المكانية الرقمية: أهمية الموقع في عالم متشابك

فئة :  قراءات في كتب

المكانية الرقمية: أهمية الموقع في عالم متشابك

المكانية الرقمية: أهمية الموقع في عالم متشابك

إريك جوردون وأدريانا دي سوزا إي سيلفا

ترجمة: محمد حامد درويش

مراجعة: أحمد شكل

فكرة الكتاب

يختلف إدراك المكان من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن زمن الى آخر، فرغم وحدة المكان فالتصورات حوله تكون متفاوتة، وغير متطابقة وغير دقيقة، نتيجة مختلف الزوايا التي تحدد المكان، ولا شك أن الخرائط لها دور مهم في تحديد المكان والإحاطة به، من جهة تقريب المواقع على الأرض، فضلا على مختلف البيانات والمعطيات التي تحيط بالمكان وتكسبه موقعا خاصا به، يمكن أن يميزه عن مختلف المواقع والأمكنة الأخرى؛ فالمكان يأخذ هويته من مختلف تلك البيانات والمعطيات؛ أي مختلف العناوين والتسميات التي تميز موقعاً ومكاناً عن آخر دونه، بالرغم من التشابه بين مختلف الأمكنة من جهة الشكل أو الموقع.

وقد اعتاد الناس في المدن أن يتخذوا لبيوتهم عناوين تجمع بين رقم البيت واسم الشارع والمدينة والبلد، وكذلك هو الأمر مع مختلف المؤسسات الخاصة والعامة. أما في القرى، فالبيوت يميزها الناس فيما بينهم، من خلال التسميات التي أطلقوها على مختلف دروب القرية وأزقتها التي تضم البيوت والدور، وأحيانا يتم الاكتفاء بخبرة السكان المحليين فقط للبلدة، فكل منهم يمتلك خريطة ذهنية للبلدة، وهو قادر أن يرشد السائل في الاتجاه المطلوب.

في مختلف المدن عبر العالم حتى عهد قريب، كان الناس من بينهم أصحاب سيارة الأجرة وغيرها، يأخذون الناس إلى مختلف الأهداف التي يقصدونها، بالاعتماد على مختلف العناوين، [رقم الدار والزقاق والشارع والحي والمدينة] بينما في الوقت الحاضر يتم الاعتماد على الخريطة الإلكترونية من خلال مختلف الهواتف وغيرها التي ترشد السائق إلى عين المكان، يكفي كتابة المكان...والباقي يتكلف به الذكاء الاصطناعي الذي يقودك إلى هدفك بدقة، لقد عرت تقنية الذكاء مختلف الأمكنة والمواقع من الغموض والتخفي والتشابه والالتباس.

"تغذِّي الويب[2] المواقعَ المادية شيئًا فشيئًا بمصادر البيانات، فتجعل تلك المواقعَ المادية جزءًا من الويب. وهناك الملايين من الكمبيوترات والأجهزة المحمولة المتصلة معًا، ويمكن كشفها بواسطة الأقمار الاصطناعية، وهو ما يصنع خريطةً شبه مفصَّلة لمكانِ تواجُدنا بالنسبة إلى كلِّ شيء آخر. لقد جعلَتْ شبكتنا العالمية من الأجهزة أمرَ تحديدِنا لموقعنا (وتحديد الآخرين لموقعنا) أكثرَ سهولةً؛ فنحن نتواجد حيثما تتواجد أجهزتُنا، ودومًا نترك خلفنا آثارًا من البيانات القابلة للتَّتبُّع على الخريطة في عالمنا المادي؛ ولذلك - بينما ظللنا دائمًا على إدراكٍ بالمكان، وظل الآخرون دائمًا على إدراكٍ بموقعنا - فعندما ننغمس في المعلومات يصير لإدراك المواقع دلالاتٌ جديدةٌ"[3] تجعلنا ندرك مختلف الأمكنة والمواقع بشكل مختلف عن الذي كنا ندركها به من قبل. إنه إدراك شاركتنا فيه مختلف أجهزة الذكاء الاصطناعي، التي سارت تستوعب بشكل دقيق مختلف البيانات والمعطيات، التي بجوار بيتك التي لا علم لك بها كلها من قبل، وبهذا الشكل تصير الأمكنة تحمل هوية أخرى، بمعزل عن تلك السمات والهوية التي منحها جموع الناس لمواقع ومعالم في مدينة من المدن أو داخل حي شعبي، والتي كانت بالنسبة إليهم كمعالم يتم الاستعانة بها لمعرفة مختلف الأماكن والمواقع التي تحيط بها، الذكاء الاصطناعي اليوم، لم يكشف لنا عن مختلف الأهداف التي نرغب في الوصول إليها، بل جعل منا نحن البشر مواقع بعينها تتحرك في المكان والزمن، وهو علم بتحركها أينما حلت وارتحلت، فإمكان أي جهة ما، أن تتبع موقع ومكان تحرك شخص بعينه من خلال مختلف الوسائل التقنية [الهاتف الكاميرات الذكية...].

الكتاب الذي بين يدينا يتناول صورةً ناشئةً حديثًا من الإدراك المكاني، نطلق عليها المكانية المترابطة شبكيًّا (أو الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة). يدور الكتاب حول ما يحدث للأفراد والمجتمعات عندما يصبح كلُّ شيء فعليًّا محدَّد المكان أو قابلًا لتحديد موقعه المكاني. والأهم من ذلك أنه يدور حول ما يستطيع الأفراد والمجتمعات فعله عند توافُر هذا الإدراك المكاني؛ من تنظيمِ تظاهُرات سياسية مرتجلة إلى البحث عن أصدقاء ومصادر في الجوار[4].

مواضيع الكتاب

الأمكنة الرَّقْمِيَّة، أو الخرائط الرقمية هي عملية تقوم جمع المعلومات ومختلف البيانات وتنسيقها في صورة افتراضية، بهدف إنتاج خرائط ذات تمثيل دقيق لمنطقة ما، وإعطاء تفاصيل للطرق الرئيسة والفرعية ومناطق الاهتمام، وهذه التكنولوجيا تعطي إمكانية حساب المسافات من نقطة لأخرى؛ فالخرائط الرقمية تستهدف مختلف الأمكنة أي "(الفضاءات الفعلية حيث يحدث هذا) لمؤسساتنا (الحكومية أو التعليمية)، ومجتمعاتنا (أحيائنا السكنية أو أصدقائنا)، وفضاءاتنا (مدننا أو مراكز تسوُّقنا)؛ صيغة تعنى بطبيعة التحوُّل الذي سيبدِّل ما تعنيه المحلية في عالَمٍ آخذٍ في العولمة تبديلًا جوهريًّا. إمكانيةُ الدخول إلى شبكة عالمية للمعلومات مع التواجُد في شارعٍ محليٍّ، أو حي سكني، أو بلدة، أو مدينة؛ يمكن أن تُعِيد ترتيبَ طريقة تعامُل الفرد مع نطاق خبرة المستخِدم. لم يَعُدِ الشارع محدودًا بالأفق المُدرَك حسيًّا للشخص الذي يسير فيه؛ إذ إن شبكة المعلومات التي يمكن الدخول إليها من جهازٍ محمولٍ تضيف إليه الكثير، ومن الممكن لمدينة ريفية صغيرة، منعزلة جغرافيًّا عن بقية العالم، أن تكون عالميةً بسبب دمج المعلومات بشوارعها. وعلى ذلك، فالطريقة التقليدية التي أدرَكَ بها الجغرافيون مفهومَ النطاق لم تَعُدْ دقيقةً. المكانيةُ الرَّقْمِيَّة تجعل الجغرافيا أكثرَ سلاسةً".[5]

من أجل تقريب هذا المعطى في بعده التقني وانعكاساته الاجتماعية والحضرية وصلة كل ذلك بمختلف الخصوصيات، وطبيعة الإشكالات المتفرعة عن هذا التحول، في طبيعة تحديد الأمكنة إلى أمكنة رقمية، تدور مختلف مواضيع هذا الكتاب وأهمها: الخرائط. التعليقات التوضيحية عبر الأجهزة المحمولة. الشبكات والألعاب الاجتماعية. الفضاءات الحضرية. المجتمع. الخصوصية. العولمة.

الأمكنة الرَّقْمِيَّة عنصر مهم في عجلة العولمة

هناك علاقة ترابطية ما بين العولمة والإنترنت؛ لأن العولمة في تجلياتها اتسع مداها من خلال عالم الأنترنت والعالم الافتراضي الذي مكن عموم الناس من التواصل عبر العالم، وذلك بتخطي مختلف الحدود، الجغرافية والثقافية... فبفضل الإنترنت تمكن عموم الناس في شما إفريقيا مثلا من التواصل والتعرف على أخرين في آسيا وفي أبعد نقطة عن المكان الذي هم فيه، وهي مسألة ساهمت بشكل كبير في خلخلة مختلف التصورات التي كانت لكثير من الناس حول مختلف الأمكنة والمواقع والمعالم عبر العالم؛ فمن بين مظاهر العولمة اكتشاف العلم والإنسان والثقافة من جديد، وقد ساهمت العولمة في بعدها الذي يعتمد على تعميم مختلف التقنيات في "انتشارَ التكنولوجيا الرَّقْمِيَّة حتى في أكثر مناطق العالَم بُعْدًا، والتكنولوجياتُ المستخدَمة للتواصل مع الأمكنة الرَّقْمِيَّة لا تتغيَّر كثيرًا من مكانٍ إلى مكان، ولكنَّ استخداماتها المحلية مختلفةٌ. يستخدم الناس التكنولوجيا لتلبية الاحتياجات المحلية، ويُسمَّى هذا بتخصيص التكنولوجيا، أو العملية التي من خلالها يتجاوز مستخدمو التكنولوجيا مجرد تبنِّي التكنولوجيا لجعلها مخصَّصةً لهم، وجعلها ضمن ممارساتهم المحلية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية"[6] فهذا الاستعمال الذي تحول اليوم إلى معطى ضروري في مختلف مجالات الحياة اليومية ساهم بشكل كبير، في توسيع دائرة العولمة في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ أصبح الإنسان يعيش ويحيا الحياة ويتصور العالم وهو متحرر بقدر كبير من خلفيات المكان الذي هو فيه، وقريب من إدراك مختلف الأمكنة بطريقة قريبة جدا من مفهوم "المكانية الرقمية"

المكانية الرقمية اليوم تضعنا في مواجهة تحوُّل جوهري "في طريقة فهمنا الفضاء المادي؛ فهو لم يَعُدْ مستقلًّا عن الفضاء الرقمي (الشبكي)، فالويب تحيطنا من كل مكان، ولم نَعُدْ «ندخل» الويب، لكننا صرنا نحملها معنا: نصل إليها عبر التكنولوجيات المحمولة، وتكنولوجيات الخرائط، والتكنولوجيات ذات الإدراك المكاني، وهي مُدمَجة في كل أنواع أجهزة الاستشعار والأجهزة الشبكية. وما الهواتف المحمولة، و«مستقبِلات النظام العالمي لتحديد المواقع» (الجي بي إس)، و«شارات تحديد الهُوِيَّة بالموجات الراديوية» (آر إف آي دي) إلا أمثلة قليلة للتكنولوجيات ذات الإدراك المكاني التي تتوسَّط تفاعُلَنا مع الفضاءات المترابطة شبكيًّا، ومع الأشخاص الموجودين فيها. عندما تعرف هذه التكنولوجيات أين نحن، فإنها تؤثر تأثيرًا حتميًّا في كيفية معرفتنا بالمكان الذي «نحن» فيه".[7]

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2] الشبكة العنكبوتية العالمية (بالإنجليزية: World Wide Web)‏ أو اختصاراً وِبْ وهي نظام يعمل على ترابط المستندات ببعضها البعض أو هو مجموعة من النصوص الفائقة التي تعمل فوق الإنترنت

[3] إريك جوردون، وأدريانا دي سوزا إي سيلفا، المكانية الرقمية: أهمية الموقع في عالم متشابك، ترجمة محمد حامد درويش مراجعة أحمد شكل، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، عام 2017م، ص. 14

[4] نفسه، ص. 14

[5] نفسه، ص.15

[6] نفسه، ص. 180

[7] نفسه، ص.197


مقالات ذات صلة

المزيد