مقاطعة إسرائيل أكاديمياً: أصوات الحقّ تهدر


فئة :  مقالات

مقاطعة إسرائيل أكاديمياً: أصوات الحقّ تهدر

ما يزال الضمير العالمي يقترح الوعود وينعش الآمال، ويفتح نوافذ جديدة باتجاه محاصرة اليأس وإضرام النّار في هشيمه. ومن وحي هذه الطمأنينة تأتينا الأخبار الطيّبة من بلاد الأندلس، لتعلن انضمام الجامعة المركزية في برشلونة "يو ايه بي" إلى قافلة الجامعات التي تقاطع المؤسسات التعليمية في إسرائيل، خاصة تلك التي تربطها علاقات بالاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

الجامعة، وهي أساسية وذات تأثير كبير، أعلنت مقاطعتها الجامعات والمؤسسات الإسرائيلية، من خلال بيان، صدر أخيراً عن عمادة الجامعة التي وافقت أن تكون جزءاً من المبادرة العالمية "أماكن بلا عنصرية"، التي تجمع المئات من البلديات والمؤسسات والجامعات والمنظمات في العالم.

ويضاف إعلان الجامعة الكتالونية، كما أفادت الأنباء، إلى النجاحات التي حققتها اللجنة الدولية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها التي تُعرف عالميا بـ (BDS)، والتي أعلن عن تأسيسها في إسبانيا عام 2007 وتنتشر في قارات العالم الستّ.

وفضلاً عن ذلك، فإنّ هناك أكثر من 1400 أكاديمي إسباني يقاطعون إسرائيل، بالإضافة إلى مقاطعة بلديات إشبيلية وسنتياغو وجزر الكناري وتراسا وبدالونا، ما يجعل الروح الإسبانية تنتصر للحق الفلسطيني، وتدين همجية الاحتلال، وخنق الصوت الفلسطيني.

وكانت المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل أثمرت نجاحات واضحة في فرنسا وبلجيكا وهولندا والنرويج والسويد وبلدان أخرى، ما دفع رئيس لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية البروفيسور بيرتس لافي إلى التبرّم، المعطوف على الغضب، لأنّه يرى أنّ المقاطعة الأكاديمية تمثل مسّاً خطيراً بالمورد الأهم، وهو "رأس المال الإنساني". وأكد لـ"الجزيرة نت"، أنّ الجامعات الإسرائيلية تواجه "هجمة شرسة من قبل أوساط معادية"، معتبراً المقاطعة الأكاديمية "خطراً على تفوّق إسرائيل الإستراتيجي وعلى مناعتها ومستقبلها".

وفي حين يحذّر رئيس لجنة الكليات الأكاديمية في الكنيست الإسرائيلي شلومو غروسمان من "هدوء ما قبل العاصفة"، مشيراً إلى ازدياد غضب الطلاب الجامعيين في العالم وانتقاله تدريجياً للأساتذة أيضاً، فإنّه يقترح "إرسال طلاب إسرائيليين للدراسة في جامعة العالم على نفقة الحكومة ليكونوا سفراء وناشطين ضد المقاطعة الأكاديمية".

وطبعاً، فإنّ قادة إسرائيل سواء كانوا حاصلين على رتبة "بروفيسور" أو "جنرال"، فإنّهم يفكّرون بالطريقة ذاتها التي تبتعد كثيراً عن جوهر المعضلة، وتتعلّق بغبارها، فهم يغمضون العين والعقل عن فظائع الاحتلال، والجرائم النازيّة ضد الشعب الفلسطيني، ويعتقدون أنّ مجاهدة أو مجاهداً فلسطينياً يطعن إسرائيلياً، وهو يعلم أنّ مصيره الموت بدم بارد، لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا عندما يشعر بأنّ الألم ضرب أعمقَ ما فيه، وخيّره بين هذا الفعل "الانتحاري" وبين الحياة على ذمة الموت البطيء والذل في معسكرات الاعتقال التي جعلت ضحايا "الهولوكوست" قادة هولوكوست أشد فظاعة وقوده الناس والحجارة والتاريخ والمستقبل والتطلّعات.

الشجاعة ضرورية من أجل إنقاذ روح العالم من الهشيم، هكذا هتف الأكاديميون في العالم الذين يدركون أيّة جريمة صهيونية ترتكب بوجود مليوني فلسطيني محاصرين في غزة. ومن مَعين هذا الألم نشر قرابة 340 أكاديمياً بريطانياً إعلاناً عبر صحيفة "الغارديان" يدعون فيه إلى مقاطعة إسرائيل أكاديمياً، بحسب موقع الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.

الأكاديميون البريطانيون ذكروا، في بيانهم، أمراً في غاية الأهمية، حيث أكدوا أنّ معهد "التخنيون" في مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة يساعد في "تطوير التقنيات المستخدمة في هدم منازل الفلسطينيين".

ومثل هذا المعهد، هناك مراكز أبحاث ومختبرات يشرف عليها أكاديميون وخبراء بعضهم يحمل درجة "بروفيسور" هدفها تطوير الأسلحة الفتّاكة التي ميدان اختبار فاعليتها قطاع غزة وأجساد الفلسطينيين. فكيف يستوي العلم مع الهمجية؟

وجاء بيان الأكاديميين البريطانيين رداً على رسالة الدعم لإسرائيل التي نُشرت قبل ذلك، والموقّعة من قبل 150 من الفنانين الذين يحار المرء، وهو يتأمل أقلامهم وهي توقع بالدم من أجل إحراق شعب آخر بريء، فكيف للفن أن يكون قاتلاً إلا إذا كان "فرانكنشتاين" هو الفنان ذاته؟

ومع ذلك، رد فنانون آخرون في عريضة تنتصر للحقّ وقعها 100 فنان وكاتب من بريطانيا تطالب "بوقف كل أشكال العلاقات الثقافية مع إسرائيل ومقاطعتها، نظراً لسياساتها الاستعمارية في فلسطين".

هذه العريضة وقّعها فنانون عالميون مثل المخرجين كين لوتش ومايك لي، والموسيقي روجر واترز مؤسس فرقة بينك فلويد، والروائي هاري كنزرو، وهي جزء من حملة عالمية متواصلة.

وفي إطار تشديد الخناق على سياسات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل في فلسطين المحتلة عقدت منتصف تشرين الأول (أكتوبر) مجموعة الجغرافيا الناقدة الدولية (ICGG) مؤتمرها الدولي السابع للجغرافيا الناقدة في مدينة رام الله المحتلة في فلسطين.

استطاع المؤتمر أن يجمع عدداً كبيراً من المثقفين والناشطين الملتزمين بمناهضة الاستغلال والظلم الاجتماعي. وضجّ المؤتمر، كما يقول منظموه، بالأنشطة الملهمة والمثيرة للتفكير، التي تمحورت حول موضوع "الراديكالية المحفوفة بالمخاطر في واقع متحول: نحو سياسة الممكن".

تناول زهاء 400 ناشط وأكاديمي من المجتمع العام من أكثر من أربعين بلداً قضايا حول وفي ما وراء الخطوط الأمامية الصارمة للتقسيم الطبقي والنوع الاجتماعي والعرقي والجنسي والكولونيالي الاستعماري.

وفي بيانهم، اعترف المشاركون في المؤتمر بالتفاوت بالقوة واللاعدالة التي يعيشها الفلسطينيون وانحازوا إلى جانب المضطهدين. وعبر البيان السياسي "أزاح المؤتمر التهيئات الزائفة لحياة طبيعية واعترف بصراحة بواقع الاضطهاد الاستعماري الاستيطاني والتمييز العرقي. وفوق كل هذا، فلسطين ليست جغرافيا مجردة، ولا يمكن لأي اجتماع يقوم على ما يمليه الضمير أن يضع نفسه فوق السياسات التي تُعرّف هذا السياق".

خلال هذا المؤتمر، جرى التذكير بأنّ حالة الغضب والاحتجاج التي تعم الفلسطينيين في سائر أنحاء فلسطين التاريخية هي ردّ على "زيادة إسرائيل وميليشيات المستوطنين حدة إجراءاتها الطويلة تاريخياً من تطهير عرقي وتدمير البيوت وسرقة الأراضي والاضطهاد والسجن، مما يذكّرنا بضرورة ملحة للعمل على إنهاء الظلم والاستغلال في فلسطين".

وجرت الدعوة إلى ضرورة فتح نقاش جدي حول حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل داخل جمعية الجغرافيين الأمريكيين (AAG) والجمعية الجغرافية الملكية (RGS) والاتحاد الجغرافي الدولي (IGU) وجمعيات جغرافية أخرى لكي ينضموا إلى الحملة، وبذلك يكون المؤتمر قد انتصر لميثاقه التأسيسي القائم على الالتزام بتطوير النظرية والممارسة الضرورية لمحاربة الاستغلال الاجتماعي والقمع، وبالتالي الإيمان بأنه كما تعبّر جغرافيا العالم عن الجوانب المتعددة للعلاقات الاجتماعية، يتطلب تغييرُ هذه العلاقات الاجتماعية أيضاً إعادة تشكيل الجغرافيا المحلية والعالمية بشكل دراماتيكي، من أجل تغيير اجتماعي يسعى نحو تفكيك أنظمة الاستغلال الرأسمالية، والقمع القائم على أساس الهُوية الجندرية والعرق والهوية الجنسية، والإمبريالية، والشوفينية القومية، والدمار البيئي.

هذه الأصوات الهادرة التي تندّد بالقمع، وتسعى إلى التعددية وقبول الاختلاف، ليست أصواتاً منفردة في بريّة العالم الموحشة، بل هي ذات تأثير نابع من قوة خطابها، ومن الرمزية العالية التي يعبّر عنها المشاركون في إنتاج هذا الخطاب، لأنه يتأسس وينهض على نصرة الضحية، ووقف القتل الممنهج لها في مختبرات الموت في الجامعات الإسرائيلية التي عوضاً من أن تنشغل في مكافحة مهدّدات الحياة من آفات وأمراض، فإنها "تبدع" في كيفية إزهاق روح البشر الآمنين، وإطفاء شعلة النّور في أجسادهم.

وتعيدنا هذه الأصوات إلى شركاء الإنسانية في مقاومة الظلم والألم، إذ قام وفد من ثمانية كُتاب، اثنان منهم من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، بزيارة فلسطين المحتلة، تضامناً مع الشاعر الراحل محمود درويش، الممنوع من الخروج، وتضامناً مع الشعب الفلسطيني. الكتاب هم: البرتغالي، خوسيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل، "الرجل المبدئي، الإنساني، الذي تُقلقه العولمة والآلة وفقدان بريق الخيال، صاحب الكلمة الفاعل صداها في العالم" كما يشير تقرير منشور على موقع "مؤسسة محمود درويش"، والكاتب الإسباني خوان غويتسولو، الروائي الخارج عن المألوف، الذي أخرج الرواية الإسبانية من شرنقتها المحلية لتواكب الرواية الأوروبية بكل ابتكارات المدارس الأدبية، حسب تعاقبها، والذي استطاع أن يخلق لنفسه صوتاً متفرداً، والكاتب النيجيري ووليه سونيكا الحائز أيضاً، على جائزة نوبل للآداب، والكاتب الصيني باي داو، والكاتب الفرنسي كريستيان سلمون، والأمريكي راشيل بانكس، والإيطالي بينتشنزو كونسولو، والكاتب الجنوب أفريقي بريتن باخ

آنذاك صرخ غويتسولو "لا أحد فينا يساند العمليات الانتحارية، ولكن نريد أن يفهم الجميع بأنّ هذه العمليات هي ثمرة الألم. لا أحد يستطيع أن يكون هادئاً وسعيداً أمام ممارسات إسرائيل" التي شبّهها بالنازية، قائلاً إنّ "ممارسات شارون وحكومته ضد الفلسطينيين أسوأ من ممارسات النازية ضد اليهود في الأوخ فيتس". وقد زلزل هذا التصريح النخبة السياسية والثقافية في الكيان الصهيوني، إذ صرحت وزارة الدفاع الإسرائيلية قائلة "من المؤسف أن يكون هذا الكاتب أعمى إلى درجة أن يُساق وراء الدعاية الرخيصة الفلسطينية، فيقارن الألم اليهودي بالوضع القائم في الأرض المحتلة، ولا نعتقد أنه مؤلم إلى هذا الحد".

ورداً على هذا الهجوم، قال ساراماغو: "لا، لا، لست آسفاً على ما قلت، عدا عن ذلك فأنا ما قلت شيئاً عفوياً دون التفكير فيه، وبعد زيارتي إلى غزة، ورأيت ما رأيت أقوله ثانية ويدفعني سبب أكبر، وإذا كانت تزعجهم كلمة الأوخ فيتس، فأنا مستعد لتبديلها بأبشع جريمة ضد الإنسانية ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، وبهذا لن يكونوا رابحين".

كما علق ساراماغو على انتقاد وزارة الدفاع الإسرائيلية، قائلاً: "أُفضّل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة، بدل أن أكون ضحية للدعاية الإسرائيلية الغالية".

بعد هذا التصريح رُفعت كتب ساراماغو كلها من المكتبات الإسرائيلية، رغم أنّ مؤلفاته تحتل المرتبة الأولى في المبيعات.

الصحف الإسرائيلية كلها ذكرت في اليوم الثاني، بأن ساراماغو "سبّب الخسارة والألم للشعب الإسرائيلي، ولهذا فقد رُفعت كتبه من المكتبات بناءً على طلب الشعب. الآن ساراماغو يُسمّى البذرة المعارضة للسامية، والنازي الأوروبي الجديد".

التلفزيون الإسرائيلي الذي كان من المفترض أن يُجري مقابلة مع الكاتب البرتغالي ألغى المقابلة بعد تصريحات ساراماغو الذي علق قائلاً: "في حين يعيش كل الفلسطينيين في 3 كيلومتر مربع يتنعّم الإسرائيليون في المستوطنات بالمساحات الشاسعة، المريحة والمضيئة. لا أحد يعرف ما يحدث هناك، ومهما قال الإنسان بأنه يعرف بما يحدث، كل شيء مدمر بالحافرات، القرى الفلسطينية قد اختفت، لا يُسمح للشعب الفلسطيني بالذهاب لا للعمل، ولا للطبيب، ولا للمدرسة، ويمنعون دخول المساعدات الأوروبية، ولا يسمحون بدخول الإسعاف لنقل النساء اللواتي هن على وشك الوضع، ولهذا قلت إن كل هذا يشبه معسكرات الأوخ فيتس".

صوت شجاع في زمان استثنائي كانه هذا الكاتب الذي تماهى مع حروفه وانتصر لقوة الحياة في التعبير عن آلام الضحايا، فرفعت كتبه عن أرفف المكتبات في إسرائيل، ووضعت فوق أرفف قلوب الأحرار في العالم، وعلقت قلادة في جِيد الأبد..