بنية الثورة الرقمية: فلسفة التكنولوجيا


فئة :  قراءات في كتب

بنية الثورة الرقمية: فلسفة التكنولوجيا

بنية الثورة الرقمية: فلسفة التكنولوجيا

ستيفان فيال، أطروحة في الفلسفة، جامعة روني ديكارت/باريس 7، نونبر 2012، 303 ص.


-1-

هذه الأطروحة الجامعية ليست بحثاً في الثورة الرقمية بأبعادها التقنية أو السوسيولوجية أو الثقافية أو المعرفية أو ما سواها. إنّها محاولة لمقاربة هذه الثورة من زاوية فلسفة التكنولوجيا، باعتبارها تساؤلاً ينطلق من مسلمة أنّ جزءاً من كينونة الإنسان في العالم، كان منذ البدء وما يزال مرهوناً بالتقنية في كلّ تجلياتها.

ولذلك، فإنّ هذه الرسالة ترى أنّه لا مندوحة لمقاربة الإشكالية المطروحة، عن مساءلة البنية التاريخية للثورة الرقمية، بحكم أنّ هذه الأخيرة إنما هي حدث من أحداث التاريخ، والذي يمتح من مسلسل أعمق، مسلسل "مكننة" الغرب، متمثلاً في العقود الأخيرة تحديداً، في بروز نظام تقني جديد اصطلح على تسميته بـ"النظام التقني الرقمي". هذا مدخل أولي لمقاربة بنية هذه الثورة وفهمها.

أمّا ثاني مدخل لفهم بنية الثورة الرقمية على ضوء فلسفة التكنولوجيا، فينطلق من فرضية أنّ هذه الثورة إنما تمثل قطيعة إبستمولوجية حقيقية، كونها ثوت وما تزال تثوي خلف تقويض العديد من بنى التمثلات من ناحية، وخلف زعزعة الكثير من المسلسلات التي ترتبت عن التمثلات إياها في الشكل كما في المضمون، من ناحية أخرى.

مفهوم "الافتراضي" هنا لن يكون بمقدوره أن يعبّر عملياً عن تموجات هذه الثورة، لأنّ الذي يخضع للحركية حقاً هو هذه العملية الكامنة في إعادة بناء تمثلنا للواقع كما نراه، لا كما يخيل إلينا، أو يقدم لنا بهذا اللبوس التقني أو ذاك.

المستوى الثالث وهو المستوى الذي يعتبر أنّ لهذه الثورة الرقمية معنى فلسفياً عميقاً، تماماً كما تحدث عن ذلك باشلار في بحثه عن بنية الثورات العلمية، واعتبر في رصده لهذه البنية أنّ "العلم يخلق الفلسفة" بالبداية وبالمحصلة النهائية.

والقصد هنا، في ذهن صاحب الرسالة، هو أنّ الأعتدة الرقمية، كباقي الأعتدة التقنية الأخرى، إنما هي نظريات تجسيدية للواقع، أو لنقل فلسفات مجسدة للواقع. بالتالي، فإنّ هذه الأعتدة في نظره، إنما هي "آلات فلسفية"، أي أنها تخلق شروط وإمكانات الواقع، إنها بذلك تنتج الواقع.

ولذلك، يعتقد الباحث أنه في أقل من عشرين سنة انتقل جزء كبير من الأنشطة الإنسانية إلى العوالم الرقمية، وبات الإنترنيت ثم الهاتف النقال خلف هذا التغير الجذري الملاحظ "لعلاقتنا مع العالم"، إذ إنه في ظل التكنولوجيا ومعها، لا يبدو أنّ ثمة أثراً لإشكال آخر سوى إشكال "علاقتنا مع العالم"، وهذه العلاقة مشروطة بالتكنولوجيا، لا شيء آخر غير التكنولوجيا.

ويتابع الباحث: إنّ الوجود، من وجهة نظر تكنولوجية، هو نتاج عملية تصميم، والتقنية مدعومة بعوامل أخرى، تتصدر النصيب الأكبر في ذلك إذا لم يكن النصيب المحوري، والإنسان ذاته، وفق هذه الرؤية، ليس "مادة" معزولة، إنه مسلسل تمّت صياغته وصناعته، ثم هو خاضع دائماً لهذا المسلسل بشكل من الأشكال.

من جهة أخرى، فإنّ الباحث يعيب على فلاسفة التقنية أنهم يتعاملون مع "الأدوات التقنية" كما لو أنها هي التي "من حقها" احتكار الصفة التقنية. ولذلك، فهو يفضل استعمال عبارة "أدوات الثقافة التقنية" بديلاً عنها، لأنّ هذه الأدوات هي ليست أدوات عادية، بل هي وسائط لمعتقدات وتمثلات وعادات وقيم وما سواها.

ولهذا الاعتبار، تتابع الدراسة، فإنّ الثورة الرقمية تشتغل كإيحاء رقمي: "إنها تساعدنا على اكتشاف أنّ مسألة الكنيونة ومسألة التقنية هي مسألة واحدة". وهو أمر كان قائماً من آماد بعيدة، "لكنه كان مجهولاً، ولما أتت التكنولوجيا الرقمية حملت معها تمثلاً لهذا العالم المجهول، تماماً كما فعلت الفيزياء المعاصرة التي حملت لنا رسائل عن عالم كان مجهولاً".

بالتالي، فإنّ الثورة الرقمية قد شكلت قطيعة كاملة مع ثقافة التمثل السائدة، لأنّ التمثلات الجديدة مكنت من النفاذ إلى كائنات "لم نرها من قبل" وإلى واقع لم نكن لنصدقه. هذه الكائنات هي تلك التي تؤثث واجهات حواسيبنا وتلفزيوناتنا، وهي التي تزعزع الفكرة التي تمّ تكوينها حول ما هو واقعي.

وعليه، فإنّ الإنترنيت مثلاً إنما هو ذلك الكائن "الذي يفرض علينا أن نفكر فيما نطلق عليه الواقع". وهذه المسألة هي، بنظر صاحب الأطروحة، مسألة فلسفية بامتياز. إذ ما القول في كينونة شيء ملموس ومفكر فيه، في ظل نظام تشغيل أية أداة رقمية، أو لدى مساءلتنا لطبيعة شخصية افتراضية في لعبة فيديو عادية؟ إنّ المسألة هنا تحيل على "أداة" تمتح في الآن معاً، من الشيء كمادة ملموسة ومن الذهن كمادة غير ملموسة.

-2-

ويتساءل الباحث: أين الثورة داخل الثورة الرقمية؟

للإجابة عن هذا السؤال، يتوقف الباحث عند ما يسمّيه بـ"النظام التقني الرقمي"، الذي يميز بنظره هذه الثورة ويعطيها سماتها الأساس الكبرى.

بهذه النقطة، يلاحظ صاحب الرسالة أنّ فهم الثورة الرقمية لا يمكن أن يتم ويستقيم إلا إذا وضعنا هذه الأخيرة في سياقها التاريخي، سياق الحركية العامّة لتاريخ التقنيات، والتي تعتبر الثورة إياها إحدى مراحله ونقطته القصوى في الآن معاً.

هي مرحلته لأنّ هذه الثورة الرقمية ليست سوى آخر الوافدين من الثورات التقنية، بعد ثورة المكننة وثورة ما قبل الآلة. ونقطته القصوى لأنّ الثورة الرقمية هي ثورة شاملة وجارفة. إنها أدت، خلال عقود معدودة، إلى إعادة هيكلة كلّ مفاصل النظام التقني المعاصر.

ولذلك، يعتبر الباحث أنّ فلسفة التكنولوجيا المبنية على العمل الميداني وعلى المادة التاريخية، هي التي من شأنها أن تكشف لنا كيف وإلى أي حد تعتبر الثورة الرقمية حدثاً تاريخياً بامتياز، ويعتبر أيضاً أنه من الواجب العودة إلى بدايات عصر النهضة لملامسة كيف أنّ الغرب فوّض "مصيره" للتقنية، منذ ذلك الوقت إلى حين وصول "الآلات الرقمية".

هذه الأخيرة لا تعتبر، بنظر صاحب الرسالة، مجرد اختراع تقني، بل هي تعبير عميق عن انبعاث نظام تقني يصطلح عليه بالنظام التقني الرقمي. ومعنى هذا بنظره، أنّ التقنية هنا هي في الآن ذاته تعبير عن نظام، وهي نفسها نظام قائم الذات. أي أنّ التقنية سواء في صيغتها البدائية أو في الصيغ المعقدة الحالية، إنما هي مسلسل تتضافر لتجسيده عوامل متباينة عدة. وهذا التضافر بين عناصر عدة هو الذي يعطي للظاهرة التقنية نسقية معينة.

يندرج هذا التضافر التقني، في نظر الباحث، في إطار مستويات عدة لعل أولها هو ذاك المستوى الذي يحيل على ما يطلق عليه مسمى "البنية التقنية". فالمنشار ومهنة النسج والغزل والترانزستور، كلها بنى تقنية من خاصيات ما، لا تمييز أو تمايز بينها بمقياس التعقد والتركيب.

أمّا ثاني المستويات فهو الذي يتشكل عندما تلتقي تقنيات مختلفة لتفرز "فعلاً" تقنيا معقداً. إنه "المجموع التقني" الذي لا بدّ فيه من إسهام كلّ مكون لبلوغ النتيجة المطلوبة. وهو الحال مع معظم التقنيات، لاسيما التقنيات الألكترونية.

المستوى الثالث وهو الذي يتكون عندما تتضافر مجموعات تقنية مختلفة لاستنبات جزء متناسق من الإنتاج، يتمّ تصميمه لتلبية حاجيات المستهلك النهائي، إنّه مستوى "السلسلة التقنية". والنموذج في ذلك هو نموذج الصناعة المعلوماتية باعتبارها سلسلة لإنتاج الحواسيب الصغيرة، للأجهزة الشبكية، للحوامل النقالة، للبرمجيات وللتطبيقات، تحت ضغط ما يُسمى "الإبداع وفق الحاجة".

أمّا المستوى الرابع فيضم كلّ المستويات الثلاثة السابقة، ومؤداه بلوغ تلك "التناسقية العامة التي تدمج المستويات الآنفة الذكر، في إطار مزيج تقني لكلّ الأدوات المتوفرة، والتي تكون قد بلغت مبلغاً متقدماً من الاختمار، يجعلها تتداخل فيما بين بعضها بعضاً بطريقة متناسقة ومميزة".

بالتالي، فالتقنيات، على تباين شكلها وجوهرها، إنما هي أدوات متكاملة ومتداخلة. وهذا التكامل والتداخل يمنحها نسقية معينة فيما بينها، لتؤسس بالمحصلة لما يسميه الباحث بالنظام التقني.

لا تبقى هذه النسقية على حالها دائماً، بل سرعان ما يطالها "الخلل" مع الزمن، على محك الإبداعات التكنولوجية، فتتراجع تدريجياً لتفسح في المجال واسعاً لانبعاث نظام تقني جديد على أنقاض القديم أو بمحاذاته.

-3-

بالارتكاز على كلّ ما سبق، يستقرئ الباحث آراء العديد من فلاسفة التقنية، فيلاحظ كيف أنّ غالبيتهم تعاملت مع هذه الأخيرة إمّا من منطلق إيديولوجي خالص، أو على خلفية من التبعات السلبية التي قد تثوي خلفها:

  • فجالك إيلول مثلاً يزعم أنّ التقنية، والنظام التقني الذي تتبناه أو تبني له، "تمحي مبدأ الواقع"، لأنها هي التي تفرز هذا اللاواقع الذي يتمّ التعامل معه باعتباره واقعاً، وهي التي "تتخفى" خلف هذه اللعبة المبهرة للتمظهرات.
  • وجون بودريار يعتقد أنّ التقنية (ومن ثمة النظام التقني) هي المسؤول الأول عن اندثار المعنى، لا سيما في ظل هيمنة مجتمع استهلاك الرموز والصور.
  • وهايدغر لا يرى في التقنية إلا أداة "تدفع إلى نسيان الكائن" ...إنها برأيه "تجريد للطبيعة".
  • وماركوس يقرّ بأنه في "ظل المجتمع الكلياني، فإنّه لم يعد ممكناً الحديث عن حيادية التكنولوجيا"، لأنّ المجتمع التكنولوجي هو "نظام للهيمنة يشتغل على مستوى التصورات وتصميم التقنيات".
  • وهابرماس يتعامل مع التكنولوجيا باعتبارها "إيديولوجيا في ارتباطها بالعلم، بالإنتاج الصناعي وبالتكنوقراطية" ...وهكذا.

لا ينحصر الأمر عند هؤلاء الفلاسفة، بل بالإمكان تعداد الأمثلة والحالات. لكّن الثابت لدى هؤلاء وأولئك إنما هو التوجه القائم من لدن فلسفة التقنية للتعامل مع هذه الأخيرة من منطلق "الخشية الأخلاقية"، المتمحورة حول التحليل المضطرب لاحتمالات التطور التقني. بل إنّ جاك إيلول ذهب فيما بعد إلى اعتبار أنّ التكنولوجيا تخضع لنموذج في التنمية أعمى، والذي من شأنه أن يهدّد الأخلاق، على اعتبار سلوك "التعالي الأسود" الذي تعتمده التقنية في شكلها ومضمونها، وتبعات ما تثوي خلفه من تطبيقات على الأرض.

ولذلك، نجد جون بيار سيريس يلاحظ أنّ فلاسفة التقنية قد "وجدوا ضالتهم المشتركة في مناهضة التقنية"، وذلك لربما في امتداد للطرح الذي أسس له كارل ماركس عندما تحدث عن "تقديس التقنية".

وعلى الرغم من أنّ صاحب الرسالة لا يقلل من الأهمية النظرية للذين يدفعون بمبدأ الحذر من التقنية، فإنه يعتبرها "صناعة إيديولوجية" صرفة، لا تتساوق في نظره مع ما تقدمه وقائع تاريخ التقنيات.

ولذلك، فإنّ الباحث يقترح معالجة ثقافية للنظام التقني، على اعتبار من لدنه أنّ الثقافة هي صمام الأمام ضدّ تغول التقنية. يقول الباحث في هذه النقطة: إنّ الذي يوجد بالتقنية "ليس العقلانية العمياء التي تحيل على الارتهان، بل الواقع الإنساني والفعل الإنساني الذي يتجسّد في البنيات التي تشتغل، تماماً كاللوحات الفنية والنظريات العلمية والفعل السياسي".