النبيّ موسى: الأصل والديانة من خارج الكتاب المقدّس


فئة :  مقالات

النبيّ موسى: الأصل والديانة من خارج الكتاب المقدّس

إنّ الحديث عن الشخصيات المرموقة التي تحتل مكانة عالية في المجتمع الذي تنتمي إليه من الأمور التي يصعب الإحاطة بجميع جوانبها نظرًا للتداخل بين ما هو حقيقي وبين ما هو أسطوري، وبين ما هو واقعي وخيالي وبين ما هو وحي وخرافي، خصوصًا إذا تعلق الأمر بنبي من الأنبياء مثل النبيّ موسى.

إنّ موسى أرسل إلى بني إسرائيل لهدايتهم ودعوتهم إلى توحيد الخالق وإنقاذهم من تجبر فرعون؛ إذ أمره الله بإخراج بني إسرائيل من مصر إلى الأرض (الموعودة)، وفي جبل سيناء تلقى موسى الألواح، إلا أنّ هناك من يذهب إلى اعتبار موسى مصري الأصل وكذلك الأمر بالنسبة إلى ديانته، إذ اعتبرت امتدادًا للديانة الأخناتونية. فإلى أي حد يمكن اعتبار هذه النظريات ذات مصداقية وموضوعية نظرًا لتعدد الدراسات والأبحاث المتّصلة بشعب بني إسرائيل وأنبيائه، خصوصًا موسى؟

أصل موسى وديانته عند سيجموند فرويد

أصل موسى عند سيجموند فرويد

يذهب المحلل النفساني والعالم اليهودي سيجموند فرويد في دراسته عن أصل موسى إلى أنّه محرر الشعب اليهودي، وأنّه هو الذي أعطاه ديانته وشرائعه إلى عصر موغل في القدم، مما يجعلنا نتساءل أول ما نتساءل: هل هذه الشخصية شخصية تاريخية أم أنّها شخصية أسطورية؟ وإذا كان موسى قد عاش، فقد كان الزمن الذي احتواه هو القرن الثالث عشر أو الرابع عشر قبل الميلاد، وليس لدينا ما يتحدث عن موسى إلا ما ورد عنه في التوراة وتراث اليهود المكتوب... وأول ما يلفت النظر في شخص موسى هو اسمه وهو يكتب في العبرية موشيه "Mosche" ولنا أن نتساءل من أين أتى هذا الاسم؟ وماذا يعني؟ فكما هو معروف إنّ قصة الاسم مثلما ترد في الفصل الثاني من سفر الخروج تجيب على السؤال، ونعلم من القصة أنّ الأميرة المصرية التي أنقذته من ماء النيل أعطته اسمه "فلأنّي التقطته من الماء يصير اسمه موشيه بمعنى لقيط الماء" وهذا هو التفسير اللغوي للاسم. لكن هذا التفسير اللغوي غير مناسب، ويقول أحد الكتاب.. إنّ تفسير التوراة للاسم أنّه هو الذي التقط من الماء تفسير شعبي لغوي، ولكن صيغة اسم الفاعل من الاسم (اسم موشيه لا يعني على الأكثر إلا الذي يلتقط) لا تتفق مع هذا التفسير. ويمكن تأييد هذا الرأي بحجتين أخريين: الأولى أنّه من السخف أن ننسب إلى أميرة مصرية معرفة اللغة العبرية، والثانية أنّه في الغالب أنّ الماء الذي انتشل منه الطفل لم يكن ماء النيل.

ومن ناحية أخرى فقد اقترح كثير من الناس من زمن طويل أن يكون اسم موسى اسمًا مشتقًّا من اللغة المصرية[1].. واعتمد سيجموند فرويد في تعزيز رأيه على أهم العلماء الذين شرحوا التسمية موسى، وهو جيمس هنري بريستيد، إذ يقول: "من المهم ملاحظة أنّ اسمه موسى هو اسم مصري، وهو ليس إلا الكلمة المصرية "موسى mose" والتي تعني "طفلاً" وهي اختصار للاسم المكون من شقين مثل "أمون موسى" أي "طفل أمون" أو بتاح "بتاح أمون" أي بتاح طفل وهذه الأشكال بدورها هي اختصارات للشكل الكامل الذي يعني أنّ "أمون قد أنجب طفلاً" أو "بتاح أنجب طفلاً" والاسم المختصر موسى أي طفل، صار من وقت مبكر شكلاً مريحًا سهلاً للاسم المركب الكامل. وليس اسم موسى بمعنى طفل اسمًا غير شائع في الآثار المصرية من أمون أو بتاح. ولكم هذا الاسم الإلهي سقط تدريجيًّا مع الاستعمال، حتى اقتصر اسم الولد على اسم موسى mose (أضيف الحرف الأخير إلى الاسم moses عند ترجمة الاسم إلى اليونانية في العهد القديم، ولكن الحرف غير موجود في الترجمة العبرية حيث تكتب Mosheh "أي موشيه". ويقول فرويد وأنا أخذت هذه الفقرة حرفيًّا من كتاب بريستيد، ومستعد تمامًا للإسهام في تحمل مسؤولية ما أوردته من تفاصيل ويدهشني مع ذلك بريستيد وهو يسرد أسماء لها صلة بعضها ببعض قد مر مرورًا في قائمة أسماء الملوك المصرين على الأسماء التي تتشابه في مدلولاتها الدينية مثل "أح- موسى" (أحمس) و"توت- موسى" أي (تحتمس) و"رع- موسى" (رمسيس).

وكان المتوقع أن يستنتج واحد من المؤلفين الكثيرين الذين تبينوا أنّ اسم موسى هو اسم مصري، أنّ من يحمل اسمًا مصريًّا كان مصريًّا هو نفسه، أو أن يقول على الأقل باحتمال ذلك. ونحن لا نحس في العصر الحديث بأي ارتباك عندما نستخلص استنتاجًا كهذا، مع أنّ الإنسان في هذه الأيام يحمل اسمين وليس اسمًا واحدًا، ومع أنّ تغيير الاسم أو اكتسابه في ظروف جديدة شيء لا يمكن استبعاده"[2].

وقد عرض الدكتور حسن حدة مجموعة من الآراء في هذا الموضوع: أهمها المؤرخ اليهودي "يوسيفوس" الذي أقر أنّ موسى كان حاكمًا وكاهنًا مصريًّا وقائدًا كبيرًا في الجيش المصري خلال الحملة التي قام بها لفتح بلاد الحبشة والتبشير بديانة أخناتون وقد حقق فيها النصر العظيم وتزوج من (تربيس ابنة ملك الحبشة) وجند جيشًا حبشيًّا وأصبحت جماعته مؤلفة من العرب العموريين والأحباش. ولم تنكر توراة اليهود البابلية وجود موسى في الحبشة إذ قالت إنّه تزوج كوشية ولم تذكر بلاد هذه الكوشية[3].

أما وول ديورانت مؤلف "قصة الحضارة" فقد أكد مصرية موسى، وأنّه اختصار للاسم المصري حموس، فضلاً عن أنّه نقل عن موسوعة ليفربول البريطانية، التي أرسلتها الجامعة البريطانية في مطلع القرن 19 إلى كل من بابل وتل العمرانية والسامرة برئاسة مريستون، إفادتها بما لا يقبل الشك عن (جرسانغ) عضو البعثة أنّ موسى أنجبته الأميرة حتشبسوب عام 1401(ق.م) وأنّه تربى في بلاطها وبين حاشيتها وأنّه أرسل بمهمات في أعالي النيل لنشر الديانة الجديدة ورجع منتصرًا ثم فرّ من مصر بعد استيلاء (تحوطمس الثالث) على العرش محلّ حتشبسوب عام (1447 ق.م)[4].

والخلاصة التي توصل إليها الدكتور حسن حدة هي أنّ المكتشفات الأثرية المصرية بأنّ موسى نبيّ "موحّد" نزلت عليه التوراة وهي ليست التوراة التي بين أيدينا والتي كتبها الأحبار اليهود في وقت لاحق اعتبارًا من عام 531 قبل الميلاد، وأنّ التوحيد الذي كان يدعو إليه هو غير الذي يجعل من الإله "يهوه" إله اليهود الخاص.. أما القول الشائع بأنّ موسى تربى في قصر فرعون، فإنّ هذا القول يدعم النظرية القائلة بأنّ موسى كان مصريًّا[5].

إلا أنّ آراء سيجموند فرويد حول أصل موسى وتسميته تعرضت لمجموعة من الانتقادات أجملها الدكتور محمد خليفة حسن أحمد فيما يلي:

أوّل وجوه الضعف هو اعتماد فرويد كليًّا على الدليل اللغوي، فثبات مصرية موسى والدليل اللغوي على الرغم من أهميته التي لا نتجاهلها إلا أنّه ليس كافيًا وحده لإثبات نظرة فرويد، فمن المعروف أنّ الأقلية إذا ما عاشت وسط أغلبية تخالفها في الفكر واللغة. فعادة ما نجد هذه الأقلية تتبنى لغة الأغلبية وبعضًا من الثقافة العامة والعادات والتقاليد الخاصة بالأغلبية.

صحيح أنّ التسمية "موسى" قد تكون جزءًا من كل لكن ما يهم أنّ هذا الجزء هو الذي شاع في الاستخدام على غير المعتاد في العديد من الأسماء المركبة المتشابهة في اللغة المصرية القديمة. فلماذا يصبح الجزء "موسى" من اسم مركب علمًا على كل، بينما لا يحدث هذا مع بقية الأسماء المركبة المتشابهة، بمعنى آخر لماذا لم يسقط الجزء في الأسماء المصرية القديمة أحمس وتحتمس ورعمسيس وغيرها. ويبقى الجزء الأخير "مس" ليدل على التسمية الكلية؟ الإجابة على هذا معروفة وهي أنّ سقوط الجزء الأساسي من التسمية المركبة يجعل من "مس" بمعنى "طفل" تمسية لشخصيات عديدة لا يمكن التفريق بينها. ومن ناحية أخرى، إن صحت تسميته بهذه التسمية في طفولته فهل تصح هذه التسمية في مراحل شبابه وشيخوخته؟ والحقيقة أنّ بعض هذه التساؤلات تثيرها نظرية فرويد في أصل موسى استنادًا إلى دليل لغوي ضعيف، ويمكن أن نضيف إلى هذا كله التساؤل التالي: لماذا يطلق والد موسى اسمًا مصريًّا ولا يطلق على ابنه هارون اسمًا مصريًّا؟ هذا بطبيعة الحال إذا رفضنا رواية التوراة التي تقول إنّ ابنة فرعون هي التي سمت موسى وليس والده. أو ليس من الغريب أن يسمي والد موسى العبري ابنه باسم مصري بينما تطلق عليه ابنة فرعون المصرية اسمًا عبريًّا؟[6].

ويعتبر هذا الرد من قبل الدكتور محمد خليفة حسن أحمد على نظرية فرويد ردًّا قويًّا وفي محلّه.

ديانة موسى عند سيجموند فرويد

إنّ تأكيد فرويد أنّ موسى مصري لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب إلى القول إنّه لا ينبغي أن ننسى أنّ موسى لم يكن فقط الزعيم السياسي لليهود المقيمين في مصر، وإنّما كان مشرّعهم ومعلّمهم وهو الذي أجبرهم على اتخاذ ديانة جديدة مازالت تسمى حتى اليوم بالديانة الموسوية نسبة إليه. ولكن هل من الممكن لشخص بمفرده أن يخلق ديانة جديدة بهذه السهولة؟ وعندما يرغب شخص ما في التأثير في ديانة شخص آخر، أليس أكثر الأشياء طبيعية هو دفعه إلى تغيير ديانته واتخاذ ديانة الشخص الأول؟.

وكان الشعب اليهودي في مصر يؤمن يقينًا بدين معين، وإذا كان موسى هو الذي أعطاهم ديانة جديدة، فالنتيجة المستخلصة من ذلك إذن أنّه لا يمكن أن تكون مرفوضةً، وهي أنّ الديانة الجديدة كانت ديانة مصرية[7].

يقول: إنّ هناك طريقاً قصيرًا لإثبات ما افترضناه من أنّ الديانة الموسوية ليست سوى ديانة آتون، ولكني أخشى أن يقال لي إنّ مثل هذا الطريق متعذر، فالعقيدة اليهودية، كما هو معروف جيدًا تقول:

"שְׁמַע, יִשְׂרָאֵל: יְהוָה אֱלֹהֵינוּ, יְהוָה אֶחָד". سفر التثنية6/4

فإذا لم يكون الشبه بين اسم آتون المصري أو (أتوم) وبين الكلمة العبرية أدوناي adonai وبين اسم الإله السوري أدونيس Adonis مجرّد صدفة ولكن هي نتيجة وحدة بدائية في اللغة والمعنى، فإنّنا نستطيع أن نترجم الصيغة اليهودية السابقة هكذا: "اسمع يا إسرائيل، إنّ إلهنا أتون (أدوناي) هو الإله الوحيد".

ويضيف فرويد: ومن السهل أن نتبين نقط التشابه، وكذلك نقاط الاختلاف بين الديانتين، ولكنها لا تنيرنا كثيرًا، فكلاهما شكل من التوحيد المتزمت، ومن ثمّ نرجع إلى السمة الأساسية في ما هو متشابه في كل منهما، ولكن التوحيد اليهودي في بعض نقاطه لا يقل تزمتًا عن التوحيد المصري- مثلاً عندما يمنع كل تصوير مرئي للإله، هي الديانة اليهودية تمسك تمامًا عن عبادة الشمس التي استمرت الديانة المصرية في مشايعتها. ولقد تبيّن لنا عند مقارنة الديانة اليهودية بالديانة الشعبية المصرية، أنّه إلى جانب التعارض في المبدأ، فإنّ هناك في الاختلاف بين الديانتين عنصرًا من التناقض المقصود، ويبدو أنّ إحساسنا ذلك له ما يبرره عندما نستبدل في مقارنتها الديانة اليهودية بديانة أتون التي طوّرها أخناتون كما نعرف، في عداء متعمد للديانة الشائعة. وأدهشنا –عن حق- أنّ الديانة اليهودية لم تتحدث عن أي شيء بعد القبر. ومذهب هذا شأنه هو مذهب ينحو إلى التزام أشكال التوحيد. ويختفي هذا الاندهاش حين ننتقل من الديانة اليهودية إلى ديانة أتون، وتصوُّرنا أنّ هذه السمة قد نقلت من الديانة الأخيرة، حيث كانت ضرورة من الضروريات بالنسبة إلى أخناتون في محاربة الديانة الشائعة التي كان إله الموت أوزيريس يلعب فيها ربما دورًا أكبر من إله آخر من آلهة العوالم العليا. واتفاق الديانة اليهودية مع ديانة أتون في هذه النقطة الهامة هو الحجّة القوية الأولى المؤيدة لافتراضنا، وسنرى أنّها ليست الحجة الوحيدة. يستطرد فرويد قائلاً:

"ولم يعط موسى اليهود دينًا جديدًا فقط، وإنّما من المؤكد كذلك أنّه أدخل عادة الختان، ولهذه النقطة أهمية حاسمة في مشكلتنا، ولم يحدث أن ناقشها أحد، والواقع أنّ التوراة تنقض هذه النقطة كثيرًا، فهو من ناحية يرجع تاريخ الختان إلى أيام زعماء القبائل، كعلامة العهد بين الرب وبين أبراهام، ومن ناحية أخرى يذكر النص في فقرة غامضة بشكل خاص أنّ الرب غضب عن موسى لأنّه أهمل هذا العرف المقدس، واقترح أن يذبحه كعقاب. ولكن زوجة موسى وهي من أهل مدين، أنقذت زوجها من غضب الرب، بأن أجرت العملية بسرعة. وعلى أي حال فهذه تحريفات لا ينبغي أن تضل سبيلنا. وسنكشف دوافعها حالاًّ. ويتبقى في الواقع أنّ السؤال المتعلق بأصل الختان كان يمارس من زمن في مصر، وتأيد قوله بفحص المومياوات، وكذلك بالرسومات على جدران المقابر، ولم يتبع شعب آخر من شعوب شرق البحر الأبيض. كما يصل إلى علمنا هذه العادة، ونستطيع أن نقول عن يقين إنّ الساميين والبابليين والسومريين لم يكونوا يختنون. والتوراة نفسها تقول ذلك يذكره من تواريخ من سكان كنعان"[8].

وقد ذكر الدكتور حسن حدة أنّ موسى كان ممّن ينادون بعقيدة التوحيد الأخناتونية وكان الساعد الأيمن لأخناتون في تثبيت حكمه في مصر وكانت ثقته به عظيمة لدرجة أنّ أخناتون أرسله إلى فتح بلاد الحبشة، فتم له ما أراد وتزوج بابنة ملك الحبشة "تربيس" ونشر ديانة أخناتون وجنّد جيشًا أصبح رديفًا لجيشه العربي[9].

وتجدر الإشارة إلى أنّ آراء فرويد ومن ذهب مذهبه قد واجهت مجموعة من التفنيدات والاعتراضات التي تحاول دحض مثل هذه الآراء التي غالى أصحابها في تصوير علاقة القرابة بين الديانة الموسوية والأخناتونية إلى الحد الذي جعلوا فيه من ديانة موسى ديانة مصرية قديمة، وجعلوا التوحيد فيها مستمدًّا من التوحيد المصري القديم الذي ظهر بصورة واضحة في عصر أخناتون، فضلاً عن أنّها آراء بعيدة عن الصواب لعدة أسباب تاريخية ودينية.

وقد اعتبر الدكتور محمد خليفة أحمد أنّ أول هذه الأسباب تكمن في أنّ توحيد موسى يجب أن ينظر إليه من خلال ارتباطه بتاريخ الأنبياء عامة وتاريخ أنبياء بني إسرائيل خاصة، فالنبوة والوحي ظاهرتان دينيتان مرتبطتان بالدعوة إلى التوحيد وهي دعوة ارتبطت بتاريخ الأنبياء والرسل من آدم إلى محمّد. ودعوة موسى إلى التوحيد هي مرحلة من تاريخ الأنبياء مرتبطة بما سبقها من دعوات، ومؤثرة في ما لحقها من سلسلة النبوة ومؤكدة لوحدة تاريخ الأنبياء ووحدة الأسس التي قام عليها هذا التاريخ: فهو تراث ديني واحد متصل بعضه ببعض، ولا يمكن فهم آخره إلا بفهم كل الفترات الدينية السابقة ومعرفتها. ودعوة موسى لا ترتبط بدعوة أخناتون في الأصل نظرًا للملابسات التاريخية والدينية التي لازمت ظهور دعوة موسى ودعوة أخناتون في مصر. ويستطرد الدكتور محمد خليفة قائلاً: إنّ الأصح هو أن ننظر إلى التوحيد عند أخناتون على أنّه صورة من صور التوحيد التي توصّلت إليها بعض شعوب الشرق الأدنى عن طريق اعتقاد في إله أكبر يقوم بوظائف كل الآلهة الصغرى ويتّصف بكل صفاتها.

وثاني هذه الأسباب الذي يجعلنا نربط توحيد موسى بالتوحيد في بني إسرائيل يعود إلى حقيقة تاريخية ثابتة وهي حقيقة الوجود العبري الإسرائيلي في مصر منذ قدوم يعقوب وأبنائه إلى خروج الجماعة العبرية زمن موسى، والذي يبدو جليًّا أنّه لم يلق متاعب كثيرة في بعث التوحيد بين قومه في مصر باعتبار هذه الجماعة قد عرف عنها التاريخ قديمه وحديثه أنّها من أكثر الجماعات الإنسانية تشدّدًا وتمسّكًا بالدين، بل إنّها من أكثر الجماعات استخدامًا للدين وسيلةً لحفظ كيانها وجنسها من الاندماج في المجتمعات التي عاشت بينها، أما العقبات التي صادفت دعوة موسى في جماعته كانت لها أسباب غير دينية. أما المشاكل الدينية فلم تظهر إلا بعد تمام خروج جماعة بني إسرائيل من مصر وبالذات أثناء غياب موسى عن جماعته وهو يتلقى الوحي الإلهي.

وهناك دليل آخر على ضعف التأثير الأخناتوني في دعوة موسى وهو دليل تاريخي. ففكرة أخناتون التوحيدية لم يكتب لها الانتشار على الرغم من الاتجاه العالمي الذي اتصفت به، وتم إجهاض أفكار أخناتون الدينية بعد موته مباشرة كما تدل على ذلك حقائق التاريخ المصري القديم، بالإضافة إلى أنّ التغييرات الدينية التي أحدثها أخناتون اتجهت إلى إهمال بعض العقائد الدينية التي رسخت في وجدان المصريين وأصبح من الصعب تغييرها ومنها عقيدة الخلود واستمرار الحياة بعد الموت والبعث. ويبدو أنّ التوحيد عند أخناتون جعله يرفض فكرة تأليه الملوك وهو أمر غريب بالنسبة إلى عامة المصريين وحكامهم وملوكهم، بل إنّ أنصاره قد أسرفوا في تمجيده حتى أعلنوه ابنًا للإله وأوشكوا أن يؤلهوه بشخصه عن ديانته. وبذلك طمست معالمه[10].

بعد هذا العرض الموجز لشخصية موسى من خارج النص الديني، من حيث الأصل والديانة، أخلص إلى أنّ نظرية فرويد حول موسى، أصل موسى وديانته هي نظرية، على الرغم ممّا طرحته من فرضيّات وما اتسمت به من طرافة من منظور التحليل النفسي، غير مبنية على دليل قوي يمكن أن يصمد أمام النصوص الدينيّة المقدّسة سواء منها التوراتية أو القرآنية؛ فهذه الأخيرة تؤكد أنّ موسى رسول من عند الله إلى بني إسرائيل.

 

لائحة المراجع

- حسن حدة، موسى والتوراة، العربي للنشر والطباعة والتوزيع.

- سيجموند فرويد، النبي موسى ورسالة التوحيد، ترجمة ودراسة عبد المنعم حنفي، دار الرشاد، ط1، 1991

- محمد خليفة حسن أحمد، تاريخ الديانة اليهودية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط1، 1998

ـ وول ديروانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع بيروت.


[1]- سيجموند فرويد، النبي موسى ورسالة التوحيد، ص ص 26-27

[2]- سيجموند فرويد، مرجع سابق، ص ص 27-28

[3]- حسن حدة، موسى والتوراة، ص ص 46-47

[4]- وول ديروانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، م1، ج2، ص 326

[5]- حسن حدة، مرجع سابق، ص 52

[6]- محمد خليفة حسن أحمد، تاريخ الديانة اليهودية، ص ص 77-78، بتصرّف.

[7]- سيجموند فرويد، مرجع سابق، ص ص 37-38

[8]- سيجموند فرويد، مرجع سابق، ص ص 48-49-50، بتصرف.

[9]- حسن حدة مرجع سابق، ص ص 57-58

[10]- محمد خليفة حسن أحمد، مرجع سابق، ص ص 70- 71- 72- 75- 76، بتصرف