الوباء العالمي كورونا؛ من سياق المؤامرة إلى كيف نواجه الموت؟


فئة :  مقالات

الوباء العالمي كورونا؛ من سياق المؤامرة إلى كيف نواجه الموت؟

الإنسانية في فخّ هشاشتها:

هشاشة الكائن الإنساني وضعفه لا يمكن أنْ تقاس فقط بالجانب الجسدي، ولا بالانهيارات الصّحية التي يتعرّض لها كلّ حين، ولكنْ هناك جانبًا آخر يتستّر في غالب الأحيان بمسوح العقلنة؛ بمعنى أنّ الإنسان وبفعل هذا التطوّر الحاصل في بنيته العقلية، أصبح ضحيّة من ضحاياها. ففي نهاية المطاف، العقل ليس ميزة أو هبة ممنوحة، بقدر ما هي أداةٌ عمِل على تطويرها، وتجويدها هذا الإنسان كما كان يرى جون ديوي، لينفصل بها أو عبرها عن باقي الكائنات. وهذا لا يعني أنّ غيره لا يمتلكها، أو هي منعدمة عنده إلى الحدّ الذي يستحيل وجودها عنده. هذا يخالف المنطق الطبيعي، والواقع الذي نعيشه.

ربّما الإنسان هو الكائن الوحيد الذي عُرف بهذه الخاصيّة، أو أريد له أنْ يكون كذلك؛ فبالرّغم من أنّ غالبية النّاس ترى بأنّ العنصر المميّز الوحيد هو العقل، أو الإحساس والعاطفة كما يرى البعض الآخر، أو العيش ضمن سياق اجتماعي كما يرى أرسطو. فقد استفاض لوك فيري[1] مثلا في الحديث عن هذه الجزئية ضمن التفريق بين الحيوانية والإنسانية، ليعطيها بعداً آخر يستحقّ التأمّل والتوقّف. فعند ديكارت مثلاً، لا يؤخذ فقط بمعيار العقل والذّكاء، بل يضاف إلى ذلك معيار الانفعال والإحساس؛ أيْ بتعبير آخر الحيوانات هي عبارة عن آلات دون مشاعر وانفعالات، خلافا للكائن الإنساني، وهو تفسير راجع لعدم قدرتها على التّعبير والكلام. هذا التوجّه الفكري والفلسفي في النّظرة إلى الفرق بين الإنسان والحيوان، سيأخذ بعداً آخر مع روسو؛ أيْ رفض فكرة أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك الانفعال والإحساس. لسبب بسيط هو أنّ هاتين الخاصيتين، وربّما اللّغة أيضاً غير كافية لتجعل من الإنسان عنصرا مميّزا، بل إنّ ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات، خاصّة الحيوانية، هو ما سمّاه روسو: "قابلية التّحسين"؛ أيْ قدرة الإنسان على تحسين ذاته طوال حياته. ففي الوقت الذي يخضع فيه الحيوان لنظام طبيعي غريزي صارم، يملك الكائن الإنساني القابلية للتمرّد عليه، وهو ما تنبّه إليه روسو، هي القابلية للتحسّن، كما أشار روسو ما يميّزنا عن غيرنا، وهذا لا يعني الأفضلية؛ فالاختلاف لا يعني شيئا غير الاختلاف، كما يحبّ أنْ يوحي لنا بعض من يعتبرون كلّ ميزة فضيلة، وكلّ اختلاف هو مدعاة للتّفاخر.

لكن المثير في كلّ هذا هو أنّ هذه العقلنة، أو هذا الاستخدام المفرط للذّكاء الإنساني في حدوده القصوى، ليس فقط ميزة، بل قد يكون هو نقطة الضّعف المميتة في هذا السّياق الإنساني المعاصر، الموتور بالأحداث والوقائع؛ لأنّ الإنسان لا بدّ أنْ يدفع ضريبة ذكائه، لماذا؟؛ لأنّه يصنع ما لا قِبَل له بالسّيطرة عليه، أو يقْدِم على أعمال لا يستطيع أنْ يتنبَّأ بمفاعيلها وامتداداتها، فمشاريع الإنسان تستهلك أفكاره، وأعماله تستنزف موارده[2]. وتبدو هنا عبارة إيريك فروم صادمة، حينما يقول: "الإنسان يمتلك كثيرا، ويستعمل كثيرا، لكنّه لا يساوي إلاّ القليل". هذا هو مفهوم الاغتراب أو الوثنية بالتّعبيرات الدّينية القديمة، كما ينصّ صاحب المقولة، يصنع الإنسان أشياءه، وبدل أنْ يتحكّم فيها تتحكّم فيه.

دوما في سياق الأزمات تظهر معادن النّاس، ومخبوءات نفوسهم، وهواجسهم، والأهمّ من كلّ هذا هو ظهور هشاشتهم. وماذا نقصد بالهشاشة هنا؟. إنّها ليست أكثر من الرّجوع إلى الحالة الأصلية؛ فكلّ ما يودّ الإنسان إخفاءه يبرز وبشكل جليّ، فلا مكان هنا للمناورة، حيث تسقط الأقنعة، وينكشف الخطاب، وتنهار كلّ الأنساق الفكرية أمام أوّل اختبار. ففي كلامنا وخطاباتنا نمارس الكثير من الحجب والمواراة، فما نستبعده أو ننفيه قد يحضر بشكل أو بآخر، فقد نفاجأ بالاستبداد من وراء عشق الحرية، أو ندعو إلى المساواة فيما لا نقدر إلا على إنتاج التفاضل والتمايز، أو نتوجه نحو المستقبل لكي نصطدم بالماضي أمامنا؛ فنتشه الذي أعلن موت الله، قد أخرجه من الباب، ليعود من النافذة. حين لبس عباءة الألوهية والنبوة، بإعلانه أنه يكتب للبشرية إنجيلها الجديد، ممارسا بذلك لاهوتا مضاعفا.[3]

الفراغ الذي يعيشه الإنسان المعاصر لا يعبِّئه الاستهلاك كما يؤكّد على ذلك برنارد نويل[4]؛ لأنّ داخل هذا النّظام الاستهلاكي لا يؤدي الاستهلاك إلى الإشباع، بل يبعث فقط هذا الأخير على الفور الشهّية ذاتها للاستهلاك؛ هنا المشكلة التي يعاني منها الإنسان المعاصر. إنّه ضعيف أمام الأمراض، وضعيف أمام الأزمات، وهشٌّ أمام المحن، ليس لكونه لا يمتلك وسائل المناورة أو التخفّي، ولكنْ لأنَّه أيضا يعتقد أنّ ما تقدّمه له الرّأسمالية من وعود قد يضيع في لحظة. ففي كتابه الشّيّق "من نقد السّماء إلى نقد الأرض" يؤكّد العفيف الأخضر[5] أنّ في عالم اليوم لم تعد الجنّة في السّماء، بل في المخازن، وويل لأصحاب الجيوب الفارغة. تماما كما في الدّين لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، كذلك في حضارة الاستهلاك لا فرق بين أسود وأبيض، بين أهلي وغريب إلا بكمية البضائع المستهلكة. هنا المشكلة، أو لنقل المعضلة التي يقف في مواجهتها الإنسان المعاصر على وجه التّحديد.

الهروب من دوائر الألم اليوم، والخروج من متاهات عالم الاستهلاك، أضحى المطلب الأوّل لعالم كان ينشد المعنى في ما هو ديني، حيث الإيمان يمنح الإنسان امتلاءً من نوع خاص، فتحوّل المعنى إلى معنى اقتصادي، وهو في نهاية المطاف ليس سوى فراغ كما يسمِّيه برنار نويل؛ ذلك الفراغ الذي لا يعبّئه سوى الاستهلاك من أجل أنْ يبعث فيه على الفور الشّهية ذاتها إلى الاستهلاك. هذا الوضع أو الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر، تحت الضّغط الجامح للعولمة، وثقافة الاستهلاك، أنشأ تضخّما في قضية البحث عن السّعادة، أو السّعي وراء فكرة السّعادة، ربّما لأنّ الإنسان أدرك ولو بشكل متأخِّر، أنّ السّلطة الاقتصادية تحاصرنا اليوم بالثّقب الذي تحفره فينا وتقيم هناك فرجة؛ أي أنْ تدفعنا لأنْ نستهلك موتنا الشّخصي ونحن مغتبطون. هذا الواقع بحسب لوك فيري، ساهم في ظهور وانتشار فكرة السّعادة من خلال مؤلّفات وكتابات تزعم لنفسها الصّبغة الفلسفية باستنادها إلى أفكار وفلسفات وطرائق ومذاهب فكرية ودينية وفلسفية، وتقدّم نفسها للقارئ المستهلك والمضغوط والباحث عن اللّذة والسّعادة، في شكل نظريات تدّعي التّنمية البشرية، وأساليب التطوير الذاتي، وما سمّي بعلم النّفس الإيجابي؛ ذلك العلم الذي: "نشأ كي يوازن بين النّزعة المرضية المهيمنة، من خلال الاهتمام بأوجه الصحة وحسن الحال وبناء أوجه الاقتدار، والتمكُّن لدى الفرد والمجتمع"[6]. علمٌ طوّره العالم الأمريكي في مجال علم النّفس، كما أشار مصطفى حجازي، ليؤكّد أنّ هذا العلم ليس دراسة فقط للمرض والعجز، بل هو أيضا دراسة الاقتدار والفضائل الإنسانية. إنّه ليس مجرد إصلاح للخلل، بل هو كذلك بناء الصّحيح والصحّي، وهو ليس مجرد اهتمام بالمرضي، بل هو كذلك اهتمام بتنمية قدرات العمل والحبّ والنموّ والفرح والسّعادة. هكذا أراد أصحاب هذا العلم أنْ يقفوا أمام هذا الزّحف الكاسر للاستهلاك في عالم اليوم، عبر استجلاب أساليب وتداريب معيّنة أطلقوا عليها علم التّنمية الذاتية أو البشرية. وحتى لا ننكر فضل أحد في هذا السّياق، فلقد حققّ هذا العلم طفرة كبيرة في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، حيث كلّ شيء قابل للاستهلاك، بما في ذلك هذه الأساليب والطرائق الذاتية. ولم يقف حدّ انتشار هذا العلم على المجتمع الأمريكي فقط، بل تجاوز الأمر ذلك إلى مجتمعات أخرى تعيش نفس الهواجس، ونفس التطلّعات، حيث كانت التّرجمة فيصلا حقيقيا في هذا المسار، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية التي انتشر فيها هذا الأسلوب بشكل كبير، عبر استجلاب طرائق يظنّ أصحابها أنّها كافية لتقوية الإنسان وكسبه مناعة الانهيار الذاتي، من خلال استحضار آيات أو أحاديث أو أدعية معزولة عن سياقات تشكُّلها كما فعل ذلك عائض القرني في كتابه: "لا تحزن"، أو غيره من هواة أسلمة المعرفة كإبراهيم الفقي ومن على شاكلته. إذن، إذا كانت العقلنة نقطة ضعف إضافة إلى كونها ميزة استأثر بها الكائن الإنساني، حوّلت حياته إلى أنماط استهلاكية كشفتْ عن خوائه، فإنّنا نفهم حجم الهوس، والهلع، والخوف المتربِّص بنا جميعا، وعلى مدار السّاعة من أن نفقد هذه الجنان، وهذه الحياة، أو نفقد من نتعلّق بهم كالأصدقاء، والأحباب، والمعارف.

وتزداد هشاشة هذا الكائن الإنساني وتطوّر مستوى ذكائه أيضاً، في ممارسته الذّكاء الخبيث؛ فكلّ أزمة بالنّسبة إليه هي وسيلة للاغتناء، أو الاستثمار، أو التّوظيف، وهذا ما نشاهده في عالمنا المعاصر من سماسرة الحروب، والأوبئة، والأمراض، وهو ما سنحاول أنْ نتحدّث عنه باقتضاب شديد.

كورونا وعقيدة الصّدمة[7]: نعومي كلاين نموذجا

المؤامرة ليستْ وليدة اللّحظة، ولا هي إفراز فقط لعقلية مهووسة بالآخر حدّ الجنون، لكنْ لها جذور ممتدة في هذا التّاريخ الموسوم في غالب فتراته بالخبث الإنساني، أو التّاريخ الدموي للجنس البشري على حد تعبير كولن ولسون. لا يمكننا إنكار أنّ في الأزمات، سواء كانت حروبا، أو أوبئة، أو أحداثا صغر حجمها أو كبر، بأنّ هناك من أوقفوا أنفسهم في كلّ حين إلى الاستثمار في كلّ هذه المحن.

فالمرشد أو رجل الدّين، يرى فيها أنّها الفرصة لتزكية مفاهيمه حول العقاب الإلهي، وترسيخ ثقافة التّأثيم والتّحريم، وأنّ كلّ الأحداث هي راجعة إلى هذا النكّوص، أو البعد عن القيم الدينية.

والسّياسي أيضا، يرى في الأزمة الفرصة في تنزيل ما لا يستطيع تنزيله في أيّام الرخاء؛ فالخوف والهلع، والموت يمكن أنْ يكون الطريق الأسهل لبلوغ المستحيل.

أما المثقّف: فهو ضحية لهذه الاختلافات والمشاريع المتضاربة، وهو أيضا ضحية لمن يملكون الوسائل والإمكانات لتغيير ماهيته؛ فمشكلته المثقّف دوماً هي أنّه يريد تغيير العالم، لكنّه تغيّر بعكس ما فكّر فيه أو نظّر له، هكذا أهدرت إنسانيتنا.

يعتبر كتاب عقيدة الصّدمة صعود رأسمالية الكوارث من الكتب الجديرة بالاهتمام، والتي توضّح، أو تتعقّب مجموعة من الأحداث لتكشف، أو تحاول أنْ تبيّن الجوانب المخفية فيها، وكيف تكون هذه الأحداث فرصاً بالنسبة إلى البعض في برمجة العقل البشري، أو تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية، أو إعادة تشكيل النّظام العالمي بما يخدم مصالح الفئات المسيطرة، وهو ليس الكتاب الوحيد الذي يعالج الأوضاع والكوارث انطلاقا من هذه النّظرة، أو زاوية النظّر، فغيره كثير ممن عالجوا ودافعوا على نظرية المؤامرة في الكشف عن ما وراء الأحداث، ولعلّ أبرزهم الكاتب البريطاني ديفيد آيك من خلال مختلف كتاباته، خاصّة كتابه السرّ الأكبر.

تؤكد المؤلفة الكندية نعومي كلاين أنّ الصّدمة أو العلاج بالصّدمة، أو عقيدة الصّدمة هي الوسيلة الأنجع في يد الرّأسمالية اليوم لتحقيق مكاسبها الاقتصادية، وزيادة نفوذها العالمي، وهي ليست سوى، اختلاق الأزمات، والمحن، والحروب، لفرض شروط، ووقائع، تخدم مسيّري هذا العالم. كما أنّ هذه العقيدة استعملت وبشكل كبير في محطّات تاريخية من دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ شعبها، وضدّ شعوب أخرى. وتتعقّب الكاتبة الكندية في كتابها عقيدة الصّدمة من خلال وقائع وأحداث عرفها التّاريخ المعاصر، وكانت فرصة لتطبيق عقيدة الصّدمة لعلّ أبرزها:

انقلاب بينوتشي في تشيلي 1973

حرب جزر فوكلاند 1982 مذبحة ميدان السلام السماوي ببكين 1989

انهيار الاتحاد السوفيتي 1991

الأزمة المالية الآسيوية 1997

إعصار ميتش 1998

غزو العراق 2003

كارثة تسونامي 2004

إعصار كاترينا 2005

لكن كيف تجسّدت هذه العقيدة في هذه الأزمات والمحن؟

تعود أصول هذه العقيدة إلى ما قبل أحداث 11 شتنبر بحسب الكاتبة؛ أي إلى جامعة شيكاغو بقيادة الأمريكي فريدمان. ويحاول الكتاب الكشف عن العلاقة ما بين السّياسات الاقتصادية الكبرى، وبين عقيدة الصّدمة، أو التّرويع التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال التّجارب السّرية التي مولَّتها الاستخبارات المركزية، وتتعلّق بالصّدمات الكهربائية والحرمان الحسّي بالخمسينيات، وهي أبحاث ساعدت في كتابة إرشادات التّعذيب المستخدمة بمعتقل خليج غوانتانامو.

تقارن نعومي كلاين السّياسة الاقتصادية الرأسمالية المتطرّفة بالعلاج بالصّدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيين، وعقدت المؤلفة مقابلة مع جيل كاستنر، أحد ضحايا تجارب أساليب استجواب سرية أجراها العالم إيوين كاميرون، لصالح الاستخبارات المركزية بالخمسينيات، وكانت فكرته استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية لكسر إرادة المرضى؛ ثم تعاد برمجتهم، لكن بعد أن كسر كاميرون مرضاه لم يستطع أبدًا إعادة بنائهم.

إن الهدف من الصّدمة، ليس هو الصّدمة ذاتها، بل الهدف منها هو ما ينتج عنها من تغيير؛ فالمصدوم، أو الخائف، أو المروَّع، يفقد السّيطرة على المناورة، وعلى ردود الأفعال، ويمكن كتابة أيّ شيء، أو استثمار أيّ شيء له أو عليه، دون أن تكون هناك مقاومة. ويقرّ فريدمان عرّاب هذه النّظرية ومروّجها بهذه الحقيقة، حيث يقول إنّ الأزمات فقط، حقيقية أو متصوّرة، تنتج تغيرًا حقيقيًا.

تعلّم فريدمان لأول مرّة هذه العقيدة كما تشير الكاتبة بمنتصف سبعينيات القرن العشرين، عندما استشاره الجنرال بينوتشي الرئيس التشيلي حول السّياسات والبرامج الاقتصادية. كان التشيليون حينها مصدومين بعد انقلاب بينوتشي العنيف، كما كانت البلاد أيضًا مصدومة بالتضخّم الهائل. أشار فريدمان على بينوتشي بفرض تحوّل اقتصادي سريع الطلقات، يتضمّن: خفض الضّرائب، وتحرير التّجارة، وخصخصة الخدمات، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتحرير الاقتصاد من الرّقابة. كان هذا هو التحوّل الرّأسمالي الأكثر تطرّفًا من أية محاولة سابقة، وأصبح يُعرف بثورة "مدرسة شيكاغو"؛ حيث تتلمذ الكثيرون على يد فريدمان، الذي صاغ عبارة العلاج بالصدمة، بوصفها تعبيرا عن التغيير الفجائي للمجتمعات. ولم يكتف فريدمان بتطبيقها هناك، بل طبّقت في عدة بلدان، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

كورونا تعلّمنا الحياة لا الموت:

المثير في هذه الأحداث العالمية المتسارعة، أنّ حجم الهول الذي تحدِثه في النّفوس لا يملؤه الكلام، أو العبر، أو المواعظ؛ لأنّ مع الخوف تسقط كلّ الأشياء، فلا يعود لها وجود إلا في عالم ما قبل الوباء. لكنّ هشاشة الإنسان كما سبق لنا الإشارة إلى ذلك، ليست فقط مرتبطة بالذّعر والخوف الذي ينتابه، وهو يتحسّس الموت، أو يقترب من لحظة وداع من تعلّق بهم. وإنّما هشاشته أيضا هي أنّه منح للفضاء الإعلامي الافتراضي أنْ يؤطّره أو يشكِّله، أو يبرمجه كما شاء، خاصّة وسائل التّواصل الاجتماعي، الخطر الدّاهم، والسمّ المعسول. لقد كان باومان محقّاً، وهو يرى أنّ المواقع الاجتماعية وعلى رأسها الفيسبوك، ليست فضاءات للتّبادل والمشاركة فحسب، بل هي بيت المرايا التي تنعكس به صفحات الوجوه، وتتردّد فيه أصداء ما تود ذواتنا سماعه وتلقّيه ورؤيته. الفيسبوك يتغدّى على مخاوفنا، وهواجسنا من الوحدة. ففي العالم الافتراضي بحسب باومان تذوب الوحدة، وتختفي كلّ إمكانيات الانغلاق، حيث هناك دوماً من يشاركنا أو يقرأ لنا، أو يدعمنا بإعجاب. المشكلة الحقيقية هنا، أنّنا ضحايا لنزعاتنا الإنسانية، فكلّ شيء هنا يدعو للظّهور والشّهرة، ولا مكان للتخفي والتستّر. الفيسبوك مملكة الأهواء يديرها حاكمٌ مستبد يقرّر من يبقي ومن يقصي بتعبير باومان.

نحن معذورون، ليس لكوننا لا طاقة لنا فيما نعمل، أو أنّ عذرنا الوحيد هو الجهل وعدم امتلاكنا المعلومة التي تتيح لنا التّعامل مع الأشياء من أفق آخر. نحن معذورون، لأننا تَعلَّمْنا كيف نخاف (ثقافيا/سياسيا/اجتماعيا/دينيا) لكي نهدر ما تبقى من إنسانيتنا. تعلَّمنا كيف نضبط سلوكنا ونوجّهه وفق المرسوم والمسموح به لنا. تعلَّمنا كيف نرتدع ذاتيا، ونمارس الرّقابة على أنفسنا، وندرك بأنّ لكل سلوك كلفة cost of behavior. تعلّمنا أنّ ما يمارسه الجلاّد علينا كما يرى فوكو ليس مجرّد تأديب، أو قتل، أو حتى تفنّن في التّعذيب. إنّه تحويل الفضاء الإنساني إلى مجال حيوي يطبعه التّهديد. ومن هنا، نفهم حضور العقاب أيضا في الموروث الديني. ليس هناك شعورٌ يسلُب العقل قدرة التفكير والتصرف بصورة مؤثرة مثل الخوف، هكذا قرّر إدمون بيرك. لكنّ المشكلة ليست في الخوف، بل في المتاجرين بالخوف. لهذا كان هو التجارة المربحة لكل الأصوليات السياسية والدينية والإعلامية.ولكن كيف يتمّ ذلك؟ هناك ثلاثة أساليب لاستراتيجية التّخويف، أشار إليها عالم الاجتماع باري جلاسنر، فيكفي أن تقوم بها لتجعل كلّ شيء ينهار بما في ذلك كينونة الإنسان، وهي: التّكرار، وجعل غير المألوف مألوفا، والتّضليل[8].

لكن كيف تساعدنا الفلسفة على تجاوز المحن؟

الفلسفة في نهاية المطاف، ليست وصفة سحرية تحرّرك من مخاوفك وهواجسك، إذا كنت لا ترى فيها ذلك، ولا هي استبطان لمعارف تبدو فيها أنّك العارف بالخبايا والأسرار المتعلّقة بأساطين الفكر الفلسفي منذ النشأة حتى وقتنا الحالي. إنّها ببساطة الطّريقة التي يسلكها المرء للتّعامل مع الألم المرافق لطبيعة هذا الوجود. النّاس تخشى المعاناة، تهرب من دوائر الألم، وتطارد أطياف السّعادة بحثاً عن خلاص. لكن لا بدّ من أنْ نتذكّر بأنّ المعاناة ليست دوماً سجناً تضعنا فيه الأقدار. إنّها كما يصفها مارك مانسون[9] الواسطة المفضّلة لدى الطبيعة من أجل حثّنا على التّغيير.

لم تقدّم الفلسفة نفسها ومنذ لحظات النّشأة الأولى إلا بوصفها علاجاً، أو فنّاً يمكِّن المرء من التّعامل مع قساوة الطّبيعة، ومصاعب الحياة، والتغلّب على ما يواجهه من مخاوف في عالم لا متناهٍ من الأسرار. الخوف أو ذاك الشّعور الذي يلازمنا دون أنْ نتعرف على كنهه أو ماهيته، سوى أنّه المحطم للآمال، أو الدّافع الخفيّ لكلّ المشاعر السّلبية، أو الهادر لوجودنا الذّاتي والجماعي. لا نحتاج لكثير من العبارات لكي نفهمه أو نشرحه ونحن نعيشه في كلّ لحظة، وفي كلّ سقطة، وصوب كلّ هدف، إنّه: "ليس شيئا نملكه بل هو أمر نقوم به"، كما عرّفه جوزيف أوكنور، ويمكنني أنْ أضيف أنّه ليس شيئا نملكه فنتحكّم فيه، ولكنّه شيء نمارسه ليتحكّم فينا وهنا المفارقة. لهذا، كان وما زال الخوف مصدراً للاستثمار والمتاجرة والتّوظيف من كلّ من يرغب في هدر وقهر الكائن الإنساني، أو كلّ من يريد أنْ يديم سلطته الرّمزية أو المادية، أو كلّ من يسعى إلى هندسة العقل الإنساني ليحقِّق من خلاله رغباته وطموحاته.

لكلّ منّا مثله الأعلى، أو نموذجه الذي تتحقّق من خلاله آماله وأعماله. ولكلّ منا طريقته لتجسيد هذا المثال، أو ذاك النّموذج. فالحكمة أو فعل التّفلسف، أو بتعبير آخر هذا السّعي إلى تحقيق ذاتك، لا يؤدي بك فقط إلى اكتساب المعرفة، بل إلى أنْ "توجد" أو "تكون". كانت هذه هي حكمة من سبق من الفلاسفة الرّواقيين أو الأبيقوريين وغيرهم "لقد استمروا في تعليم مبادئ الحكمة، رغم أنّهم يعتقدون أنّه لم يوجد حكيمٌ على الأرض قط" كما عبّر كينتيليان. وهناك مثل أبيقوري ينقله بيير هادو يقول: "عبثٌ كلمة ذلك الفيلسوف التي لا تخفّف أيّ شقاءٍ إنساني"[10]. فالخطاب الفلسفي لم يكن يوما نسقيا؛ لأنّه فقط يريد أنْ يقدم تصوّرًا عاما أو كونيا على هذا العالم اللاّمحدود، بل كان نسقيا، لأنّه يريد أنْ يمنح المتلقي عدداً صغيرا من المبادئ المرتبطة ارتباطا وثيقا وتستمد قوة إقناعية كبيرة، تحدّد ملامح السّلوك والطريقة التي يجب على الإنسان أنْ يعيش بها أو فيها.

كورونا ليست الشرّ المطلق، فالنّاس تموت به أو بغيره، هذا منطق الطّبيعة القاسي، ولكنْ هي تكشف من جديد، أنّ الإنسان كائنٌ خوّاف. ولهذا كانت الحكمة الإغريقية تقترح عليه أنْ يتفلسف؛ أيْ أنْ يتعلم كيف يموت كما قال سبونفيل: "philosopher c'est apprendre de mourir"؛ لأنّ الموت ليس شرا مطلقا، ولكنّه ضرورة طبيعية تستحقّ الانتظار. لهذا كان cynéque، يرى أنّ الجيّد ليس هو العيش، ولكنْ هو أنْ تعيش بشكلٍ جيّد.

أهمُّ شيءٍ في حدث الموت ليس هو الطُّقوس المرافقة لها، ولا حتّى مأساويتها وتراجيديتها. إن أهمّ شيء فيها هو أنَّها تذكِّرنا في كلّ لحظة بأنّه يجب علينا أنْ ننتهز الفرصة لنعيش، لكن أسوأ ما فيها هو الانتظار.

كثير من النّاس ماتوا في يأس كما يؤكّد تشيزاري بافيزي[11]، لقد عانوا أكثر مما عاناه المسيح. لكن كلّ هذا لا يهمّ، الأهمّ هو أنّ هناك حقيقة ناصعة، أو بالأحرى مروّعة من خلال كلّ هذا التّاريخ: المعاناة أو اليأس، أو الموت حزناً لا تحقّق أيّ غرض مهما كان.

لهذا وجب أنْ نعيش...

  


[1]- فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ. ص: 167

[2]- انظر إلى ما كتبه علي حرب في الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2

[3]- انظر ما كتبه علي حرب. في هكذا أقرأ ما بعد التفكيك. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005

[4]- نويل، برنار. الموجز في المهانة. ترجمة محمد بنيس. دار توبقال للنشر، ط1، 2017. ص: 14

[5]- العفيف، الأخضر. من نقد السماء إلى نقد الأرض. ملف pdf

[6]- فيري، لوك. مفارقات السعادة: سبع طرائق تجعلك سعيدا. ترجمة أيمن عبد الهادي. دار التنوير، ط1، 2018. ص: 7

[7]- نعومي، كلاين. عقيدة الصدمة، صعود رأسمالية الكوارث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. ط3، 2011

[8]- نقلا عن فهمي، أحمد. هندسة الجمهور كيف تغير وسائل الإعلام الأفكار والتصرفات. مجلة البيان 1436.ط1. ص: 174

[9]- مارك، مانسون. فن اللامبالاة. ترجمة الحارث النبهان.ط1، 2018. ص: 44

[10]- بيير، هادو. الفلسفة طريقة حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو. ترجمة عادل مصطفى. القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2019. ص: 385

[11]- تشيزاري، بافيزي. مهنة العيش. ترجمة عباس المفرجي. ط1، 2016