"الدين والتدين" أو الإلهي والاجتماعي في الظاهرة الدينية : قراءة في كتاب عبد الجواد ياسين "الدين والتدين"


فئة :  قراءات في كتب

"الدين والتدين" أو الإلهي والاجتماعي في الظاهرة الدينية : قراءة في كتاب عبد الجواد ياسين "الدين والتدين"

تثير الظاهرة الدينية، كمنظومة شمولية تقدّم للإنسان رؤية وجودية خاصة، جملة إشكالات، وتطرح على العقل بحكم طبيعتها المركبة تساؤلات فلسفية شتى، بدءا من التحقق من طبيعتها المفارقة، إلى التمييز فيها بين المطلق والنسبي أو الثابت والمتغير؛ فمعرفة الإلزامي من الاختياري، وفي القرون المتأخرة مع ظهور الكيانات السياسية الحديثة طُرحت إشكالية الموقع الذي يحتله الدين من الدولة على عدة مستويات، ومن التساؤلات التي أسالت مداد أقلام الباحثين ولا تزال، الدور المنوط بالدين الإسلامي في السياسة والاجتماع خاصة، إذ على المستوى الفردي قلما يسفر النقاش المحتدم بين أطياف الفكرانيات خلافات أو نزاعات حول العلاقات العمودية الرأسية بين الله والإنسان في إطاره الوجداني الحرّ، وهكذا فمن الأسئلة التي لم يُحسم فيها الخلاف بشكل نهائي، طبيعة الدولة الإسلامية؛ هل هي دولة دينية أم مدنية؟ ثم هل التشريع الإسلامي قابل للتطبيق في الدولة المعاصرة؟ وقبل ذلك هل أتى الإسلام بتشريع متكامل يمكن تنزيله على واقعنا؟ وإذا كان التشريع الفقهي الإسلامي المحايث للحظة الوحي والمباين اللاحق على نزوله كما هو معلوم لا يخلو من أحكام في مجالات التشريع الجنائي والمدني وغيرها فهل هذه الأحكام ملزمة مؤبدة أم أنها مجرد اجتهادات زمنية أملاها واقع اجتماعي معين؟ وحتى نطرح السؤال بصيغة أوضح تقربنا من الإشكالية التي تناولها الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة فيه؛ هل الأحكام التشريعية، سواء في اللحظات التأسيسية الأولى أو بعد عصر التدوين العربي الذي تزامن مع وضع فلسفة للتشريع ممثلة في أصول الفقه ذات طابع إلهي أم أنها امتداد لما كان سائدا في البلاد الإسلامية من أعراف تدخل في نطاق "الجاري به العمل".

يمكن أن نقول إن كتاب الباحث المصري المستشار عبد الجواد ياسين "الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع"[1] مساهمة مهمّة حاولت أن تلقي أضواء كاشفة عن هذه الإشكالات المؤرّقة، وتجيب على نحو جادّ عن الأسئلة التي طرحناها وخاصة منها السؤال الأخير. إننا نستطيع أن نقدّم فكرة أولية عن مضمون الكتاب بإعادة تركيب العنوان الفرعي، أقصد "التشريع والنص والاجتماع"؛ فالكاتب دافع عن أطروحة مفادها أن التشريع الوارد في النص أملاه واقع اجتماعي، هو نفسه ذلك الذي تزامن مع لحظة الوحي الأولى؛ أي واقع مكة/المدينة في القرن السابع الميلادي، وأن الحلول المضمّنة في النص، والتي عالج من خلالها المشاكل التي واجهها المسلمون الأوائل، والقوانين التشريعية المنصوصة في الكتاب لم تخرج عن نطاق العرف السائد في شبه الجزيرة العربية، إلاّ في مواطن قليلة عدل فيها الوحي من تلك القوانين العرفية حتى تتوافق مع الأخلاق الكلية.

وحتى نُقرّب الرؤية التي من خلالها قارب د. عبد الجواد ياسين العلاقة القائمة بين كلّ من الدين والتدين، ينبغي أن نبدأ بتحديد الإطار الموضوعي الذي كان الباحث يتحرك فيه ومن خلاله. وفي الحقيقة كان من المنتظر أن يستهل الكاتب كتابه بالكشف عن الرؤية المنهجية التي يمتح منها في دراسته هذه، لكننا لم نقف على دواعي تأخير هذا الإيضاح المنهجي إلى الفصل الثاني، وهو تأخير غير مفهوم، بل وربما مخلّ بترتيب محتويات الكتاب، إذ يستعصي على الباحث استيعاب السياقات التي ورد فيها تمييز د. عبد الجواد ياسين منهجه في تحديد العلاقات الشائكة بين الدين من جهة والتدين من جهة أخرى عن مناهج العلوم الاجتماعية الأخرى، وإن كان الكاتب لم يغفل الإشارة في مدخل كتابه إلى منزلق تسقط فيه القراءات السوسيولوجية للدين التي اعتمد على بعض نتائجها، بالموازاة مع مقارنته لهذا المنهج بآليات العقل السلفي.

يمكننا حصر الاتجاهات التي استقى منها الباحث نتائج دراسته وأسّس عليها نظرته للعلاقة بين الدين والتديّن في اثنتين: أولهما الدرس السوسيولوجي، والثاني القراءة الاستشراقية. غير أنّ د. عبد الجواد ياسين لم يتبنَّ نتائج الدرس السوسيولوجي في مقاربته للظاهرة الدينية بحذافيرها، أقصد السوسيولوجيا الكلاسيكية، وحتى نفصّل رأينا هذا نقول؛ لقد كان "أوغست كونت" مؤسّس المدرسة الوضعية في علم الاجتماع بحكم التطور الاجتماعي الحاصل، يرى في الدين مرحلة من مراحل بنية الثقافة الإنسانية ككل، حاولت من خلال آلياتها "البسيطة" التي تتيح للإنسان إمكانات للاجتهاد العقلي تقديم تفسيرات للأسئلة التي تؤرق الفكر الإنساني، وكانت النتيجة بحسب هذه الرؤية تشكيل منظومة ضخمة من الأساطير والخرافات، وهكذا تنبأت المدرسة مع ظهور "العلم التجريبي" وتطوّره بانقراض الظاهرة الدينية، لأنّ العلم بأدواته المنهجية الدقيقة سينوب عن الدين في تفسير الوجود. وإذا كان د. عبد الجواد ياسين يرفض هذا التصوّر، فإنّه يقترب بشكل كبير من رؤية "ماكس فيبر"، وإن كان يطبّق مضمون خلاصات فيبر في مقاربته للظاهرة الدينية في علاقتها بالاجتماع على المستوى التشريعي القانوني، متحفظا عن تطبيق نتائجها على "الدين في ذاته"؛ فعالم الاجتماع "ماكس فيبر" يرى أنّ "كلّ تطوّر اجتماعي يخلق تطوّرا دينيا، كما أنّ كلّ تعدّدية في البنى الاجتماعية تفرز تعدّدية في الرؤى الدينية"[2]، وهي فكرة يقول بها د. عبد الجواد ياسين على نحو انتقائي. أما تحليلات "أرنست ترولتش" فتتقاطع بشكل كبير مع التحليل الذي يقدمه عبد الجواد ياسين في كتابه هذا، إنّهما معا ينطلقان من كون الوحي حقيقة مفارقة، والاتصال البشري بالسماء ممكن من خلال الوحي، غير أنّ البنية الدينية كما يقول هذا العالم السوسيولوجي "واصلت حضورها في هذا العالم عبر البشر الخاضعين لقوانين الاجتماع فتخلقت حول الفكرة محتويات ثقافية كانت تتغير بتغير الزمان والمكان والمجتمع البشري الذي تشتغل فيه"[3]، والفرق بين التصوّرين يكمن في كون عبد الجواد ياسين، يرى أنّ "الدين في ذاته" الذي ينكر "إيمانويل كانط" حقيقته، لا يمكن تمثله كما هو في صورته كمادة خام، إذ الدين في ذاته ينبصم ببصمة الذات على مستويين، الإدراك والتعبير، يقول عبد الجواد ياسين شارحا تصوره هذا " إنّ الفهم الناجم عن ملامسة النص ينبصم ببصمة الذات مرتين؛ الأولى عند إدراكه (تلقيه داخل الذات) ولدى التعبير عنه (تعديته خارج الذات)"[4]، وهكذا خلافا لتصوّر "أرنست ترولتش"، الدين كمعتقد عندما يتحول إلى لاهوت أي تصور مبرهن عليه أو معبر عنه فقط يفقد حسب عبد الجواد ياسين ماهيته كحقيقة وجدانية تستعصي على التعبير، وهذا ما يفسر اختلاف التصورات العقدية في السياقات التوحيدية الثلاثة رغم مصدرها الواحد، بل واختلاف الرؤى العقدية بين الفرق الكلامية على صعيد الدين الواحد. أما "لاويرز" وبتفريقه بين الثابت والمتغير في البنية الدينية، يتفق تماما مع تمييز عبد الجواد ياسين بين الدين كعقيدة وأخلاق كلية تتسم بالثبات والإطلاق، والتدين كاختيارات اجتماعية تنحو منحى قانونيا منصوصا في الوحي، لكنه مع ذلك غير مطلق ولا مقدس، وإنما هو نسبي متغير.

إنّ هذا التمييز تتجلى أهميته في قدرته على تقديم تفسير للظاهرة الدينية التي تفقد شيئا من "حقيقتها" مع التطور التاريخي، لكنها مع ذلك تظل حاضرة حضورا عنيدا؛ فالعقل الاجتماعي التجريبي كما يسميه عبد الجواد ياسين بشر بمراحل قادمة يغيب فيها الدين، لكن المفارقة التي يوقفنا عليها التاريخ في هذه اللحظات أن الدين لم يختف، بل مازال يواصل حضوره على المستوى الوجداني للإنسان، إن التحليل السوسيولوجي كما يرى عبد الجواد ياسين لم يدرس إلا "التدين"، وبحكم أن هذا الأخير هو القابل للرصد، باعتباره مجموعة تشريعات يقحمها العقل الديني بتعسف في خانة المطلق، وبحكم أنه كذلك كما أثبتت الدراسات يمتح عادة من الأعراف التي تكون معتادة في مجتمع ما قبل ظهور النبي، بل ولأنها إضافة إلى ذلك تتغير وتُتَجاوز، كما هو الشأن مع التقاليد الدينية التي اخترقتها بنية الحداثة، فإن هذا العقل التجريبي يحكم بخفة وتسرع بأن الظاهرة الدينية ككل ليست إلا تجليا للحراك الاجتماعي، فيمطط نتائجه التي يتوصل إليها من خلال مقاربته للتدين على الدين نفسه؛ أي الظاهرة المفارقة للإنسان، يقول عبد الجواد ياسين: "العقل التجريبي الاجتماعي، وهو يعمم نتائجه على مجموع البنية الدينية، أنكر ما هو مطلق في الدين واعتبره في مجمله ظاهرة تاريخية من صنع الاجتماع"[5]، وهكذا فالدكتور عبد الجواد ياسين تبنى نتائج الدرس السوسيولوجي في مقاربته للظاهرة الدينية تبنيا جزئيا محصورا في الجانب التشريعي منه.

ويبدو كذلك أنّ عبد الجواد ياسين تأثر بالقراءة الاستشراقية للدين الإسلامي؛ فالكاتب عندما ينص على كون التشريع الإسلامي في مجمله لا يخرج عن إطار الأعراف التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية، وأحيانا يعدل من هذه الأعراف كي تتوافق مع الأخلاق الإلهية الكلية، إنه بهذا يكون متفقا تماما مع الدراسات الاستشراقية التي تعرضت للتشريع الإسلامي، ولعل الحضور المكثف للمستشرق الألماني "يوسف شاخت" (1902-1969)[6] وكتابه أصول التشريع المحمدي خير دليل على ما نذهب إليه، فالفكرة المحورية التي دافع عنها "شاخت" كما يقول أحد الباحثين بخصوص طبيعة التشريع الإسلامي، أنه "يستمد روحه من القرآن والسنة، وأما مادته فإنها ترجع إلى أعراف العرب قبل الإسلام".[7]

هذا عن المصادر التي يبدو واضحا تأثّر د. عبد الجواد ياسين بها. أمّا عن محتوى الكتاب، فموزّع على مقدّمة وفصلين؛ الفصل الأول بعنوان: "الاجتماع المنصوص: النص في سياق النزول". أما الفصل الثاني، فعنوانه "النص في سياق التطور: تضخم البنية الدينية"، في الفصل الأول يرصد حضور الاجتماع والتاريخ في بنية النصوص التأسيسية على المستوى التشريعي. أما الفصل الثاني، فيقف فيه على افتئات الفقه الإسلامي على النص بتحميله ما لا يحتمل.

استهل د. عبد الجواد ياسين كتابه "الدين والتدين" بالتنصيص على صعوبة تعريف الدين من داخل المنظومة الدينية، كما ضمّن مقدمة كتابه ثلاث مصادرات، وهي عبارة عن حقائق/بديهيات عن الدين في علاقته الجدلية بالاجتماع، لكنها مع ذلك تثير عدة اختلافات بين مقاربي الظاهرة الدينية، ويكاد يكون الكتاب كله استدلالا أو برهنة على هذه المصادرات. وفي نظري هذه المصادرات يمكن اختزالها في ثنتين، إذ يمكن دمج المصادرة الثانية والثالثة في واحدة بحكم تناغمهما، فهما معا يؤكدان حضور الاجتماع في الدين، في المصادرة الثانية يؤكد حضور الاجتماع في بنية التدين من خلال احتواء النصوص الدينية على اختيارات تشريعية من بنية المجتمع القائم، فـ "الدين لا يظهر إلا من خلال التجلي في الواقع الاجتماعي"[8]. أما المصادرة الثالثة، فالاجتماع بنية كامنة في الوجدان الفردي الذي يتمثل هذا الدين، يتلقاه ويعبر عنه؛ إن الدين كمضمون يخاطب الفرد لا يظهر إلا من خلال تجليات السلوك الإنساني الذي يتمثله، والإنسان بحكم اجتماعيته ينبصم بطبائع اجتماعياته التي يعايشها، فهو حين يتمثل الظاهرة الدينية يجر معه إرثا اجتماعيا يسهم بشكل فعال في بلورة تصوره للدين، ما يجعله ينطبع بخصوصيات الذات، فيتحول إلى تدين. في المصادرة الثانية الاجتماع حاضر بشكل مباشر في البنية الدينية. أما في المصادرة الثالثة، فالاجتماع يطل على الظاهرة الدينية من شرفات الفرد. أما المصادرة الأولى، فتنص على أن الدين "من حيث يقوم على مبدإ الوحي الإلهي، يرجع إلى مصدر مفارق للإنسان؛ أي أن له وجودا ذاتيا سابقا على حضوره في الاجتماع، ومن ثمة فهو فكرة كلية مطلقة ومتعالية. غير قابلة للتغير بفعل الاجتماع"[9]، وفي تفكيكه لهذه المصادرة على ضوء التاريخ يكشف عن تناقضاتها، إذ أن الدين على الرغم من ربانية مصدره إلا أنه خاضع حتما لما هو بشري، وهكذا يمكن في آخر المطاف اختزال المصادرات الثلاث في المصادرة الأولى التي توقفنا على مفارقة الثابت والمتغير في البنية الدينية.

في الفصلين يبسط د. عبد الجواد ياسين بسطا مسهبا الكلام في تطور البنية الدينية عبر التاريخ، يتناول في الفصل الأول الحضور الاجتماعي في النص؛ أي اندماج الإلهي والإنساني في الفترة الممتدة من اللحظات الأولى لتلقي النبي للوحي إلى لحظة إغلاق النص وانقطاع الوحي، بينما قارب في الفصل الثاني تطور البنية التشريعية بعد هذا الإغلاق؛ أي الفقه الإسلامي بمعناه الاصطلاحي، ويرصد من خلاله تضخم البنية الدينية لاعتبارات اجتماعية، والتي أُضْفِي عليها في عصر التدوين قدسية تضاهي قدسية النص الأصلي. يقول د. عبد الجواد ياسين، وهو يقدم لنا عصارة أفكار كتابه "ناقش الفصل الأول علاقة الدين بالاجتماع في لحظة الالتقاء الأولى؛ أي في لحظة الوحي، وهي لحظة تمتد من ظهور النص التأسيسي حتى إغلاقه بانقطاع الوحي، وفيها يعبر الاجتماع عن حضوره في الدين مباشرة من خلال النص ذاته، وخصوصا في التشريع. أما هذا الفصل، فيناقش علاقة الدين بالاجتماع في المرحلة اللاحقة على إغلاق النص التأسيسي".[10]

قبل أن نفصّل القول في مضامين الفصلين، لابد أن نسجّل ملاحظة حول تطوّر في فكر د. عبد الجواد ياسين، فقد كان الباحث في كتاباته السابقة على "الدين والتدين" يحكم بـ "لازمانية" النصّ هكذا بإطلاق، ولا يقول بشيء من تاريخيته، على عكس ما نرى في كتابه هذا الذي نحن بصدد قراءته، حيث يميز في البنية النصية بين الدين (العقيدة – الأخلاق) والتدين (التشريع- القانون)، لنقرأ مثلا ما سطّره الباحث في كتابه "السلطة في الإسلام"، يقول وهو بصدد المقارنة بين الأحكام الفقهية ونصوص الوحي: "إن الحكم الفقهي لا يملك التفلّت من بصمة الزمن الذي نشأ فيه، ولا من بصمة المكان لأنهما معا جزء لا يتجزأ من تكوينه. أما النص فهو قائم قبل الاحتكاك ومجهز له. إنه طليق عن الزمان والمكان، لأنه بحكم ربانية مصدره قادم من خارج الزمان، وبحكم طبيعة وظيفته مجهز للتمدد مع الزمان".[11]

أما في هذا الكتاب الأخير، فيقتطع نصوص التشريع على قلّتها من دائرة المطلق ويقرّ بزمنيتها، كيف ذلك؟

يميز د. عبد الجواد ياسين كما قلنا بين الآيات التي تتناول العقيدة وتحثّ على الإيمان بالله وتوحيده والنهي عن الشرك، وكذلك الآيات ذات الحسّ الأخلاقي الثابت، وبين الآيات التي تعالج قضايا اجتماعية بعبارة تنحو منحى تشريعيا، ويلاحظ الباحث أن آيات الدين (الإيمان بالله- الأخلاق) تعتمد مبدأ المبادءة ؛ أي أنها تنزل ابتداء من غير أسباب معينة أملت تنزيلها، من هنا فهو يرى بأنها هي الجديرة وحدها باسم الدين، وأنها ذات الطابع المطلق المقدس واللازماني. أما آيات التشريع فرغم أنها منصوصة؛ أي واردة في النص، إلا أن فاعليتها لا استمرارية لها، بل هي محدودة الإلزام تخاطب المعاصرين للوحي فقط دون غيرهم.

ويورد د. عبد الجواد ياسين ثلاث آليّات أقر بها العقل السلفي على نحو معيّن للتنصيص على الطابع الزماني لآيات التشريع القرآنية؛ التنجيم وأسباب النزول وحدوث النسخ. فعن الآلية الأولى يدعونا لتأمل "النزول المتقطع للآيات التشريعية"، وبالنسبة للثانية، يحث الفكر المتأمل للاعتبار بـ "تعلقها [أي آيات التشريع] بالحوادث وانتظارها للأسئلة"، وكذا "استشعار مرونتها حيال الواقع المتغير في المدى القصير"[12] في إطار ما يسمّى في علوم القرآن بالنسخ، وذلك لاستخلاص ما تنطوي عليه هذه الظواهر المتعلقة بتفاعل النص مع الواقع من إشارة لظرفية التشريع في القرآن، وبالتالي إمكانية التجاوز في أفق التأسيس لمنظومات تشريعية مغايرة تستجيب لإكراهات الاجتماع، بالضبط كما كانت المنظومة التشريعية الإسلامية استجابة لواقع زمني متموج. ونشير هنا إلى أن الباحث في ربطه بين النص التشريعي والاجتماع، قارب الإشكالية من زاويتين، الأولى زمنية، والثانية موضوعية؛ فالتنجيم والنسخ وأسباب النزول ثلاث آليات تتعاضد فيما بينها لتكشف عن حضور التاريخ في النص؛ أي إبراز الإطار الزمني الذي احتوى النص التشريعي، إلا أن العقل السلفي كما يقول عبد الجواد ياسين لم يستنبط ما هو كامن في هذه الآليات من تموج تاريخي يمس بنية النص، بل رأى فيها تبعا لما يسميه د. عبد الجواد ياسين "الحيل الأصولية" أدوات نظرية تنتمي هي نفسها إلى المطلق المؤبد، إنها حسب المرجعية السلفية لم تكن انعكاسا لبنية اجتماعية متحركة، بل كانت تعبيرا عن مشيئة الله المطلقة التي تتعالى كليا على الواقع والاجتماع، يقول عبد الجواد ياسين، وهو يحيلنا على التأويل السلفي لهذه الآليات "عاد العقل السلفي ففرغ ظاهرة التنجيم من مضمونها عبر تبنيه لمقولة النزول المجمل للقرآن من اللوح المحفوظ. وصادر على فاعلية أسباب النزول من خلال الحيل الأصولية التي ربطت السبب بالآية لا بالحكم الذي تحمله (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) كما تجاهل الدلالة الجدلية لتغير الأحكام خلال فترة التنزيل القصيرة، عبر التعاطي مع مفهوم النسخ كعملية نظرية تتعلق ببنية النص، وليس كمسار واقعي لتاريخ الجماعة المسلمة الأولى في إطاره الإجمالي"[13]، ويدعم الباحث قراءته هذه بملاحظة مهمة حول المضمون الذي يحمله النص في الحقبتين المكية والمدنية، فالقرآن المكي بحكم مجابهته لتجمعات بشرية بدائية -لا يمكن أن نطلق عليها اسم مجتمع منظم-، لم ينخرط في عملية التشريع القانوني، لأن هذا الأخير يظهر في التشكلات الاجتماعية التي قطعت أشواطا في التنظيم، فطيلة الحقبة المكية عمل الوحي على تكريس عقيدة التوحيد وتجذيرها في المجتمع المكي وحمله على التحلي بالأخلاق الحميدة والقيم الكلية. أما عملية التقنين، فلم تبتدئ إلا في المرحلة المدنية حيث بدأت أمشاج وإرهاصات "المجتمع/الدولة" تبرز بوضوح، سواء على مستوى التشريع لجماعة المسلمين، أو لعلاقاتهم مع الآخر (المشرك/النصراني/اليهودي)، وهي كلها حقائق تصب في ذات مضمون المصادرات التي استهل بها الباحث كتابه، أي انتماء التشريع لدائرة التدين، وارتباط الأخير بالمجتمع، وعدم تقاطعه بالتالي مع جوهر الدين المطلق الثابت المتعالي الذي لا يخضع للسيرورة التاريخية ولا يتأثر بها بسبب طبيعته المفارقة.

هذا عن الإطار الزماني، أمّا الإطار الموضوعي؛ المتعلّق بمادّة وموضوع النصوص التشريعية، فاستقراء الأمثلة الجزئية التي اعتمدها عبد الجواد ياسين من أجل إثبات جدلية التشريع والاجتماع، تنتهي بنا لتصنيف مداخله المنهجية وحصرها عموما في ما يلي:

-اعتبار التشريع الإسلامي للعرف السائد (مع تعديله أحيانا)، واعتماد العرف لا ينحصر في مستوى اختيار ما كان شائعا من طقوس وأحكام، بل تجاوزه إلى اعتماد البنية النصية لقوالب لغوية ذاتها التي كانت سائدة في العرف الجاهلي.

-تعارض آيات التشريع الذي يرجع بالأساس إلى تغير الواقع الاجتماعي الذي أنزل فيه النص حكما معينا.

-تعارض آيات التشريع مع بعض القيم والأخلاق الدينية.

لنمثّل لكل حالة استنادا على ما أورده عبد الجواد ياسين في كتابه هذا من نماذج تشريعية. ولنبدأ بما يراه استمدادا لأحكام من الواقع العرفي في النظام الجاهلي السائد.

يقول الله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة: 217]. ينطلق الباحث في تحليله لهذه الآية من سبب نزولها، حيث يبدو واضحا من سياق النزول أنها جاءت لتؤكد عادة عرفية معهودة عند العرب في الجاهلية، وهي تحريم القتال في الأشهر الحرام، يقول عبد الجواد ياسين بعد إيراده لسبب نزول الآية: "لم يستحدث النص القرآني تحريم القتال في الأشهر الحرم، بل أقر بشرعيته العرفية المستمدة من النظام الجاهلي السائد"[14]، ولنقرأ السياق الذي نزلت فيه ونتمعن الحادثة التي لأجلها أنزل الله تعالى هذه الآية " عن عروة بن الزبير أن رسول الله بعث سرية من المسلمين وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عيرتجارة في يوم بقي في الشهر الحرام. فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه. فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره. فبلغ ذلك كفار قريش، وكان ابن الحضرمي أول قتيل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على النبي فقالوا: أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)"، نعم إن الحادثة نموذج مثالي لاعتبار النص القرآني للعرف، لكن ما لم يستشكله الباحث هو جينيالوجيا هذا الحكم ذاته؛ كيف صار عرفا؟ ألا يمكن أن يكون تحريم القتال من بقايا دين إبراهيم، خاصة وأننا نعلم تبعا لأبحاث الأنثربولوجيين أن العقائد الدينية لا تتلاشى، بل تواصل حياتها في حلل جديدة، ما يعني أنه في آخر المطاف وحي منزل من الله؟ وارد جدا. وهذا سؤال يستحقّ النبش والتعرية.

لنمض إلى تعارض آيات التشريع مع بعضها البعض، وهي الظاهرة الناجمة حسب عبد الجواد ياسين عن معالجة الوحي لوقائع متباينة، ما يعني أن الحكم المنزل في كل منها سيكون مخالفا للأخرى تبعا للظروف الاجتماعية وأحوال المسلمين. وكمثال على هذا التعارض، يدرس عبد الجواد ياسين آيات القتال، وهي آيات بالفعل تنوعت أحكامها بين الوجوب والتحريم والندب، تبعا لمحددات مختلفة، مثل مراعاة العهود واعتبار القوة المادية للمسلمين... إلخ. يقول عبد الجواد ياسين "باستقراء الآيات القرآنية ذات الصلة [بأحكام القتال] نجد أنفسنا أمام مجموعات ثلاث من النصوص، الأولى تنهى عن القتال، والثانية تبيح القتال، والثالثة تأمر بالقتال"[15]، وإذا جاز لنا أن نختلف مع د. ياسين في الدلالات التي يستنبطها من هذا التنوع التشريعي، إذ قد يقول معارض من باب الجدل، أن هذه الأحكام لا تزال سارية، فكلما وُجدت حادثة اجتمعت فيها أو انطبقت عليها الظروف التاريخية التي نزل النص فيها أُلْزمنا بحكمها التشريعي، بمعنى آخر أن هذه الآيات التي نزلت في أحكام القتال لابد أن يسري علينا حكم من أحكامها، بينما تظل الأخرى معلقة إلى أن تستجد ظروف أخرى تتقاطع مع أسباب نزولها. أقول إذا جاز لنا أن نختلف معه في هذه الدلالات، فلا نجد إلا أن نتفق معه على طول الخط بخصوص الأحكام المتعلقة بأبواب الغنيمة والفيء، يقول عبد الجواد: "قواعد الحرب في القانون الدولي المعاصر يؤثم الاستيلاء على ممتلكات الدولة المحتلة أو الأموال الخاصة بغير المحاربين في الميدان من دون تعويض، الأمر الذي تبدو معه أبوب الغنيمة والجزية والفيء في الفقه الإسلامي أبوابا تاريخية تستحق النقاش"[16]، ولعل الإمام مالك انتبه إلى الطابع الاجتهادي لأحكام الخمس وغيرها، حيث يقول: "الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام إن رأى قسمته على هؤلاء فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم من دون بعض فله ذلك". وعلى ذكر هذا المسلك الأصولي في فقه مالك، قد يكون من المهم أن نقف عند فكرة نجدها موزعة في غير ما موضع من كتاب "الدين والتدين"، ألا وهي أن مفهوم "السنة" بحمولتها الإلزامية هي ضرب من ضروب التنظير التديني وليس الديني، وأنها فكرة لاحقة على زمن الوحي قننها الإمام الشافعي. أما قبلها، فكانت السنة من قبيل "الجاري به العمل"، غير أنه لابد من الانتباه لمسألة، فهذا "الجاري به العمل" لا يبتدئ بظهور الإسلام، بل إنه موغل في الأعراف العربية التي سادت في الجاهلية، وعلى هذا الأساس فقد كان أكثر هذه السنة كما نظر لها الشافعي من المنصوص، وهو مفهوم يوظفه عبد الجواد ياسين يؤدي في الغالب معني "الوضع"؛ أي الاختلاق والنسبة الكاذبة للنبي، وهذه الفكرة تثبت ما أوردناه سابقا من تأثر ياسين بمدرسة "يوسف شاخت" الاستشراقية، فهذا الأخير يرى بأنّ كلّ الأسانيد المبثوثة في كتب الحديث مختلقة موضوعة.

أمّا عن تعارض بعض التشريعات الإسلامية مع الأخلاق الكلية، فيورد كنموذج على هذا التعارض الصارخ أحكام العبودية؛ فالدين في ذاته كأخلاقيات وقيم وسلوكيات حميدة لا يحبذ ظاهرة الرق، لكن النص الديني احتوى جملة أحكام متعلقة بالرق والإماء و"ما ملكت اليمين"، بمعنى آخر أنه تعامل معها كظاهرة عادية من الظواهر المعتادة في النسيج العقلي والنفسي لإنسان القرون الوسطى، وهذه في حد ذاتها تحمل دلالة على رضوخ النص لإكراهات الواقع، يقول عبد الجواد ياسين: "إن القوانين التفصيلية المتعددة، حتى وإن كانت منصوصة لا تنتمي إلى جوهر الدين، بل إلى الاجتماع (...) لأنها ليست في جميع الأحوال موافقة للأخلاق الكلية (الإلهية)، كما هو واضح في موقف النصوص من ظاهرة العبودية".[17]

أمّا الفصل الثاني، فقد خصصه د. عبد الجواد ياسين لدراسة بنية الفقه الإسلامي، وهي منظومة تشريعية يتوراى فيها الاجتماعي خلف المطلق المقدس من خلال تقييدات أصولية؛ فالأساس الإبستمولوجي للفقه الإسلامي؛ أي أصول الفقه، كانت تهدف إلى إصباغ الاجتهاد البشري بصبغة مطلقة مقدسة، فبالإضافة إلى تأبيد العقل السلفي لأحكام تشريعية ممعنة في الآنية وردت في القرآن كما يرى د. عبد الجواد ياسين، عملت المنظومة الأصولية على إلحاق السنة بالنص الأصلي وإضفاء ذات القداسة عليها، أو كما يقول الباحث: "عملية التحديث التي وجهها الفقه كانت تعني في الواقع تحويل العرف إلى نص"[18]، لكن يظل سؤال كيفية ضبط الفقه الإسلامي للمتغير والمتحرك من خلال منظومة مغلقة ثابتة يطل علينا حتى نقف على مساهمة الإمام الشافعي في بلورة النسيج المغلق للعقل السلفي، فالأحداث والوقائع تستجد دائما، فكيف لها أن تنضبط وتحصر من قبل منظومة تشريعية عالجت ظروف آنية لها خصوصيتها، يقول ياسين، وهو يحكي المفارقة ومدخل العقل السلفي لتجاوزها: "أراد العقل الديني أن يكون النص حاكما على كل شيء ولأن النص الأصلي لا يحقق ذلك حرفيا لزم تمديد النص: تمديد مساحته بالحديث، وتمديد دلالته بالقياس"، تلك إذا هما الآليتان اللتان وظفهما العقل السلفي من أجل ممارسة عملية تمطيط النص كما هو متصور في المنظومة الفقهية عبر التاريخ، مراكمة النصوص القرآنية بكم ضخم من الأحاديث، هذا فضلا عن اعتصار ما تحويه من دلالات في سياق استخراج ما يسمى في المباحث الأصولية بـ "العلة" حتى تتم المقارنة على أساسها بين الوقائع المختلفة. ويرى الباحث أنه مما أعان على عدم استشعار الفقيه لنوع من استعصاء الاتكاء فقط على النص وانسداد آفاق التشريع تبعا لآليات الفقيه الأصولية هو التطابق شبه التام بين الظروف السوسيو ثقافية التي احتك معها الوحي وتلك التي عايشها الإمام الشافعي، لهذا فقد كان مفعول تلك الأحكام لا يزال قابلا للسريان على مجموع الأحداث والوقائع التي تستجد، والتي لا تختلف نوعا عن الأحداث التي نزل فيها النص التأسيسي.

ومع ذلك، فقد مزّق الاجتماع البنية الفقهية كلّ ممزّق لاعتمادها آليّة القياس غير المنضبطة انضباطا دقيقا في المنظومة الأصولية، فظهور المذاهب هو تعبير عن الانشقاق في البنية الفقهية لخصوصيات الاجتماع البشري، فلو كانت الخطة التي رسمها الإمام الشافعي محكمة لما ظهر الخلاف الفقهي. لقد كان تعامل المذاهب المختلفة مع النص تعاملا فسيفسائيا، فبينما اعتمد السُنّة على الحديث لعضد لملء الخصاص التشريعي، نجد الشيعة يبالغون في التأويلات التي تنحو منحى باطنيا، ولإملاءات سياسية لا غير، متعلقة بالأساس بعقائد "الإمامة" و"الوصاية"، في إطار مخاصة ومجافاة نظرية الخلافة السنية، التي هي بدورها ليست سوى انعكاسا لحضور الاجتماع في قالب نصي ديني مطلق، فالأحكام المتعلقة بالدولة في نظر عبد الجواد ياسين برزت بعد إغلاق النسق النصي وليس قبله؛ أي أنه إملاء اجتماعي، لذلك فهو ينتمي للتدين لا الدين. يقول عبد الجواد ياسين: "التداخل العميق بين الدين والدولة في النظرية الإسلامية بشقيها، هو انعكاس للمسار التاريخي الواقعي الذي ظل يجاور بينهما بسبب النشأة المتزامنة وطوال مرحلة التأسيس النظري، وليس العكس. فالنظرية هنا لم تكن تترجم النص أو تعبر عنه على نحو تام، بل كانت تترجم الواقع الاجتماعي كما حدث في التاريخ"[19]، ويبدو أن ما ذكره عبد الجواد ياسين على درجة كبيرة من الصحة، فعرض مراحل تطور الفكر السياسي في الإسلام يحيلنا على حقيقة واحدة، هي عدم مباينتها للواقع الاجتماعي، وأن القول بنصيتها افتئات على النص والوحي، ويكفينا أن ننظر في الشرخ والبون الشاسع بين نظرية الخلافة السنية والإمامة الشيعية، وقد تحددت الأولى من خلال الثانية، باعتبار أن الشيعة كانت الأسبق زمنيا لتقعيد نظريتهم السياسية في الإمامة، من هنا فمادام الفكر الشيعي قائم على الطعن في التاريخ السياسي للسنة، فقد عمل المتكلمون السياسيون السنة على نقض أدلة الشيعة، وفي مرحلة قادمة، ستُعتَمَد تلك المرحلة التي ذب عليها متكلمة السنة كمثال مؤبد لتشريع الفقه السياسي كما هو بارز مثلا في الأحكام السلطانية للماوردي.

ونموذج آخر لأسبقية الواقع على الفقه وترجمة الأخير لمتطلبات ومستجدات الاجتماع التاريخي، ما يسميه عبد الجواد ياسين ب"ثقافة الغزو"؛ فالفقه في مرحلة الفتوحات كان يضفي مشروعية على عمليات الغزو المنظمة هذه، ولم يكن تطبيقا لأي نص كلي، بالعكس فإن الدين في ذاته يقوم على مبدإ عدم الإكراه على الإيمان، ومن هنا فالتقسيم الفقهي للعالم إلى "دار إسلام" و"دار حرب" ينتمي للبنية التدينية وليس الدينية، إنه تنظير تبريري لحالة العسكرة المتواصلة التي شهدها العالم الإسلامي إبان مرحلة الفتوحات، يقول عبد الجواد ياسين: " مفهوم دار الإسلام ودار الحرب ترجمة مباشرة للواقع السياسي العسكري القائم على أرض الواقع وقت التنظير الفقهي وليس ترجمة لأي نص كلي".[20]

ختاما، واستجماعا لما قلناه عن كتاب عبد الجواد ياسين "الدين والتدين"، نخلص إلى أن الكاتب طرح مدخلا منهجيا من أجل تجاوز المنظومة الفقهية من خلال تمييزه بين الدين والتدين، والتأسيس لاجتهاد بشري للتشريع، اجتهاد حر غير خاضع لأية وصاية، وذلك عن طريق التنصيص على زمنية المنظومة التشريعية الموروثة وعدم تعاليها على التاريخ، فقدم قراءة للتشريع في لحظتين تاريخيتين، الأولى تمتد على طول فترة الوحي، وقد أبرز خضوعها للاجتماع والتاريخ من زاويتين؛ الأولى زمنية، حيث وقف على الطابع التاريخي للنزول، من خلال اعتصار دلالات مباحث قرآنية كأسباب النزول والنسخ، أو من خلال التنبيه على النزول المنجم للقرآن، والثانية موضوعية؛ يقصد انتقاء النص لأحكام عرفية معهودة في الحقبة الجاهلية. أما اللحظة الثانية، فهي تلك التي تلت إغلاق النص وظهور الفقه كمبحث تشريعي ينوب عن الشارع في مقاربة نوازل الأمة، وهي عموما اجتهادات ذات طابع آني. على أنه من المفيد أن نشير في خاتمة هذا المقال، أن المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي قد وعوا مفارقة العقل السلفي الذي يضفي طابع الثبات على المتغير، نقرأ لأحدهم يقول: "إن الخلط بين المبادئ الخالدة والنماذج التاريخية عملية تبسيطية وخطيرة على الخصوص: إن اعتبار شيء ما أنموذج يحتذى في لحظة من لحظات التاريخ يفضي إلى تجاهل آثم ومن دون سابق تفكير لذلك التاريخ، وإلى اختزال شمولية مبادئ الإسلام بحلم عودة مستحيلة إلى الماضي وإلى حنين غير مسؤول إلى الأصول الماضية"[21]، كما أن شيوع وعي متقد حول ضرورة مقاربة الأصول مقاربة مقاصديّة تتجاوز القراءات الجزئية للنص، والتي تنخرط في عملية استثمار لغوي للألفاظ، إلى قراءة كلية تهدف إلى ترشيح الخطاب الشرعي واستنباط المقاصد الكامنة وراءه، مع إهمال التنظير اللحظي الآنيّ في الماضي لقضايا بعينها، كلّها علامات دالّة على وعي بضرورة التجديد المنهجي.


[1]- عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2012، وصدرت الطبعة الثانية للمؤلف عن مؤسسة مؤمنون بلاحدود، نشر وتوزيع المركز الثقافي العربي

[2]- نفسه، ص 341

[3]- نفسه، ص 344

[4]- نفسه، ص 10

[5]- نفسه. ص11

[6]- حول هذا المستشرق، انظر: عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت، دار العلم للملايين، ط3، 1993، ص 366

[7]- انظر ما قاله د. محمد أحمد سراج (مترجم) عن كتاب "شاخت" الموسوم Origins of Muhammaden law في: ن.ج. كولسون،في تاريخ التشريع الإسلامي، ترجمة وتعليق محمد أحمد سراج، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع، ط1، 1992، ص 20

[8]- عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 6

[9]- نفسه، ص 5-6

[10]- نفسه. ص 349

[11]- عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ،الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي، ط3، 2008، ص 34

[12]- عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص45

[13]- نفسه.

[14]- نفسه، ص 136

[15]- نفسه، ص 128

[16]- نفسه، ص 168

[17]- نفسه، ص 225

[18]- نفسه، ص 301

[19]- نفسه، ص 355

[20]- نفسه، ص 359

[21]- رمضان طارق، الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر، ترجمة أمين الأيوبي، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010، ط1، ص 31-32