الموقف التركي من القضية الفلسطينية


فئة :  مقالات

الموقف التركي من القضية الفلسطينية

لم تكن تركيا في السنوات الأخيرةللدولة العثمانية من المؤيدين للحركة الصهيونية في مشروعها الاستيطاني في فلسطين؛ فقد اتخذ السلطان عبد الحميد الثاني موقفًا معارضًا للحركة الصهيونية خلال لقائه بهرتزل، سرعان ما تبدل هذا الموقف بعد وصول كمال أتاتورك إلى السلطة، واستمر أكثر من نصف قرن، بدت فيه تركيا العضو في الأحلاف العسكرية الغربية، صديقة لإسرائيل، تجري معها مناورات عسكرية ومتحالفة سياسيًا. بعد أن اعترفتبإسرائيل في 28 آذار 1949 اعترافًا واقعيًا، وليس شرعيًا أملته الظروف الإقليمية والدولية رغم المعارضة الداخلية التركية، بسبب التهديد السوفيتي لتركيا، واحتياجها إلى التحالف مع الغرب لحفظ أمنها القومي من الخطر السوفيتي. كما أنها كانت بحاجة إلى دعم اللوبي الإسرائيلي القوي التأثير في الولايات المتحدة لمواجهة كل من اللوبي الأرميني، واللوبي اليوناني، ثم انضمت تركيا لحلف الناتو عام 1952، وأصبحت السياسة الخارجية التركية مرتبطة بالغرب، وخاصة حلف الناتو واستراتيجيته في الشرق الأوسط.

إلا أن وصول حزب العدالة والتنمية في تركيا، ذي التوجه الإسلامي إلى الحكم عام 2002 أحدث تحولاً كبيرًا في الموقف التركي من إسرائيل والقضية الفلسطينية. ويلاحظ إطلاق صفة العثمانيين الجدد علىهذا الحزب، وهو المبدأ الذي طرحه وزير الخارجية التركي الحالي أحمد داود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي قبل توليه منصب وزير الخارجية التركي، والذي أراد توظيف العلاقات التاريخية التركية مع دول الجوار من أجل تحقيق المصالح الاستراتيجية التركية، وبناء علاقات إيجابية مع جميع دول المنطقة وبالذات مع الدول العربية. وبناء تلك العلاقات، لا يتم إلا من خلال تفهم تركي للقضية الفلسطينية، واتخاذ مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني.

وبدأ الموقف التركي الجديد يتضح منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية عام 2008، في أعقاب الانتقاداتالشديدة التي وجهها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لإسرائيل. عندما اتهم شمعون بيريس بأنه "يعرف جيدًا كيفية القتل" خلال مناظرة علنية في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وكان أردوغان قد رد بغضب عندما رفض مدير جلسة الحوار التي شارك فيها مع بيريز، وأمين عام الأمم المتحدة، وأمين عام الجامعة العربية، منحه فرصة للرد على دفاع الرئيس الإسرائيلي عن الهجوم على غزة .

وتأزمت العلاقات عندما تم استدعاء السفير التركي في تل أبيب، بسبب إهانته بإجلاسه على كرسي أقل ارتفاعًا من غيره خلال لقائه مع نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، وعدم وضع العلم التركي إلى جانب العلم الإسرائيلي على الطاولة، وهي خطوة قابلتها تركيا بالمثل، وإن لم تكن بالطريقة نفسها، فاستدعت وزارة الخارجية التركية السفير الإسرائيلي في أنقرة لتوبيخه.وبلغ التوتر ذروته بعد انتقاد الإسرائيليين بث التلفزيون التركي الرسمي مسلسلاً تلفزيونيًا تحت مسمى " صرخة حجر" يصور اليهود على أنهم خاطفو أطفال ومرتكبو جرائم حرب، ويصور عملاء الموساد الإسرائيلي بصورة وحشية. يضاف إلى هذا كله الاتفاق الذي أبرمته تركيا والبرازيل مع إيران، لحل أزمة الملف النووي الإيراني الذي يشتبه الغرب والدولة العبرية بأنه يحتوي شقًا عسكريًا سريًا تسعى من خلاله إيران، التي تعتبر العدو اللدود لإسرائيل، إلى حيازة القنبلة النووية. وقد أدى هذا الاتفاق، الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالخدعة، إلى تعميق هوة الخلاف بين إسرائيل وتركيا.

وجاءالهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية عام 2010، الذي كان يحمل مساعدات دولية وتركية للفلسطينيين في قطاع غزة، لكي تعبر فيه تركيا عن موقف متقدم ومتفهم للقضية الفلسطينية، وتبتعد بذلك عن الموقف الذي كانت تقفه مع إسرائيل. وأدى الهجوم علىالسفينة التركية مرمرة إلى مقتل تسعة أشخاص من الأتراك، إلى زيادة التوتر بين تركيا وإسرائيل، واستدعاء تركيا سفيرها من تل أبيب، وتجميد الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل وتعليق العلاقات التجارية والعسكرية في مجال الصناعات الدفاعية. واعتراف الرئيس التركي جول، بأن العلاقة بينهما لن تعود كما كانت عليه قبل الحادث، الذي اعتبر فيه المرة الأولى التي يحصل فيها "شرخ دموي" في العلاقات التركيَّة الإسرائيلية، وهو الأسوأ بينهما.

ويبدو أن العلاقات التركية الإسرائيلية، التي وصلت في السابق إلى حد التحالف الاستراتيجي، لن تعود إلى سابق عهدها؛ وذلك لأن البلدين قطعا جسور التعاون بينهما ولأمد طويل. ولم يترك الخطاب السياسي للقادة الأتراك الأمل لعودة العلاقات إلى ما كانت عليه، خاصة بعد الهجوم الشديدالذي شنه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو على إسرائيل والانتقاداتالعنيفة وغير المسبوقة ضدالحكومة الإسرائيلة؛ فقد اتهم أردوغان إسرائيل بممارسة "الإرهاب" وبأنها "دولة لا إنسانية ارتكبت"مجزرة دموية " ضد الأتراك. أما وزير الخارجية التركية، فأكد أن الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي على أسطول سفن الإغاثة الإنسانية هو "عمل عصابات وقرصنة وجريمة دولة"، واضعًا بذلك على ما يبدو نقطة اللاعودة في العلاقات بين البلدين.

وتدهورت العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وباتت الأخيرة بمثابة الدولة العدو، على الصعيدين الرسمي والشعبي التركي. كما أن تركيا أصبحت طرفًا أساسيًا في الصراع العربي ـالإسرائيلي، وتوسعت دائرة الصراع لكي تدخل دولة إسلامية وبقوة للجانب العربي. إلى الحد الذي جعل تركيا تربط تحسين علاقاتها مع إسرائيل برفع الأخيرة الحصار المفروض على قطاع غزة والتحقيق في ما حدث من قتل للأتراك. وأكد أحمد داود أوغلو أن «مستقبل العلاقات مع إسرائيل يعتمد على موقفها، ولا أرى سبباً لعدم عودة العلاقات إلى طبيعتها بمجرد رفع الحصار عن غزة والإفراج عن مواطنينا»، إلا أن أردوغان وجه انتقادات حادة للحكومة الإسرائيلية، مما يضع شكوك في إمكانية عودة العلاقات إلى ما كانت عليه من قبل، بل وصلت العلاقات إلى حد أن تركيا هددت بقطع العلاقات مع إسرائيل، علمًا بأنهاكانت الدولة الإقليمية الوحيدة التي أقامت علاقات معها، خاصة أن تركيا دولة في المنطقة، وقطع العلاقات مع إسرائيل يفقد الأخيرة نافذة مهمة كانت تستغلها في علاقاتها الدولية. ولم تكتف تركيا بذلك، بل وقفت إلى جانب المقاومة في القضية الفلسطينية وحركة حماس، واستقبلت قياداتها في العاصمة التركية، كما أنه من المتوقع أن يقوم رئيس الوزراء التركي بزيارة قطاع غزة في مطلع شهر حزيران 2013 .

وحققت تركيا ورئيس وزراءها شعبية كبيرة من جراء موقفها الأخير في الشارع العربي، عجزت كل الأنظمة العربية عن الحصول عليه. وهذا المشهد يعيد إلى الأذهان قيادة مصر في عهد الزعيم عبد الناصر في الخمسينيات، والشعبية الكبيرة الذي تمتعت به. ويحرج الأنظمة العربية التي فقدت تواصلها مع جماهيرها التي بدأت تنظر إلى خارج حدود الوطن العربي بحثًا عن منقذ لها، ومعبر عن إرادتها من القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية .

كما تأثرت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل بشكل سلبي؛ فمن المعروف أنّ حجم التبادل التجاري بين الدولتين بلغ 446 مليون دولار في عام 1996، وارتفع إلى نحو 3.38 مليارات دولار عام 2009، إضافة إلى مشاريع عسكرية بقيمة تقارب ملياري دولار. فمنذ توقيع اتفاق التجارة الحرة بين أنقرة وتل أبيب عام 1997، وإلغاء الرسوم الجمركية على 200 منتج وسلعة، ارتفعت هذه القيمة ارتفاعاً هائلاً. وفي عام 2009، استوردت تركيا من إسرائيل بضائع بقيمة مليار ومئة مليون دولار، بينما صدّرت لها بقيمة مليار و550 مليوناً، بينما بلغت الصادرات التركية للدول العربية 31 مليار دولار، وإلى إيران 10 مليار دولار عام 2009؛ فزاد حجم التجارة التركية مع دول الشرق الأوسط، وخاصة العالم العربي من 114% عام 2002 إلى 162% في عام 2008 ، وهذا يأتي في صالح الميزان التجاري التركي . فالصادرات التركية أعلى من وارداتها في المنطقةبنسبة 3 : 2، كما حجم الاستثماراتالتي تدفقت على تركيا قد ارتفعت الاستثمارات الخارجية، وخاصة من دول الخليج العربي؛ فقد كانت نسبتها من مجموع الاستثمارات الخارجية في تركيا عام2002 ،2% ، ووصلت عام 2007 إلى 8% .

ونلاحظ أن حجم التبادل التجاري بين دول الخليج العربي وتركيا، قد تضاعف أربع مرات خلال السنوات السبع الأخيرة؛ أي في عهد العدالة والتنمية، ليصل التبادل التجاري إلى 9 مليارات دولار، وهذا يفسر قيام تركيا بتوسيع علاقاتها مع دول الخليج في توقيع اتفاقية شراكة خليجية تركية.

وكما هي الحال دائماً، فإنّ أكثر القطاعات الاقتصادية هشاشة وعرضة للتأذي من جراء أية أزمة سياسية أمنية تحصل بين أي دولتين، هو قطاع الخدمات، وفي مقدمتها السياحة. وبالنسبة إلى تركيا، كدولة سياحية بامتياز، ولأصحاب المؤسسات التي تعتاش من السياحة؛ فسوف تتأثر بشكل كبير، خاصة إذا علمنا أن أكثر من نصف مليون إسرائيلي زاروا تركيا سياحًا في عام 2008. واستغلت إسرائيل علاقة التحالف الخاصة التي تربطها مع الولايات المتحدة لكي تضغط على الحكومة التركية من أجل وقف تدهور العلاقات بينهما، ونجحت فعلاً خلال زيارة الرئيس الأمريكي أوباما لإسرائيل في شهر آذار 2013 بأن يطلب من تركيا خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء التركي بعودة الاتصالات مع إسرائيل، وقدم رئيس الوزراء الإسرائيلينتنياهو اعتذارًارسمياً لتركيا خلال مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء التركي على الهجوم، واعترف بحدوث «بعض الأخطاء العملية»، وتعهد بدفع التعويضات لأسر الضحايا، مقابل الاتفاق على عدم ملاحقة أية جهة قد تكون مسؤولة عن الحادث قانونياً، واتفق الجانبان على تبادل السفراء وتطبيع العلاقات.

ومن الممكن أن يحصل في المستقبل، تحوّلات في السياسة الخارجيّة التركية مرتبطة بظروف معينة كما يحصل الآن من تطور جديد لتلك السياسة تجاه سوريا التي كانت تربطها معها علاقات قوية، علمًا بأن تركيا حقَّقت من خلال السياسة الخارجيّة الحاليّة فوائد ومصالح كثيرة، سواء أكانت على الصعيد الخارجيّ أم على الصعيد الداخلي، خاصة في الجانب الاقتصاديّ. وأجد أنه من الغباء السياسيّ أن يأتي أي حزب ليحكم في المستقبل مهما كانت توجُّهاته، حتى ولو كان مؤيدًا للكيان الصهيونيّ، ولا يُظهِر تفهمه وتعاطفه مع القضايا العربيّة؛ لأن أي حزب تركيّ سيجد نفسه مُجبَرًا على التعاطف مع هذه القضايا؛ لأنه في نهاية الأمر سيختار التوجّه نفسه الذي اختاره حزب العدالة والتنمية؛ لأن تلك السياسة تخدم في النهاية الدولة التركية والمصالح التركية، وليس فقط مصلحة الحزب الحاكم.

أما على الجانب السياسيّ، فإنني أرى أنَّ النظام السياسيّ التركيّ يمكن أن يُحتذى في المنطقة العربيّة؛ فهو نظام ذو خلفيّة إسلاميّة، لكنه في الوقت ذاته، كما يقول أردوغان، يحكم دولة عَلمانيّة. والسؤال هنا: هل من الممكن أن يُصدَّر هذا النظام إلى دول عربيّة أُخرى؟ وأُجيب: لِمَ لا، فلا توجد فروقات كثيرة بين الإسلام والديموقراطيّة، بل إنَّ بينهما قواسم مشتركة. وهذا يُساعد في أن تُشارك الدول العربيّة في التمتُّع بالديمقراطيّة والحريّة التي يتمتَّع بها المواطنون الأتراك، ولا سيما في المرحلة الجديدة التي نعيشها بسبب الثورات الشعبيّة.

ويجب ألاَّ نُغفِل أنَّ تركيا تحاول ما استطاعت أن تقيم عَلاقاتها مع الدول، بل مع الشعوب العربيّة بشكلٍ مباشر. وكلنا يعرف أنَّ من أهمّ القضايا التي يُعنى بها الشارع العربيّ قضايا الديموقراطيّة ومحاربة الفساد، إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة. إنَّ تركيا ومنذ انطلاقة الحراك الشعبيّ العربيّ في تونس ثم في مصر وليبيا واليمن وسوريا، قد أيَّدَت هذا الحِراك على أساس أنَّ الشعوب العربيّة بدأت تبحث عن هذا القادم من الخارج لتأييد حِراكها.

وفيما يتعلَّق بالقضيّة الفلسطينيّة، فلا حاجة إلى أنْ نتحدَّث عما تعنيه القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيليّ عاطفيًا للشعوب العربيّة بعد 65 سنة على احتلال فلسطين. ويبدو أن تركيا مُدرِكة لهذا الأثر وتأثيره؛ فلا توجد دولة عربيّة عملت على رفع الحصار عن قطاع غزة كما فعلت تركيا. ولم تسحب الدول العربيّة سفراءها من إسرائيل كما فعلت تركيا على خلفيّة قضيّة أسطول الحريّة التركي، ومحاولة فكّ الحصار عن غزة. ما فعلته تركيا يعدّ جديدًا في المفاهيم العربيّة السائدة؛ بمعنى أن تأتي دولة إسلاميّة وتفرض موقفًا مباشرًا في سياقات القضيّة الفلسطينيّة، ويكون لهذا الموقف تداعياته في رفع وتيرة التوتر في العَلاقات بين إسرائيل وتركيا.

ومن المؤكَّد أنَّ المصلحة العربيّة تلتقي مع المصلحة التركيّة، ومن صالح المنطقة أن تلتقي الأمّتان العربيّة والتركيّة لتحجيم إسرائيل. وليس من المعيب أن يأتي في المستقبل من تركيا مَنْ يحرّر القدس، كما حرّرها صلاح الدين في الماضي، ثم إنَّ الإسلام يظلّ قاسمًا مشتركًا مهمًا بين الأمتين. ومن الممكن التوصُّل إلى مواقف مشتركة بين العَلمانيين والإسلاميين؛ فما زالت تركيا تؤمن بدورها تجاه الشعوب الإسلاميّة، وقد رأينا أردوغان مثلاً، يذهب إلى الصومال ويقدم دعمًا ماليًا كبيرًا لشعبها في محاولة للتخفيف من آثار المجاعات التي حلّت بهذا البلد العربيّ المسلم. فما بالها عندما تقوم بدعم الشعب الفلسطيني في نضاله ضد إسرائيل التي تحتل الأماكن المقدسة الإسلامية ؟.

* د. أحمد سعيد نوفل أستاذ العلوم السياسية / جامعة اليرموك الأردنية