تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار


فئة :  قراءات في كتب

تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار

يشكل تاريخ أوربا بعد عصر النهضة إغراءً للمثقف العربي؛ فلهذه المرحلة في وعي الأنتلجنسيا العربية جاذبية خاصة بما تقدّمه من إجابات عن سؤال تكوين الحضارة الأوربية وسيرورة التحديث. لقد كتب حسن حنفي في الذكرى الثانية للثورة الفرنسية مقالا دالا بعنوان: "الحنين إليها في ذكراها المئوية الثانية"[1]، لكن تظل مقاربة الفيلسوف دائما تحلق في سماء المفاهيم المجردة. إنه يفكك الحداثة كمفهوم نظري، في أفضل الأحوال يتناول الأفكار السياسية الجديدة، ومن هنا ذلك القصور الذي يعتري دائما مقاربته. أما المؤرخ، فلا يرى المفهوم، ولا يمكن له أن يراه، منبت الصلة عن التاريخ في تجليه الواسع، من هنا ففضول المؤرخ يحمله على النظر في دقائق الحياة وتتبع التطورات التي تطال مختلف القطاعات، من سياسة واقتصاد وتقنيات، بالإضافة إلى الفكر كَرِئة يتنفس من خلالها، وهو ما يجعل المقاربة التاريخية، خصوصا حين تتسلح بقاعدة نظرية وفلسفية، أرحب من كل نظر فكري مثالي[2].

من المؤلفات العربية التي حاولت أن تتبع، بحس تاريخي، تاريخ الحداثة وإرهاصاتها الأولى وصولا إلى الثورات السياسية التي عبرت عن نضج الليبرالية البرجوازية اقتصاديا، وظهور نفَس فكري جديد؛ كتاب المؤرخ المغربي محمد حبيدة "تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار".

من الناحية المنهجية، يسلك المؤرخ في كتابه مقاربة تركيبية؛ فهو لا يقتصر على بعد واحد من أبعاد الحياة كالاقتصاد فقط، أو السياسة، أو الجانب الفكري، بقدر ما أنه يستوعب هذه المجالات كلها مع انفتاح في بعض المواطن على تاريخ العقليات، ولاشك أن هذه الرؤية التركيبية هي إضافة نوعية لمدرسة الحوليات في الحقل التاريخي[3]، وإلى هذا يشير مارك بلوك حين يقول: "في مسار تطور قطاع معرفي ما تكون الأعمال التركيبية، على نقائصها، أكثر فائدة من الأعمال التحليلية"[4]. وتتجلى هذه التركيبة، في المؤلف كذلك، في تجاوز مجموعة من المقولات التي تنحو منحى دوغمائيا لبعض المدارس الفكرية، فحبيدة يولي أهمية كبيرة للاقتصاد في كتابه هذا، لكنه يرفض العلاقة الميكانيكية بين بنية تحتية تتحدد بنمط الإنتاج وبنى فوقية تتكون من فكر وقانون وفن.. إلخ، يقول: "عموما يصعب التسليم بالطرح الماركسي الذي يرى في الدين أحد مكونات البنية الفوقية، ويضعه بالتالي في تبعية لمتغيرات البنية التحتية"[5].

يبتدئ المؤرخ كتابه بإثارة بعض الإشكالات حول تحقيب التاريخ الأوربي[6]، فهو بدءًا يشير إلى غموض مفهوم العصر الوسيط "الذي ابتكره مؤرخو القرن السابع عشر"[7]، كما يورد الآراء المختلفة حول بداية العصر الوسيط، فبينما يرى جماعة من المؤرخين -منهم جاك لوغوف- أن العصر الوسيط، وبالتالي الفيودالية، ابتدأ في أوربا مع الهجمات الجرمانية البربرية وسقوط روما، يذهب المؤرخ البلجيكي هنري بيرين إلى أن هذه الهجمات لم تحطم الوحدة المتوسطية، ويرى في المقابل أن التحول الحاسم في أوربا اقترن بزحف الإسلام الذي كسر وحدة البحر الأبيض المتوسط من خلال دوران شمال إفريقيا وإسبانيا في فلك بغداد، وهو ما جعل مركز الثقل في المقابل ينتقل إلى شمال أوربا.

ويثير حبيدة مسألة غاية في الأهمية حول دواعي تلك الرؤية السوداوية إلى العصر الوسيط عموما، وتصويره كعصر ظلام حالك في البحوث الأولى التي تناولته، فيرجع ذلك إلى سببين أساسين؛ أولهما هو قصور البحث التاريخي؛ فلم تكن الكتابات الأولى الممهدة مؤسسة على اطلاع واسع، بقدر ما أنها كانت موجهة بانشغالات إيديولوجية؛ وذاك هو السبب الثاني، يقول المؤرخ عن هذا العامل الثاني: "يتجلى التوجه الإيديولوجي في كون العديد من مؤرخي الثورة الفرنسية كانوا قد حاولوا إظهار عصور ما قبل الثورة كعصور انحطاط، وربطوا التقدم بصعود البرجوازية بأسلوبها الرأسمالي وفكرها العقلاني"[8].

بعدها ينخرط المؤرخ في تعريف الظاهرة الفيودالية، بما هي ظاهرة معقدة، تاركا مسافة من النظريات ذات القوالب الجاهزة، فالفيودالية كما يرى المؤرخ ليست مجرد احتكار الأسياد للأراضي وتحكمهم في الفلاحين طِبقا للمدرسة الماركسية. إنها تربو على ذلك لتكون "بنية اجتماعية، وأسلوب اقتصادي، ونزعة عسكرية، وهي أيضا عقلية"[9]. وهذه الخصائص التي تميز العصر الفيودالي ليست منفصلة عن بعضها البعض، بل إنها تتفاعل فيما بينها تفاعلا جدليا؛ فضعف السلطة المركزية سياسيا وعجزها عن السيطرة والتحكم في رقعتها الجغرافية هي التي أجبرت الملوك على شراء إخلاص كبار موظفيهم بمنحهم إقطاعات أرضية، كما أن ضعف هذه السلطة مع تنامي التهديدات الخارجية التي رسَمت حالة من انعدام الأمن هي التي جعلت "السلطة في ملك من له القدرة على ضمان سبيل الدفاع عن الجماعة"، وهو ما حدا بالظاهرة الفيودالية لتحول تدريجي للأسياد "إلى هيئة من الفرسان ذات وظيفة حربية بامتياز"[10].

هذا عن العلاقات الموضوعية التي تنسجها الأوضاع الاجتماعية في المجتمع الفيودالي. أما المنظومة الإيديولوجية، فقد تولت مهمة بثها مؤسسة الكنيسة؛ وذلك عن طريق إضفاء صبغة دينية بحمولة قدسية على الرابطة بين السيد والتابع؛ ومن خلال تثبيت الهرمية الاجتماعية واعتبارها قدرا إلهيا لا انفكاك عنه، يقول حبيدة: "أما الكنيسة فقد لعبت دورا كبيرا في تكريس هذا الواقع عبر السهر على مجموعة من الطقوس الرمزية التي كانت تصاحب محطات هذا النظام كمشاهد التبعية بين السيد والتابع، وتأهيل أبناء النبلاء وانخراطهم الرسمي في سلك الفروسية، وكذلك عبر إيديولوجية الرتب الثلاث التي كان يروج لها الرهبان، والتي مفادها أن انقسام المجتمع إلى ثلاث طبقات، محاربون ومتعبدون ومزارعون، هو تقسيم رباني لا مفر منه"[11].

لم يتم، في الحقيقة، الانتقال من العصر الوسيط إلى العصر الحديث على نحو فجائي قاطع دون مقدمات وممهدات، بل حدث ذلك بشكل بطيء، حيث إن العصر الوسيط نفسه حمل في أحشائه بذور التحديث، ومن جوف بعض أحداثه الكبرى سيخرج العصر الحديث. هذا، على ما يبدو لنا، مضمون فصلين في كتاب "تاريخ أوربا" وهما الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: "تطورات القرن الثالث عشر" والفصل الثالث المعنون بـ "أزمات وتحولات 1348-1485"، وليس من باب المصادفة أن يختم المؤرخ هذا الفصل بعنوان دال وهو "الطريق إلى الحداثة"، فكأنه يرى في هذه القرون مراحل انعطافات لكن بـ "زوايا منفرجة" غير حادة، أو حقبة هجينة تتجاور فيها بنيات وسيطية وأخرى حديثة.

ولعل أهم تحولات القرن الثالث عشر هو ظهور فئة اجتماعية جديدة ستقود لاحقا الثورة في مختلف ربوع القارة الأوربية؛ مع التأسيس لنمط جديد من الحياة قائم على التمدن؛ لقد كان التقسيم الاجتماعي ثلاثيا فيما مضى، أما في هذا العصر، كما يقول ليوبولد جينيكو: "أصبح رجال القانون والمثقفون عموما في تقسيمهم للمجتمع يضيفون إلى هذه الفئات فئة جديدة هي فئة سكان المدن"، وقد استطاعت هذه الفئة أن تحفر ثقوبا في الوضع الاجتماعي عبر مزاولة أنشطة اقتصادية أخرى، وتنفلت بالتالي من إلزامات Droit de ban النسق المغلق للفيودالية، يشرح حبيدة هذا المعطى فيقول: "إذا كان الأسياد قد أقاموا ثروتهم على أساس الأرض وما تجود به من حبوب وثمار ومواشي، فإن هذه الفئة الجديدة، التي تعتبر النواة الأولى لما سمي فيما بعد بالبرجوازية، اشتغلت بالتجارة وخلقت شيئا فشيئا نظاما جديدا يتمحور حول المدينة ويقوم على أساس النقود والصنائع والأسواق"، وقد كانت حاجة الملوك إلى المال التي توفرها هذه الطبقة سببا في استقرار وضعيتها وتنامي نفوذها شيئا فشيئا، كما ترافق مع هذه التحولات ظهور معالم جديدة أهمها: تشكيل مراكز تجارية في مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، و"مساهمة الرواج التجاري في توسيع قاعدة الاقتصاد النقدي"[12].

ومن مفارقات التاريخ أن تكون المصائب التي عايشها المجتمع الأوربي في القرنين 14 و15 (الطاعون الأسود، حركات التمرد..) فوائد للطبقة البرجوازية، فهذه الأزمات فككت الفيودالية وفسحت مجالات للبرجوازية كيف تفرض سطوتها، بل وتزاحم الأسياد الفيوداليين في عقر دارهم؛ أي في البادية.

هكذا نرى أن إحداث قطيعة مع الفيودالية وولوج الحداثة ليس كما يرى الفيلسوف مجرد تصور ذهني فرضه ظهور مقولات فكرية جديدة؛ إن ذاك من غير شك جزء من الحداثة، لكن ثمة عوامل أخرى ذات أهمية قصوى لا يلقي لها الفيلسوف بالا؛ ومنها الصدفة التاريخية نفسها: فلم يكن للبرجوازية يد في الطاعون الأسود الذي ضرب أوربا ومناطق أخرى من العالم فأحدث ثغرة عظيمة في النظام الفيودالي المعيق لطموحات هذه الطبقة. كما أن البعد المادي وغنى هذه الطبقة واشتغالها بالتجارة التي تعفيها من الخضوع للفيودالي كان أساس استقرارها وقوتها..

كانت هناك عوامل أخرى أساسية ساهمت في الدفع بعجلة الحداثة إلى الأمام، وعلى رأسها الاكتشافات التقنية العلمية كالمطبعة سنة 1450، فهذه الأخيرة مكنت من نشر الكتب على نطاق واسع، ليس فقط الكتب الدينية بل كذلك الكتب الفلسفية والعلمية؛ وستتراجع الكتب الدينية في مقابل ذيوع الكتب التي تنتمي للحقول المعرفية الأخرى، يقول حبيدة: "يتجلى التطور على المستوى النوعي في تراجع الكتب ذات الطبيعة الدينية لصالح الكتب الكلاسيكية والقانونية العلمية، وأيضا تراجع اللاتينية لفائدة الكتب المطبوعة باللغات المحلية"[13].

كما مهد ظهور مجوعة من المثقفين، بخطاب مستحدث ومعالم جديدة، لظهور فلاسفة ومصلحين متنورين كبار، هؤلاء المثقفون الذين سيخلقون حساسية فكرية جديدة، كالنبرة النقدية مع "ديدي إيراسم" والدعوة إلى التسامح الديني مع توماس مور الذي سيتخيل في بعض كتبه مدنا يوتوبية يسودها التآخي والتسامح الديني، كما اعتمد المثقفون في هذه الفترة أسلوب السخرية والتهكم، وهي الوسيلة الأولى التي تُعتمد عادة من أجل هتك حرمة فكر معين في أفق الإجهاز عليه، وقد كان رابلي أحد كبار الساخرين من المنظومة الفكرية الموروثة عن العصر الوسيط.

أما واحدة من أهم حلقات التحول في عصر النهضة فهو ما اصطلح عليه "الإصلاح الديني"، فخلق مقولة تأويلية جديدة للدين المسيحي كسر شوكة المؤسسة الدينية ذات الحضور القوي في العصر الوسيط، ومعلوم أن المذهب الكاثوليكي شكل مرجعية إيديولوجية للأوضاع الفيودالية، ومن أكثر هؤلاء المصلحين تأثيرا مارتن لوثر الذي رأى أن الاستقامة "لا ترتبط بالخضوع لتعاليم الكنيسة وما تحث عليه الناس من الاعتراف بالذنب وشراء الغفران وتوزيع الصدقات، وإنما بالسير على طريق العدل الرباني"[14]. من جهة أخرى، تمرد مارتن لوثر على أساسيات المذهب الكاثوليكي، كالتمييز بين رجال الدين (الإكليروس) وعامة الشعب (لايكوس)، وتخصيص رجل الدين بالحق في تأويل النص المقدس وامتيازات تعيين الكنيسة للرهبان، وفي المقابل قرر لوثر أن:

- كل مسيحي راهب، وله الحق في خدمة خالقه.

- كل مسيحي مؤهل لتأويل النصوص المقدسة.

- كل مسيحي مسؤول عن الكنيسة وله الحق في تدبير شؤونها[15].

ومن جهة أخرى، قدمت الكالفينية مسوغا دينيا للبرجوازية الناشئة من أجل إباحة المعاملات التجارية والمالية الربوية، وتجاوز وضعية "عقم المال"، وانطلق كالفن من حصة المجازفة التي تخول الرأسمالي الحصول على الفائدة. غير أن المؤرخ إذا كان يرغب عن النظرية الماركسية التي ترى في البروتستانتية إفرازا للبنية التحتية، فإنه يصمت عن موقف ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"، فيما الباحث السوسيولوجي اللفرنسي آلان توران لا يسلم بالموقف الفيبيري كذلك، وذلك أنه "لا أحد ينفي، يقول توران، أن الرأسمالية تطورت في البداية في البلدان الكاثوليكية، في إيطاليا وفنلندا. ويمكن أن نضيف أن البلدان الكلفانية الأكثر تشددا لم تعرف تطورا اقتصاديا ملحوظا، فاسكتلندا الكلفانية ظلت متأخرة لمدة طويلة عن إنجلترا الأنغليكانية"[16].

أما بخصوص نشأة الدول الحديثة، فالمؤرخ يتحدث عن مرحلة وسيطة بين النظام الفيودالي الذي تتوزع سلطته بين الأسياد والملوك، والدول الحديثة ذات الشرعية الديمقراطية الدستورية، وإبان هذه المرحلة تم تهميش الفيودالي وتمتين المونارشية التي كانت تتقاسم مصالح مشتركة مع البرجوازية، فكما يقول حبيدة: "كان الملك بحاجة إلى برجوازية تحد من نفوذ الأسياد الفيوداليين، وتمول المشاريع الكبرى للبلاد، ومن جهة أخرى كانت البرجوازية الصاعدة في حاجة إلى سلطة مركزية تضمن وحدة السوق التجارية وتسقط الرسول الفودالية والحواجز الجمركية بين مختلف المناطق والأقاليم"[17]، وهكذا ظهر خلال هذه الحقبة نظام مونارشية إلهية تستمد سلطتها من التفويض الإلهي؛ مع تجميع كل السلطات في يد الملك.

ويختم المؤرخ كتابه بالباب الذي يعنونه بـ "الأنوار"، ويحدد له بعض الخصائص التي ميزته؛ ومنها أنه عصر عقل وعقلانية؛ وهذا ما ينص عليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حين يقرن بين الأنوار وقدرة الإنسان على استخدام عقله دون وصاية من أحد، كما يعرفه حبيدة بأنه عصر ظهور أفكار ليبرالية تمجد الحرية؛ ثم "انتشار الأفكار المرتبطة بحقوق الإنسان"[18].

وفي هذا العصر، حدثت مساءلة للموروث الفكري والسياسي على حد سواء؛ ففي الفلسفة أقام رينيه ديكارت نسقه الفكري مستندا على مبدأ الشك المنهجي وباعتماد المنهج الرياضي؛ وإن كان هذا الأخير سكت عن الفكر الديني محاباة لرجال الدين، فقد كمّل سبينوزا وفولتير ما بدأه ديكارت، فشككا في المعتقدات الدينية مثل الصحة التاريخية للكتب المقدسة، وإنكار حدوث المعجزات والنظر إليها كخرق للطبيعة يؤدي بالتالي إلى خرق النظام، مما يدعو إلى الاعتقاد في غياب إله ينظم الوجود، وربطا الإيمان لا بصحة المعتقد في حد ذاته، بل بما يبعث عليه هذا المذهب من عمل صالح.

أما مساءلة الفكر السياسي، فتجلت في سحب البساط من تحت الملكيات المطلقة بالطعن في الحق الإلهي، والتنصيص في المقابل على الحق الطبيعي، وفي مقابل استجماع الملك لكل السلطات نص جون لوك ومونتسكيو على نظرية الفصل بين السلطات الثلاث: السلطة التشريعية، التنفيذية والقضائية. كما على أنقاض الحق الإلهي واستمداد الشرعية من التفويض الإلهي أبدع جون جاك روسو مفهوم "العقد الاجتماعي" كعقد مدني بين الشعب والحاكم، فهذا الأخير لا يستمد شرعيته إلا من الشعب الذي يتعاقد معه من أجل خدمة الصالح العام، وإلا انفسخ هذا العقد إذا أخل به. وهكذا فقد مارست أفكار جون جاك روسو "تأثيرا بالغا على الفكر الثوري بفرنسا في العقود التي أعقبت صدور التعاقد الاجتماعي وبالذات على مستوى بلورة المبادئ الكبرى للثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان الذي صدر عن الجمعية الوطنية في 26 غشت 1789"[19].

وبجناحي الفكر الأنواري ذي الصبغة الثورية من جهة، وتعزز مكانة الطبقة البرجوازية بما راكمته من ثروات من جهة أخرى، دشنت أوربا عصرا جديدا بثورات صاخبة أسالت الكثير من الدماء، خاصة الثورة الفرنسية، وما كانت الثورة الإنجليزية، لتكون ثورة مجيدة سلمية تتحول فيها السلطة إلى ملك بروتستانتي يخدم مصالح البرجوازية بسلاسة، لولا أن الملك العنيد جاك الثاني فر بجلده هاربا إلى فرنسا حين تم استدعاء الأمير البروتستانتي ويليام أورانج الذي استجاب للنداء وزحف إلى لندن بجيش مكون من 14000 رجل.

إجمالا؛ يتسم كتاب المؤرخ حبيدة "تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار" بغنى نوعي، فمع وفرة المادة التاريخية التي لا يمكن أن تسعفنا هذه الصفحات لاستعراضها، يتسم الكتاب بعمق نظري، مع حضور حس المساءلة والنقد، ثم إنه كتاب "عبر"، لأنه يقدم صورة واضحة لمسارات التحديث في أوربا، عبر التطرق لأبعاد مختلفة، وهو ما يحتاجه كل تائق لفهم ميكانيزمات التغيير.

  


[1] حسن حنفي ومحمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب. (بيروت: المركز العربي للدراسات والنشر 1990). ص 106

[2] يقول العروي: "لا يمكن أن نقدم جوابا معقولا لِهَم فلسفي مشروع إلا انطلاقا، وفي سياق، ما يقترحه البحث التاريخي".

Laroui Abdellah, Philosophie et histoire. (Casablanca: Centre culturel du livre. 2017).

[3]يظهر بشكل واضح تأثر الأستاذ حبيدة بالتاريخ الحولياتي في جل كتبه، مثل "كتابة التاريخ" و"المغرب النباتي" (بالفرنسية) وهو مبحث ينتمي إلى الأنثروبولوجيا التاريخية الذي دشنته مدرسة الحوليات، و"بؤس التاريخ" فضلا عن كتابه "الكتابة التاريخية" الذي يضم مجموعة من الدراسات المترجمة. ويصنفه المؤرخ التونسي محمد الطاهر المنصوري كأحد المتأثرين بالتاريخ الحولياتي في العالم العربي؛ انظر مقدمة الطاهر المنصوري لترجمة كتاب "التاريخ الجديد" الذي أشرف عليه جاك لوغوف والصادر عن "المنظمة العربية للترجمة".

[4] «Dans le développement d’une discipline, il est des moments ou une synthèse; fût-elle en apparence prématurée, rend plus de services que beaucoup de travaux d’analyse, en d’autres termes, il importe surtout de bien énoncer les questions, plutôt pour l’instant que de chercher à les résourde»

Marc Bloch, Les caractères originaux de l’histoire rurale française. (Paris: Librairie Arman Colin, 1968). p. 11

[5] محمد حبيدة، تاريخ أوربا: من الفيودالية إلى الأنوار. (الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر. 2010). ص 106

[6] لا يخفى أن إشكالات التحقيب هي مباحث جديدة في البحث التاريخي كما يذكر ميشيل فوكو، انظر كتابه

Michel Foucault, L’archéologie du savoir. Gallimard, 1969.

[7] محمد حبيدة، تاريخ أوربا... مرجع سابق، ص 11

[8] نفسه، ص 18

[9] نفسه، ص 24

[10] نفسه، ص 28

[11] نفسه، ص 29

[12] نفسه، ص 53

[13] نفسه، ص 86

[14] نفسه، ص 97

[15] نفسه، ص 98

[16] Alain Touraine, Critique de la modernité. (paris: Les éditions Fayard. 1992). p. 38

وبعد أن يورد توران بعض المعطيات حول غياب رواج اقتصادي في بلدان كالفينية يخلص إلى ما يلي:

«Il est donc difficile d’expliquer le développement du capitalisme par l’influence du protestanisme le plus purain» Ibid, p. 39

[17] حبيدة، تاريخ أوربا... مرجع سابق. ص 139

[18] نفسه، ص 159

[19] نفسه، ص 171