المعرفة و"ظاهرة" الرأسمالية الإدراكية


فئة :  مقالات

المعرفة و"ظاهرة" الرأسمالية الإدراكية

المعرفة و"ظاهرة" الرأسمالية الإدراكية

عندما نتحدث عن الرأسمالية الإدراكية، فإننا نعني ذاك النظام الذي يحتل تراكم المعرفة بصلبه موقع المركز؛ أي النظام الذي يشتغل على أساس من توفر منسوب إدراكي عال، حجما وعلى مستوى النوعية.

وإذا كانت الفكرة التي مؤداها أن للمعرفة دورا محوريا في الدينامية الإنتاجية والاقتصادية، قد تم الإعلان عنها وتعميقها، لا بل والتنظير لها من قرون وعقود مضت (من لدن آدم سميث، وفريديريك ليست، وكارل ماركس، وجوزيف شمبيتير، ثم فردريك حايك وآخرين)، فإنها (المعرفة نقصد) غالبا ما كانت لا تقارب إلا وفق زاوية نظر محددة، زاوية تقسيم العمل، أو زاوية الإبداع التكنولوجي، أو زاوية اشتغال الأسواق وتنظيمها، ونادرا ما كان ينظر إليها كنشاط قائم لذاته؛ أي كنشاط موضوع للاستثمار، له فضاؤه ومجاله المستقلين.

صحيح أن ذات التقصير قد تم تداركه جزئيا من لدن اقتصاديي نظرية الإبداع (شمبيتير تحديدا)، وبفضل انبعاث التيار "التطوري" أيضا، إلا أن الأمر لم يتم تداركه بالجانب المتبقي، إلا بظل الأطروحات التي أكدت على وجود تطور ملازم وعميق للمعرفة وللنشاط الصناعي بالآن معا. ولربما لهذا الاعتبار، عمدت المنظمات الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي ثم منظمة التجارة العالمية وغيرها)، عمدت إلى تشكيل مفاهيمها المتمحورة حول مصطلحات اقتصاد المعرفة، أو الاقتصاد المرتكز على المعرفة، أو مجتمع المعرفة أو ما سواها من مصطلحات ومفاهيم.

في الحالة الأولى، يجب تمحيص التمظهرات وآليات التحولات الاجتماعية، وهو ما عمد منظرو أطروحة الإبداع إلى البحث فيه، بأفق جعل المعرفة موجها لطبيعة المجتمع المراد استنباته. بالثانية، يجب دراسة التطورات الاقتصادية، والبنى التحتية الموازية، ثم بناء توجيهات وآليات التدخل الاقتصادي، وهو ما باشرت به العديد من المنظمات الدولية منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، بسياق تحويل المعرفة إلى وسيلة لمعاضدة تنافسية الأمم.

من هنا، فإن الرأسمالية الإدراكية إنما هي "نظام آخر للتراكم، نظام يراهن بالبداية وبالمحصلة على المعرفة وعلى الإبداع؛ أي على أشكال الاستثمار اللا مادية"، المباشر منها كما غير المباشر على حد سواء.

معنى هذا أن الأرباح بظل الرأسمالية الإدراكية، لا تتأتى من الإنتاج المادي المباشر والصرف، بل تتأتى من التراكم في المعارف والإبداعات؛ أي مما يتم الاستفراد به على مستوى حقوق الملكية، مما يتم تصميمه من شبكات ومن تحالفات، ومما يتم تعظيمه من قدرة على تسيير المشاريع ذات الطبيعة المؤسساتية والتنظيمية الكبرى، وهكذا.

إن هذه العناصر هي القلب النابض للرأسمالية الإدراكية، حيث تتحدد الإستراتيجيات، انطلاقا من البحث على تموقعات فضائية جديدة، ذات خاصية مؤسساتية وتنظيمية، يكون من شأنها الرفع من القدرة على الاندماج بمسلسلات الإبداع والتطوير، والاستمرار بها قدر المستطاع.

هل خرجنا حقا وحقيقة من الرأسمالية الصناعية وما بعد الصناعية، بالقياس إلى ما سيق من حديث؟ هل التحولات الحالية للرأسمالية، هي ذات طبيعة تكنولوجية خالصة حقا؟ أي، بمعنى آخر: هل بدأت التقنية والتكنولوجيا تحتل مكانة مركزية في تطور الرأسمالية المعاصرة، لدرجة قد تدفع المرء للحسم بأننا دخلنا مرحلة الرأسمالية بصيغتها التكنولوجية المتقدمة؛ أي صيغة الرأسمالية المعلوماتية ثم المعرفية ثم الإدراكية؟

يقول فرسلون، بهذا الخصوص، حاملا فيما يبدو بعضا من عناصر الجواب: "إن الأهمية المولاة للعنصر التكنولوجي بمناسبة التطور الحالي مثيرة للغاية. إن الاقتصاد الجديد والكفاءات المدهشة للاقتصاد الأمريكي طيلة هذه المرحلة (مرحلة التسعينات فما فوق)، قد أفرزت مجموعة من الحقائق، لكنها أفرزت بالآن نفسه مجموعة من الأساطير والأوهام، ومن ضمنها اعتبار التقنية بحد ذاتها، عنصر تطور ونمو".

المحك هنا، يقول فرسلون، ليس فكرة النظر للمجتمع المعاصر كمجتمع تقني أو تكنولوجي، باعتبار سطوة التقنية عليه وتحكمها في مفاصله المادية واللامادية. المحك هو طبيعة التحولات التي طاولت الرأسمالية، وطاولت بجريرتها المجتمع بأكمله، في أشكال فعله كما في أنماط تفاعله.

إن الذي يدعو للتساؤل حقا، يتابع فرسلون، إنما هو معرفة ما إذا كان نسقيا (أي صحيحا من الناحية التجريبية)، ومناسبا (أي صحيحا من زاوية النظر التحليلية)، اعتبار الرأسمالية الحالية عبارة عن مجرد تراكم صرف للتقنيات. كل الإشكال هنا مرتبط بمعرفة ما إذا ما كانت التكنولوجيا مجرد محرك ضمن محركات أخرى، أم عنصرا محددا وحاسما في مسلسلات التنمية والتطوير بالمنظور الماركسي لكلمة عنصر.

ثمة ثلاثة دفوعات كبرى، غالبا ما تقدم ويدفع بها للرد على ذات التساؤل:

- الأول، ويعتبر أن التقدم التكنولوجي، بحثا علميا وتطويرا تقنيا، إنما هو عنصر محدد للتنمية بامتياز، حاسم في تحديد وتيرتها، وضابط لاستمراريتها في الزمن والمكان، وأن للتحولات التكنولوجية للاقتصاد الجديد ("الاقتصاد الإدراكي" بمنطوق أطروحة الرأسمالية الإدراكية) مكانة خاصة داخل النسق العام، لا بل إن التقدم التقني أضحى، وفق هذه الزاوية من النظر، مكمن الإنتاجية والربحية والتنافسية، وأداة تثمين حصص الأسواق، داخل الفضاء الوطني الواحد كما فيما بين الفضاءات المختلفة.

- الثاني، ويقلل نسبيا من القوة التكنولوجية المتصاعدة للاقتصاد الجديد، الاقتصاد اللامادي بتعبير المفكر ريكاردو بتريلا، ويعتبر أن التقدم التقني إنما هو تطور عادي وطبيعي بالنسبة للنظام الرأسمالي، وأن حركية ذات النظام غالبا ما تستقي من التقدم التقني أدوات تطورها وتحولها ليس إلا، لأن المحرك الأساس، يقول هذا التصور، يبقى بالبداية وبالمحصلة النهائية من فعل الاقتصاد المادي الصرف؛ أي الاقتصاد التقليدي وفق الأدبيات الاقتصادية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية.

- أما الثالث، فيؤكد على أن التكنولوجيا، كائنة ما تكن قوتها ونجاعتها وفاعليتها؛ فهي غير كافية لوحدها لتحريك النظام الرأسمالي، وأنه ثمة بداخل النسق الإنتاجي لهذا النظام، عناصر تنظيمية أخرى تلعب دورا مميزا، إذا لم يكن موازيا للتكنولوجيا، فلا يقل عنه أهمية وأولوية. في هذه الحالة، تبدو نجاعة التكنولوجيا الجديدة مرتبطة ارتباطا مباشرا بالسياق، وأيضا بظروف الإدماج؛ أي بالعلاقات الاجتماعية، ببنيات الاستعمال وبمسالك شيوع التقنية من بين ظهراني المجتمع في تمظهراته وتفاعلاته مع هذا الشيوع.

إن القول بأن التقنية خصوصا، والنظام العلمي والتكنولوجي الحاضن لها بوجه عام، هما العنصران "السببيان" الأساس، الثاويين خلف تغيير النظام، إنما هو قول اختزالي المنحى بأكثر من زاوية، ليس فقط لأن التقنية لا توضع على محك التقييم إلا بالاستخدام ومن خلال الاستعمال، بل وأيضا لأن هذا الأخير محكوم بالنسق الاجتماعي القائم، والذي لا يبرز مدى الفعل أو التأثير فيه إلا بالآجال المتوسطة والطويلة؛ أي بالآجال المستهلكة للزمن في الشكل كما في المضمون.

بالتالي، فإن القول بأطروحة ولوج مرحلة جديدة، توافق العديد من الباحثين على توصيفها بالرأسمالية الإدراكية، إنما ينطلق من فكرة مفادها أن نوعا من التراكم مرتكز على المعرفة والإبداع، قد بدأ يستأثر بمكانة مركزية ومعتبرة داخل حركية الاقتصاد والمجتمع.

ولعل القول بذات الأطروحة، أطروحة الرأسمالية الإدراكية، يجد إحدى نقط انطلاقته الأولى، من النقد الجذري "لأوهام" منظري الاقتصاد الجديد، المنطلقين من طرحي اقتصاد المعلومات واقتصاد المعرفة، والمتماهين في ذلك مع طرح "الرأسمالية المالية والخدماتية" التي دفعت بها الإبداعات والتراكمات المالية الضخمة التي ميزت وبقوة عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

إن المدافعين عن أطروحة الاقتصاد الجديد، إنما يدفعون بفكرة أن الثورة المعلوماتية قد أتت لتفجر نسقية اشتغال الرأسمالية الصناعية من الداخل، فاتحة المجال بذلك لنمط في التنمية جديد، توافق علماء الاقتصاد على تسميته بنمط التنمية الما بعد صناعي.

إلا أن هذا الطرح لا يصمد كثيرا أمام التحليل، بل إنه سرعان ما يصطدم بمحدوديتين أساسيتين اثنتين، تطاولان محدداته الإبستمولوجية، وبالتالي مضمونه النظري وقوته التفسيرية:

- المحدودية الأولى: أن المعلومة بكل أشكالها وتلاوينها (والتي هي قلب الاقتصاد الجديد)، معبر عنها أو مختزلة في الاستثمار في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، غالبا ما يتم التعامل معها، وفق هذا الطرح، باعتبارها مجرد عنصر إنتاج؛ أي مجرد سلعة تجارية صرفة، تدخل بالعملية الإنتاجية، شأنها في ذلك شأن باقي المدخلات (أعني العمل ورأس المال).

المفارقة هنا أن سمة التحديد التكنولوجي، الذي تحمله هذه المقاربة في طياتها، إنما تضمر حقيقة مؤداها أن حركة الاقتصاد والمجتمع تدفع من الخارج عبر عناقيد في الإبداع، من شأنها، بل لها القدرة على تحويل النظام التقني من داخله من جهة، وعلى الفعل في أنماط العمل والاستهلاك من جهة أخرى، وهو ما ليس صحيحا ولا دقيقا بمعطيات تاريخ تراكم التقنيات.

- أما المحدودية الثانية، فتتمثل في أن هذه المقاربة لم تستطع وضع تمييز واضح بين مفهوم المعلومة ومفهوم المعرفة، على اعتبار أن "هذه الأخيرة إنما ترتكز على قدرة إدراكية متقدمة في التفسير وفي توظيف المعلومة، وإلا فإن هذه الأخيرة ستبقى موردا عاقرا"، غير ذي جدوى كبرى.

هي بالتالي، مقاربة موضوعاتية محضة، غير جدلية، ولا تضع تمييزا دقيقا بين العلم والتكنولوجيا، لا، بل قد تذهب لحد إلغاء التناقضات الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، التي قد يفرزها اقتصاد المعرفة بالمكان والزمن، وهو عكس ما تسلكه المقاربة المتبنية لأطروحة الرأسمالية الإدراكية، التي لا تدرج المعرفة كعنصر إنتاج إضافي (مستقل عن رأس المال وعن العمل)، أو مواز لرأس المال كما بنظرية رأس المال البشري، بل تعطيها وضعا اعتباريا متقدما يسمو على ما سواه من أوضاع.

إن أطروحة اقتصاد المعرفة، حتى وإن ركزت على محورية العمل اللامادي في عمليات الإنتاج، لا تصيغ ذلك وفق زاوية نظر منطقية وتاريخية لبروز الرأسمالية الإدراكية، بل تصيغه وفق نظرة أدواتية، تقدم الأعتدة والبنى على المضامين، وهي، فضلا عن ذلك، لا ترى في الرأسمالية الإدراكية محصلة "لمسلسل إعادة هيكلة رأس المال، يتغيا تطويع إمكانات التحرر المتاحة، منذ الأزمة الاجتماعية للفوردية، بغرض استنبات اقتصاد مرتكز على إشاعة الدور المحرك للمعرفة"، بل ترى فيها تجديدا ببعض العناصر، وإعادة إنتاج لعناصر أخرى تغرف من أشكال الرأسماليات السابقة، أقصد الرأسماليات الصناعية والتجارية والمالية.

إن الرأسمالية الإدراكية، من هنا، لا تمحي المنطق الإنتاجي للرأسمالية الصناعية بالمرة، ولا تتجاهل طبيعة النمو المرتكز على السلع المادية، إنها تعيد تركيب كل ذلك، وتقويه "عبر وضع العلم والتكنولوجيا الجديدة في خدمة هدف بلوغ التنميط والتملك الخاص للأحياء، والذي كان من شأنه طيلة قرني الرأسمالية الصناعية، تعميق مخاطر تقويض التنوع، وإشاعة عدم الاستقرار البيئي على مستوى الكون قاطبة".

وهذا كله لاعتبار أساس: أن الرأسمالية الإدراكية، إنما تجمع مميزات نمط السلطة الاقتصادية (الرأسمالية)، وأيضا التنظيم الإنتاجي المرتكز منذ مدة على المعرفة. بالتالي، فبصلب عبارة الرأسمالية الإدراكية، نجد أن عبارة الرأسمالية تميز التنظيم الاقتصادي للمجتمع، والإدراكية (أو الصناعية المتقدمة) تميز نمط الإنتاج. وبهذه الزاوية، فإن المقاولة مثلا "لم تعد هي نفس المقاولة؛ إنها المقاولة الشبكة. إنها المقاومة موسعة على الجسم الاجتماعي. وعليه، فإن المجتمع برمته يغدو المسؤول عن التراكم"، وليس فقط صاحب رأس المال أو المكتنز لعضلات الإنتاج المادي.