المقاربة الوجودية للحب والإيمان


فئة :  قراءات في كتب

المقاربة الوجودية للحب والإيمان

المقاربة الوجودية للحب والإيمان

عند سورن كيركگورد 1813 – 1855


كيركگورد خارج الأنساق الفلسفية:

في عام 2013 مرَّ قرنان على ولادة الفيلسوف الدانماركي سورن كيركگورد، الذي ولد في 11/11/1813، وتقديراً لمكانته وأهمية منجزه اعتبر بلدُه الدانمارك هذه السنة خاصة بالاحتفاء به وإحياء آثاره، كما أُقيمت ندوات ومؤتمرات حوله في بلده وبلدان أخرى، ولم تهتم أو لم تتنبّه الجامعات العربية، ومراكز البحوث والدراسات، والدوريات الفكرية والدينية لهذه الذكرى. ما خلا مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي خصصت العدد المزدوج 55-56 "صيف وخريف 2013"، جريا على تقاليدها؛ بتجاوز تكرار المكررات وشرح الشروح، للاحتفاء بهذا الفيلسوف المختلف، الخارج على الأنساق الفلسفية، واللاهوتي الخارج على دوغمائية الإيمان الكنسي، والأديب الرؤيوي الخارج على صنعة الشعر والفن، والمفكر المتعدد المتنوع الخارج على الموضوعات الجاهزة إلى ما هو مهمل ومنسي، حين تخطى السياق المتوارث للتفكير الفلسفي، الذي اهتم بدراسة الإنسان من الخارج، فتمحورت كتاباته على دراسة الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، مثل: الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية. واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بجوابها، يكتب: "إن مهمته في هذه الدنيا أن يثير الإشكالات في كل مكان، لا أن يجد لها حلا"[1].

يمكن للقارئ البصير أن يكتشف راهنية اللاهوت الذي صاغه كيركگورد، وأهمية بيانه لمفهومي الحب والإيمان، والذي نعثر على شيء من ملامحه في مدونة التصوف المعرفي، وحاجتنا الشديدة في العالم الإسلامي لرؤياه الفسيحة المحلّقة في الآفاق، وأسئلته المحرّضة على التفكير خارج سياق الأنساق المغلقة، فقد تمحور كل ما أنتجه حول الذات والهوية الشخصية للكائن البشري، بنحو كانت عليه كتاباته كافة تحكي سيرته الروحية والعاطفية والعقلية، تلك السيرة الخارقة للمألوف، التي لم يغادر فيها عوالم ذاته، وأصرَّ فيما عاشه وكتبه على فرادته واستقلاله وتميزه، حتى إنه بعد وفاته كان يود أن يُكتب على شاهدة قبره "الفرد المنفرد".

رغم أن العمر الذي عاشه سورن كيركگورد لم يتجاوز اثنين وأربعين عاماً، غير أنه كان غزير الإنتاج، فقد بلغ مجموع أعماله أربعة عشر مجلداً، مضافاً إلى ثمانية عشر مجلداً لأوراقه ويومياته، والمعروف أنه دونها في مدة لا تزيد على ثماني سنوات، ويشير بعض الباحثين المهتمين بسيرته، إلى أنه "في فترة قصيرة جداً لا تزيد على السنتين ظهر الجزء الأكبر من مؤلفاته"[2].

مؤلفاته على ثلاثة أصناف:

الأول: مؤلفات كتبها ببيان الشاعر الرومانتيكي، لا تحمل اسمه، وإنما نشرها بأسماء مستعارة.

الثاني: مؤلفات كتبها ببيان فلسفي، وهي تحمل اسمه بجوار أسماء مستعارة.

الثالث: مؤلفات دينية، كتبها ببيان وعظي، وهي تحمل اسمه.

ربما يؤشر هذا التصنيف لمؤلفاته إلى نظريته في مدارج الحياة ومراحلها الثلاث، فالصنف الأول يقابل المرحلة الحسية الجمالية، والصنف الثاني يقابل المرحلة الأخلاقية، أي مرحلة التمسك بالمبادئ، والصنف الثالث يقابل المرحلة الدينية.

لكن لعل مثل هذا التصنيف لكتاباته، وربطها بنظريته في مراحل الحياة، لا يتطابق مع حياته، فإنه في جميع مراحل حياته كان ينشر بأسماء مستعارة، وإنه كان ينشر أحاديثه الدينية التوجيهية وعظاته في كل حياته، وإن تكثف إنتاجها ونشرها في المرحلة الأخيرة منها. وهكذا تضمنت مؤلفاته من الصنفين الأول والثاني رؤى ميتافيزيقية، وكانت لغته أدبية مشتعلة في كتاباته كلها.

نحن اليوم بأمس الحاجة لهذا اللون من التفكير الديني غير النمطي، من أجل استكشاف تجاربنا الدينية، والبحث عن آفاق تتخطى الاتباع في الدراسات الدينية، والتعرف على ما تحفل به حياتنا الدينية من ظواهر متنوعة، وفضح: أوهام، وثغرات، وتبسيط أدبيات الجماعات الإسلامية؛ وما أشاعته من ثقافة وتربية دينية بعيدة عن مقاصد الدين وأهدافه الإنسانية، وهو ما تكتوي به بلداننا اليوم بعد اختطاف الجماعات الإسلامية لأحلام الشباب بالحرية، وهيمنتها على المجال العام، وتفشي موجة تدين مفرغة من روح الدين، ومشبعة بشتى أنواع التعصبات والكراهيات، يجري فيها تزوير حقيقة الإيمان، ومسخ جوهر الدين، وتشويه كل ما هو جميل في الحياة الروحية الأخلاقية التي ينشدها الدين.

مراحل حياة كيركگورد:

رسم كيركگورد ثلاث مراحل لذات الإنسان وتطورها في مدارج الكمال. وهذه المدارج للذات في مراحل تكاملها عنده، ليست سوى "تعميق تطوري للحياة الفردية، يتجه فيه الفرد إلى نسج حياته في إطار أغنى وأشد قيمة، مروراً من حياة حسّية، إلى أخرى أخلاقية، وأخيرة دينية"[3]، كما لاحظ ماكوري.

يحدد كيركگورد تلك المراحل بما يلي:

1- المرحلة الجمالية أو الحسية:

في هذه المرحلة يخضع الإنسان لغرائزه وملذاته وشهواته الحسية، وحين ينغمس في ملذاته الحسية، يتحول إلى كائن لا يعبأ بأخلاق، ولا ينضبط سلوكه بقواعد سامية، ولا يكترث بقانون، حتى يصل إلى حالة خواء وغثيان ولا جدوى، فيفتقد أمنه الشخصي، بعد أن ينهار في داخله كل شيء، ويغرق في حالة يأس وقنوط وقلق مرعب.

"الحب هنا جنسي صارخ"[4]، عابر، ميت، ذلك أن الحواس سرعان ما ترتوي، فتمل، لتبحث عن تجربة بديلة، عساها تمنحها غبطة جديدة. هذا هو الحب المتفشي في حياة الناس الحسيين الغرائزيين. وعادة ما يكون المرء ضحية في هذا الضرب من الحب؛ لأن كل تجربة تذوق جسدي وحب إضافية ترهق وتنهك الإنسان، وتصيره حطاماً لحظة ذبولها وتحولها إلى ذكرى بائسة، فتغدو الروح هشيماً تذروه الرياح، والقلب ممزق نازف، والعقل مضطرب مشتت.

وطالما تحوّل هذا اللون من الحب إلى فضائح، تتلوث بها الشخصية، ويستهجن المجتمع سلوكها، وربما يفضي ذلك إلى ازدرائها ونبذها ونفيها وطردها من الحياة. الإنسان الأخلاقي يستهجن ذلك، ويأباه ضميره الأخلاقي، والتزامه الوجودي، ووجدانه الإيماني. الحب الأخلاقي أسمى وأنقى وأعمق من ذلك الحب المتنقل الزائل. الرجل الحسي يقع في غرام المرأة وحبها، ينشد المواقف والكلمات والقصص الغرامية، لكن لا زواج.

ويمثل نموذج إنسان المرحلة الحسية لدى كيركگورد "دون جوان"، وشعاراته فيها: "تمتع باللحظة الراهنة"، "تلذذ بكل ما هو حسي"، "اقبل على كل ما هو سارّ في الأشياء، وارفض ما هو غير سار منها"[5]. حب دون جوان حسي، إنه حب اللحظة، يبدأ كل شيء في لحظة، ويتلاشى كل شيء في لحظة، ويتكرر موضوع حبه بشكل لا نهائي. حبه حب جنسي، وحياته لحظات متكررة بغير اتصال، لا يرغب في المرأة أن تكون له زوجة، إنه يريد المرأة لأنوثتها. يتحدث كيركگورد عن موقفه هذا قائلا: "أيها السادة؛ لقد أخطأتم! فأنا لست زوجا يبحث عن فتاة متميزة أو غير عادية. فكل فتاة تملك ما يجعلني سعيداً، ولذا فأنا دوما أسعى اليهن جميعاً"[6].

2- المرحلة الأخلاقية:

في هذه المرحلة يرتقي الإنسان في مدارج السمو، فينعتق من غرائزه وشهواته الحسية، بعد أن ينهكه اليأس والقلق والسأم الوجودي، وانهيار الأمن النفسي، والذي يتواصل كمرض حتى الموت. هنا يكون الإنسان أمام مصيره، فإما أن يلبث في حياته الحسية، فيمكث أسير وجوده المتناهي، أو يختار اليأس، وقتئذ يختار ذاته في وجودها الأبدي. لا يتحقق له ذلك إلاّ حين ينسحب من فتنة العالم الخارجي وصخبه، ويغور في حياته الباطنية، وهو ما ينقل كينونته إلى طور وجودي أسمى، وهو الوجود الأخلاقي للكائن البشري، إذ تصبح حياته أخلاقية، تنشد الخير والفضيلة، وتنضبط بالقيم الأخلاقية. ولعل في دعوة سقراط: "اعرف نفسك بنفسك"[7] ما يشي بذلك.

وإذا كان الإنسان في المرحلة الحسية "لا يتخذ قراراً، ولا يعترف بواجب، بل إنه ينظر إلى الواجب على أنه خاضع للذة، فإن السمة الرئيسة التي يمتاز بها إنسان المرحلة الأخلاقية هي اتخاذ القرار والاختيار، فالاختيار مقولة أخلاقية صرفة، لا قبل بها لرجل الحواس، فيصل كيركگورد إلى المرحلة الأخلاقية؛ عن طريق إدخاله لمقولة الاختيار، إذ إن حقيقة الاختيار تكّون المرحلة الأخلاقية"[8].

هكذا تكون الحياة الأخلاقية ثمرة الاختيار، لذلك يحذر كيركگورد على لسان القاضي وليام في كتابه "إما/أو" من مغبة اللاموقف وعدم الاختيار، فيكتب: "إن أعظم شيء هو ألا تكون هذا أو ذاك، بل أن تكون شخصاً عينياً، أن تكون إنساناً، وهذا هو ما يستطيع كل إنسان أن يفعله إذا أراد"[9].

وهو يرى أن الحياة الأخلاقية مستمرة متواصلة، إنها تجمع بين الأمل والتذكر، بين الماضي والمستقبل، بينما تقتصر الحياة الجنسية على اللحظة الراهنة وحسب[10].

الحب هنا لدى الرجل الاخلاقي هو أن يختار أن يحب، ويبحث عن فتاة أحلامه، فحين يقع على ما ينشده، يدشن حباً لمدة محددة، ثم يدخل مرحلة الزواج، يعيش حبه وغرامه تجربة عاطفية أخلاقية، وشراكة وجودية، حتى آخر يوم في حياته، ولا ينشد حباً وقصة غرامية مؤقتة، يتذوق فيها اللذات الحسية، متنقلا بين النساء، مثلما يفعل الرجل الحسي.

3- المرحلة الدينية أو الإيمانية:

في هذه المرحلة يتسامى الإنسان بفضل الإيمان بالله. ولا يتحقق ذلك إلا عبر قفزة "وثبة" في المجهول، توقدها عاطفة متدفقة، يكون فيها الإنسان في حضرة الله.

يصوّر كيركگورد ذلك في ضوء تفسيره لطبيعة الحياة الأخلاقية، فالأخلاق تهتم بالقيم، والخير والشر، والحسن والقبح، والصواب والخطأ، لكنها لا تهتم بالخطيئة. الأخلاق قوانين مطلقة أو نسبية، غير أن الخطيئة تحدّ موجه ضد الحقيقة المتعالية "الله".

يمكث الشخص في المرحلة الأخلاقية؛ حتى يدرك فداحة خطيئته، وعجز القوانين الأخلاقية عن حلها، وهو لا يستطيع الخلاص من الخطيئة، إلا بأن يقفز في وثبة تضعه بين يدي الله، فيضع خطيئته في حضرة الله الذي هو أبدي، حينئذ تنقلب خطيئته إلى إثم. بهذه الوثبة ينتقل من المرحلة الأخلاقية إلى المرحلة الإيمانية أو الدينية.

الإيمان عند كيركگورد:

الإيمان عند كيركگورد ذاتي فردي، مرتبط بالإرادة الشخصية، ولا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الحقيقة الكلية العامة. الإيمان في منظوره لا يتحقق من خلال الاستقراء أو الاستنباط، أو المنهج التاريخي، ولا يثبت بالمنطق أو الفلسفة أو العلم، ذلك أن الإيمان حقيقة مستقلة عن كلّ ذلك، لا يمكن حدوثها إلا عبر مخاطرة وقفزة في المجهول أو في الهاوية، والعواطف المتقدة المتدفقة هي التي تقود إلى هذه المخاطرة والقفزة، وتنتهي إلى أن يكون الإنسان بين يدي الله[11].

يقتصر دور العقل على المرحلتين الحسية والأخلاقية عند كيركگورد. أما المرحلة الإيمانية، فهي خارج إطار العقل، ذلك أن الإيمان ليس معرفة، ولا فلسفة، ولا منطقاً، ولا علماً، وإنما هو أمر وجودي عميق، لا يتأتى بالمعرفة، بل يتذوقه الإنسان ويعيشه تجربة حية فوارة. الإيمان حالة أبعد مدى من العقل، لا يمكن تقييمها بمقاييس العقل.

يشدّد كيركگورد على أن الكلام الكثير عن الدين والتبشير به، وتحشيد كتائب عددية من البشر، من أجل تلقينهم الإيمان، سيفضي إلى نتائج منافية لروح الإيمان والضمير الديني العميق. فإن "الانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين"[12].

الإيمان حالة روحية متسامية، الإيمان جوهرة كيفية لا تخضع لقياسات كمية مادية، إنه حالة فردية لا جماعية، تتحقق في الذات، والشروع في رحلة كدح للعروج نحو الحق. الإيمان كما يقول كيركگورد: "ليس في مجمله علفاً يقدّم للسذج من الناس، لأنه لا يمكن أن يكون فكراً"[13].

وحينما لا يحيا الإيمان - وهو صلة حية متوثبة بالله - وإنما يقدّم للمرء بوصفه معتقدات ومقولات ومفاهيم وأفكارا وشعارات، يجب أن يعتنقها الكل، ويحفظها الكل، ويتطابق فيها الكل، فلن يرتوي القلب عندئذ بلذة وصال الحق، وإن كان العقل يحتفظ بمجموعة مفاهيم، هي بمثابة مومياءات محنطة خاوية، مفرغة من أية شعلة متقدة.

الإيمان - خلافاً للفهم والمعرفة - لايتحقق بالنيابة، في عملية الفهم يمكن أن يتلقى الإنسان معارفه من شخص آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه، لكن الإيمان تجربة ذاتية تنبعث في داخل الإنسان، إنه صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجود يرتوي به ظمأ الروح الأنطولوجي للمقدس، وهو من جنس الحالات، و"قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات"[14]، حسب تعبير الشيخ محيي الدين بن عربي. أو كما قال النّفَّري قبل ذلك: "كُلّما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"[15].

الحب والحياة الأخلاقية عند كيركگورد:

تتبدى راهنية أعمال كيركگورد في أنك من خلالها؛ تكتشف الفرق بين: أن تفهم الحقيقة وأن تعيشها، أن تفهم الحياة وأن تحياها، أن تفهم الحب وأن تحب، أن تفهم الايمان وأن تتذوقه، أن تفهم التجربة الروحية وأن تشرق روحك بوصال الحق، أن تفهم الأخلاق وأن تصير حياتك أخلاقك وأخلاقك حياتك، أن تفهم الدين وأن يصبح تدينك صورة دينك الأصيلة، أن تفهم الضمير وأن يصير سلوكك مرآةً لضميرك، أن تفهم التسامح وأن تغدو مثالاً للتسامح، أن تفهم حق الاختلاف وأن تقبل الاختلاف، أن تفهم حق الخطأ وأن تغفر للآخر أخطاءه، أن تفهم الحرمان وأن تصبح محروماً، أن تفهم الاضطهاد وأن تغدو مُضطهداً، أن تفهم الخوف وأن ترتعش خوفاً، أن تفهم القلق وأن يجتاحك القلق، أن تفهم السجن وأن تمسي سجيناً.

نحن بحاجة ماسة إلى استرداد الذات حين تضيع في ركام الحياة. ذلك أن القوة والإرادة الحازمة تلخصها مقدرتنا على تقديم أنفسنا كما هي، بكل: أوجاعها، أحزانها، قلقها، تمزقها الجواني، وفرحها، ونشوتها، وابتهاجها، ومسراتها.. لا شك أن فضح الزيف بكل أشكاله ضرورة للحياة الأصيلة، لاسيما لحظة يمسي الزيف أهم من الحقيقة، ويتفشى بنحو يصير لكل فعل وقول ظاهر وباطن. مع الزيف يغدو الظاهر خيانة الباطن، بل أن اللغة معه تخون ذاتها.

شجاعة الوجود تتجلى في أن تنقش الحياة الأخلاقية للمرء بصمتها حيثما يكون، بلا أن تهزمها التحديات، أو ترضخ للعوائق الخارجية والإملاءات.

الحياة الأخلاقية سلسلة مواقف، تصنع بمجموعها طوراً وجودياً خاصاً للكائن البشري، إنها الشرط الذي يتحقق به نمط الحضور الحقيقي لهذا الكائن في العالم. اضمحلال الحياة الأخلاقية، يفضي إلى اضمحلال وجود الكائن البشري، وهشاشة كينونته، وينتهي إلى حضوره الزائف في العالم.

الحياة الأخلاقية سلسلة مواقف معلنة. الحياد ليس موقفاً. لا يمكن أن تكون محايداً حيال: الفاشية، العنصرية، الظلم، الاضطهاد، الاستبداد، البؤس، الحرمان، التهميش، امتهان الإنسان، الزيف.. من يصر على أن يربح الجميع لن يربح أحداً.

كنوزنا مختبئة في قلوبنا، وأنها لا تسفر عن جواهرها إلاّ بالحب. الحب يكرس الإيمان، كما الايمان يكرس الحب، فلا إيمان بلا حب. الإيمان يعيد خلق الحب في طور وجودي أعلى. الإيمان في أسمى مراتبه يتسامى بحبنا ليصبح مشابهاً لحب الله لخلقه. على الدوام ما نربحه نحن دعاة الدين بالحب، يخسره غيرنا من دعاة الدين بالموت والحرب.

السفر مع الأرواح الحرة أغنى الأسفار، ذلك أن الأرواح الحرة ضمير العالم، بينما الأرواح الشريرة خيانة العالم. سفرنا مع كيركگورد يدلنا على أن الإيمان ضرب من العشق، وأن كل عشق حماسة، لحظة تذبل الحماسة، يموت الإيمان. لذلك ينبغي الحذر من التشبث بمسالك اللاهوتيين، التي تطفئ حماسة إيماننا، وتنهك عقولنا، وتستنزف قلوبنا، وتقدم لنا مفاهيم ومقولات تشرح الإيمان، بينما تفشل في إنتاج حقيقة الإيمان وجني ثمرات وجوده في حياتنا.

وهنا أود الإشارة إلى أنه يحدث أحياناً خلط بين القيم الروحية والقيم الأخلاقية، مع أن كل منهما يحقق كمالاً للإنسان بحسبه. نعم، هناك علاقة عضوية وتأثير متبادل بينهما.

القيم الروحية: تشبع الفقر الوجودي للإنسان، وتروي الظمأ الذي يجتاحه للمقدس، فيمتلئ قوة، وتمنح إرادته توتراً وصلابة.

والقيم الأخلاقية: تنظم الحياة الاجتماعية، وتجعل العلاقات بالآخر سليمة، تنشد خير البشرية، لكنها ليست بالضرورة تثري الفقر الأبدي للكينونة البشرية، وتروي الظمأ المزمن للمقدس، والذي لا يحقق له الامتلاء والارتواء والسكينة والطمأنينة سوى القيم الروحية.

الإيمان مثلاً، بوصفه قيمة روحية يمتلك تأثيراً سحرياً، تتحول معها الأرواح، لتتسامى وتحلق في عوالم ملكوتية. الحب أيضاً، رغم أنه يساهم بمنح حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالغير الكثير من الدفء والسلام، لكنه بوصفه قيمة روحية، يهبنا مالا تهبنا القيم الأخلاقية السلوكية، كالصدق وغيره. إذ للحب كيمياء خاصة تتبدل معها مادة القلوب، فيصير جوهرها نفيساً.

كل ذلك لا تنجزه القيم الاخلاقية، وهو ما تكشف عنه مواقفنا حيال مواجع الحياة وجروحها ونكباتها، فمهما يكن موقفنا وضميرنا أخلاقياً، ومهما كنا صادقين ننشد الفضيلة، لكن لو فوجئنا بنكبة فإنها تستنزفنا، وربما نتهشم بها، لو لم نمتلك رصيداً روحياً يمنحنا طاقة تمكننا من عبور تلك النكبة. فقط أولئك الروحانيون، المتيمون بحب الله والإنسان والعالم، هم من يعبرون نكبات الحياة بلا انكسارات وانهيارات، وبلا ضياع وجنون.

الإيمان عند ابن عربي:

ربما نعثر في ميراث المتصوفة والعرفاء المسلمين على رؤى تتفق مع ما ذهب إليه كيركگورد، إذ يشير ابن عربي إلى أن من غير الممكن معرفة الله بالأدلة العقلية، ويقرر ابن عربي أن الإيمان نور، وأن ما كان منه عن نظر واستدلال لا يمكن الاعتماد عليه، وما هو إيمان حقيقي هو الإيمان الذي يتحقق في القلب، يكتب ابن عربي: "إن الإيمان نور شعشعاني، ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد، والمؤمنون فيه على قسمين: مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان، فهذا لا يوثق بإيمانه، ولا يخالط نورُه بشاشةَ القلوب، فإن صاحبَه لا ينظر اليه إلاّ من خلف حجاب دليله، وما من دليل (نظري) لأصحاب النظر إلا وهو معرّض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين، فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وهذا الحجاب بينه وبينه. والمؤمن الآخر (هو) الذي كان برهانُه عينَ حصول الإيمان في قلبه، لا أمر آخر، وهذا هو الإيمان الذي يخالط بشاشة القلوب، فلا يتصور في صاحبه شك، لأن الشك لا يجد محلاً يعمره، فإن محله الدليل"[16].

ويذهب ابن عربي إلى أن تحويل الإيمان إلى أمر علمي، ينجم عنه القضاء على الإيمان، لأن الإيمان ينطوي دائماً على إبهام وغموض، بينما العلم يتسم بالوضوح، العلم متعلقة الوجود، والإيمان تقليد والتقليد يناقض العلم، ويوضح ذلك بقوله: "الإيمان نصفان، نصفٌ خوف ونصفٌ رجاء، وكلاهما متعلقهما عدم، فإذا حصل العلم حصلَ الوجودُ وزال العدم، وأزال العلم حكمَ الإيمان، لأنه شهد ما آمن به فصار صاحبَ علم، والإيمان تقليد والتقليد يناقض العلم"[17].

ويصرّح ابن عربي في مواضع عدة من كلامه؛ بأن علوم أهل الأسرار الحاصلة عن طريق الكشف والشهود بالتجلي الإلهي وتلقي الفيض القدسي، علوم تقع وراء حدود العقل ومجاله[18].

ويشدّد المتصوفة والعرفاء على القيمة المعرفية للذوق والكشف والشهود، ويتمسكون بها بوصفها وسيلة تتفوق على العقل في إنتاج نمط من الإشراق الروحي يتخطى العلمَ الحصولي، ويتحول معها الإدراكُ إلى علم حضوري، ويشبّهون ذلك بمن يأكل العسل ويذوقه مباشرة، ومن يعرف حلاوة العسل من دون أكله وتذوقه، يكتب ابن عربي بأن: "العلم الثاني علم الأحوال، ولا سبيل إليها إلا بالذوق، فلا يقدر عاقل على أن يحدها، ولا يقيم على معرفتها دليلا البتة، كالعلم بحلاوة العسل، ومرارة الصبر، ولذة الجماع، والعشق والوجد والشوق، وما شاكل هذا النوع من العلوم، فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد، إلاّ بأن يتصف بها ويذوقها"[19].

ليس العقلُ طريقاً للعارف للعلم الإلهي، وإنما طريقه هو القلب، ولا يسعى لأخذ صورة من العوالم الربوبية بل يهمه أن يتذوقها، أن يشاهدها على ما هي عليه. العارف لا يطلب علم اليقين، ولا يكتفي به، إنما يريد عين اليقين، وهو ما تعبر عنه المسافة بين إدراك صورة الحلاوة وحضورها في الذهن، وتذوق الحلاوة مباشرة. يقول صدر المتألهين الشيرازي: "والفرق بين علوم النظّار وبين علوم ذوي الأبصار، كما بين أن يعلم أحدٌ حدَّ الحلاوة وبين أن يذوق الحلاوة، وكم فرق بين أن تدرك حدّ الصحة والسلطنة وبين أن تكون صحيحاً سلطاناً، وكذلك مقابل هذه المعاني"[20]. ويعود ذلك لدى العرفاء إلى أن العلم نور يشرق في قلب العارف.

نود الإشارة إلى أن المنهج الذي يتبعه ابن عربي والعرفاء لا يرفض العقلَ في المستويات كافة، بل يقوم على التمييز بين مقامين هما: "الثبوت والإثبات"، إذ كثيراً ما يقع الخلط في بيان مناهج المعرفة عند الإسلاميين، بين مرحلة مصدر المعرفة وإدراك الحقائق، وهو ما يصطلح عليه بـ "مقام الثبوت"، ومرحلة التعبير عنها وبيانها وإيصالها إلى الغير، وهو ما يصطلح عليه بـ "مقام الإثبات"، فمثلاً: لا يختلف المحدثون عن المتكلمين في المقام الأول، كلاهما يعتمد النقل، ويستند إليه مصدراً لرؤيته للعالم ومعارفه الدينية، غير أن المتكلم في المقام الثاني "الإثبات" يتمسك بالعقل ويستدل على مسلماته ومعتقداته بمختلف الحجج العقلية، فيما يقتصر المحدّث في هذا المقام على النقل، فيتمسك بالروايات والأخبار عند بيانها والتعريف بها.

أما الفلاسفة "مشاؤون، وإشراقيون" فيتطابق لديهم المقامان، فهم يعتمدون العقل ثبوتاً وإثباتاً، لكن محيي الدين بن عربي وتبعاً له صدر المتألهين الشيرازي وغيرهما يستندون إلى الشهود، وبعضهم إلى الشهود والنقل والعقل في مقام الثبوت، وإن كانت تعود إلى العقل فقط في مقام الإثبات.

أما تمركز المعرفة لدى العرفاء حول القلب والذوق والشهود، فإن ذلك يختص بمقام الثبوت، واكتشاف الحقيقة، بينما في مقام الإثبات وإيصال الحقيقة والتعريف بمشاهداتهم وأحوالهم ومقاماتهم وبيانها للغير، فيوظفون العقل، فإنهم منذ عصر محيي الدين بن عربي ومن جاء من بعده يسعون لخلع لون فلسفي يبرر - بالدليل - رؤاهم ومقولاتهم.

هذا الكتاب:

يبدو أن هناك التباساً في كتابة ونطق اسم "سورن كيركگارد". ربما نجم عن غياب الترجمات المباشرة لكتاباته عن اللغة الدانماركية، فقد لاحظنا أن الباحثين الذين كتبوا عنه يرسمون اسمه هكذا: سرن كيركجور[21]، سورين كيركجورد[22]، سورين كيركجارد[23]، أو سورين كيركيغارد[24]. لكن الزميل د. قحطان جاسم الخبير بآثاره، والمترجم الأول والوحيد له من لغته الأصلية، اقترح رسم الاسم بالعربية هكذا؛ "سورن كيركگورد"، طبقاً لما ينطقه الدانماركيون بلغتهم، فاعتمدنا ذلك في كتابة اسمه.

بالرغم من أهمية منجز كيركگورد لكن ترجماته شحيحة بالعربية، والمؤلفات والدراسات حول مفهومه للحب والإيمان محدودة. مع وفرة الترجمات العربية لمؤلفات فلاسفة ولاهوتيين غربيين، ممن كانت مؤلفاته منبعاً لشيء من رؤاهم ومقولاتهم، خاصة الفلاسفة الوجوديين، بمختلف أطيافهم.

ميزة هذا الكتاب أنه يتسع لمساهمات متنوعة تقدم لنا كيركگورد بأقلام مجموعة من الفلاسفة والباحثين المختصين، ينتمون إلى لغات متعددة، وتكوين متنوع، كما أنه يستوعب مساهمات لكيركگورد نفسه. منها ما كتبه كيركگورد في العدد 7، الصادر في 30 -8- 1855. من "اللحظة"، وهي المجلة التي أصدرها في السنة الأخيرة من حياته. وقد ترجم نص هذا العدد من "اللحظة" للمرة الأولى من الدانماركية د. قحطان جاسم. واقترح له عنوانا، يشي بمضمونه، هو: "اغتصاب الدين".

كما يضم الكتاب بحثاً كتبه أحد أبرز دارسي وشراح كيركگورد، وهو الفيلسوف واللاهوتي الألماني هيرمان ديم، بعنوان: (العقيدة وجدلية الوجود لدى سورن كيركگورد)، وترجمه عن الألمانية أسامة الشحماني.

مضافاً إلى حوارين يتناولان العناصر المحورية في فكر كيركگورد، ومفهومه للإيمان الوجودي، مع اثنين من أبرز المختصين في فلسفته؛ الأول هو أستاذ الفلسفة واللاهوت في جامعة فرانكفورت الفيلسوف ريتشارد بورك هوفر، والذي عمل كأستاذ مشارك في موسوعة آثار كيركگورد، التي أعدّتها جامعة كوبنهاجن، وترجمه عن الألمانية أسامة الشحماني. والثاني مع البروفيسور سي. ستيفن إيفانز، وهو أستاذ الفلسفة والإنسانيات في كلية بايلور، ومؤلف أو محرر ما يزيد على 20 كتاباً، والعديد منها حول كيركگورد والفلسفة الوجودية. ترجمته عن الإنجليزية زهراء طاهر.

ويستوعب الكتاب دراسة موسعة لمفهوم كيركگورد للإيمان كتبها الباحث الإيراني رضا أكبري، وترجمها عن الفارسية حسن الهاشمي.

كذلك يتضمن الكتاب نصوصاً أخرى لكيركگورد، ومقتطفات من كتاباته، ودراسات في أهم مؤلفاته، تتناول مفهوم الحب في فلسفته وصلته العضوية بالإيمان، والقضايا والمقولات المحورية في فلسفته ولاهوته، ترجمتها عن الانجليزية زهراء طاهر أيضاً.

أتمنى أن يمنحنا هذا الكتاب أفقاً مضيئاً في مقاربة مفاهيم الحب والإيمان والدين، نتحرر فيه من ضيق هذه المفاهيم وانغلاقها، وتفريغها من مضمونها، على يد الجماعات السلفية المتفشية في مجتمعاتنا، التي تستبيح دم المسلم باسم الإسلام، وتهين كرامة خليفة الله في الأرض باسم الله، وتصادر حرية الإنسان وتهدر حقوقه باسم الغيرة على الله.


[1] إمام، د. إمام عبدالفتاح. سرن كيركجور رائد الوجودية: حياته وآثاره. بيروت: دار التنوير، ط2، 1983، ج1: ص 19

[2] إمام، د. إمام عبدالفتاح. المصدر السابق. ص 238

[3] محمد، د. علي عبدالمعطي. سورين كيركجارد: مؤسس الوجودية المسيحية. ص ص 239-240

[4] المصدر السابق. ص 250

[5] المصدر السابق. ص 250

[6] يوسف، د. حسن. فلسفة الدين عند كيركيجارد. القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2001، ص 120

[7] محمد، د. علي عبدالمعطي. مصدر سابق. ص 258

[8] محمد، د. علي عبد المعطي. مصدر سابق. ص 258

[9] محمد، د. علي عبد المعطي. مصدر سابق. ص 259

[10] المصدر نفسه. ص 259

[11] المصدر السابق. ص 160، 264، 271، 281 – 282

[12] ميخائيل، فوزية أسعد. سورين كيركجارد: أبو الوجودية. تقديم: أنور مغيث. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط2، 2009، ص 7

[13] محمد، د. علي عبد المعطي. سورين كيركجارد: مؤسس الوجودية المسيحية. الإسكندرية: منشأة المعارف، 2000، ص 46

[14] ابن عربي، تنزل الأملاك من عالم الأرواح إلى عالم الأفلاك، تحقيق: طه عبد الباقي وزكي عطية، دار الفكر العربي، بيروت، ط1، 1961، ص116

[15] النِّفَّري. المواقف والمخاطبات. موقف ما تصنع بالمسألة؟ ص115، تحقيق آرثر أربري، تقديم وتعليق: د. عبد القادر محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985

[16] ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، تحقيق: د. عثمان يحيى، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ج12، ص 479

[17] المصدر نفسه. ج6: ص 625

[18] المصدر نفسه. ج6: ص 626

[19] المصدر نفسه، ج1: ص 139

[20] صدر المتألهين الشيرازي. تفسير القرآن الكريم. تصحيح: محد خواجوي. قم: بيدار، ط1، د.ت. ج7: ص 10

[21] إمام، د. إمام عبد الفتاح. سرن كيركجور رائد الوجودية: حياته وآثاره. بيروت: دار التنوير، ط2، 1983

[22] ميخائيل، فوزية أسعد.سورين كيركجورد: أبو الوجودية. تقديم: أنور مغيث. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط2، 2009

[23] محمد، د. علي عبدالمعطي. سورين كيركجارد: مؤسس الوجودية المسيحية. الاسكندرية: منشأة المعارف، 2000

[24] بيار مسنار، كيركيغارد، ترجمة: عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت-باريس، ط1، 1985