المقولات الدلالية من وجهة نظر الأنثروبولوجيا المعرفية: ليكوف نموذجا


فئة :  مقالات

المقولات الدلالية من وجهة نظر الأنثروبولوجيا المعرفية: ليكوف نموذجا

المقولات الدلالية من وجهة نظر الأنثروبولوجيا المعرفية: ليكوف نموذجا

ملخص:

إن الأفكار التي ساهمت في تشكيل الموقف الذي يدافع عنه ليكوف بخصوص المقولات الدلالية، جاءت نتيجة التطورات التي حدثت في مجال الأنثروبولوجيا المعرفية، واللسانيات، والفلسفة، وهي أفكار قادت ليكوف إلى مقاربة نظرية المقولات الدلالية بناء على النماذج المعرفية، بوصفها نماذج تصورية ولغوية في الوقت نفسه. تسعى هذه المقالة إلى رصد نظرية المقولات الدلالية عند ليكوف من كونها نظرية لغوية تركز على الوحدة الدلالية للمفردة إلى كونها نظرية تصورية تراعي التعدد الدلالي للمفردة، وهنا سنعتمد على نظرية تأثيرات الطراز الأولي كما نجدها مع إليانور روش لدراسة المقولات النحوية والدلالية، وسنخصص القسم الثاني من هذه المقالة لمعالجة المقولات الدلالية معالجة تصورية، بالاستناد إلى نتائج الأنثروبولوجيا المعرفية؛ وذلك باتخاذنا نموذجان ثقافيان هما: ثقافة الدربال في أستراليا، وثقافة هان اليابانية.

مقدمة

لقد ساهم التطور الحاصل في العلوم المعرفية بداية السبعينيات من القرن العشرين في إعادة تشكيل المواقف المرتبطة بدراسة الظواهر اللغوية، خصوصا بعدما أصبحت النتائج التجريبية في علم النفس، والأنثروبولوجيا، واللسانيات، تكشف عن عجز النظرية التقليدية في التصدي للكثير من القضايا المرتبطة باللغة. فقد أثبتت الدراسات في علم النفس التجريبي أن هناك تراتبية داخلية في المَقُولة category، وهو ما يخالف المفهوم التقليدي لِلْمَقْوَلة catégorisation. إذا كان تصنيف الأشياء وفقا للتصور الموضوعي تتم من خلال وجود خصائص مشتركة بين عناصر المقُولة، فإن هذا التصور ليس خاطئا تماما كما يزعم ليكوف، بل إن عملية المَقْوَلة في الدراسات الحالية أصبحت أكثر تعقيدا، خصوصا مع ظهور نظرية جديدة للمَقْوَلة تدعى "نظرية الطراز الأولي"، وهي نظرية تهدف إلى دراسة التعقيدات المرتبطة بالطريقة التي يُمَقْوِلُ/ يُصنف بها الناس على وجه الحقيقة. إن قيام التصور الموضوعي على الافتراضات الفلسفية دفع العديد من الباحثين إلى التعامل مع المقْولة كمشكلة فلسفية، مثلما هو الحال مع "إليانور روش" Eleanor Rosche، إلا أن الأفكار التي ساهمت في تشكيل الموقف الذي يدافع عنه ليكوف جاءت نتيجة التطورات التي حدثت في مجال الأنثروبولوجيا المعرفية، واللسانيات، والفلسفة، وهي مراحل متوسطة قادت ليكوف إلى مقاربة نظرية المَقْوَلة بناء على النماذج المعرفية، بوصفها نماذج تصورية ولغوية في الوقت نفسه. تسعى هذه المقالة إلى رصد نظرية المقولات الدلالية عند ليكوف من كونها نظرية لغوية تقوم على الوحدة الدلالية للمفردة إلى كونها نظرية تصورية تأخذ بعين الاعتبار مسألة التعدد الدلالي، وهنا سنعتمد على نظرية تأثيرات الطراز الأولي[1] كما نجدها مع "إليانور روش" لدراسة المقولات النحوية والدلالية، وسنخصص القسم الثاني من هذه المقالة لمعالجة المقولات الدلالية معالجة تصورية بالاستناد إلى نتائج الأنثروبولوجيا المعرفية، وذلك باتخاذنا نموذجان ثقافيان هما: ثقافة الدربال في أستراليا، وثقافة هان اليابانية.

1. نظرية المقولات الدلالية بين البنية التصورية والبنية اللغوية

انطلق ليكوف من فرضية أساسية مفادها أن اللغة تستخدم النسق المعرفي العام، ولاختبار هذه الفرضية يستدعي الأخذ بعين الاعتبار العنصرين التاليين: أولا؛ يجب أن تكون المقولات اللغوية من نفس نوع المقولات الأخرى في نسقنا التصوري، كما يجب أن تنتج تأثيرات الطراز الأولي، وتأثيرات المستوى القاعدي، ثانيا؛ مساهمة الأدلة المعتمدة في المقولات اللغوية في فهم المقولات المعرفية بشكل عام[2]. على هذا الأساس، يتساءل ليكوف حول ما إذا كان هناك دليل يبين أن اللغة تبرز تأثيرات الطراز الأولي وتأثيرات المستوى القاعدي؟

لهذا السؤال أهمية بالغة في مجال تحديد العلاقة بين اللغة والجهاز المعرفي العام لدى البشر، عامة، والعلاقة بين البنية الدلالية والبنية المعرفية، خاصة، لكن بيان هذه العلاقة يطرح جملة من الصعوبات تتعلق بوجود افتراضات منافية لهذا الفهم، ونخص بالذكر التصورات التي يتبناها أغلب الدارسين في مجال اللسانيات وفلسفة اللغة. يزعم رواد النحو التوليدي أن اللغة نظام معياري مستقل عن النظام المعرفي. فقد شكلت قضية استقلال النحو الصوري عن النحو المعرفي أحد الافتراضات التي اعتمدت عليها نظرية نعوم تشومسكي Noam Chomsky في اللغة[3]. أما رواد التوجه المنطقي في اللغة يدافعون عن البرنامج الرياضي في اللغة، من حيث هو نسق صوري معتمدين على فرضية الخصائص المشتركة في تحديد المقولات، ولهذه الأفكار حضور قوي في أعمال ريتشارد مونتيغيو Richard Montaigne، ودونالد دفدسين Donald Daviddson، ودفيد لويس David Lewis، وصول كريبكه Saul Kripke، وغيرهم كثير[4]. من هذا المنطلق، تعد دراسة المقولات اللغوية مهمة لسبب بسيط، وهو أن دراسة المقولات اللغوية في ارتباطها بالنسق المعرفي له تأثير على تصورنا للغة، من جهة، وتصورنا للإدراك، من جهة أخرى. لهذه الاعتبارات، من الأهمية بمكان الوقوف عند الدراسات التي كشفت عن وجود تأثيرات الطراز الأولي في اللغة. تتعلق الدراسة الأولى بنظرية الطراز الأولي عند روش، لكن البداية الحقيقية تعود إلى تقليد طويل في علم اللغة، حيث ركزت العديد من الدراسات على اللاتناسق بين المقولات وتراتبيتها دون الأخذ بعين الاعتبار الأفضلية أو نموذجية مقُولة على أخرى[5]. فقد اقتصرت هذه الأبحاث على دراسة الملامح والسمات داخل اللغة[6]، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن مفهوم "الملمح" Markedness قد نشأ من حقيقة أن بعض مقولات المورفولوجيا لها علامة، وأن البعض الآخر ليس له علامة، لو أخذنا مقُولة العدد في اللغة الإنجليزية، لوجدنا أن مقُولة العدد التي تدل على الجمع تحمل علامة "s"، من قبيل: الأولاد boys، في حين أن مقُولة العدد المفرد boy ليس له علامة تميزه كعضو في المقُولة المورفولوجيا للغة الإنجليزية[7].

هكذا، فإن المفرد والجمع عنصران في المقُولة يظهران عدم التماثل، الأول ليس له علامة بارزة، نظرا لأن المفرد يتخذ صيغة بسيطة مقارنة مع الجمع؛ حيث تكون صيغته المعرفية أقوى، مما يدل على أن البساطة المعرفية تعكس بساطة الشكل. من هذا المنطلق، يستخدم اللغويون مصطلح "الملمح" لوصف نوع الآثار الذي يحدثه الطراز الأولي، والمتمثل في التباين الحاصل بين عناصر المقُولة. وذهب بعض الدارسين[8]إلى توسيع هذه التأثيرات على مجالات أخرى في علم اللغة، مثل: علم الأصوات، والمورفولوجيا، وعلم التركيب، وعلم الدلالة. وفي جميع هذه المجالات كانوا يتوصلون إلى نفس النتيجة، وهي أن التأثيرات الطرازية لا تتفق مع النظرية الكلاسيكية للمقولات، وفي نفس الآن تتعارض مع الدلاليات المعرفية الأرثوذوكسية[9] التي تفترض صحة النظرية الكلاسيكية لِلْمَقْوَلة، ويمكن أخذ عيّنة من هذه الدراسات التي تبرز آثار الطراز الأولي، كما يلي:

أ) في مجال علم الأصوات: لابد من التمييز بين عنصرين أساسين هما: الشكل (الصوت) والمضمون المعرفي (تمثيل الصوت)، قد يكون الصوت واحدا، لكن المضمون المعرفي مختلف، كما هو الحال في اللغة الإنجليزية، حيث نجد الفونيم "k"، والذي ينطق أحيانا بـ "c"، كما في cool، وkeel، وkey، وscool، فرغم وجود أشكال متنوعة لنطق الحرف k، إلا أنها حالات من نفس الصوت k، في هذا السياق، اعتبرت "جيري جايغر Jery Jaeger" 1980م أن الفونيمات هي مقولات صوتية مؤسسة على طراز أولي، ويشكل الفونيم "k" عنصر نموذجي مقارنة بعناصر غير نمطية داخل المقُولة، مثل: k, k’ , kh، وينبغي فهم المقولات الصوتية بشكل عام من خلال وجود عناصر مركزية[10]، وبهذا خلصت جايغر إلى أن المقولات الصوتية مثل المقولات المعرفية، تظهر تأثيرات الطراز الأولي[11].

ب) في مجال المورفولوجيا: أبرزت كل من جون بابي Joan Bybee وكارول مودر Carol Mode 1983م، أن بعض الأفعال القوية في اللغة الإنجليزية، مثل؛ string-strung تشكل مَقُولة مورفولوجية تعرض تأثيرات طرازية، لكونها تمتلك وضعية مركزية في الإنجليزية، ولها بنية مَقُولية نمطية قاعدية منتشرة بشكل واسع في النحو المعرفي للغة الإنجليزية، وتشمل هذه الأفعال النمطية[12]: الفوز، التشبث، القذف...، إلخ. كما تشمل بعض الأفعال المعبرة عن الماضي في بعض اللهجات، مثل: جلب، حمل..، إلخ. وتوصلت هذه التجارب إلى نتائج تبين أن المقولات النموذجية تستدعي الخصائص التالية: أن تبدأ بحرف "s" المتبوعة بحرفين ساكنين، مثل: (sc) وتنتهي بحروف ذات مخرج الأنف الحلقي. وعليه، فمقُولة الأفعال لا يمكن تحديدها انطلاقا من الخصائص المشتركة، بل من خلال درجة التشابه الذي يحمله كل عنصر مع الطراز الأولي[13]. هكذا، يتم تحقيق تماسك المقُولة من خلال تداخل أوجه التشابه مع مختلف أعضاء المقُولة، أو تشابهها مع عضو مركزي، أو طراز أولي من المقولة. هذا ما يفسر سبب تداخل مقولة صوتية بأخرى في بعض الأحيان، لأن بعض الوحدات قد تكون مشابهة لعناصر مقُولة صوتية أو أكثر[14].

ج) في مجال التركيب: أبرز "روبرت روس" في دراسته لقواعد اللغة الإنجليزية بداية سبعينيات القرن الماضي أن كل مقُولة تركيبية في اللغة تظهر تأثيرات نموذجية، وتشمل مقولات، مثل: الاسم، الفعل، الصفة، الجملة، حرف جر، العبارة الاسمية، العبارة الفعلية...إلخ، كما أن التركيبات النحوية، كالمبني للمجهول تظهر هذه التأثيرات كذلك، فلو أخذنا أسماء، مثل: الأصابع، التنفس، الطريق، الوقت، فهي أسماء قد تكون أمثلة نمطية لتمثيل المقُولة، أو أمثلة غير نموذجية بحسب المجالات التي ترد فيها[15].

د) في مجال الدلالة: اقترح "إليزابيث بيتس" Elizabeth Bates و"نوريكو مكاولي" McCaWley Noriko 1982م، إمكانية استخدام نظرية الطراز الأولي لتحديد العلاقة النحوية للموضوع النموذجي في ارتباطه بالفاعل والنمط، حيث إن العناصر المركزية في مقُولة الموضوع هي أفعال طرازية أولية، أو أنماط طرازية أولية. لذلك، تعتمد عملية مقْولة الموضوعات على عنصر الدلالة التي تسمح بتحديد الطراز الأولي داخل المقُولة، فهناك دلالات قريبة تشكل أمثلة جيّدة للموضوع، وأخرى هامشية ليست أمثلة جيّدة. وعليه، تعد مَقُولة الموضوع مقُولة شعاعية Radial Category تسمح لنا بالتنبؤ بوجود طراز الأولي من خلال التأثير الدلالي لمقُولة الموضوع المركزي، ولا يمكن التنبؤ بالعناصر الهامشية، على الرغم من وجود تشابه بين العناصر المركزية وغير المركزية. وتمثل تطبيقات "فان أوستين" Jeanne Van Oosten على استخدام النفي في اللغة الإنجليزية من خلال اختياره للجمل المبنية للمجهول دليلا قويا على شعاعية مقُولة الموضوع، ويتجلى ذلك من خلال إقراره بأن مقُولة الموضوع يمكن التنبؤ بعناصرها الطرازية انطلاقا من الخصائص الدلالية والتداولية. وفي نفس السياق تبين الدراسات المعاصرة للنحو أن القيود النحوية متباينة في لغة معينة، نجد أحيانا أن هناك علاقة مباشرة بين معنى العبارة وقواعد النحو، كما هو الحال مع الجمل القضوية البسيطة "زيد يأكل الخوخ"، "فاطمة في المطبخ"، وأحيانا أخرى تغيب هذه العلاقة، كما في حالة الجمل المبنية للمجهول، مثل: "كان الخوخ يؤكل من قبل زيد". هنا نجد البعض يقر بضرورة التمييز بين جمل النواة وغير النواة، وهي الفكرة التي تبناها هاريس 1957م[16]، كما يميّز تشومسكي بين البنيات السطحية والبنيات العميقة للجمل[17]. وجميع هذه الدراسات تقر بغياب التماثل بين التركيبات النحوية والدلالية، والحال أن التركيبات الأساسية تبين أن هناك علاقة بين المعنى والنحو، ففي كل أنواع الجمل في لغة ما، نجد مقولات فرعية تتأثر بشكل أساسي بمقولات مركزية. هذا التباين الحاصل بين أنواع الجمل الطرازية وغير الطرازية ناتج عن نوع التأثيرات الذي ينتقل من المركز إلى الهامش. وعليه، فقد تتميز التركيبات النحوية بتأثيرات الطراز الأولي في النحو بنفس طريقة تأثيرات الطرازية الأخرى، وذلك باستخدام النظرية العامة للنماذج المعرفية، كما حددها جورج ليكوف George Lakoff.

نخلص إلى القول إن المقولات اللغوية شأنها شأن المقولات التصورية تبرز تأثيرات الطراز الأولي على كل مستوى من مستويات اللغة؛ صوتية، تركيبية، دلالية...، إلخ. وتعد هذه التأثيرات أدلة على وجود مقولات لغوية بنفس الدرجة التي توجد بها المقولات التصورية. اعتمد ليكوف هذه الفرضية للتأكيد على أن الآليات اللغوية تستفيد من الآليات المعرفية العامة، وهي آليات التصنيف عموما. وبموجب ذلك، تمكننا هذه الأدلة من دراسة النسق المعرفي المستخدم في المقْولة، مما يستوجب تغيير تصورنا للغة والإدراك في إطار دلاليات معرفية وتصورية.

تقودنا هذه النتائج إلى دراسة البنيات المعرفية للمقولات الدلالية، مادامت حاجتنا إلى دراسة المقْولة لا تعتمد فقط على الأشياء المادية، بل تشمل كذلك المقولات التصورية المجردة، كالعواطف، والعلاقات الاجتماعية، واللغة، وغيرها[18]. وعلاوة على ذلك، تدفعنا دراسة المقْولة إلى تقويم الأسس النظرية والفلسفية التي يقوم عليها الطراز الأولي.

2. البنيات المعرفية للمقولات الدلالية: البنية الشعاعية للمقولات الدلالية

نحاول في هذا القسم من المقال إبراز الطابع التصوري للمقولات الدلالية دونما حاجة إلى رصد التأثيرات الطرازية للمقْولة، بل يمكن تحديد هذه التأثيرات داخل البنية التصورية للشخص الذي يُمقْول أو يُصنف. والفكرة التي يدافع عنها ليكوف في هذا السياق، تتمثل في أن عملية المَقْوَلة أو التصنيف تتم بطريقة شعاعية تجمع مختلف المقولات، وبالتالي، مختلف المعاني. إذا كنا نتحدث عن مقُولة "الأم" باعتبارها مقولة شعاعية تجمع عددا من المقولات الفرعية، ضمن هذه المقولات، هناك مقولة مركزية محددة بواسطة نماذج معرفية متقاربة، مثل: نموذج الولادة، ونموذج الرعاية، وغيرها. كما أن هناك توسيعات غير مركزية لحالات خاصة من المقولة الفرعية شأن حالة الأم المتبنية، والأم الحاضنة، والأم البديلة...إلخ، وهي توسيعات تتم عن طريق جملة من المواضعات التي نتعلمها، مما يعني أنها توسيعات غير اعتباطية. وعلاوة على ذلك، حدد ليكوف قواعد عامة تحكم توسيعات النموذج المركزي بهدف وصف البنية الشعاعية للمقولات الدلالية. وعليه، يمكن إدراك مقولة الأم كبنية شعاعية في إطار المقولات الشعاعية الأخرى، وندرك المقولات الفرعية كتوسيعات لمقولات مركزية عبر ربطها بالنموذج المركزي للأم[19].

إن المقولات التصورية عند ليكوف لها ارتباط وثيق بالمقولات الدلالية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بحيث إن القواعد اللغوية في كل لغة تحدد مقولات تصورية من خلال وضع الأسماء كعناصر في مقولات معينة، لأن القواعد النحوية تشكل أساس فهم طبيعة المقولات التصورية بشكل عام[20]. ولتوضيح ذلك، قدم ليكوف نموذجين اثنين من المقولات التصورية المنظمة شعاعيا، من خلال الكشف عن الطريقة التي تجري بها عملية المقْولة في اللغة، يرتبط النموذج الأول بـ "ثقافة الدربال" كما قدمه "ديكسون" R, M, Dixion بناء على فرضيات "بورجز" J , l, Borges، ويتعلق النموذج الثاني بالتصنيف اللغوي في ثقافة هان Hon اليابانية.

1.2. نظام التصنيف في ثقافة الدربال

انطلق "بورجز" من فرضية أساسية لتصنيف المملكة الحيوانية، وهي أن المقولات البشرية ليست دائما مقولات طبيعية ومألوفة، كما اعتقد الفكر الغربي لعقود من الزمن، بل هناك أشكال متعددة من المقْوَلة تختلف عن الثقافة الغربية، مما خلق جدلا واسعا لدى علماء اللغة والأنثروبولوجيين في الغرب. فقد اعتاد هؤلاء تقديم طريقة واحدة للمقْولة، لكن "بورجز" وجد طريقة جديدة للمقْولة تقوم على ما هو ثقافي وتصوري، وما اللغة سوى مظهر من مظاهر التعبير عن الأنساق التصورية والثقافية. لذلك، فالتصنيف اللغوي له دلالة في ثقافة الدربال[21]، لكون هذه الأخيرة تستخدم أسماء الأشياء والكيانات في تعابير تكون مسبوقة بأحد المتغيرات (المقولات) الأربع: بايي، بالان، بالام، بالا[22]. تصنف هذه الكلمات كل شيء في ثقافة الدربال، ولكي يتكلم أي شخص لغة الدربال بشكل صحيح يجب عليه أن يستعمل التصنيف الصحيح قبل الاسم. في هذا الإطار، استند ليكوف إلى أعمال ديكسون الذي قدم نسخة مختزلة من تصنيف قبائل الدربال للأشياء في العالم، كما وصفها عام 1982م، فهي تصنف مثلا ضمن[23]:

بايي: الرجال، الكنغر، الخفافيش، معظم الثعابين، معظم الأسماك، بعض الطيور، معظم الحشرات، القمر، العواصف، قوس قزح، بعض الرماح...إلخ.

بالان: النساء، الكلاب، بعض الأفاعي، بعض الأسماك، معظم الطيور، والعقارب، والصراصير، وكل شيء مرتبط بالماء أو النار، والشمس والنجوم، وبعض الرماح، وبعض الأشجار...إلخ.

بالام: كل الفواكه الصالحة للأكل، والأشجار التي تحملها، والعسل، والسجائر، والخمر، والكعك...إلخ.

بالا: بعض أعضاء الجسم، واللحم، والنحل، والريح، وبعض الرماح، أغلب الأشجار، والحشائش، والوحل، والحجارة، والضجيج، واللغة...إلخ.

تشكل هذه القائمة مصدر كل باحث يدافع عن فرضية بورجز؛ غير أن ديكسون لا يتوقف عند هذا الحد، بل كان يسعى من وراء ذلك إلى معرفة ما يجعل هذه المقولات تصورية عند متكلمي الدربال، وقد لاحظ أن هذه المقولات يتعلمها الناس بشكل موحد ودون وعي منهم. لكن تعلم هذه المقولات لا ينحصر في تعلم أجزاء المَقُولة الواحدة، بل عن طريق تعلم مبادئ عامة وفق خطاطة تعمل انطلاقا من هذه المبادئ، وقد اقترح ديكسون هذه المبادئ على النحو التالي[24]:

بايي: (إنساني)، ذكر، حيوانات.

بالان: (إنساني)، أنثى، الماء، النار، قتال.

بالام: الطعام غير اللحوم.

بالا: كل شيء آخر عدا الأشياء المذكورة سلفا.

انطلاقا من هذه المبادئ، يمكننا مَقْوَلة الأشياء في عالم الدربال، فالرجال مثلا، بصفتهم بشرا ذكورا، والحيوانات تندرج جميعها في المقولة الأولى، أما النساء، والمياه، والنار، في المقولة الثانية، والتين الشوكي، والطعام غير اللحوم، في المقولة الثالثة، والأشجار التي لا تحمل ثمارا، واللغة، في المقولة الرابعة[25].

إن أهمية البحث الذي قدمه ديكسون يتجلى في كون العلاقة بين هذه العناصر متناسبة وفق خطاطة مبنية على ترابط تصوري، لكن عمل ديكسون الأكثر أهمية يظهر في تفسيره للحالات الشاذة أو غير العادية، والتي لا تتطابق مع هذه المبادئ. كما أن هذه الحالات تعود في معظمها إلى وجود مبادئ أسطورية واعتقادية تتحكم فيها، فالطيور، مثلا، بالرغم من كونها كائنات حية، فهي لا تنتمي إلى المقولة الأولى مع بقية الكائنات الحية، والسبب في ذلك يعود إلى أن الطيور يعتقد أنها أرواح الإناث الميتة، ولذلك يجري تصنيفها في المقولة الثانية. كما أن هناك أنواع خاصة من الطيور، والمسماة: "أبو صفاد المكار"[26]، يعتقد أنها رجال أسطوريون، لذلك يتم تصنيفها ضمن المقولة الأولى مع الرجال. وتقول الأسطورة أن الصراصير هي نساء عجائز، مما يسمح بإدراجها ضمن المقُولة الثانية[27]. ونفس المعتقدات تقول إن القمر والشمس زوجان، وتبعا لذلك، فالقمر يصنف في خانة المقولة الأولى مع بقية الأزواج، بينما الشمس في المقولة الثانية مع بقية الزوجات. وعموما، فالأساطير والمعتقدات تتحكم في عملية المقْولة في عالم الدربال، وبالتالي، يمكن الحصول على النتيجة التالية: "إذا كان اسم ما له الخاصيات "ك"، وتم تصنيفه داخل مقولة معينة، فإننا بالرجوع إلى مبدأ الأسطورة والمعتقدات يصبح له خاصيات "س"، مما يستدعي انتسابه إلى المقُولة التي تتماشى مع "س" لا إلى المقولة التي تتناسب مع "ك"[28].

على هذا الأساس، تبدو الأبحاث التي قدمها ديكسون مهمة، لكونه وضّح أن التصنيفات التي قدمها بورجز -تبدو غريبة في نظر الأنثروبولوجيين الغربيين- منسجمة ومؤسسة على مبادئ تصنيف الأشياء[29]، غير أن تحليل ديكسون غير مقنع لكونه لم يقدم تبريرا، لماذا تصنف الحيوانات مع الإنسان الذكر؟ ولماذا تصنف النار والقتال في المقولة الثانية مع النساء؟ فكيف السبيل للجمع بين أشياء متباعدة ضمن مقولة واحدة؟

حاول ليكوف إيجاد تبريرات لاجتماع هذه الأشياء المتباينة ضمن مقولة واحدة. فقد بيّن أن هذا التجميع ليس اعتباطيا؛ فكل عنصر مرتبط بالعنصر الآخر على الأقل بخاصية مشتركة، فوجود "القمر" ضمن مقولة "بايي" يعود إلى كونه يشترك مع الرجال في خاصية تحددها الأساطير هي "الزوج"، فكلاهما زوج. أما الشمس، فهي زوجة. لذلك، فهي تدخل ضمن مقولة "بالان" مع النساء بوصفهن زوجات. كما أن انتماء عناصر، مثل: أدوات الصيد إلى مقولة "بايي" يرجع إلى اقتسام هذه الأخيرة خاصية مشتركة مع الأسماك، وهي انتمائهما جميعا إلى ميدان التجربة. هكذا، ففي الوقت الذي عمد فيه ديكسون إلى ربط الأشياء المتباينة ضمن مقولة واحدة انطلاقا من مبادئ؛ كالأسطورة، والمعتقدات، والخاصية المشتركة، ذهب ليكوف إلى الجمع بين هذه المبادئ ضمن مبدأ واحد وهو مبدأ التجربة، وهو ما عبر عنه بالقول: "يبدو لي أن مبدأ الأسطورة، والاعتقاد، والخاصية المشتركة، هو نفسه تقريبا مبدأ التجربة"[30]. على هذا الأساس، يقر ليكوف بأن كل ما يجب معرفته في نظام المقْولة هو المبادئ التجريبية للمقولات وعناصرها، وقد خلص ليكوف إلى تصنيف يقوم على المبادئ الآتية:

-      بايي: ذكور بشرية.

-      بالان: إناث بشرية.

-      بالام: نباتات صالحة للأكل.

-      بالا: كل شيء آخر.

تسمح هذه المبادئ بتفسير التعقيدات التي ترتبط بالمقولات، فمقولة "بايي" مثلا، تصبح مُبَنْينة بسلسلة متجاورة، تنطلق من عنصر أول (مركزي)، ويمكن اعتبار مقولة الرجال العنصر المركزي، الذي يرتبط بعناصر أخرى، وهذه العناصر نفسها مرتبطة بعناصر أخرى، وهكذا دواليك[31]. من هذا المنطلق، فالأشياء التي تبدو متباينة هي في الأصل منسجمة على مستوى النظام التصوري لمتكلمي الدربال بناء على المرجعيات الأسطورية والاعتقادية، وهي مرجعيات تدخل في إطار المجال التجريبي للجماعة اللغوية في هذه الثقافة، ويمكن أن نقدم خطاطة تبين هذا التعالق الحاصل بين الأشياء ضمن مقولة واحدة، وهي مقولة "بالان"، كما يلي:

يبدو أن النساء كعنصر في مقولة "بايي" يرتبطن بالشمس، من خلال الأسطورة التي تقول إن القمر زوج والشمس زوجة، كما تدخل الشمس ضمن المجال التجريبي للنار، والنار ترتبط بالدود الأزب بخاصية مشتركة، وهي الحرقة الناتجة عن لسعة الدود تشبه لفيح النار. من هنا، يتم تصنيف الدود الأزب من الأشياء الخطرة، مما يجعلها تشترك مع الأشياء الخطرة. كما أن خاصية الخطر تشمل الماء الذي يتعالق بدوره مع النار، حيث لهما نفس المجال التجريبي. وعليه، فالنساء، والنار، والشمس، والدود الأزب، والأشياء الخطرة، والماء، يندرجون جميعهم ضمن مقولة واحدة، بالرغم من التباين الصارخ بينهما، وما يجمعهما -كما قلنا سابقا- هو الميدان التجريبي[32]. بهذه الطريقة لم تعد الحاجة إلى مشترك مركزي كما تدعي نظرية النماذج الأولية، بل يكفي أن تشترك كل مقولة بأخرى، وفق نظام متسلسل.

2.2. نظام التصنيف اللغوي في ثقافة هان اليابانية

يقوم التصنيف اللغوي الياباني على تصنيف الأشياء انطلاقا من خاصية الطول، والمتانة، من قبيل: العصي، القصب، أقلام الرصاص، الشموع، الأشجار، الحبال...إلخ، فالأشياء الطويلة والمتينة تعتبر أفضل الأمثلة لمقُولة الأشياء الأخرى، وهي نماذج اعتمدتها ثقافة هان اليابانية لتصنيف الكائنات، مثل: الثعابين، والأسماك، وغيرها، والتي تتميز بالطول والنحافة. غير أن هذه الثقافة تعمد إلى توسيع هذه الأمثلة لتشمل حالات أقل تمثيلية، من قبيل: مباريات فنون الحرب، ولعبة البايسبول، والمكالمات الهاتفية، وغيرها[33].

في هذا الإطار، اعتبر ليكوف أن الحالات الأقل تمثيلية وغير المركزية هي حالات غير متوقعة، ومع ذلك ليست اعتباطية، فلو تأملنا حالة الاتصالات الهاتفية لوجدنا أن هذه الحالات لا يمكن التنبؤ بها، لكنها ليست اعتباطية. فعلى الرغم من أنها لا تمتلك خصائص مشتركة مع الأشياء الطويلة والرقيقة، لكن من المنطقي تصنيفها مع الأشياء الطويلة[34]. ومن أجل دراسة هذا النوع من الحالات الهامشية، اعتمد ليكوف على خطاطة الصورة، من قبيل: خطاطة المسار التي تناسب طويل- قصير، وخطاطة الحاوية، ففي لعبة البايسبول يعد لاعبي البايسبول والكرة عناصر مركزية داخل مقولة البايسبول، وعندما يقذف اللاعبين الكرة، فإنها تتخذ مسارا طويلا أو قصيرا، وهذه الصورة الخطاطية تنطبق على أي كرة أخرى. وبناء على ذلك توصل ليكوف إلى نتائج أهمها[35]:

- إن الحالات المركزية تبين وجود كائنات أساسية على المستوى القاعدي (العصي، أقلام، مضرب...إلخ).

- اقتراح نظرية تحفز التوسيعات المرتبطة بالتصنيف.

- لا وجود لعناصر مشتركة في الأهداف التي تحققها لعبة البايسبول والأشياء الطويلة، بل تنتج علاقة بين اللاعبين وضرب الكرة عبر تحويل خطاطة الصورة الاستعارية، وهو ما يفسر عدم كفاية النظرية الكلاسيكية لِلْمَقْوَلة.

- لا يمكن التنبؤ بالمقولات غير المركزية رغم أنها مرتبطة بمواضعات متغيرة تنتج عن توسيعات استعارية وخطاطية.

يبدو أن عملية التمثيل داخل المَقْوَلة لا تنحصر في تصنيف الأشياء المركزية؛ أي الأشياء التي تكون معانيها قاعدية، بل يمكن تصنيف الأشياء خارج المعنى المركزي. غير أن التمثيل في هذه الحالة يكون محفزا بواسطة خطاطة الصورة، من جهة، والكناية، من جهة أخرى. وهذا يستدعي في نظر ليكوف استحضار الجوانب اللغوية في عملية المَقْوَلَة. كما تشكل التحويلات الناتجة عن خطاطات الصورة أساس لتوسيع المَقْوَلَة من خلال الحوافز التي توفرها. لكن التحفيز قد ينشأ كذلك عن الصور الذهنية التقليدية، فنحن نمتلك صورة ذهنية مسبقة حول الأشياء وطريقة اشتغالها[36].

حاصل الكلام، إن المعاني الموسعة تعتمد على المعاني المركزية، فالمعاني المركزية تشكل أساس لتوسيع المَقْوَلَة بشكل متسلسل دون أن تكون هناك خصائص مشتركة بين جميع هذه العناصر كما يدعي النموذج الكلاسيكي، فالعصي، والبرامج التلفزيونية، تدخل في مَقُولة واحدة، ولا ترتبط بخصائص مشتركة، وما يجمع بينهما فقط هو مجال التجربة؛ فكلاهما يعتمدان على الطول وتجربتنا مع الأشياء الطويلة. كما أن "مسابقات الجودو" تدخل في نفس مجال التجربة مع فنون الدفاع عن النفس؛ لأن هذه التوسيعات في نظر ليكوف نسبية، نظر لأن التسلسل متغير، ورغم ذلك يبين كيفية عمل المبادئ في توسيع الصور التقليدية[37].

3. اعتراضات على تحليل ليكوف للمقولات الدلالية

إن التحليل الذي قدمه ليكوف للنموذجين السابقين، واجهه جملة من الاعتراضات، منها ما يتعلق بالبنية التصورية، ومنها ما يرتبط بالبنية المعرفية، وأخرى تدخل في إطار البنية التجريبية والإيكولوجية للذهن. يمكن الوقوف عند هذه الاعتراضات بالشكل التالي:

الاعتراض الأول: إذا كان التصنيف يعتمد على الأدوات اللغوية ولا يتعلق بالفكر، فإن الأشياء التي صنفتها ثقافة هان اليابانية لا تعكس البنية التصورية؛ لأن الأشياء في هذه الثقافة لا تشكل مقولة تصورية واحدة[38]. غير أن ليكوف يرد على هذه الفكرة باعتماد حجج تبين أن المبادئ المعتمدة في التصنيف اللغوي جزء لا يتجزأ من النسق التصوري، وقد حددها ليكوف في العناصر الآتية:

- هناك عناصر مركزية وأخرى هامشية، وكل ما هو أساسي في المركز.

- الصور الذهنية التقليدية.

- تحويلات خطاطة الصورة.

- تطبيق الكناية على الصور الذهنية، ومجالات التجربة.

- وجود استعارات تسمح بتحديد مجال تصوري ما انطلاقا من مجال تصوري آخر.

تعد هذه العناصر جميعها آليات معرفية، نحتاج إليها للقيام بعملية المَقْوَلَة، سواء كانت هذه الآليات لغوية أو غير لغوية، فكل ما يرتبط بالصور الذهنية وتحويلات خطاطة الصورة ليست أدوات لغوية فقط، بل يمكن أن تستخدم كمقولات لغوية للتعبير عن ما ليس لغويا، كما أثبت ذلك كل من "بول كايPaul Kay "، و"ويلت كيمبتون Willett Kempton" 1984م[39]. وعليه، فالمقولات الدلالية هي مقولات ناتجة عن النسق التصوري العام، الأمر الذي يجعلها قابلة للدراسة كجزء لا يتجزأ من النسق التصوري[40].

الاعتراض الثاني: يتجلى في كون الحالات غير المركزية هي مجرد أجزاء تاريخية، وليست من النسق المعرفي الحي، وهو ما يخالف ديكسون في تحليله لثقافة الدربال، حيث اعتبر أن متكلمي الدربال لا يتعلمون نظام المَقْوَلَة أو التصنيف انطلاقا من حالات منفردة، بل باستخدامهم للمبادئ العامة. وفي نفس السياق بيّنت "أنيت شميدت" Annette Schmidt من خلال دراسة حول انهيار نظام الدربال أن الدليل الذي قدمه ديكسون صحيح من الناحية السيكولوجية[41]. كما أبرزت أن أجزاء هذا النظام هي مقولات، وليست آثار تاريخية نتعلمها دون اعتماد نسق معرفي حقيقي. وعليه، فالقبول بحجة الآثار التاريخية يلغي وجود آليات معرفية، مما يعني كذلك غياب أي شيء يتعلق بآثار تاريخية بسيطة، ولتوسيع المقولات في سياقها التاريخي يتطلب نوع البنى المعرفية لهذا التوسيع، وبمجرد أن يحدث هذا التوسيع للمَقْوَلة تصبح الآليات المعرفية أكثر واقعية، وهذا يدل على أن التوسيع لا يتعلق بآثار تاريخية[42].على هذا الأساس، خلص ليكوف إلى أن التحليل الشعاعي يسمح بتمثيل الأشياء في عقولنا من خلال مَقْوَلَتها، لعدة اعتبارات أهمها: وجود مبادئ حقيقية لتوسيعات توظف في التاريخ الذي يخفي المقولات الشعاعية، وهذا يبرر القول بأن المقولات الشعاعية لا تعكس حالات من تاريخ التصور. فالتصنيف المعتمد في نظام الدربال يعكس البنية الشعاعية، ونظام اليابان يقدم حججا تتعلق بالتغيّر المعاصر المستمر، وهي مسألة تجريبية، تفسر كيف أن الأنظمة الموجودة في ذهن المتكلم كانت ولم تعد موجودة، بالرغم من وجود نظام حالي يعكس التاريخ، إلا أنه يسمح بإعادة بنْينَته[43].

الاعتراض الثالث: يروم هذا الاعتراض التركيز على الكيفية التي تعكس أنظمة المَقْوَلَة الجوانب التخيلية والتجريبية، والإيكولوجية للعقل، لكن نظام المَقْوَلَة في ثقافتي الدربال واليابان، تبرز جوانب ذهنية وتخييلية، لأنها تستخدم الصور الذهنية، وتحويلات خطاطة الصورة، والتصورات المجردة، والاستعارات التصورية. وفي النهاية، حقيقة أن التوسيعات من مقولات مركزية ليست قابلة للتنبؤ وليست اعتباطية، بل محفزة من قبل الطابع الإيكولوجي للعقل البشري[44]. من هذا المنطلق، يعتمد الحافز على الخصائص العامة للنسق التصوري، وليس على الخصائص المشتركة بين عناصر المقُولة. وبموجب ذلك، يقر ليكوف بوجود مقولات دلالية متنوعة في ثقافة الدربال تدل على أن التصنيف ليس ثابتا ومستقرا[45].

خاتمة

يتبين من خلال ما سبق، أن اللغة أهم الخصائص التي تحدد الأنشطة المعرفية، وهي أداة لفهم كيف يُمَقْول أو يُصنف البشر عامة. فالمَقْوَلة البشرية حالة خاصة في اللغة الطبيعية، وحالتي الدربال، وهان اليابانية نموذجان يبرزان طريقة توظيف عملية المَقْوَلة عند الناس في اللغة الطبيعية، وهذه المقولات يمكن تحديدها عبر استخدام نماذج معرفية في تحديد بنية المقولات الدلالية، بشكل عام، وكل ما له دلالة في حياة البشر، بشكل خاص. وهو ما يعني أن النماذج المعرفية الممثّلة تؤثر في التصورات الدلالية، كالإحالة، والصدق، والمعنى. كما تؤثر في التصورات الفلسفية، من قبيل: المعرفة، الموضوعية، وغيرها.

 

قائمة المصادر والمراجع:

-          البوعمراني، محمد الصالح، دراسات نظرية وتطبيقية في علم الدلالة العرفاني، مكتبة دار نهى، سفاقص، ط1، 2009

-          جاكندوف، راي، علم الدلالة والعرفانية، ترجمة، عبد الرزاق بنور، مراجعة مختار كريم، دار سيناترا، تونس، 2010

-       Bybee, J, and Carol Moder, Morphological Classes as Natural Categories, Language, vol 59, n°, 2, 1983, pp: 251- 270

-       Bybee, J. L. Usage-based phonology. In M. Darnell et al. (Eds), Functionalism and Formalism in Linguistics, Volume, I: General Papers. Amsterdam and Philadelphia: John Benjamin, (1999), pp: 211–242.

-       Chomsky, N, The minimalist program, Cambridge, M. A. MIT press, 1995

-       Harris, Z, Discourse Analysis, in Language, n°, 28, 1952

-       Jaeger, J. J. and Ohala, J. J. On the structure of phonetic categories, Proceedings of the Annual Meeting of the Berkeley Linguistic Society, n°: 10, 1984, pp: 15–26

-       Jeri Jager (1980), Bybee and Moder (1983), John Robert Ross (1972, 1973, 1974, 1981), Bates and MacWhinny (1982).

-       Kay, Paul, and Kempton, Willett, What is the sapir-Whorf Hypothesis? American Anthropologist, 86, no, 1, 1984, pp: 65-79

-       Kleiber, G, Prototype et prototype, in semantique et cognition; categories, prototypes, typicalité, CNRS Editions, 1993

-       Lakoff, G, Women, fire, and dangerous things: What categories reveal about the mind. Chicago: University of Chicago Press. 1987

-       Lions, John, Semantics, Cambridge University press, vol, 1, pp: 326-327

-       Nathan, Geoffrey, Phonology A cognitive Grammar Introduction, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam, 2008

-       Plaster, Keith and Maria Polinsky. Women are not dangerous things: Gender and categorization, Harvard Working Papers in Linguistics, 12, 2007

[1] - إن المقابل الأجنبي لمصطلح الطراز الأولي Prototype، ويعود إلى الجذر اليوناني المركب من Proto ويعني الأول، وTopos وتدل على النمط، وبالتركيب نحصل على Prototype الذي يدل على النمط الأول أ والطراز الأول، وهذا التعريف يلتقي مع المعنى الذي نجده في علم النفس المعرفي، خصوصا مع إليانور روش التي تقصد به الشاهد الأفضل، أو المعبر الأفضل، أو الممثل الأفضل، أو العنصر المركزي للمقولة.

[2] - Lakoff, G, Women, fire, and dangerous things: What categories reveal about the mind. Chicago: University of Chicago Press. 1987, p. 58

[3] - Chomsky, N, The minimalist program, Cambridge, M. A. MIT press, 1995, p. 18

[4] - Lakoff, G, Women, fire, and dangerous things, op, cit, p. 58

[5] - Ibid., p. 59

[6] - فقد حدد جون ليون أن "الملامح" في اللغة تميز بين ألفاظ المجال الدلالي الواحد، بحيث إن معنى الكلمة يتحدد عند أصحاب "نظرية التحليل التكويني" بمجموع الملامح الدلالية التي تحملها، ويتركز دور نظرية التحليل التكوينى فى تحديد الملامح الدلالية للكلمات، بمعنى للكلمة المركزية دلالة خاصة بها، ويمكن أن يطلق عليها "ملامح خاصة". وهذه الملامح الخاصة هي التي تميز بين معانى كلمات المجال الدلالي الواحد، وتظهر الفروق الدقيقة بين معانى الكلمات المترادفة، وقد استثمر كل من كاتز وفودور منهج التحليل التكويني من أجل إبراز الملامح المحددة لمعنى الكلمة، وهي ملامح نحوية وخبرية ومميزة. انظر:

- Lions, John, Semantics, Cambridge University press, vol, 1, pp: 326-327

[7] - هناك تشابه، بين مفاهيم الطراز الأولي ومفهوم "العلامة"، فالفرق الرئيسي بين المفاهيم هو أن العلامات تدل على العلاقة الهيكلية داخل قواعد اللغة، بينما النماذج الأولية هي حقيقة تعبر عن الإدراك والتمثيل. أنظر:

- Nathan, Geoffrey, Phonology A cognitive Grammar Introduction, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam, 2008, p. 35

[8] - Jeri Jager (1980), Bybee and Moder (1983), John Robert Ross (1972, 1973, 1974, 1981), Bates and MacWhinny (1982).

[9] - وهي الدلاليات التي يدافع عنها الجيل الأول من العلوم المعرفية، من قبيل؛ نعوم تشومسكي، وفودور، وراي جاكاندوف، وغيرهم، وهي دلاليات مستمدة من النموذج التركيبي في اللسانيات، والنموذج المنطقي الرياضي في الفلسفة.

[10] - Jaeger, J. J. and Ohala, J. J. On the structure of phonetic categories, Proceedings of the Annual Meeting of the Berkeley Linguistic Society, n°: 10, 1984, pp: 15–26

[11] - Lakoff, G, op, cit, p. 61

[12] - Bybee, J, and Carol Moder, Morphological Classes as Natural Categories, Language, vol 59, n°, 2, 1983, pp: 251- 270

[13] - Lakoff, G, op, cit, p. 62

[14]- Bybee, J. L. Usage-based phonology. In M. Darnell et al. (Eds), Functionalism and Formalism in Linguistics, Volume, I: General Papers. Amsterdam and Philadelphia: John Benjamin, (1999), pp: 211–242

[15]- Lakoff, G, op, cit, p. 63

[16] - ذهب هاريس في كتابه "تحليل الخطاب" 1952 إلى التمييز بين جمل النواة وغير النواة، وذلك من خلال النظر إلى أن الجملة تنقسم إلى مجموعة من العناصر تسمى "المكونات المباشر للجملة"، وتنقسم هذه المكونات إلى متواليات صغرى تسمى بالمكونات المباشر للعنصرـ وتستمر العملية إلى أصغر مكونات الجملة، وتسمى بالمورفيمات. انظر:

- Harris, Z, Discourse Analysis, in Language, n°, 28, 1952, p. 10

[17] - Lakoff, G, cit, p. 66

[18] - Ibid., p. 57

[19] - Lakoff, G, op, cit, p. 91

[20] - Ibid, p. 91

[21] - لغة الدربال هي لغة السكان الأصليين في أستراليا.

[22] - Bayi, Balan, Balam, Bala

[23] - Ibid., pp: 92-93

[24] - Plaster, Keith and Maria Polinsky. Women are not dangerous things: Gender and categorization, Harvard Working Papers in Linguistics, 12, 2007, p. 3

[25] - Lakoff, G, op, cit, p. 93

[26] - Willy- wagtails

[27] - البوعمراني، محمد الصالح، دراسات نظرية وتطبيقية في علم الدلالة العرفاني، مكتبة دار نهى، سفاقص، ط1، 2009، ص، 75

[28] - Lakoff, G, op, cit, p. 94

[29] - Ibid., p. 95

[30] - Ibid., p. 99

[31] - Kleiber, G, Prototype et prototype, in semantique et cognition; categories, prototypes, typicalité, CNRS Editions, 1993, p. 117

[32] - Lakoff, G, op, cit, p. 100

[33] - Ibid, p. 104

[34] - Ibid., p. 105

[35] - Ibid., p. 106

[36] - Lakoff, G, op, cit, p. 107

[37] - Ibid., p. 110

[38] - Ibid., p. 110

[39] - Kay, Paul, and Kempton, Willett, What is the sapir-Whorf Hypothesis? American Anthropologist, 86, no, 1, 1984, pp: 65-79

[40] - يبدو اعتراض جاكندوف على فرضية ربط المقولة باللغة واضحا، حيث يقر بأن أحكام المَقْوَلة ليست بحاجة لأن تشمل استعمال اللغة، فالمقْولة في نظره عملية تخص جميع أصناف الكائنات، سواء كان بشرا أو حيوان، هذه الفكرة سيؤكد عليها ليكوف في كتابه "الفلسفة في الجسد" 1999م، انظر:

- جاكندوف، راي، علم الدلالة والعرفانية، ترجمة، عبد الرزاق بنور، مراجعة مختار كريم، دار سيناترا، تونس، 2010، ص ص، 161-162

[41] - Lakoff, G, op, cit, p. 110

[42] - Ibid., p. 111

[43] - Ibid., p. 112

[44] - يستخدم ليكوف مفهوم "إيكولوجي" للدلالة على وجود جزء من نظام الأشياء في مكان آخر من النظام.

[45] - Lakoff, G, op, cit, p. 113


مقالات ذات صلة

المزيد