عنف الدولة، بل هو عنف مضاد لزعامات وشخصيات، عنف مزدوج قائم بين الزعامات البدوية المحاربة، أو ما يسميه الكتاب بالزعامات الطرقية، في مقابل عنف الزعامة العسكرية والبيروقراطية، يزكيه التدخل الخارجي، بعد ضعف وتآكل الدولة المركزية.

ذات الافتراض المرتبط على الأصول السياسية لأزمة العنف في الدولة الوطنية، ينطبق على الحالة السورية والعراقية، أزمة تنهل من ذات المنهل، أي التطرف في سيادة الدولة، وتحويل العنف من صيغته المبررة والمشروعة بتعبير "فيبر" إلى عنف ما فوق الشرعية ومتجاوز للمشروعية؛ فالعنف في كلا النموذجين يعد نتيجة حتمية لقوة الدولة المركزية واستعدادها الدائم لاستعماله في تطويع المجتمع والسيطرة عليه؛ فالمنطق الشمولي والتوتاليتاري لا رادع له ولا مجال للمجتمع وبنياته ومؤسساته في هامش الحرية والفعل الإرادي، فمركزية النظم الشمولية تعلي من قيمة استمرار الدولة ولو على حساب أفراد المجتمع ومواطني الدولة، وهو ما يزداد مع استراتيجيات الإنتاج والإدامة والشرعنة عبر التطييف والتديين، فبرز بسبب ذلك تيارات تكفيرية قامت على نفس الوظائف وانخرطت في الصراع على تأميم الدين وإخضاعه للسرديات السياسية، واستثمرت العنف اقتصادية في أسواق العنف ومأسسة الهويات الطائفية.

 

 

 

    V.            خاتمة :

مجمل القول، وبالنظر إلى واقع الدولة العربية، لا يختلف أحد على الأزمة البنيوية التي يعاني منها المجتمع العربي، وعلى رأس هذه الأزمات معضلة العنف، هذه الأخيرة يسارع الجميع إلى ربطها ميكانيكيا بالسرديات الدينية والمقولات التراثية، في مقاربة أحادية تبسيطية واستسلامية، وقد نجح الكتاب في إثارة الانتباه من خلال مقاربة مزدوجة نظريا عبر مساءلة المرجعيات الفكرية لعلم السياسة، والأطروحات الفلسفية والسوسيولوجية لما بعد الحداثة مع النموذج العلماني، وكذلك باعتماد مقاربة إمبريقية، همت تشريح بنية العنف في المجتمعات العربية، ليخلص باستنتاج مركزي:

-       العنف إشكالية بنيوية في المجتمعات العربية مدخلاته متعددة، ولا يمكن إلغاء أي منها في فهم بنية العنف وانتشاره

-       العنف الفردي المعزول يمكن أن ينتج عن الإحساس بالإقصاء أو التهميش، كما يمكن أن يكون بدافع نفسي صرف أساسه استشعار الفراغ الوجودي

-       يمكن للفهومات المرضية غير السليمة للنص وروحه أن ينتج سرديات دينية مشرعنة للعنف

-       لكن العنف المنظم والمؤطر هو بالأساس عنف سياسي يتطور بالموازاة مع طبيعة الممارسة السياسية ومنطق تدبير العلاقات الاجتماعية داخل الاجتماع العربي والإسلامي، وبالتالي كلما تصاعد القمع والإقصاء والتهميش، إلا وتولد عنه عنف وعنف مضاد مؤطر ومستثمر فيه.

 

[1] - الدولة القوية والضعيفة المآلات بعد الانتفاضات العربية، كتاب جماعي من تحرير: ساري حنفي، وطارق متري، وبمساهمة العديد من الباحثين، صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في طبعته الأولى، شتنبر 2019 ببيروت لبنان، يتألف من سبعة فصول ويقع في 277 صفحة.

[2] Max weber ; le savant et la politique.tr ;j freund coll10/18 ;pp ;125

[3] Pierre clastres. La societe contre l’etat ; edition minuit 1974 ;pp175

[4] ساري حنفي وأخرون، الدولة العربية القوية والضعيفة المآلات بعد الانتفاضات العربية، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2019 بيروت ص 23

[5] نفسه ص 24

[6] نفسه ص 25

[7] نفسه ص 29

[8] نفسه ص 32

[9] ساري حنفي وآخرون، مرجع سابق ص 64

[10] إنزو باتشي، سابينو أكوافيفا، علم الاجتماع الديني، ترجمة عز الدين عناية، مشروع كلمة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث،2011 ص 57

[11] حنفي وآخرون مرجع سابق، ص 69

[12] نفسه ص 74

[13] حنفي وآخرون مرجع سابق، ص 83

[14] حنفي وآخرون مرجع سابق، ص 117

[15] حنفي وآخرون مرجع سابق، ص 133

البحث في الوسم
الكتاب مصطفى بنزروالة