المغرب الكبير: سؤال الهوية والدين


فئة :  مقالات

المغرب الكبير: سؤال الهوية والدين

المغرب الكبير: سؤال الهوية والدين

واجه المغرب الكبير عبر تاريخه وقائع وأحداث سياسية مهمة أثرت على مسار تشكله وتطوره، وأحدثت فيه آثارا لازالت لم تندمل لحد الآن، فقد تعرض على التوالي لأطماع المستعمر واحدا تلو الآخر، إلى أن حل "الفتح الإسلامي" الذي أعاد تشكيل التوليفة السكانية للمجتمع المغاربي، إلا أنه لم يسلم مرة أخرى من الأطماع الخارجية خاصة الفرنسية والإسبانية، فتعرض لحملات صليبية استهدفت كيانه الثقافي والعقائدي، وحاولت زعزعة استقراره السياسي، بل سعت إلى الهيمنة على موارده الطبيعية والمعدنية.

وتحت ظل هذه التهديدات التي واجهها المغرب الكبير، كان دائما ما يستحضر البعد الهوياتي والديني، فهي عناصر تجعل منه كتلة متلاحمة كالإسمنت المسلح ضد كل المحاولات التي تهدد استقراره، لكن رغم ذلك مازال البعد الهوياتي والديني في منطقة المغرب الكبير يعرف إشكالات جمة نتيجة عدة أسباب وعوامل.

الفرع الأول- المغرب العربي أم المغرب الكبير: سؤال الهوية والتسمية

إن مفهوم الهوية من المفاهيم التي حاول معالجتها العديد من المفكرين المسلمين لارتباطها ارتباطا وثيقا بالصراعات السياسية، سواء قديما أو حديثا، فأغلبها تدور رحاها بالعالم العربي بسبب الهوية وإشكالاتها، وفي انعكاس كبير لهذه الإشكالات ارتبط مفهوم الهوية بالتسمية بالمغرب الكبير، فكيف حافظت الدول المغاربية على هويتها؟ وما هي الإشكالات الهوياتية التي تعتريها؟ فمثلا؟ هل اسم "المغرب الكبير" أفضل من "المغرب العربي" أم العكس؟ وهل يمكننا الاعتبار أن التسمية ليست هي المغزى والغاية، وإنما الشعور والإحساس بالانتماء هو المحدد الرئيس للهوية؟

الفقرة الأولى: المغرب العربي وسؤال الهوية

الهوية هي تلك القواسم المشتركة التي اتفقت عليها الجماعة بطريقة غير مباشرة على تمييزها عن باقي الجماعات الأخرى، كما يحيلنا مفهوم الهوية أيضا إلى مجموع السلوكيات والتصرفات والأحاسيس والمشاعر المشتركة التي يسلكها الأفراد في أفعالهم وردود أفعالهم في مقابل المواقف والقضايا التي يواجهونها.

أولا: الهوية المغاربية والمستعمر

ينبغي الإشارة أولا، إلى أن موضوع الهوية أضحى من المواضيع التي طفت إلى الساحة الفكرية السياسية في العقود الأخيرة نظرا للتحولات العميقة التي مست العمق الهوياتي للبلدان العربية نتيجة بروز البعد الحقوقي للهويات الأخرى المشكلة لسكان الدول العربية.

وبناء على هذا، أخذ سؤال الهوية يحتل مكانا محوريا في اهتمامات الكثير من الشعوب في عصر يعرف بعصر العولمة الذي أصبح خطره يداهم كل الخصوصيات الثقافية، لينتج ثقافة أقل ما يمكن القول عنها إنها ثقافة منمطة؛ وذلك في سبيل الهيمنة التي تفرضها الحضارات القوية على الأخرى الضعيفة.

وفقا لهذا المنطلق يصح لنا القول، إن مفهوم الهوية يحمل بين ثناياه إشكاليات معقدة تختلف فيها الرؤى والتأويلات، فالهوية لدى البعض آلية دفاعية متينة تحمي أصحابها من مظاهر الإجهاز وأشكال هيمنة الثقافة الوحيدة، في حين يعتبرها آخرون عقبة وعائقا يحول دون اللحاق بركب الحضارة والاندماج في مسيرة العولمة، كما يدعو صنف ثالث إلى أهمية أن تتسم الهوية بقدر من التفتح والتجدد والاغتناء([1])، ومؤدى ذلك، ارتباط انعكاسات الهوية في مجتمع ما دائما بدرجة التقدم والتخلف وبمستوى التفتح والانغلاق أو بالتبعية أو الاستقلال أو الاندماج.

وسبقت الإشارة إلى أن المكون الهوياتي شكل على صعيد المغرب العربي تجاذبا سياسيا واجتماعيا بين الحركات الوطنية في بلدان المغرب العربي والمستعمر، فقد ركز الاستعمار في المغرب العربي خلافا لنظيره في المشرق، على الهوية وعلى الإجهاز على كل ما يرمز إليها أكثر من تركيزه على الأرض وتقسيم التراب([2])، فعمد المستعمر على إقبار هوية الشعوب المغاربية، وأمعن في محاولة طمسها وإيجاد لها عراقيل كي لا تعمل كمحرك رئيسي لتلاحم وترابط الشعوب المغاربية.

وبخلاف ما سبق، خابت توقعات المستعمر، حيث شكلت الهوية أرضية أساسية ومحورية لتأسيس البعد النضالي عليها، سواء ارتبط بالقومية العربية أو بالبعد الديني الإسلامي، ويكفي الإشارة إلى أن فرحات عباس مثلا، الذي كان يعتبر أن مستقبل الجزائر في فرنسا، رفض رفضا باتا التنازل عن الأحوال الشخصية الإسلامية والتمتع بحقوق المواطنة الفرنسية.

ومن أجل ذلك، ذهب الجيل الأول والثاني من الحركة الوطنية في بلدان دول المغرب العربي إلى الاتجاه نحو إصلاح اللغة والتعليم كمدخل أساسي ومهم للحفاظ على البعد الهوياتي وعلى مقومات الشخصية المغاربية.

ومما لا ريب فيه، أن المغرب وتونس آمنا أن استقلال الجزائر مطمح لا نقاش فيه، وقاما بعمل جبار لمساعدة القيادة الجزائرية، حتى إن المغرب رفض التفاوض مع فرنسا حول المناطق الصحراوية والحدود إلى أن تستقل الجزائر، فتونس والمغرب ترى أن احتلال فرنسا للمغرب الأوسط يشكل تهديدا حقيقيا مستمرا لهويتها الإسلامية ولامتدادها في شمال إفريقيا، فغني عن البيان أن المغرب وتونس اعتبرا أن استقلالهما ناقص ما لم تستقل الجزائر. لاعتبار واقعي ملموس هو أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان هو المنطلق لاحتلال تونس والمغرب، واستمرار فرنسا في المغرب الأوسط هو تهديد للمغربين الأدنى والأقصى من جديد. وليس سرًّا أن فرنسا أرادت بتسوية سياسية مع البلدين المذكورين أن تتفرغ للجزائر، وهذا واضح في مذكرات إدغار فور([3]).

ثانيا: إشكالات الهوية ببلدان المغرب الكبير

ظهر موضوع الهوية بعد استقلال بلدان المغرب العربي بحلّة إشكالية أخرى، فلعل المفارقة المثيرة للانتباه، أن ما كان يعد انتهاكا وإجهازا على الهوية زمن الاستعمار، ولاسيما ما تعلق منها بالدين واللغة، أصبح زمن الاستقلال وصيرورة بناء الدولة الوطنية أمرا عاديا، بل يلقى تشجيعا ودعما من طرف النخب القائدة، وتفسير ذلك أن الإيديولوجيات الوطنية ذات المضامين العروبية والإسلامية، التي تصدت للاستعمار، واستلهمت مخزون الهوية في الكفاح الوطني غيرت لبوسها بعد الاستقلال، واتخذت من النموذج ذي المرجعية الفرنسية مضمونا جديدا، باسم تأطير مشروع التنمية والتحديث والسعي إلى إنجازه([4]).

ومن المؤكد أن انتشار الإسلام السياسي في البلدان المغاربية لمؤشر رئيس على وجود صدمة اجتماعية ثقافية أحدثها المستعمر، واكتملت أركانها بالتوجهات السياسية التي تبنتها مختلف الدول المغاربية بعد الاستقلال، وقد تجسد هذا الانقسام الفظيع في أحداث العشرية السوداء بالجزائر التي نتجت بسبب التمايز الحاصل بين الإسلاميين والعلمانيين حول شكل الدولة وهويتها من حيث القانون والحريات، بالإضافة إلى ظهور حركات راديكالية إسلامية إرهابية حاولت إثبات ذاتها ووجودها من خلال تفجيرات انتحارية وعمليات إرهابية.

وعلى الرغم من أن العنصر الديني المتمثل في الإسلام يعتبر عنصرا مشتركا بين مختلف الأطياف واتجاهات المجتمعات المغاربية، كما كان بمثابة صمام أمان ضد تدخلات الأجنبية في البلدان المغاربية، إلا أن توظيفه في الحياة السياسية من طرف بعض الفواعل السياسية خلق مشاكل جمة داخل المجتمع.

ومن الواضح، أن هذا الأمر طفا جليّا في الجزائر وأيضا في تونس بعد انهيار نظام بنعلي، في حين أن الدولة في المغرب حافظت إلى أبعد مدى على البعد الهوياتي الديني بعيدا عن التجاذب السياسي والإيديولوجي المجتمعي بفضل الخطوات التي قطعتها في تحديث المجال الديني، وكذا احترام المغاربة لإمارة المؤمنين وللنسب الشريف للملكية التي لعبت دور الحامي والضامن للدين الإسلامي عبر التاريخ.

إجمالا، شهدت المجتمعات المغاربية تغيرات وتحولات جذرية في بنيتها الاجتماعية بعد الاستقلال نتيجة عدة عوامل من بينها ارتفاع عدد سكان المدن المصحوب بالتزايد الديمغرافي المتسارع، والذي لم تستطع الدول المغاربية مواكبته ومسايرته اقتصاديا واجتماعيا، مما أثر على السلوك الفردي الذي اتجه نحو انتماءات هوياتية جهوية بدل التفاعل مع المؤسسات الوطنية والانصهار في هوية جماعية وطنية محددة.

وفي ظل هذا الوضع، انتقلت العلاقات بين أفراد المجتمعات المغاربية إلى الارتهان نحو الانتماءات الأولية ذات الطابع الجهوي، نظرا لاتساع خيبة الأمل من المؤسسات الوطنية وتزايد مظاهر عدم الاعتراف السياسي وعدم الثقة في المؤسسات القائمة والرسمية، حيث انتصرت الانتماءات الأولية وكان لها الأولوية في الكثير من الوضعيات والمناسبات على حساب تطوير قيم المواطنة والانتماء إلى الجماعة الوطنية الموحدة([5]).

ومن النافلة القول، إن الدولة في البلدان المغاربية نجحت إلى حد بعيد بالمقارنة مع دول أخرى في احتواء الشعور بالبعد الهوياتي المنفصم لدى الحركات والتنظيمات التي كانت تتأسس إيديولوجيتها على خطاب انفصالي، رغم مطالبتها الاعتراف بالخصوصية الثقافية.

لكن، هذا لم يمنع من ظهور أحزاب وحركات انفصالية راديكالية، فهذا التصدع الجهوي مقابل المركز لم يظهر بوضوح، حيث لم تبرز أحزاب وحركات انفصالية قوية، باستثناء حركة الماك في بلاد القبائل في الجزائر أو بعض الجهات غير الرسمية في منطقة الريف المغربي، ورغم أنه يظهر أحيانا في شكل حركات اجتماعية ذات خصوصية محلية، فإن التمايزات الجهوية في مثل هذه الوضعيات ساعدت على تحول بعض الجهات إلى أن تكون معقلا لأحزاب المعارضة الجهوية كما في الجزائر([6]).

فنرى من جهتنا، أن النمط الثقافي الذي تبنته الدولة بعد الاستقلال من حيث سياستها التعليمية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، أنشأ هذا الاختلاف الهوياتي المشوب بعدم الاعتراف بالآخر أو المتجه نوعا ما إلى الركون إلى الذات أوفي أقصى الحالات ظهور نزعة إقصائية.

فعلى سبيل المثال، هناك تعارض وصراع غير مباشر في المغرب والجزائر بين مطالب الحركة الأمازيغية التي تدعو إلى الاعتراف الرسمي بلغتها وبخصوصيتها الثقافية، وبين اتجاه آخر يمانع تلك المطالب ويصفها بالانفصالية.

لكن بعد الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية كلغة رسمية انتكس النقاش والجدال حول الموضوع، فعندما أدرج المشرع الدستوري اللغة الأمازيغية في المغرب والجزائر ضعف هذا الخطاب الإقصائي، وحلّ مكانه خطاب يشكك في جدوى المطالب الهوياتية المتعلقة بالأمازيغية، في حين تبدو تونس بعيدة عن هذا الاختلاف الهوياتي مقارنة بالمغرب والجزائر نظرا لقلة عدد الأمازيغ فيها وأيضا للانصهار العميق الذي عرفته خلال السياسة العلمانية التي اتبعها بورقيبة بعد الاستقلال.

ولا داعي للتأكيد، أن الصراع الثقافي العلماني الإسلامي يرمي بظلاله على المطلب الامازيغي في الاعتراف الهوياتي داخل المجتمعات المغاربية، فكل طرف له تأويلاته وأفكاره الخاصة حول الوضع الأمازيعي في سياق الهوية وارتباطها بالمجتمع والدولة.

بشكل عام، حسب المشهد السياسي وما يحمل من اتجاهات وتوجهات يلاحظ أن الأحزاب اليسارية العلمانية تنحو نحو تقبل والاعتراف بالخطاب الأمازيغي حول الهوية، في حين أن الأحزاب الإسلامية أو ما شكل من إسلام سياسي تتجه إلى الممانعة في ذلك، لأنه في جوهره يمسّ عمق الطابع الإسلامي والعربي للدولة في البلدان المغاربية.

فكلّما كان الفرد علمانيا وفرنكفونيا، كلما كان لديه تقبل لفكرة التعددية الثقافية والمطالب الهوياتية الأمازيغة، وكلّما كان الفرد إسلاميا كلما كان قريبا من خطاب القومية العربية والعداء والتشكيك في وجود الأمازيغية وشرعية المطالب الهوياتية لديها([7])، لكن هذه الفكرة تبقى نظرة عامة حول توجهات الفاعلين السياسيين والمدنيين، ولا يمكن اعتبارها حقيقة مطلقة تنطلي على جميع الأفراد، فداخل الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني، سواء العلمانية اليسارية أو الإسلامية هناك أطياف متشددة وأخرى معتدلة لها آراء مختلفة.

الفقرة الثانية: المغرب العربي أم المغرب الكبير

ظهر اسم "المغرب الكبير" بدل "المغرب العربي" في العديد من الدراسات الأكاديمية أو في تصريحات المسؤولين داخل الدولة، ولعل ذلك مرده، إلى تطور الوعي الثقافي في المجتمعات المغاربية إلى حد الاعتراف بالآخر في التسمية، فمكونات المجتمعات المغاربية لا تتضمن فقط العنصر العربي، بل هناك أيضا العنصر البربري، فلماذا المغرب العربي؟ ولماذا المغرب الكبير؟

أولا: المغرب العربي

من المعلوم أن التاريخ الحضاري للمنطقة المغاربية بدأ مع المرحلة الفنيقية في القرن العاشر قبل الميلاد، ثم توج بالفتح الإسلامي الذي استطاع أن يدمج الإنسان البربري والإنسان العربي، رغم اختلاف العادات والتقاليد في شخصية إنسانية واحدة.

وإذا عدنا إلى فكرة الاتحاد بين بلدان المنطقة في كيان واحد، سنجد أنها تبلورت في أول مؤتمر للأحزاب المغاربية المنعقد بطنجة بتاريخ 1958/04/28-30، والذي ضمّ ممثلين عن حزب الاستقلال المغربي والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائري، ثم توجهت المساعي والمحاولات في هذا الاتجاه، فأنشأت اللجنة الاستشارية للمغرب العربي سنة 1964.

ومن هذا المنطلق، أبرمت بعض المعاهدات من أجل التكامل والتعاون مثل بيان جربة الوحدوي بين ليبيا وتونس 1974، ومعاهدة الإخاء والوفاق بين الجزائر وتونس وموريتانيا سنة 1983، ومعاهدة مستغانم بين ليبيا والجزائر، فضلا، عن إصدار بيان زرالدة الذي عبر عن محاولة إنشاء الاتحاد المغاربي، على إثره تكونت لجنة لتحقيق الوحدة التي اجتمعت بمدينة الجزائر سنة 1988، وفي 1989/02/17 أعلن عن قيام اتحاد المغرب العربي بقمة مراكش من قبل خمس دول وهي المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، موريتانيا.

استنادا إلى هذه المحددات، طرحت مؤخرا إشكالية التسمية بما تحمل من دلالات ومعاني قومية تعبر على المعيار العرقي كأساس في بناء المغرب العربي وارتباط المنطقة بالشرق العربي، وهذا ما تؤكده وثائق الاتحاد، فبلاغ مراكش الذي حرر بتاريخ 17 فبراير 1989 نجد في أحد فقراته ما يلي: "انطلاقا مما يجمع شعوبنا من وحدة الدين واللغة والتاريخ ووحدة الأماني والتطلعات والمصير، واستلهاما من أمجاد أسلافنا الذين ساهموا في إشعاع الحضارة العربية الإسلامية وإثراء نهضة ثقافية وفكرية كانت خير سند للكفاح المشترك من أجل الحرية والكرامة، وتجسيدا لإرادتنا المشتركة التي عبرنا عنها في قمة زرالدة بالجزائر، والتي شكلت انطلاقة جديدة للبحث عن أفضل السبل والوسائل المؤدية إلى بناء صرح المغرب العربي".

وارتباطا بذلك، جاء في ديباجة المعاهدة التأكيد على وحدة المكون الديني واللغوي والتاريخي، فالقادة الموقعون على المعاهدة يقرون أن "إيمانا منهم بما يجمع الشعوب المغرب العربي من أواصر متينة قوامها الاشتراك في الدين والتاريخ واللغة، واستجابة لهذه الشعوب وقادتها من تطلع عميق ثابت إلى إقامة اتحاد بينها، لتسير تدريجيا نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها".

وقد حددت المادة الثالثة من المعاهدة على أن السياسة المشتركة تهدف في الميدان الدولي إلى تحقيق الوفاق وإقامة التعاون الدولي. أما في المجال الاقتصادي، فهمّت المعاهدة تحقيق التنمية الصناعية والزراعية والتجارية وإنشاء مشروعات مشتركة، أما في الميدان الثقافي فقد نصت على "إقامة تعاون يرمي إلى تنمية التعليم على كافة مستوياته، وإلى الحفاظ على القيم الروحية والخلقية والمستمدة من تعاليم الإسلام السمحة، وصيانة الهوية القومية العربية، واتخاذ ما يلزم اتخاذه من وسائل لبلوغ الأهداف".

ويجدر التذكير هنا على سبيل المثال، أن فريق حزب الأصالة والمعاصرة بغرفة المستشارين تقدم بمقترح تغيير اسم "وكالة المغرب العربي للأنباء" أثناء جلسة عمومية يوم 13 فبراير 2018 في إطار مشروع قانون يحمل رقم 15.02 المتعلق بإعادة تنظيم الوكالة، لكنه قوبل بالرفض من قبل الأغلبية معتبرين أن التسمية ليست موضوعا ذا أهمية.

وعلى الرغم من أن وكالة المغرب العربي للأنباء اعتمدت الأخبار الأمازيغية على موقعها الرسمي الذي يساهم لا محالة في التعريف بالمنتوج الثقافي الأمازيغي المغاربي، إلا أنه يعاب عليها أنها تحمل تسمية "المغرب العربي"، كوكالة رسمية طابع الهوية المهيمنة داخل بلدان المغرب الكبير.

وصلة بذلك، لا زالت الجهات والمؤسسات الرسمية للدولة بمختلف بلدان المغاربية تفضل تسمية المنطقة بالمغرب العربي، ولعل هذا التداول المتكرر يعكس نوعا من الرغبة في تأكيد مشروعية العبارة ومقومات تغييرها، أو في استفزاز الأطراف والأفراد الذين يرون في هذه التسمية نزوعا عنصريا وإقصائيا لا ينسجم والواقع الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي يطبع البلدان المنتمية إلى هذه الرقعة بشمال إفريقيا([8])، وعلى كل حال، فأغلب الوسائل الإعلامية إن لم يكن جلّها وكذلك الأحزاب السياسية وغيرها من التنظيمات، توظف عبارة المغرب العربي وتؤكد على البعد العربي كعنصر وحيد في تكوين الهوية المغاربية.

ثانيا: المغرب الكبير

في البداية ينبغي الإشارة، إلى أن العاهل المغربي استعمل في خطاب ألقاه أمام أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بتاريخ 2014/05/13 مصطلح المغرب الكبير عوض المغرب العربي، حيث جاء في هذا الخطاب"إن الاتحاد المغاربي لم يعد أمرا اختياريا، أو ترفا سياسيا، بل أصبح مطلبا شعبيا ملحا وحتمية إقليمية استراتيجية، لكل هذه الاعتبارات، ما فتئنا ندعو، منذ سنوات إلى انبثاق نظام مغاربي جديد، على أساس روح ومنطوق معاهدة مراكش التأسيسية، التي أكملت عامها الخامس والعشرين، نظام يتيح لدولنا الخمس مواكبة التحولات المسارعة التي تعرفها المنطقة، وفق مقاربة تشاركية وشاملة كفيلة برفع مختلف التحديات التنموية والأمنية، ومن هنا فإن دول المغرب الكبير مدعوة أكثر من ذي قبل، إلى التحلي بالإرادة الصادقة لتجاوز العقبات والعراقيل المصطنعة التي تقف أمام الانطلاقة الحقيقية لاتحادنا".

يستشف تبعا لما سبق بيانه، أن إشارة العاهل المغربي إلى التسمية الجديدة "المغرب الكبير" يمكن اعتبارها على أنها تأكيد على واقع هوياتي تعرفه المنطقة المغاربية، وتنسجم مع الدستور المغربي لسنة 2011، حيث جاء في ديباجته أن المملكة المغربية، الدولة الموحدة، ذات السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير تؤكد وتلتزم بالعمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي.

في هذا السياق، شهدت الساحة الحقوقية بالمغرب وخاصة الحركات الأمازيغية انتعاشا حقوقيا، دفعها إلى المطالبة بتغيير الاسم من المغرب العربي إلى المغرب الكبير لاستيعاب الهوية الأمازيغية، فالإنسان الأمازيغي كان في شمال إفريقيا قبل العرب، كما أن مصطلح المغرب العربي أتى في سياق استعماري للتعبير عن تحرر لمنطقتي المشرق العربي والمغرب العربي.

في حين يتجه بعض الأكاديميين إلى تخفيف من حدة كلمة العربي مع منحها قيمة تاريخية لا يمكن الاستغناء عنها، فالعروبة لها امتداد تاريخي أملته الوقائع السياسية كما أنها منحت دول المنطقة بعدا وعمقا استراتيجيا في علاقاتها مع أوربا وإفريقيا والشرق العربي، فالتخلي عنها يعني بالضرورة تقوقع هذه الدول على نفسها وضياع البعد التاريخي لها.

لكن غالبية الباحثين والأكاديميين في السنوات الأخيرة، اتجهوا نحو تثبيت اسم المغرب الكبير في أبحاثهم وكتبهم، فالملاحظ أن الاعتراف باختلاف الهويات داخل المغرب الكبير، أخذ شيئا فشيئا يجد موطأ قدم في الفكر المغاربي، مما يسمح بالقول إن كلمتي المغرب الكبير ستصبح الأكثر تداولا والأكثر استعمالا مستقبلا من كلمتي المغرب العربي.

أما الفاعلين السياسيين في دول المغرب والجزائر وتونس، فقد احتضنوا فكرة "المغاربية" منذ الاستعمار، حيث تأسست جمعيات وحركات تدعو إلى الوحدة المغاربية بجانب نضالها ضد المحتل الفرنسي والإسباني، فتم انطلاق اتحادات وخطوات وحدوية كثيرة، من قاعدة ثلاثية تضم تونس والمغرب والجزائر، نذكر من بينها ميلاد جمعية شمال إفريقيا للطلبة المسلمين التي تأسست بفرنسا الدولة المستعمرة للأقطار المغاربية، سرعان ما برز من بين مؤسسيها ورؤسائها سياسيون كبار، ما حولها إلى مشتل مغاربي لتخريج الأطر الوطنية التحررية، ذات الانتماء المعلن إلى المغرب الكبير([9])، وقد برز بالفعل مناضلون حملوا راية المقاومة فكرا وممارسة من بينهم أحمد بلا فريج وعلال الفاسي وعمر بنجلون من المغرب وصالح بن يوسف وغيرهم من تونس وأيضا مالك بن بني وأحمد فرنسيس رفيق فرحات الذي عين أمينا دائما في مؤتمر طنجة لوحدة المغرب العربي في 1985([10])، لكن الجانب الهوياتي المتمثل في الاعتراف بالمكون الأمازيغي والقبايلي لم يكن مطروحا آنذاك، ولم تكن تسمية المنطقة هاجسا يفرض نفسه بحدة، لهذا نجد غياب أفكار واضحة حول ذلك.

وارتباطا بذلك، فالحاضر ليس كمثل الماضي، فجل التنظيمات السياسية الآن لها آراء وتوجهات مختلفة نحو الفكرة المغاربية، ولعل الأوضاع التي تشهدها الدول المغاربية بعد 2011 ترسم قراءة متشائمة ومتأزمة للحاضر المغاربي البعيد كل البعد عن التكامل والانسجام الذي ترغب فيها المجتمعات المغاربية.

ويبدو ذلك واضحا في خطابات الأحزاب السياسية، فالحلم المغاربي أصبح من ذكريات الماضي، ففي تصريحات لرئيس حركة النهضة في تونس يدعو إلى ائتلاف بين تونس والجزائر وليبيا مقصيا المغرب من ذلك، وقد جاءت دعوته إثر توقيع المغرب لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وفي نفس منحى الخطاب التصاعدي الداعي إلى التفرقة، دعا من الجزائر عبد الرزاق المقري رئيس حركة مجتمع سلم، بالتنفيذ الفوري لفكرة اتحاد الجزائر وتونس وليبيا هادفا إلى عزل المغرب عن باقي الدول المغاربية.

ولعل ظهور خطاب الأحزاب الإسلامية الجزائرية والتونسية الذي يدعو إلى عزل المغرب بناء على توجهات دينية ترى في التطبيع خيانة كبرى لا يمكن مجاراتها أو التسامح فيها، لأكبر دليل على أن الوازع الديني يشكل مركز ثقل ووتر حساس في تحديد مدى التقارب والتباعد بين المجتمعات السياسية المغاربية.

بشكل عام، يمكن أن نستنتج أن الإشكالية الكبرى التي تعاني منها بلدان المنطقة ليس في التسمية فقط، فهذه الأخيرة تبقى مجرد تعبير رمزي عن حمولة تاريخية تفاعلية تنتج واقعا سياسيا يتغير بتغير مراكز القوى السياسية، وهذا ما يجعل الفكرة المغاربية تظهر وتختفي، فيبدو أن حلم المغرب الكبير تحدده مجرد تحالفات ضيقة تنحاز إلى مصالح خاصة تطمح لها كل دولة من دول المغرب الكبير.

الفرع الثاني: المغرب الكبير: الدين والدولة.

إن الحديث عن الدين بالمغرب الكبير يستلزم دراسات مستوفية وجامعة لجميع الأحداث التي عرفتها المجتمعات المغاربية والمتعلقة بالبعد العقائدي والروحي، وهذا يتطلب مسارا آخر ليس مسارنا الذي حددناه في هذا البحث، لهذا سنكتفي بأهم الوقائع التي ميزت مساره التاريخي الديني والتي اعتبرت وقائع مفصلية في حياته الاجتماعية والسياسية قبل دخول الإسلام وبعده، والتي يمكن على أساسها تحليل مراحل بناء الدولة وعلاقتها بالدين بدول المغرب الكبير ورصد أهم تمظهرات الدولة المدنية في القسم الثاني من البحث.

الفقرة الأولى: الدين بالمغرب الكبير قبل الإسلام

كانت المجتمعات القديمة تتخذ من الأوثان والحيوانات وأشياء الطبيعة آلهة لها؛ لأن الإنسان محكوم بغريزته الضعيفة تجاه قوى الطبيعة وما توحي من دلالات على وجود آلهة عظيمة خلقت الإنسان والكون.

وعلى غرار ذلك، كان دين السكان الأولين في المغرب الكبير وثني بسيط، فوضع هؤلاء الناس دينا يعتقدونه آلهة يعبدونها، فكانوا يعبدون من الشمس والقمر وبعض الحيوانات منها الثور والكبش والبقرة([11])، ولا غرابة أنهم تأثروا بدين المشرق، الدين كان في الغالب يتمثل في عبادة الشمس كالمصريين واليمنيين؛ لأنهم هاجروا من المشرق إلى المغرب، فأخذوا معهم معتقداتهم الدينية وتأثروا بها.

وفي هذا الإطار، وجدت أثار تدل على أنهم كانوا يدفنون الميت وهو جالس قرفصاء ولحياه إلى ركبته، وهو ما فسر أنهم كانوا يؤمنون بالحياة مع بعد الدنيا أي بالبعث والنشور، فتلك الوضعية تشبه وضعية الجنين الذي سيولد وسيحيي بعد حياة دنيوية، كما كانوا يدفنون مع الميت أدوات طعامه وشرابه وبعض أشياء الزينة ليجدها حين نشوره وفي حياته الثانية([12])، فرغم دينهم الوثني إلا أنهم يعتقدون بوجود حياة أخرى في عالم آخر.

وبعد ذلك استوطن جنس آخر المغرب الكبير مع أبناء يافت، وهم البربر الذين تميزوا بعدة خصال وبقوة شخصيتهم وبتنظيمهم في جماعات ذات ثقافات معينة، في هذا الصدد يقول علي دبوز: "إن هذا الجيش العتيد العزيز الذي فاض على السكان الأولين فصيرهم قطرة في بحره هو جيش البربر العتيد"([13])، الذي أتى من الشام هاربا من القتل والموت في الحرب التي كانت سائدة هناك آنذاك.

ارتباطا بذلك، تعددت الدعوى على أهل البربر من الأوربيين حيث اعتبروهم خليطا من الأجناس، وأن الرومان والإغريق اختلطوا بهم وأثروا في دمائهم، وأخذ البربر عادات الجماعات الأخرى وكذلك مارسوا طقوسهم الدينية.

ومن جانب آخر، كانت الحملات العسكرية التي قادتها الجيوش الإغريقية والرومانية على قرطاجة تحمل معها مشاهد وصورا عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية بمنطقة المغرب الكبير، فقد اجتاز القائد الإغريقي أغاطو قبل سنة 310 ق.م البحر لهزم القرطاجيين، وكذلك القائد الروماني ريغولوس سنة 236 ق.م، "فتكون هذه ثاني منافسة يصف لنا فيها المؤرخون أحوال البربر المجاورين لقرطاج"([14]).

وبعد أن دمرت مدينة قرطاج سنة 146 ق.م، قسم المغرب الكبير أو إفريقيا قديما إلى ثلاثة مناطق، منطقة تحكمها روما ومملكتين شبه مستقلتين، وبعد انتهاء الحروب التي خاضوها، حكمت روما إفريقيا لوحدها إلى أن انفصل شمال المغرب الأقصى عن الحكم الروماني سنة 180م.

وفي هذا السياق، فلا جدال أن تاريخ المسيحية في إفريقيا آنذاك خضع لإملاءات السياسية نتيجة الصراع حول السلطة([15])، لهذا اختلف الباحثون في التاريخ حول توقيت انتشار المسيحية في المغرب، فمنهم من يعتبر القرن الثاني بعد الميلاد، ومنهم من يذكر القرن الثالث بعد الميلاد.

ومما لا شك فيه، أن المسيحيين كانوا لا يطيقون إمبراطورية روما ويعادونها، وكذلك الأساقفة المغاربة، فتحالفوا معهم، فتهافت المغاربة على الحركة الدوناتية نسبة إلى الأسقف دونات المنشقة وأعطوا لكنيستهم المحلية صبغة قومية واضحة دون أي اعتبار لمفهوم الكثلكة؛ أي الجماعة، محور كل مسيحية تكيفت مع واقع التفاوت الاجتماعي([16])، فانتشرت الدعوة الدينية إلى المدن الداخلية وبعد ذلك انتقلت إلى المدن الساحلية، وبعد تحالف المسيحية مع سلطة روما تغير ميزان القوة، لينعكس على التحالفات الدينية بالمنطقة.

تميزت الحركة الرومانية بسعيها إلى تحقيق أهداف اجتماعية ثورية، مما حدا بأوغسطين إلى التوجس والرعب منها، فقاد معارك ضدها لإخماد انشقاقها دفاعا عن الكاثوليكية وهو ما تحقق له سنة 412م. أما في سنة 439م، فقد احتل الوندال المنطقة، لكن الكنيسة سرعان ما قامت بطردهم بمساعدة البيزنطيين، بعد ذلك عادت المنطقة إلى حاضرة الإمبراطورية ففقدت الكنيسة الاستقلال الذي ما فتئت تحارب من أجله منذ أواسط القرن الثالث([17]).

وتبعا لذلك، عرفت الإمبراطورية الرومانية التقسيم إلى جزأين، كل جزء به عاصمة تمثله، فالجزء المشرقي عاصمته قسطنطينة والجزء الغربي عاصمته روما، بفعل تدخل الجماعات الجرمانية في الأراضي الرومانية، فكان الوندال أول من اجتازوا البحر([18])، فاحتلوا المغرب الأوسط ثم استولوا بعد ذلك على قرطاج سنة 439م، ثم سقطت روما سنة 445م، فكان الوندال بالفعل يعتبرون أنفسهم ورثة الروم في كل شيء، لم يتخطوا حدود إفريقيا الرومانية ولم يغيروا شيئا من تنظيماتها، لكنهم ورثوا مع السلطة معضلات إمبراطورية متداعية([19]).

وكما أسلفنا الذكر، استعانت الكنيسة بالجيش البيزنطي الذي انتصر سنة 533م، فاسترجع الأراضي المغاربية، وحل محل الونداليين في الأراضي والعقارات ورجع رؤساء الكنيسة يطالبون بممتلكاتهم وعقاراتهم المفقودة، فحل الغالب محل المغلوب في ضيعته، بين أزواجه وخدمته، ورث البيزنطيون المال والعقار وورثوا كذلك المشكلات السياسية والعسكرية([20])، وفي هذا الصدد، يذكر المؤرخون أن البربر لم يستسيغوا حكم الوندال قبل مجيء البيزنطيين فقاموا بهجمات متوالية عليهم، فلم يفلحوا في بسط سلطتهم على أراضي المغرب الكبير.

وعلى كل حال، فمنذ الدعوة المسيحية وانتشار الدين الجديد في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد في المدن الساحلية المغاربية، وأيضا المدن الداخلية سواء بين الرومان أو الوندال أو بين البربر والوندال، كانت للكنيسة أدوارا مهمة في تأجيج الصراعات والحروب بينهم، وقد واجه الوندال باستمرار خطرين الأول خارجي متمثل في إمبراطورية الشرق والثاني داخلي متمثل في الكنيسة الكاثوليكية، لذا اكتست كل الأزمات داخل إفريقيا صبغة دينية([21]).

من ثمة، عرفت مناطق المغرب الكبير في حكم البيزنطيين بعد موت الإمبراطور يوسطينان (527/565) كوارث مست الجيش والكنيسة، فأصبح رجالات الجيش والكنيسة يحكمون إفريقيا، فتوزعت السلطة المركزية بينهم فحل الظلم والاستغلال والخلاف فكانت الظروف جد مواتية لفتح إفريقيا من طرف العرب، هكذا تعاقب على حكم المغرب الوندال من 429م إلى 533م، ثم البيزنطيون من 533م إلى 649م، ثم العرب ابتداء من 649 م([22]).

وحلّ الفتح الإسلامي، فرحّب البربر به، وامتزجوا مع العرب واختلطوا معهم، وتشبعوا من دينه، وفتحت صدورهم له، حتى إنهم كانوا أشداء أقوياء في الحروب على الصليبين، ولعل مساهمتهم في نشأة وتطور الدولة المرابطية لخير دليل على ذلك.

الفقرة الثانية: الإسلام وتوحيد الدولة بالمغرب الكبير

يعتبر دخول العرب إلى بلاد المغرب الكبير فاتحين باسم الدعوة الإسلامية ونشر الدين الإسلامي مرحلة جديدة حاسمة، فكانت القطيعة الفكرية والثقافية مع ما كان سائدا سابقا، ورغم وجود عراقيل عرفها المسلمون في البداية أثناء حملة عمرو بن العاص وكذلك حسان بن نعمان، من قبيل صعوبات التضاريس المتميزة بالجبال عكس الشرق العربي، وكذا تكتل بعض القبائل البربرية لصدِّ الفاتحين، إلاّ أن تمكن الإسلام من قلوب البربر أدى إلى استقرار الأمور بيد العرب المسلمين، وتم نشر الإسلام في باقي ربوع المنطقة، كما أن قادة بربر حملوا لواء نشر الإسلام بعد ذلك في مناطق مختلفة ومنها الأندلس كالقائد طارق بن زياد.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، محافظة الشخصية المغاربية على تميزها ووجودها رغم استمرار الاستعمار الروماني والبيزنطي لحوالي سبعة قرون أي ما يقارب 691 عاما، فقد رفضت كل شكل من أشكال الاندماج رغم المحاولات المتكررة الدؤوبة للمستعمر، فرغم محاولة نشر المسيحية في عهد الاستعمار من خلال إنشاء المراكز الدينية وتنظيم الحملات التبشيرية، لم يستطع ذلك أن يلامس العمق الروحي للإنسان المغاربي، في حين اندمجوا مع العرب، وتقبلوا دينهم، فامتزجت الشخصية البربرية مع الشخصية العربية لترسم ملامح ثقافة متميزة لشخصية مغاربية كانت تواقة ومستعدة لاحتضان أي محاولة للوحدة بين شعوب المنطقة، وهو ما تأتى مع الدولة الموحدة.

وفي هذا السياق، يقول المؤرخ سعد الله أبو القاسم حول تجربة الوحدة التي عاشتها بلدان المنطقة "وفي مجال الاندماج الحضاري، فهم الأجداد أكثر منا أنه لا مناص من الوحدة ومن العيش داخل حدود واحدة، وهي حدود دار الإسلام، كما حددتها الشريعة والثقافة الإسلامية، فبعد سقوط الدويلات العائلية والمذهبية الإدريسية والرستمية، جاء العبيديون والمرابطون والموحدون، الذين كان قادتهم يؤمنون بالوحدة ويعملون من أجل تجاوز حدود المذهب والعائلة؛ لأن رؤيتهم كانت إسلامية بالدرجة الأولى، وهي رؤية عقائدية فوق كل اعتبار، فيوسف بن تاشفين لم يكن يفكر مغربيا أو جزائريا أو تونسيا... كان يفكر في الإسلام والتخلص من العناصر المنحرفة وتحصين حدود الدولة"([23]).

على مستوى آخر، يتضح من خلال البحث في الوثائق التاريخية، أن المرابطين لم يستطيعوا في أول الأمر السيطرة على جميع دول المنطقة حيث تمكنوا فقط من الجزء الغربي في البلاد المغرب رغم محاولتهم ذلك، فقد كان المشروع المرابطي حاضرا على المستوى الشعبي والرسمي، فعلى الصعيد الرسمي جعلت الدولة المرابطية مشروع الوحدة على رأس برنامجها السياسي، ووظفت كل الوسائل الممكنة لتحقيق وحدة المغرب العربي، بل دافعت هذه الوحدة عندما تصدت للخطر المسيحي المنبعث من صقيلية([24])، وهكذا تمكن المرابطون من رفع لواء الإسلام ضد التهديدات المسيحية التي لم تختف مطلقا، بل شكلت إلى حين خطرا جسيما ضد وحدة المنطقة التي كان يطمح لها المرابطون.

أما على صعيد المجتمع، فإن هاجس الوحدة كان حاضرا شعورا وممارسة، فعلى الرغم من العداء السياسي الذي كان يظهر من حين لآخر بين أقطار الغرب الإسلامي، فإن الزخم الشعبي كان يتجاوز الإطارات الضيقة، بالإضافة أن المؤرخين والجغرافيين المعاصرين أو الذين أتوا بعدهم لا يعترفون بالحدود الفاصلة بين دول المغرب([25]).

ومن المفيد أيضا الإشارة إلى أن المحاولة المهمة لتوحيد شعوب المنطقة أتت على يد الموحدين بعد أن تلاشت القوات العسكرية للمرابطين على يدهم سنة 541 هـ/1145م، فمؤسس الدولة الموحدية المهدي بن تومرت كان تفكيره منصبا حول جميع شتات شعوب المنطقة المغاربية لاستعادة عزة وقوة وهيمنة الأمّة الإسلامية.

تأسست الدولة الموحدية في المغرب عوض الدولة المرابطية، وفي الجزائر على أنقاض الدولة الزيرية الحمادية وفي تونس بدل الدولة الزيرية الباديسية، وبذلك استطاعت الدولة الموحدية أن تصل لأول مرة بشعوب منطقة المغرب الكبير إلى الوحدة الدينية والثقافية والاقتصادية والدولاتية.

وعلى هذا الأساس، أصبحت الدولة الموحدية لها هيبة ونفوذ وقوة في حوض البحر الأبيض المتوسط، فازدهر العمران والاقتصاد وتحسنت الأحوال المعيشية للمجتمع المغاربي، كما برزت نخبة من رجال الفكر والعلم مثل ابن رشد وابن باجة وابن طفيل، ولنأخذ على سبيل المثال النوازل الفقهية، فقد كان القاضي المشهور ابن رشد يقيم في الأندلس، ورغم ذلك فقد كان يمطر بوابل من طلبات الإفتاء في شأن نوازل كان مجالها القيروان وسبتة ومراكش وبجاية وغيرها من مدن الغرب الإسلامي([26])، لهذا ظلت فكرة الوحدة حاضرة في نفوس المغاربة إلى الآن، ويكفي الوقوف على كتابات العلماء والفلاسفة المتنورين في كل دول المنطقة، والتي تدعو إلى استحضار التاريخ المشترك والتضحيات التي هدرت في سبيل ذلك.

وبالرجوع إلى الدولة الموحدية، فقد كانت حضارة ثقافية وعلمية طبعت دول المغرب الكبير وحققت حلمهم، رغم عدم استمرارها لمدة أطول، وبالرغم من أن عهد الموحدين كان قصيرا، إلا أن له الفضل الكبير في كونه قد تجاوز ذلك الوهم الذي كان يحمله الإسلام في طياته وهي فكرة الوحدة، واستطاعوا أن يخرجوها من دائرة الأوهام وأن يصبح واقعا ملموسا... بهذا تكون الفكرة قد زودت شعوب المغرب العربي بذاكرة جماعية لكن بفكرة متعددة الأبعاد والتي لا تنكر الاختلافات ولكن تثريها ([27]).

لكن بعد سقوط الدولة الموحدية ستتعرض دول المنطقة إلى الأطماع الأجنبية، فشنّت إسبانيا حربا على المسلمين محاولة استعمار المنطقة، لكن استنجاد الجزائريون والتونسيون بالدولة العثمانية أدى بالبحارة العثمانيين الإخوة عروج وخير الدين بربروس إلى منع الحملة الصليبية الإسبانية من التمكن من المنطقة، وبذلك تكونت أول ولاية للعثمانيين بالجزائر، ليتم بعد ذلك ضم تونس بعد الاستئذان من "سليمان القانوني" السلطان العثماني.

في نفس الوقت، لم تخضع منطقة المغرب الكبير كاملة للنفوذ العثماني، حيث قامت الدولة العلوية بالمغرب الأقصى بالحفاظ على المغرب من أي تدخل أجنبي، ويختلف المؤرخون حول العلاقة بين الدولة العلوية في المغرب الأقصى والأتراك في الجزائر وتونس وكذلك ليبيا، منهم من يذهب إلى أن العلويين مدّوا يد المساعدة للعثمانيين ورفضوا التحالف مع الإسبان والفرنسيين ضد الإيالات المغاربية، وهناك من يشير إلى بعض الحملات التي قام بها سلاطين الدولة العلوية اتجاه العثمانيين معتبرينهم دخلاء على المنطقة.

بشكل عام، يمكن القول إن الدين الاسلامي مكن إلى حد بعيد من تغيير التفكير في المجتمعات المغاربية ودفعها إلى الشعور والإحساس بالوحدة والتضامن، وهو ما تحقق فعليا مع الدولة الموحدية، وبعد ذلك أظهرت الشعوب المغاربية عبر التاريخ أنها نموذج لشخصية ثقافية شبه واحدة تمتزج فيها جميع القواسم المشتركة.

([1]) امحمد مالكي وآخرون: "المغرب العربي وسؤال الهوية"، مؤلف جماعي تحت عنوان "نصف قرن على المشروع المغاربي كلفة اللامغرب"، أشغال الندوة المغاربية، مختبر الدراسات الدستورية والسياسية، جامعة القاضي عياض مراكش، السنة: 2008، ص: 37

([2])امحمد مالكي، المرجع نفسه، ص: 39

([3]) محمد العربي المساري وآخرون: "التضامن الفعال للمغرب وتونس مع الجزائر أساس أرضية مؤتمر طنجة"، مؤلف جماعي تحت عنوان "نصف قرن على المشروع المغاربي كلفة اللامغرب"، أشغال الندوة المغاربية، مختبر الدراسات الدستورية والسياسية، جامعة القاضي عياض مراكش، السنة: 2008، ص: 37

([4]) امحمد مالكي: "المغرب العربي وسؤال الهوية"، م. س، ص: 44

([5]) عبد القادر عبد العالي وآخرون: "سياسة الهوية في الفضاء المغاربي: بين التمايز الاجتماعي والتوظيف السياسي"، مؤلف جماعي تحت عنوان "الهوية وسؤال المواطنة في البلدان المغاربية"، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، الطبعة الأولى، برلين، مايو 2020، ص: 59

([6]) عبد القادر عبد العالي، المرجع نفسه، ص: 64

([7]) عبد القادر عبد العالي، المرجع نفسه، ص: 65

([8]) رشيد حامي: "عن تنمية المغرب العربي مرة أخرى"، مقال منشور بتاريخ: الخميس 13 يونيو 2013، بموقع هسبرس، على الرابط التالي: hespress.com/130287، تاريخ زيارة الموقع: 20/03/2020 على الساعة: 10: 15 بإضافة ساعة على توقيت غرينتش.

([9]) عبد الحميد الجماهيري: "من المغرب العربي الكبير إل المغرب الإسلامي الصغير"، مقال إلكتروني منشور بتاريخ: 09/03/2012، بموقع العربي الجديد، على الرابط الآتي: www.alaraby.co.uk/opimion/E2/AC، تاريخ زيارة الموقع: 19/03/2020 على الساعة 21: 30 بإضافة ساعة على توقيت غرينتش.

([10]) عبد الحميد الجماهيري، نفس االمرجع.

([11]) علي دبوز: "تاريخ المغرب الكبير"، مؤسسة تاوالت الثقافية، السنة: 2010، ص: 27

([12]) علي دبوز، ن. م، ص: 25

([13]) علي دبوز، ن. م، ص: 28

([14]) عبد الله العروي: "مجمل تاريخ المغرب"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، السنة: 1996، ص: 56

([15]) عبد الله العروي، ن. م، ص: 57

([16]) عبد الله العروي، ن. م، ص: 62

([17]) عبد الله العروي، ن. م، ص: 63

([18]) أنظر، موقع ويكيبيديا، على الرابط الآتي: https: //ar.wikipedia.org/wiki/%D9%88%D9%86%D8%AF%D8%A7%D9%84، تاريخ زيارة الموقع: 20/03/2020 على الساعة 00: 02 بإضافة ساعة على توقيت غرينتش.

([19]) عبد الله العروي: "مجمل تاريخ المغرب"، ن. م، ص: 102

([20]) عبد الله العروي، ن. م، ص: 103

([21]) المرجع نفسه، نفس الصفحة.

([22]) المرجع نفسه، ص: 56

([23]) سعد الله أبو القاسم: "التاريخ في حياتنا"، جريدة الشروق اليومية، العدد: 2462، 22 نوفمبر 2005، ص: 21

([24]) محمد رزوق: "دراسات في تاريخ المغرب"، إفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، السنة: 1991، ص: 73

([25]) محمد رزوق، نفس المرجع، نفس الصفحة.

([26]) محمد رزوق، ن. م، ص: 71

([27]) Toomi (M): "Le Maghreb arabe", Paris, 1982, p: 35