الفتنة الشاملة والاقتتال الشّرعي بين المسلمين


فئة :  مقالات

الفتنة الشاملة والاقتتال الشّرعي بين المسلمين

الفتنة الشاملة والاقتتال الشّرعي بين المسلمين[1]

المقصود بالفتنة الشاملة هو شمول الصراع بين المسلمين المجالين الاجتماعي والعسكري بعد الاقتتال الجزئي بسبب الزّكاة في عهد أبي بكر، وهي صورة مستعادة لحالة الاقتتال القَبَلي قبل الإسلام، ولكن بغطاء ديني. ويمكن التأريخ لبداية هذه الفتنة، إذا استثنينا ما عُرف بحروب الردّة، بمنتصف خلافة عثمان بن عفان (الأمويّ) (ت. 35هــــ/655م) التي بانت سلبيّاتها بسبب اقترانها بالتجربة النّموذجيّة العمريّة السابقة لها. وقد كان لصورة عمر وسيرته الاستثنائية في التاريخ الإسلامي أثر عميق في التعامل مع خلفه وتمثّل صورهم. وتميّزت خلافة عثمان حسب جعيط بسمتين: الأولى مكابرته في محاباته لعائلته، والثانية إفراطه في إباحاته وتسليفاته وتسهيلاته للأمويين[2]. وتجلّت سياسة عثمان الأسريّة في إسناد الولايات الإسلاميّة الكبرى لذويه، إذ عيّن معاوية بن أبي سفيان على الشام، وشقيقه من أمّه الوليد بن عقبة على الكوفة بدل سعد بن أبي وقاص، والحال أنّ الوليد من الطلقاء الذين استسلموا للإسلام عجزاً عن المقاومة يوم فتح مكّة وعبد الله بن سعد بن سرح (أخوه من الرضاعة) على مصر وعبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب على البصرة[3].

تذكر بعض المصادر أنّ عبد الرحمان بن عوف عاتب عثمان على سياسة المحاباة قائلاً: «إنّما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخالفتهما وحابيت أهل بيتك»[4]. وتدفع هذه الأخبار في اتجاه توريط عثمان في تناسي مسؤوليته الأساسية التي أسّسها الرسول ودعمّها أبوبكر وعمر من بعده، والانزلاق في عقليّة التخاصم القَبَلي والتفاخر بالأنساب والالتحاف بالرّابطة الدمويّة الما قبل إسلاميّة. ويربط بعض الناقدين لعثمان هذه الصورة، بما ورد في قوله لعمرو بن العاص المُحتجّ على عزله عن ولاية مصر: «أما والله لأنا أعزّ منك نفرا في الجاهليّة قبل أن ألِيَ إلى هذا السلطان[5]. فأنكر عليه ابن العاص تضييقه لمجال الدعوة المحمّديّة وردّ 'دع عنك هذا، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وهدانا به. فقد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان، فوالله للعاص كان أشرف من أبيك»[6].

إنّ السّمة الأبرز التي طبعت الصراع الإسلامي-الإسلامي في هذه المرحلة هي الروح القبليّة التي حكمت العلاقة بين أميّة وهاشم منذ ما قبل الإسلام. وستتضح معالمها أكثر مع معركتيْ الجمل (36هــــ/656م) وصفّين، بل إنّ هذا الصراع الجديد سيختزل كلّ الصراعات تقريباً؛ لأنّ الأمويين يمثلّون روح العصبيّة القرشيّة بما تمثّله من أهميّة، وبما تحمله من تأثير، والهاشميون منافس تاريخي دعّمت الرسالة النبوية موقفه وقوّت شوكته. وكان أبو سفيان بن حرب شيخ بني أميّة دقّق حقيقة الصّراع وخلفياته وآفاقه بين المسلمين عامّة، وبين هاشم وأميّة خاصّة في أكثر من خبر ورد بالمصادر التاريخيّة. وذكر المقريزي في هذا السياق، أنّه لمّا أفضى أمر الخلافة إلى عثمان بن عفّان «أتى أبو سفيان قبر حمزة فركله برجله ثم قال: يا حمزة إنّ الأمر الذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم وكنّا أحقّ به من تيم وعدي»[7].

تحدّث ابن خلدون عن العصبيّة التي ينبني عليها الاجتماع العربي، فقال: «إنّ عصبيّة مضر كانت في قريش، وعصبيّة قريش في عبد مناف، وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس»[8]. وبرّر صاحب المقدّمة اختيار معاوية لابنه يزيد استناداً إلى هذا المعطى الموضوعي والتاريخي فقال: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه بالعهد دون من سواه، إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة، إذ بنو أميّة يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملّة أجمع وأهل الغلبة منهم»[9].

تجسّم هذا الإحياء في شعار «الثأر لدم عثمان»، فكان هذا الدم «ضاغطاً على التاريخ السياسي طيلة قرنين أو ثلاثة قرون»[10]، بل مؤثّراً إلى حدود العصر الحديث بما انجرّ عنه من انقسامات سياسيّة ومذهبيّة. وجعل مقتل عثمان الصراع بين هاشم وأميّة أكثر قوّةً ووقعاً وتأثيراً في التاريخ السياسي ثم الثقافي للمسلمين، وانعكس ذلك في عدد القبائل المشاركة في معركة صفين، ومنها بكر بني وائل وعبد قيس وتميم وضبّة والرباب وقريش وكنان وأسد وبجيلة وخثعم وخزاعة وكندة وقضاعة ومهرة ومذحج وغيرها من القبائل التي تحدّث عنها نصر بن مزاحم (ت. 212هــــ/827م)[11].

يمثّل هذا التحوّل العنيف في التاريخ الإسلامي إيذاناً باصطباغ التخاصم السياسي والعسكري بصبغة «مقدّسة». فالسلطة مثل المقدّس تقوم على الترغيب والترهيب[12]، وساعد على هذا التحوّل ظهور أم المؤمنين عائشة على ركح الأحداث قائلة: «أطلبوا بدم عثمان تعزّون الإسلام»[13]. وقد دعّم ظهور طلحة والزبير إلى جانبها فكرة الصبغة الدينيّة لطبيعة الصّراع. ويمتلك هذا الثلاثي، حسب جعيط، سلطة هائلةً في نفوس المسلمين، باعتبارهم يمثّلون شرعيّة معنويّة غير مؤسّسيّة تؤهّلهم للحديث باسم الإسلام[14] بحكم ارتباطهم بالرسول واقعاً وتاريخا. وقد أعطى انتساب أم المؤمنين عائشة إلى الرسول زواجاً، وانتساب طلحة والزبير إليه صحبة، وانتساب علي إلى آل بيته قرابة، بعداً «مقدّساً» للصراع بين المعسكرين. وقد وصفت عائشة قتلة عثمان بالبدو النهّابين والعبيد الآبقين[15]، وقالت: «سفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام واستحلّوا الشهر الحرام (الحج)»[16]، وبرّرت خروجها للحرب بطلب القصاص لدم عثمان المظلوم، التزاماً بالشرع[17].

انتصر عليّ الهاشمي في معركة الجمل الدمويّة التي بلغت كلفتها البشرية حوالي عشرة آلاف قتيل[18]، لكنّ الأمر لم يستتبّ لصالحه بعد أن أصرّ معاوية بن أبي سفيان الأموي على خلع الطاعة، وتمسّك بالقصاص لدم عثمان. ويذكر الطبري أنّه وضع فوق منبر الجامع الكبير بدمشق قميص عثمان الملطّخ بالدم يبكيه كلّ يوم ستّون ألف شيخ[19] من أجل تحويل مطلبه، ذي الأبعاد السياسيّة القبليّة، إلى مطلب أخلاقي ديني. واشتدّ الصراع بين الهاشميين والأمويين إلى أن التقى الجمعان في واقعة صفّين. وقد انتهت بمجموعة من الأحداث المهمّة والخطيرة في تاريخ المسلمين، أهمّها خروج جماعة القراء على صفوف علي ومقتله وضعف الخط الهاشمي، ثم انتصار الأمويين وتحويلهم الخلافة إلى مُلك بعد أن تنازل عنها الحسن بن علي لصالح معاوية بن أبي سفيان. ومن أخطر النتائج تعمّق الانقسام القبلي، إذ «يكفي أن يكون سيّد القبيلة من أنصار معاوية لتكون القبيلة كلّها أمويّة الهوى، أو أن يكون في جانب علي (رض) حتى تكون عشيرته علويّة النزعة»[20].

لو تمّ تقييم هذه الأحداث السياسيّة والعسكرية بمعايير هذا العصر وبطريقة موضوعيّة لقيل إنّ انتقال الحكم من زعيم إلى آخر تم في شكل انقلابات سياسيّة وعسكريّة مسنودة بالعامل الاجتماعي (القبلي)، وإنّ ما حدث من اقتتال تحت الراية نفسها والهدف عينه والحجّة ذاتها هو حروب أهليّة، وإنّ الأعداد الكبيرة من القتلى في صفوف المسلمين هي شكل من أشكال الإبادة الجماعيّة في حقّ الأبرياء. ومع ذلك تصرّ الجماعتان السنيّة والشيعيّة على شرعنة ما حدث وتبريره من خلال مجموعة من المرويات والتأويلات البشرية المؤطّرة بسياقها التاريخي المركّب. وقد استمرّ التفكير في الأحداث من هذه الزاوية. ونجد أثره في تقييم التيجاني السماوي الشيعي التونسي المعاصر. وقال في أهل الشام من زاوية مذهبية بمناسبة سماح علي لمعسكر معاوية بورود الماء: «وهذه البادرة الكريمة تكفي وحدها أهل الشام لو كان عندهم شيء من الخلق الكريم أن يدركوا حقيقة كلّ من الرّجلين، وأنّهم بمناصرتهم لمعاوية إنّما يناصرون الشرّ على الخير والباطل على الحقّ والطّغيان على العفو والتّسامح والرّحمة»[21].

عبّر شفيق محمد الموسوي عن الرؤية الشيعيّة لهذه الفتنة بعبارات أوضح تربط السابق باللاحق، فقال: «عندما عادت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بعد مقتل عثمان بن عفّان، وصارت له مقاليد الأمور وحكم الأمّة كلّها بالعدل والسويّة ورسم المنهج الإسلامي القرآني للحكم الإسلامي الصّالح، وساوى بين الفقير والغني وبين الحاكم والمحكوم، ولكنّ بعضا ممن آثروا حبّ الدنيا على الآخرة رفعوا السيف في وجه العدل الذي مثّله علي (ع) ممّا اضطرّه أن يخوض معهم حروباً، فكانت حربه في صفّين ضد معاوية الذي رفض البيعة لأمير المؤمنين علي (ع) واغتصب الحكم في بلاد الشّام جاعلاً من نفسه خليفة على أهلها، وكانت الحرب ضد طلحة والزبير ومعهما عائشة أم المؤمنين في موقعة الجمل، وكانت حرب النهروان ضدّ الخوارج»[22]. هكذا يربط الفكر الشيعي حلقة الفتنة بحلقة السقيفة وبهذا المعنى يقيّم الشيعة الحربين، وعليهما تبنى عقائدهم وتتشكّل أدبياتهم وطقوسهم[23].

[1] - المقال مقتطف من كتاب "التشيع في البلاد التونسية" صلاح الدين العامري، مؤسسة مؤمنون بلاحدود، 2023

[2] - هشام جعيط، الفتنة، جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر، بيروت، دار الطليعة، 2005م، ط5، ص77

[3] - الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج4، ص266

[4] - ابن عبد ربّه، العقد الفريد، القاهرة، 1368هــــ/ 1949م، ج4، ص280

[5] - الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج4، ص330

[6] - م.ن، ج4، ص330

[7] - تقي الدين المقريزي، النزاع والتخاصم فيما بين بني هاشم وبني أميّة، إعداد وتعليق صالح الورداني، القاهرة، الهدف للإعلام والنشر، د.ت، ص71 وانظر كذلك تردّد أبي سفيان في إعلان إسلامه بين يدي الرسول ص ص46-47 من نفس الكتاب.

[8] - ابن خلدون، المقدّمة، دار العودة، بيروت، 1981م، ص382

[9] - ابن خلدون، المقدّمة، ص166

[10] - هشام جعيط، الفتنة، ص144

[11] - نصر ابن مزاحم المنقري، وقعة صفين، القاهرة، 1382هــــ/1962م، ج2، ص118

[12] - تمكن العودة إلى معاني مصطلح سلطة عند جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت- القاهرة، دار الكتاب اللبناني- دار الكتاب المصري، د.ت، ط1، ج1، ص670

[13] - الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج4، ص449

[14] - هشام جعيط، الفتنة، ص170

[15] - الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج4، ص450

[16] - م.ن، ص448

[17] - البقرة: 1 (178-179).

[18] - الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج4، ص513

[19] - م.ن، ص443

[20] - قصي برهان مصطفى الأطرقجي، الاتجاهات السياسيّة للقبائل العربيّة في الكوفة في القرن الأول الهجري، دمشق، ألنايا للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2008م، ص95

[21] - محمد التيجاني السماوي، مؤتمر السقيفة نظرة جديدة في التاريخ الإسلامي، ص204

[22] - شفيق محمد الموسوي، الطّريق إلى كربلاء، بيروت، المركز الثقافي الإسلامي، 1435هــــ/2014م، ط1، ص7

[23] - لمزيد الإحاطة بالرؤية الشيعيّة، تمكن العودة إلى، الشيخ المفيد، الجمل أو النصرة في حرب البصرة، بيروت، مؤسسة المفيد للنشر، 1403هــــ/1983م، ط1