الشجيرة الملتهبة في المخيال الديني اليهودي: الدلالات والأبعاد
فئة : مقالات
الشجيرة الملتهبة في المخيال الديني اليهودي: الدلالات والأبعاد
تزخر التوراة بالكثير من القصص والحكايات التي تقوم فيها الشخصيات المقدسة بأدوار بطولية تعرض فيها مشاهد تتخللها دلالات وأبعاد تتحول - حتما وعبر التاريخ اليهودي العام وبمنهج تأويلي معين - إلى رؤية خاصة تعكس مرونة الديانة اليهودية في طرح القضايا التي تمثل مقارعة لتحديات الآخر الحضاري وممانعة للإشكاليات العلمية والفكرية والفلسفية التي تتجدد وفق قانون التطور العضوي الطبيعي لحركة الحياة وناموس الكون. وعلى الرغم من أن القصة التوراتية يمتزج فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة والأصيل بالدخيل، فإنها تحتوي في طياتها على مقاصد وإشارات غالبا ما يتم حوسلتها وتحييثها قصد تطويعها للمقتضيات المعاصرة. وباتت قصة الشجيرة الملتهبة ـ والتي لا تكاد تخرج عن هذا الإطار ـ واحدة من أبرز القصص التي نسجت تصورًا عامًّا في المخيال اليهودي على امتداد الزمان والمكان، فانبثقت منه خواطر فكرية برزت ومضاتها في التصوف والفلسفة والتاريخ والسياسة والإيطيقا والإيكونوغرافيا اليهودية.
وترد قصة الشجيرة الملتهبة في الإصحاح الثالث من سفر الخروج[1]، وهي شجيرة عربية الأصل تسمى "السنا"[2]، ويذكر المؤرخ اليهودي الإسكندري أترابانوس Atrapanus (القرن 3. ق.م) أن موسى ناشد الإله بعدما دبّ في قلبه الرعب من هول ما رأى؛ إذ شخص بصره إلى الشجيرة تتوقد دون أن تحترق، ففر هاربا إلا أن صوت الرب استوقفه، مخبرًا إياه بأنه سيخلص اليهود من العبودية بعدما يعلن الحرب على المصريين[3]. ومن هنا، فإن المؤرخ أترابانوس يؤول "صوت الرب" بأنه حقيقة وليس مجازا، بينما يرى فيلون الإسكندري أنه دليل على عدم تجسد الإله التوراتي (انتفاء الأنثروبومورفيزم) ويقرر أن ملكا تجلى في الشجيرة[4]. كما أدلى أقطاب الفكر اليهودي بتفسيرات رمزية عن شجيرة السنا التوراتية، فدعوها بالشجيرة العظيمة والسامية والمباركة، وجعلوها مرادفة لشعب إسرائيل، تحيل عليهم وترمز لهم وتقترن بهم، فهي صغيرة الحجم، نادرة الانتشار في البرية، تتفرد بالبساطة والتواضع، ذات أشواك وورود[5]. ولم يقع الاختيار الإلهي عليها اعتباطا؛ ذلك أن شعب إسرائيل مثل الشجيرة قليل العدد، قوي الشوكة، عصي على العدو وحصن للعالم[6].
وعلى غرار ذلك، انثنى أرباب التصوف القبالي اليهودي للقول إن الشجيرة الملتهبة تعكس الضياء والنور الذي انجلى وسطع أول أيام الخلق الستة، ولا أدل على ذلك من تجلّي الإله فيه، وقد أطلق عليه المتصوفة اليهود بظاهرة "تسيمتزيم" "Tsimtzum" تزكية منهم لنظرية حلول الإله واتحاده بهذا العالم[7]. فضلا عن ذلك، جعل القباليون الأشجار المذكورة في التوراة عبارة عن رسم بياني بمثلثات فرعية تصاعدية؛ فشجرة المعرفة التي كانت سببا في سقوط الإنسان (آدم) توجد على الجبل الأيسر، بينما تتموضع الشجيرة الملتهبة التي كشفت عن الإنسان الكامل (موسى) على الجبل الأيمن، ووسط الجبلين تظهر شجرة الحياة -التي هي هدف كل إنسان- ساطعة بضيائها ومستأثرة بمفاتيح العالم والكون[8]. ومن هنا تحديدا، يقدم علماء اليهود مسوغات عقلانية على اختيار الشمعدان شعارا ورمزا للشعب اليهودي منذ القرون المبكرة للتاريخ العبري، وتم تنميطه على شكل الشجيرة الملتهبة التي تتوقد دون أن تحترق في إشارة ضمنية إلى الاستمرار بين الماضي والحاضر وبين الليتورجي والثيولوجي، وبذلك عد الشمعدان سر التطور والنهضة والازدهار والتحديث[9].
ولكن في المقابل، تطرح الفلسفة اليهودية رأيا مغايرًا تماما لما ذهب إليه المتصوفة اليهود؛ إذ يوظف الفيلسوف الوجودي اليهودي البارز إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas (1906-1996) مصطلح "إيليتي" "illeity" للدلالة على "الأثر الذي يخلفه الآخر"، معتبرا أن الإله التوراتي يتبدى فيما وراء الوجود مشيرا إلى تجربة موسى أمام الشجيرة الملتهبة على أن الإله التوراتي يتصف بالغياب اللامتناهي عن هذا العالم، فلا يظهر إلا أثره فقط[10]. وفي الجانب الإيطيقي، يصرح ماندرسون Manderson أن الشجيرة الملتهبة في التوراة هي تصوير حسي ملموس لمفهوم مجرد، ألا وهو الحب. فكما أن هذا الأخير يرتبط بالتعابير الخارجية للجسد، يكشف عما يختلج في باطن الذات من مشاعر، فهو تماما من الشجيرة؛ إذ هما معا يتوقدان اشتياقا دون أن يحترقا، مخلفين وراءهما بقايا وآثارا تدل على الصمود والاستمرار والثبات الذي تضطلع به اليهودية كدين للحب والشوق والأمل، ومن ثم خلص ماندرسون إلى أن اليهودية هي مؤسسة للأخلاق وإيطيقا الأديان[11].
وجدير بالذكر، أن قصة الشجيرة التوراتية كانت ولازالت وستظل موضوع استلهام فكري وروحي للمهتمين بتاريخ الأفكار من لدن علماء اليهود، فلطالما جعلوا منها إسقاطات معاصرة للقضايا السياسية والاقتصادية التي عصفت بأوضاع اليهود في العالم، وما عانوه من تشرذم واضطهاد وتنكيل من طرف الأغيار، حتى أصبح الهولوكوست متماهيا مع الشجيرة الملتهبة في المخيال اليهودي، وعليه، يؤكد عالم الاجتماع اليهودي المحافظ لويس صامويل فوير Louis S Feuer (1912-2002) أن مراكز الإبادة الجماعية في حق اليهود بأوشويتز Auschwitz في بولونيا هي قياس وإسقاط معاصر على الشجرة الملتهبة؛ إذ إن الإله جعل من هذه المراكز معبدا مفعما بالشيخيناه (السكينة) متجليا بذاته فيها، بينما كان الجسد اليهودي يحترق. فكما أن الشجيرة الملتهبة حسب "فوير" كانت دليلا لموسى في الصحراء، كذلك كانت أفران أوشويتز هداية من الإله نحو الإيمان بوجوده؛ الإيمان الذي منح النجاة للمؤمنين بعدما دكت هذه المراكز والأفران إلى الأبد، وتمت إرادة الإله بتأسيس دولة إسرائيل كنتاج لسبب تاريخي واضح ومعلوم[12].
وبناء على ذلك، فإن الشجيرة الملتهبة أو المتوقدة كما جاء ذكرها في التوراة والكتب اليهودية المقدسة تعد النواة الأولى واللبنة الأساس للمقاصد الكهنوتية والدلالات التاريخية والأبعاد الليتورجية والحكم الدينية، تنفتح على تأويلات عامة في حقول معرفية وفلسفية وتاريخانية وسيميولوجية. وعلى الرغم من أن تداول القصة المذكورة بمقاربات مختلفة لاختلاف المرجعيات والنظريات، فقد نتجت عن ذلك تفسيرات متضاربة ومتناقضة لمست الجانب العقدي للديانة اليهودية؛ فبينما يعتمد المتصوفة اليهود على عنصر المحايثة للإله التوراتي، فإن ليفيناس وأمثاله يقولون بعنصر المفارقة والتجاوز، مما ترك شرخا واسعا بين التراث اليهودي والفلسفة اليهودية المعاصرة التي تبنت في أحد جوانبها المنهج التفكيكي.
ومهما يكن من أمر، فإن قصة الشجيرة كامنة في العقل الباطني للذات اليهودية، فاحتراق الأشجار يمثل في المخيال الديني اليهودي دليلا على ثبات الشعب اليهودي ورباطة جأشه وصحوة ضميره وتماسك كيانه وقوة صولته، غير مكترث بالتهديدات والتحديات التي تواجهه. إنه التماهي المطلق بين التاريخ والطبيعة في الثقافة اليهودية.
المصادر والمراجع
1ـ الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس، القاهرة، 2008
2ـ תורה נביאים וכתובים، שמות.
Biblia Hebraica, Ex Officina Bernhardi Tauchnitz, 1859
3- David Seymour, Law Antisemitism and the Holocaust, Routledge, New York, 2007
4- Dov Peretz Elkins, The wisdom of Judaism, An introduction to the values of the Talmud, Jewish Lights Publishing, Vermont, USA. 2007
5- Encyclopedia Judaica, V: 04, Thomson Gale, New York. 2007
6- Erkki Koskenniemi, The Old Testament miracle, workers in early Judaism, Mohr Siebeck, Tübingen, Germany, 2005
7- Henry. F. Knight, Confessing Christ in a post-Holocaust world, a Midrashic experiment, Greenwood Press, London. 2000
8 - Irving Greeberg, The Jewish way, living the holidays, Simon and Schuster. 1988
9 - Judith. Z. Abrams, The secret world of Kabbalah, Kar-ben Publishing, Minneapolis, USA. 2006
10- Leonora Leet, The Universal Kabbalah, Inner traditions, Vermont, USA. 2004
11- Lewis S. Feuer, Varieties of scientific experience, Transaction Publishers, New Brunswick, USA.
12- Noah Horwitz, Reality in the name of God, or divine insistence, Punctum books, New York, 2012
[1]- نقرأ في التوراة "وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان. فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. 2 وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذ العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. 3 فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة. 4 فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى. فقال هأنذا 5 فقال لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة 6 ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه؛ لأنه خاف أن ينظر إلى الله".
ـ انظر: الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس، القاهرة، 2008
[2]ـ تؤكد التوراة العبرية والتلمود أن اسم الشجيرة هو "السنا" "הַסְּנֶה"، وليس "العليقة" كما ذهبت إلى ذلك الترجمات المسيحية العربية على اختلاف نسخها، وشتان ما بين السنا والعليقة. للتوسع ينظر:
ـ תורה נביאים וכתובים، שמות. 3: 1ـ 6
Biblia Hebraica, Ex Officina Bernhardi Tauchnitz, 1859
Encyclopedia Judaica, V: 04, Thomson Gale, New York, 2007. P: 297ـ
[3]ـ The Old Testament miracle, workers in early Judaism, Erkki Koskenniemi, Mohr Siebeck, Tübingen, Germany, 2005. P: 94
[4]- The Old Testament miracle, workers in early Judaism, Erkki Koskenniemi, Op. Cit. P: 69, 133
[5]- The wisdom of Judaism, An introduction to the values of the Talmud, Rabbi Dov Peretz Elkins, Jewish Lights Publishing, Vermont, USA, 2007. P: 69
[6]- Confessing Christ in a post-Holocaust world, a Midrashic experiment, Henry. F. Knight, Greenwood Press, London, 2000. P: 87
[7]- The secret world of Kabbalah, Judith. Z. Abrams, Kar-ben Publishing, Minneapolis, USA, 2006. P: 45
[8]- The Universal Kabbalah, Leonora Leet, Inner traditions, Vermont, USA, 2004. P: 18
[9]- The Jewish way, living the holidays, Rabbi Irving Greeberg, Simon and Schuster, New York, 1988. P: 343
[10]- Reality in the name of God, or divine insistence, Noah Horwitz, Punctum books, New York, 2012. P: 28
[11]- Law Antisemitism and the Holocaust, David Seymour, Routledge, New York, 2007.P: 46
[12]- Varieties of scientific experience, Lewis S. Feuer, Transaction Publishers, New Brunswick, USA, P: 168