تحولات الإسلام الجزائري ومفعول الحداثة الكولونيالية


فئة :  مقالات

تحولات الإسلام الجزائري ومفعول الحداثة الكولونيالية

تحولات الإسلام الجزائري ومفعول الحداثة الكولونيالية*


مقدمة:

ستحاول هذه الورقة عرض تطور أشكال التدين عبر المراحل التي مرت بها الجزائر من المرحلة الما قبل كولونيالية إلى الجزائر المستعمرة الفرنسي ةوصولا إلى الجزائر المستقلة. وسنبين كيف أن الإسلام الجزائري تطور من شكله الريفي التقليدي الطرائقي والصوفي إلى شكل حضري إصلاحي بفعل التغيرات البنيوية التي أحدثتها صدمة الحداثة الغربية بوجهها الكولونيالي. وسنرى كيف أن الإسلام الريفي ازداد تراجعا بفعل مفاعل التحديث الاشتراكي في الجزائر ما بعد الكولونيالية لصالح الإسلام الإصلاحي الذي أصبح إسلاما رسميا، وفي الأخير سنبين كيف عاد الإسلام الديني والثقافي الريفي وبقي مقاوما، وتم الرجوع إليه لما دخلت الجزائر في أزمتها السياسية والأمنية في سنوات التسعينيات لما تصاعد الإسلام السياسي، ودخل في صراع مع النخبة الحاكمة، حيث أدى الإسلام الصوفي والطرائقي وظائف متنوعة في سياقات سياسية وثقافية جديدة.

الأسئلة:

ماهي أشكال التدين التاريخي في الجزائر؟

ماهي أشكال التدين في ماقبل الحداثة الاستعمارية؟

كيف تفاعلت أشكال التدين في مواجهة الحداثة؟

ماهي أشكال التدين في الجزائر الكولونيالية؟

ماهو دور الحداثة الاستعمارية في تعدد اشكال التعبير الإسلامي؟

كيف أصبح التدين في الجزائر المستقلة؟

الإجابات:

1.كانت الجزائر الدينية الإسلامية قبل مجئ الاستعمار منقسمة بين إسلام البوادي وإسلام الحواضر.

2.ساهم التحديث الكولونيالي في خلق إسلام إصلاحي حضري ( سلفي وصوفي) وهمش الإسلام الريفي المرابطي.

3.بعد الاستقلال، شجعت الدولة الوطنية الإسلام الإصىلاحي السلفي الحضري وجعلته تدين الدولة وحاربت الإسلام الصوفي الريفي والحضري بحجة نزعته المضادة للتحديث الاشتراكي.

4.ومع بداية الأزمة الجزائرية. عادت الدولة للإسلام الصوفي لمواجهة الإسلام السياسي وعاد المثقفون إلى التصوف في زمن مابعد الحداثة.

أشكال الإسلام الجزائري ماقبل الكولونيالي:

قبل مجئ الحداثة الغرببة بشكلها الكولونيالي بالنسبة للجزائر في 1830 كانت ملامح الإسلام الجزائري تتألف من ثلاثة أشكال للتعبير الديني: الإسلام الأرثوذكسي الحضري للعلماء والقضاة في المساجد والمدارس، الإسلام الصوفي من خلال الطرائق والزوايا، وأخيرا الإسلام الريفي الشعبي البدعي المرتبط بالمرابطين والقباب والأضرحة، حيث الإسلام الصوفي يشكل جسرا للتواصل بين السنية النخبوية لإسلام العلماء والبدعية الشعبية لإسلام المرابطين.[1]

كان الإسلام المرابطي أقدم شكل ديني ريفي في بلاد المغرب، تعود أصوله إلى عهد الموحدين والمرابطين في القرن العاشر، حيث كان المرابط شخصا محل تقديس في الأوساط الريفية. والمرابطون كانوا قادة كارزميين محليين ريفيين، اتخذوا من الرباطات مقرات لأنشطتهم. لم يكن المرابطون سواء كانوا رجالا أو نساء أشخاصا ذوي تعليم، وكانوا يمضون كثيرا من وقتهم في الأسفار في الأرياف بعيدا عن الإسلام الأرثوذكسي الحضري في الحواضر الكبرى الذي يمثله العلماء الفقهاء والقضاة، إسلام المرابطين،وهو التدين الريفي الخاص ببلاد المغرب غير معروف في الشرق الأوسط.[2]

تأخر الإسلام الصوفي في الظهور في بلاد المغرب إلى غاية القرن 12 م ربما بسبب وجود الإسلام المرابطي الذي كان يستجيب لحاجات سكان البوادي، حيث إن أقدم شخصية صوفية معروفة لدى المؤرخين هي سيدي بومدين (1126-1190) الذي أقام في تلمسان ودفن بها[3].ويعود انتشار التصوف في شمال إفريقيا إلى تلميذه أبي الحسن(بلحسن) الشاذلي (1196-1256) وتلميذه الجازولي (توفي 1465)، حيث تأسست الطرائق الصوفية والزوايا التي أخذت مكان الرباطات كأماكن للتعليم والعبادة، وهي في الأصل أملاك وقفية(حبوس) وتتمول الزوايا من الهبات (الزيارة) والضرائب الدينية(العشور والزكاة) والعمل الطوعي (الخدمة والتجراد)، كما جاء الإسلام الصوفي بشكل مدعم ومجدد للإسلام المرابطي الريفي بامتياز.

ومن العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام الصوفي هو الدور الذي قام به الجازولي (توفي 1465) في نشر الطريقة الشاذلي، وتبني السعديين في القرن 16 للجازولي كأب روحي لهم. وتعاظم دور المرابطين كأفراد أو كقادة لطرائق صوفية في فترة التهديدات المسيحية البرتغالية والإسبانية لسواحل الشمال الإفريقي، حيث برز المرابطون والصوفيون كقادة للمقاومة العسكرية الشعبية. وبعد ذلك تحولت مقرات المرابطين والصوفيين الرباطات والزوايا إلى مراكز للسلطة الإدارية والسياسية المحلية. ومع مجيء الحكومات المركزية مع العثمانيين في الجزائر وتونس والسعديين في المغرب فيالقرن 16 والعلويين في القرن 17 سعت هذه الحكومات المركزية إلى إدماج الرباطات والزوايا والطرائق الصوفية في السلطة، حيث تعذر القضاء عليها. ويبدو أن المرابطين والصوفيين استمروا في لعب دور الوساطة بالنسبة لمجتمعاتهم المحلية في الأرياف والبوادي مع الحكم المركزي بعيدا عن الحواضر ومساجدها التي يقودها الفقهاء والقضاة. وشهدت هذه الفترة ظهور وانتشار أغلب الطرائق الصوفية في المركزية للدايات والبايات والسلاطين لردع وثني الطموحات العسكرية للمرابطين والصوفيين شمال أفرقيا.ونظرا لتعاظم الدور العمومي للرباطات والزوايا سعت السلطات.[4]

الشكل الثالث للإسلام هو إسلام الفقهاء والقضاة الذي ارتبط بالسلطة المركزية في الحواضر الكبرى في المساجد والمدارس هو إسلام الفقهاء والقضاة، وهو يقدم نفسه على أنه يمثل السنة الصحيحة. ويمكن وصف خصائص إسلام العلماء والقضاة على أنه نموذج طهري، وحدوي، فرداني، كتابي لعبادة الإله الواحد الذي أوحى رسالته الأخيرة في نص نهائي يمكن الوصول إليهمن قبل أي شخص يهتم بقراءته، وهي صيغة تلغي كل وسيط ولا تتطلب وجود طبقة دينية خاصة اللهم إلا طبقة من المتعلمين يمكنهم أن يحرسوا ويشرحوا الوحي المنزل، إنها طبقة مفتوحة لجميع من تعلم وليس طائفة مغلقة. في المقابل، هناك النموذج"الشركي" بلغة علي مراد الذي يسمح بوجود الوسيط، والشفاعة والمبالغة الطقوسية والتعبدية والتراتبية الدينية.[5]

أمام وجود الأشكال الدينية الثلاثة في نفس الوقت، سيقع صدام وتوتر دينامكي داخل المجتمع المغاربي على المستوى السياسي والديني تتعارض فيه السلطة المركزية مع السلطات المحلية والأرثوذكسية الدينية للعلماء الحضريين ضد شعبوية المرابطين.[6]

الإسلام الجزائري في مواجهة الحداثة العسكرية المحتلة:

شكل التواجد الكولونيالي في الشمال الإفريقي، سواء اتخذ لون الحماية أو الاحتلال كما في الجزائر صدمة كبيرة وتحديا عظيما تفاعل معه الجزائريون من خلال قادتهم الدينيين، سواء كانوا مرابطين أو صوفيين أو أئمة مساجد المدن الكبرى بأشكال مختلفة تراوحت من التقبل والتعاون إلى الرفض والمقاومة.

بالنسبة للإسلام الأرثوذكسي الحضري للعلماء كانت الإجابة هي التقبل والتعاون خاصة في المغرب وتونس، حيث استمر وجود الداي والسلطان. أما في حالة الجزائر، حيث انقسم الداي والبايات على أنفسهم بعد إزاحتهم من السلطة، بعض العلماء فقط رفضوا العدوان العسكري لكن الأغلبية كان لهم دور سلبي.

بالنسبة للإسلام الطرائقي،الإجابة عموما كانت هي التقبل والتعاون، حيث كانت الطرائق والزوايا تتمتع بالاستقلال السياسي والاقتصادي عن السلطة المركزية قبل الاحتلال؛ فكان من مصلحتهم التعاون وليس تأييد السلطة المركزية المنهارة للعثمانيين.كان هناك استثناءات، الطريقة السنوسية في ليبيا كانت متحالفة مع العثمانيين، ولهذا شاركت في مقاومة الإيطاليين.والطريقة القادرية بزعامة الأمير عبد القادر التي قاومت الفرنسيين.

أما عن الإسلام المرابطي الريفي، سواء كان ممثلوه أشرافا أو مشايخ طرائق، فعموما كان رد الفعل هوالمقاومة العسكرية للاحتلال.لقد تم إحياء دور المرابط من القرن العاشر بصفته المجاهد والمحارب.لكن كان هناك استثناءات، حيث تعاون المرابطون مع المحتلين.لكن عموما مصدر مقاومة الاحتلال الفرنسي كانت تأتي من القطاع المرابطي للمجتمع المغاربي أكثر من أي قطاع ديني آخر.الاستثناءات كانت عند الزاوية الحنصالية في وسط المغرب والمعاينين في الصحراء الغربية، على الرغم من صعوبة التمييز بين المرابطين والطرائقيين. لكن عموما تحتفظ الذاكرة الشعبية بذكريات المقاومة المرابطية للاحتلال أكثر إيجابية من مواقف العلماء.[7]

على الرغم من أن الإسلام المرابطي الريفي كان الأكثر مقاومة للتدخل الفرنسي،إلا أنه سيتهم بعد ذاك، أنه كان الأكثر تعاونا من قبل ممثلي الإسلام الأرثوذكسي في العشرينيات.هذا الاتهام الأرثوذكسي للإسلام الريفي بالتعاون مع الاستعمار، سيتحول إلى مبرر أساسي لقيام الإصلاح الديني في ثلاثينيات القرن العشرين.

مفعول التحديث الكولونيالي على الإسلام الجزائري الريفي:

كان للاستعمار الفرنسي للجزائر انعكاسات خطيرة على تطور الحياة الدينية في الجزائر، حيث إن التحديث الكولونيالي من خلال إحداث تغير اجتماعي واقتصادي على حياة الجزائريين، ساهم في إحداث تغيرات دينية، أهمها تراجع الإسلام الريفي المرابطي ونمو الإسلام الحضري في شكل حركة الإصلاح الديني في المدن الذي شمل قيام الحركة السلفية في قسنطينة (ابن باديس)، وكذلك تجدد الحركة الطرائقية في مستغانم (ابن عليوة). يعكس نشوء حركة الإصلاح الديني التحول من النمط الريفي إلى النمط الحضري الذي اعتبره إرنست جلنر الواقعة الأساسية في تاريخ شمال إفريقيا.[8]

كانت التغيرات البنيوية التي أحدثها احتلال الجزائر سنة 1830 سببت اختلالات وظيفية للطرائق والزوايا في الجزائر وفي شمال إفريقيا عامة، تطلبت القيام بإصلاحات مؤسساتية. مع مجيء الاحتلال، فقدت الزوايا وظائفها التقليدية التي كانت تتمثل في دور الوساطة بين القبائل والحكومة المركزية (الأتراك، السعديين في القرن 16 ...)، والتحكيم في النزاعات القبلية، وفقدت دور الضبط في مجتمعات لم تكن تخضع لسيطرة الحكومة المركزية. فمع مجيء حكومة مركزية قوية ومتوسعة مع الفرنسيين أصبحت الطرائق الصوفية بدون عمل (جلنر )(.

كما فقدت الزوايا وظيفة تقديم الخدمات للمسافرين مع تحديث وسائل النقل الذي قلل من أهمية الزوايا كأماكن للإقامة. كما أسهم انتشار التعليم الحديث في تراجع الدور التعليمي للزوايا، وشكلت حركة الهجرة إلى المدن العامل الأساسي في تراجع الإسلام الريفي في شكله المرابطي والطرائقي لصالح نمو الإسلام الحضري.[9]

رغم التحديث الذي شهدته المجتمعات المغاربية، استمرت ممارسات التدين الريفي المتعلق بالمرابطين، كالاحتفالات السنوية(المواسم) بالمرابطين المحليين، وزيارات المرابطين يؤدي وظائف اجتماعية متنوعة علاجية وغيرها.[10]

وعلى الرغم منهذه التغيرات، استمر الإسلام الطرائقي في الحضور بأشكال متنوعة.في الجزائر وتونس رغم أن الطرائق الصوفية فقدت سلطتها السياسية والاقتصادية، إلا أنه مازال لديها الأتباع في المغرب، الطرائق الكبرى التيجانية والوزانية والدرقاوية تكيفت مع العالم الحديث، وأصبح كبار أعضائها أفرادا مهمين في البنيات الاقتصادية والتجارية الجديدة.أما الطرائق الصوفية الأكثر شعبوية التي تتضمن عناصر بدعية من تراث جنوب الصحراء، مثل الحمداشية وقناوة وعيساوة فبقيت مهمة فقط في المناطق الفقيرة في المدن الكبرى.[11]

الحرب ضدالإسلام الطرائقي في الجزائر المستقلة:

لعب الإسلام في الجزائر المستقلة أدوارا عمومية خطيرة. من جهة، شكل الخلفية الدينية لسياسات حكومات ابن بلة وبومدين تجاه الاقتصاد والثقافة والدين. وكان الإسلام في طبعته الإصلاحية كما يعبر عنها رجالات جمعية العلماء يمثل شكل الإسلام المفضل الذي اعتبر دين الدولة دستوريا. لكن من جهة أخرى،شكل الإسلام إطارا للتعبير عن رفض ومقاومة الثورة التحديثية الراديكالية التي فرضت على المجتمع الجزائري، سواء عبر عنه ممثلو الإسلام الطرائقي بشكل علني(الطريقة العلوية) أو استمر في التعبير عن نفسه من خلال استمرارية الممارسات المرابطية الريفية أوفي شكل مقاومة ثقافية للعمال والفلاحين.

إضافة إلى الحملات الدينية الدعائية لصالح الاشتراكية، شنت حكومة بن بلة حملة دينية أخرى مضادة لممارسات الإسلام المرابطي الريفي والطرائقي. كان ابن بلة هو من أعطى إشارة انطلاق الحملة ضد الإسلام الريفي والطرائقي من موسكو في مايو1964، حيث أدلى ابن بلة بتصريحات تحريضية قائلا: "نحن نشن حملة ناجحة ضد التخلف، الشعوذة، وضد الأفكار الرجعية والمحافظة".وانطلاقا من تصريحات ابن بلة شنت الصحافة الوطنية الرسمية في صيف 64 حملة ضد الإسلام الطرائقي والريفي. صحيفة النصر الرسمية والجهوية في عدد 15 مايو 1964 وجهت انتقادا لمظاهر احتفال شعبي يقام سنويا بعين مليلة بزاوية مرتبطة بولي صالح معروف في المنطقة من حيث إن الاحتفال يخالف الإسلام والمبادئ الثورية في نظر الصحيفة. صحيفة المجاهد في عددها ليوم 18 يونيو 1964 انتقدت انتشار الزوايا والطرائق الصوفية في تيارت.[12]

وتوجت الحملة ضد الطرائق الصوفية في الجزائر بإصدار مرسوم في22 سبتمبر1964 صاغه توفيق المدني وزير الأوقاف ووقعه ابن بله يقضي بتأميم الميـراث العقاري للزاويا في الجزائر. لكن رد الفعل من قبل الحاج مهدي بن تونس شيخ الطريقة العلوية بمستغانم وتحركه الفردي ضد المرسوم انتهى بإلغائه من قبل ابن بلة.[13]

ومع مجيء بومدين للسلطة، ستتعزز هذه التوجهات الأساسية بشكل أكثر راديكالية وعنفا. سيتقوى الاتجاه الإصلاحي في مؤسسات الدولة إلى درجة تطابق خطاب الدولة مع الخطاب الإصلاحي. وسيتولى الإصلاحيون الدفاع الديني عن المشروع التحديثي الراديكالي لبومدين. وسيضعف بشكل كبير الاتجاه الطرائقي ويتم محاربته من قبل الإصلاحيين بوسائل الدولة بحجة أنه يؤخر المجتمع للحاق بالحداثة، كما يستمر تهميش واحتقار الممارسات الدينية الشعبية للنساء والرجال في المدن والأرياف بصفتها بقايا ثقافة دينية منحطة وبدعية تخالف الإسلام وتعارض التنمية.

استخدم الإسلام في معركة" التنمية" ضد" التخلف"، في تبريرالتأميمات والحد من الملكية الزراعية، كما وظف في معركة مصنع الحجار. وسيتم توظيفه في معركة ثقافية ودينية أخرى هذه المرة ضد الموروث الثقافي والديني الجزائري وممثليه المرابطين والطرائقيين.المعركة الجديدة هي معركة السنة ضد البدعة (إذا استخدمنا لغة متحيزة).

أصبح التقليد الثقافي يوصف عند مولود قاسم بأنه تقليد"جامد، خامد، هامد آلي وأعمى.ومن هنا يتم التنديد بالفلكلور ومظاهره"الولائم والزرد على الجنائز، أو قبل الذهاب إلى الحج، وبعد الرجوع إليه، وفي الأعراس، واحتفالات الختان، أعياد الميلاد.

ومن الهجوم على الفولكلور ينتقل إلى الهجوم على ممارسات الإسلام المرابطي ويخرجها من دائرة التراث الجزائري الذي يستحق العناية الرسمية بأسلوب أدبي فيتساءل "وهل من التراث تلك الدرابيك حول المزارات التي يتزاحم فيها مثل البازارات، من سيدي عمار أو سيدي زمار، في زوايا تشبه حانة خمار، وتجازي الإسلام جزاء سنمار، وما يصاحب ذلك من اختلاط وحيوانية، وشهوات وحركات بهلوانية.[14]

ثم يشن الهجوم على الإسلام الطرائقي واصفا اياه بالدروشة القديمة والخرافة[15].ويتهم الصوفيون أنهم يشجعون أخلاق الرهبانية والكسل في حين أن الإسلام " ليس دين الرهبانية، بل دين العمل والكفاح، والإنجازات والإنتاج في كل الميادين. ثم يعتبر أن الصوفيين المشهورين بكتاباتهم الفلسفية والأدبية"، أمثال:ابن عربي، ابن الفارض، الحلاج، الرومي، الدجوي أوالحجوي، عفيف الدين التلمساني، ....كلهم بنسب متفاوتة، دراويش ضروا الأمة الإسلامية، وجروها إلى ماهي عليه اليوم، أولئك الدراويش الذين يدعون بالصوفية".[16]

ووصف الإسلام الطرائقي بالمرض الذي يعاني منه الإسلام؛ ففي حواره مع مجلة المجاهد الأسبوعية الصادرة في 25 /2/77 صرح الوزير مولود قاسم أن"الطرائقية داء من الأدواء التي عانى منها العالم الإسلامي...ولعبت الشطحات الصوفية وغير الصوفية دورا بالغ السلبية في التعجيل بانهيار العالم الإسلامي، كما كانت معولا من معول الهدم لما تبقى له من طاقة حيوية، عند قدوم الاستدمار الفرنسي". ويضيف أخيرا "وقد حاربهم عبد الحميد بن باديس ورفاقه. ونستطيع أن نقول بأننا في الجزائر ربما نجحنا في هذا الجانب أكثر من أي بلد إسلامي آخر.وإن كان هذا المرض لم يستأصل تماما، مما يجعله بين حين وآخر يطفو على السطح.وينبغي أن نعترف بأننا نرى بوادر ظهوره من جديد بين آونة وأخرى في الجزائر، حيث نقاوم هذه الشطحات رسميا بمختلف الوسائل...".[17]

هكذا تتحول الثورة الثقافية إلى ثورة دينية ضد الإسلام المرابطي والطرائقي، فبعد أن كان الإسلام المرابطي والطرائقي مصدر المقاومة والحفاظ على الثقافة والهوية الجزائرية تحول إلى مصدر للأمراض والانحطاط والتدهور يجب محاربته في الخطاب الرسمي. شاركت الصحافة الرسمية في هذه المعركة الدينية ضد الإسلام الطرائقي. فشنت صحيفة المجاهد(20 يوليو1968) حملة ضد الزاوية العلوية بمستغانم وصفت الطريقة العلوية أنها حركة رجعية وعميلة للقوى الأجنبية، وتسعى لتشيكل "دولة داخل الدولة" وعنون المقال في المجاهد ب"العلويين أو إسلام رجال الأعمال". وفي 1969 تمنع السلطات في مستغانم المسيرة الاحتفالية السنوية التي تقيمها الزاوية، والتي تجوب وسط المدينة بمناسبة المولد النبوي الشريف. وفي1970 يتم اعتقال الحاج المهدي بن تونس، ويتم حجز كل ممتلكات الزاوية ووضع المهدي بن تونس تحت الإقامة الجبرية بعيدا عن مدينته.[18]

لقد انصدم العديد من الباحثين للتحول الجذري الذي وقع في الجزائر تجاه الإسلام الريفي.وعبر ارنست جلنر عن دهشته بعبارات بليغة، حيث كتب أنه"من المحتمل أنه لم يوجد أي بلد مسلم ارتبط الناس فيه كلية بالأولياء الصالحين الريفيين مثلما كان الحال في جزائر القرن التاسع عشر، وفي نفس الوقت لم يكن هناك أي بلد ناهض الأولياء الصالحين بعنف، مثلما فعلت الجزائر من بعد ذلك.[19]

الحرب الدينية والثقافية ضد الإسلام الريفي والطرائقي هي جزء من التاريخ الديني المعاصر للمغرب الكبير الذي هو تاريخ الالتقاء الطويل والصعب بين إسلام الناس العاديين وإسلام العلماء الإصلاحيين[20].الحرب الإصلاحية ضد المرابطين والطرائقيين هي المظهر الديني لمعركة التحديث الاشتراكي الراديكالي، حيث ظهرت قوة الارتباط ببن الإسلام الإصلاحي السلفي والتحديث، والذي كان يحتاج إلى تفسير سوسيولوجي.

حسب ارنست جلنر الجواب يكمن في طبيعة الأخلاق التي يدعو لها الإصلاح الديني ونوع السلوكات التي يتطلبها التحديث؛ فكلاهما يشجع أخلاق الانضباط السلوكي، وهي نوع الأخلاق الغائبة في الإسلام الريفي في نظر جلنر "الإسلام الريفي والقبلي يمكن ألا يتلاءم مع الانضباط الذي يفرضه التنظيم الاجتماعي الحديث لكن الإسلام الطهري الإصلاحي بطبيعته الانضباطية الذي يؤكد على الانضباط في أداء الصلوات والصيام ويحرض ضد الممارسات الاحتفالية الشعبية يلائم ويشجعأكثر الصفات المطلوبة في العامل الصناعي. إنهم يعلمونه الخضوع للقواعد و ينفرونه من تقديم الهبات عند زيارة الأضرحة.[21]

انتصار الإسلام الريفي على الحداثة الاشتراكية:

كانت عملية التحديث التي خضعت لها الجزائر المستقلة عملية قوية مقارنة بالمجتمعات الإسلامية الأخرى. لقد كان للتحديث الاشتراكي الراديكالي والثورة الدينية التي قام بها الإصلاحيون ضد الإسلام الريفي في الجزائر نتائج ثقافية ورمزية خطيرة، وصفها أركون بالتفكك الرمزي.[22]

في نظر أركون كانت نتيجة التحديث المادي والديني للجزائر من خلال ما سماه أركون بتأميم الإسلام هو تفكيك الانسجام الرمزي والدلالي بين الإسلام والمجتمع الجزائري " أن الإسلام كتعبير ثقافي اندمج مع قيم وبنية نظام التضامن والإنتاج والتبادل الموجودة المجتمعات. لكن مع فرض تحديث مادي راديكالي على المجتمعات التقليدية وتأميم الإسلام في الجزائر تم تفكيك العالم الرمزي والدلالي لهذه المجتمعات.[23]

أظهرت دراسة فاني كولونا عن منطقة الأوراس، كيف أنالإصلاح الديني الذي انتشر بين 1920 و1940 في هذه المنطقة جعل من أهدافه تحطيم اللغات والثقافات الشعبية، فرض اللغة العربية الكلاسيكية كلغة وحيدة وإبعاد أي بعد عاطفي في الطقوس الدينية، بكلمة واحدة كان نوعا من الإصلاح المضاد التوحيدي الذي شكل البنية المعرفية الشمولية التي ستشكل جذور الدولة ذات الطبيعة الدينية والفكر الواحد الذي يصبح فكر حزب السلطة من 1962 إلى 1988. إن فترة الإصلاح الديني في الثلاثينيات والأربعينيات بالنسبة لكولونا هي فترة خطيرة جدا مازالت تلقي بأثرها على حاضر الجزائر، ولقد تم إهمالها وإهمال التنوع الديني والفكري الذي شكل مادة المجتمع وقواه الفكرية ورؤيته للعالم.[24]

أظهرت العديد من الدراسات الثقافية في الوسط الريفي والصناعي في الجزائر حدود الجهود التحديثية الراديكالية منذ 1965 واستمرار الثقافة الريفية وتعبيراتها الدينية ومقاومتها لجهود التحديث الثقافي والديني.كان قانون التسيير الاشتراكي للمؤسسات لسنة 1971 الذي كان يهدف إلى القضاء على الحدود الفاصلة بين الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا داخل المؤسسات نموذجا للتحديث التنظيمي. لكن دراسات عديدة بينت كيف أبدى العمال ذوو الأصول الريفية والقادمون للمدن مقاومة لهذه المعايير الجديدة.[25]

دراسات جمال غريد العديدة عن الثقافة العمالية، أظهرت صورا متنوعة لمقاومة العمال للانضباط المصنعي، حيث عكست هذه المقاومة وجود وترسخ ثقافة دينية تقليدية، استمرت في التعبير عن نفسها، رغم الجهود الإصلاحية لمحاربتها كحضور"الوعدات والزردات" التي تقام إحياء لذكرى الأولياء الصاحين والتي تتطلب الغياب عن العمل.[26]

على الرغم من الجهود التحديثية التي بذلتها الثورة الثقافية والثورة الدينية الإصلاحية، لفرض تعبير ثقافي وديني موحد للجزائر، إلا أنها باءت بالفشل،حيث أظهر الجزائريون مقاومة ثقافية للتوحيد، حيث استمرت الانتماءات الدينية المذهبية تعبر عن نفسها داخل الواقع الاقتصادي نفسه،لقد بين جمال غريد كيف أن التقسيم إلى أباضي وسني مالكي بقي هو الواقع الأساسي بالنسبة للعمال في غرداية.[27]

وأخيرا، تظهر الدراسات السوسيو- أنثربولوجية التي قام بها مولاي الحاج مراد عن الثقافة العمالية في منطقة طرارة بالغرب الجزائري حدود نظرية التحديث الثقافي للمؤسسة الصناعية كمؤسسة لنشر القيم الحديثة في أوساط العمال،حيث إن المشروع التصنيعي فـــي الجزائر كان يهدف إلى القضاء على الإنسان الجزائري الريفي القديم وبناء محله الإنسان الجزائري الجديد.لكن المعاينات الميدانية التي أجراها مولاي الحاج لاختبار نظرية التحديث الثقافي للمؤسسة الصناعية بينت تمسك العمال الصناعيين بقيم المجتمع الريفي الذي جاءوا منه،فهم لايزالون يتحدثون بحنين عن الماضي الريفي وقيمه من رحمة وتعاون وبساطة وقناعة بالمستوى المعيشي البسيط وعلاقات جوارية حميمية وعن صورة تمجيدية للمرأة التقليدية.[28]

خاتمة:

لم يكن الإسلام الجزائري واحدا، كان الإسلام شعبيا شركيا وطرائقيا في الأرياف وأرثوذكسيا في المدن، ولما جاء الاستعمار فرض الحداثة على الجزائريين، فتراجع الإسلام الريفي الشعبي والطرائقي، ونشأ إسلام حضري إصلاحي بوجه سلفي وآخر طرائقي وبعد الاستقلال، ومع فرض الحداثة الاشتراكية جرى فرض الإسلام الإصلاحي ضد الإسلام الريفي.ومع نهاية الاشتراكية وبداية الأزمة جرت العودة إلى الإسلام الصوفي الشعبي والطرائقي لمواجهة خطر الإسلام السياسي والجهادي، بعد فشل المشروع الاشتراكي الذي كان يهدف إلى القضاء على الإنسان الجزائري القديم وبناء إنسان جزائري جديد مكانه، وبعد الأزمة في التسعينيات وصعود الإسلام السياسي والمسلح، لم تجد الدولة الجزائرية إلا العودة إلى الإسلام الريفي الطرائقي للاستعانة به في مواجهة الإسلاميين. كما عادت الدولة لتستعين بالإسلام الريفي الذي حاربته، وعاد المثقفون الجزائريون في نهاية التسعينيات إلى الإسلام الصوفي بعد أن ساعدت موجة مابعد الحداثة لدى النخب الثقافية الفرنكوفونية والمعربة، وهنا أعاد المثقفون اكتشاف الجوانب المابعد حداثية في التجربة الصوفية الملامح الرئيسة؛ اليوم في التدين الجزائري لدى الشباب تظهر في ضعف الاهتمام بالإسلام الصوفي واحترام للإسلام السلفي الخليجي وانفتاح على الإسلام الشيعي والتحول إلى المسيحية الإنجيلية؛إنه نوع من الانفجار الجديد بعد الانفجار الذي أحدثته القنبلة الاستعمارية؛إنه مفعول العولمة.

المراجع:

1.المراجع باللغة العربية:

-مولاي الحاج مراد،2005،العمال الصناعيون في الجزائر، ممارسات و تمثلات:دراسة ميدانية بثلاث مؤسسات صناعية بمنطقة طرارة، أطروحة دكتوراه دولة في علم اجتماع، جامعة وهران.

-مولود قاسم نايت بلقاسم،1991، أصالة أم انفصالية، الجزائر،المؤسسة الوطنية للكتاب

2.المراجع باللغات الأجنبية:

-Adamson, K.1998. Algeria: A study in Competing Ideologies. London-New York: CASSEL

-Arkoun,Mohammed. 1988. Algeria, in ShireenT-Hunter (ed), ,The Politics of Islamic Revivalism:Diversity and Unity. Bloomington-Indianapolis: Inidiana University Press,

-Bentounes,Khaled.2009. La fraternité en héritage: Histoire d une confrérie soufie. Paris :Albin Michel

-Brown,Leon Carl (Ed).1966. State and society in independent North Africa.Washington,D.C: The Middle East Institute.

-Bourdieu,P.1958. Sociologie de l `Algerie. Paris.Puf

-Colona,F.1995. Les versets de l` invincibilité: Permanence et changements religieux dans l` Algérie contemporaine .Paris: Presses de Sciences Po

-Deheuvels,Luc-Willy.1991.Islam et pensée contemporaine en Algérie: la revue Al –Asala 1971-1981.Paris ;Ed CNRS

-Gellner,E.1981. Muslim Society, Cambridge, Cambridge University Press

-Guerid,Djamel.2007. L exception algériennes: la modernisation a l épreuve de la société .Alger :Casbah Edition

-Isichei,Elizabeth.2004.The religious Traditions of Africa: A History, Westport,Connecticut,London:Praeger

-Joffe,G.1997.Maghribi Islam and Islam in The Maghreb:The Eternal Dichotomy,in Westerlund,D,Rosnder,E,E,(Ed),African Islam and Islam in Africa:Encounters between Sufi and Islamist.London :Hurst Company.

-Merad,A.1999.Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 a 1940.Les Alger ;editions El-Hikma.

-Taleb Irahimi,A.1973.De la décolonisation a la révolution culturelle 1962-1972,Alger,SNED

-Vallin,Raymond.1973.Muslim socialism in Algeria,in William Zartman (Ed).Man,State and Society in Contemporary Maghreb.London:Pall Mall Press,

-Vatin,J-C.1982.Revivalism in the Maghreb,in Ali,E,Hillal Dessouki(ed) Islamic Resurgence in the Arab world .New York: Praeger Publisher.


*- نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "إشكالية الدين والتدين: أسئلة، مقاربات، نماذج"،بتاريخ 5 ـ 6 أكتوبر2013،الرباط، المغرب.

[1]- Joffe , 1997, p64

[2]- Adamson , 1998 , p 51

[3]- Isichei , 2004,p 43

[4]-Joffe , 1997, p 62-63

[5]- Gellner, 1981, p159

[6]-Joffe , 1997, p 63-64

[7]- Joffe , 1997, p65

[8]- Gellner,1981 , p163

[9]-Joffe , 1997,p68

[10]-Joffe , 1997,p69-70

[11]- Joffe, 1997,p 68-69

[12]- Vallin,1973,p58

[13]- Bentounes,2009,p69

[14]- مولود قاسم قاسم، 1991 قاسم، ص 40

[15]-مولود قاسم، 1991، ص 286

[16]-مولود قاسم، 1991، ص 387

[17]-مولود قاسم، 1991، ص 179- 180، الجزء الثاني.

[18]- Bentounes,2009, p 79-88-96

[19]- Gellner,1981,p 155

[20]- Colonna, 1995, p23

[21]- Gellner, 1981,p170

[22]-Arkoun ,1988,pp182-183

[23]- Arkoun, 1988,p181

[24]- Colonna, 1995,p23

[25]- Arkoun,1988,p177

[26]- Guerid,2007, pp197-198

[27]- Guerid,2007,p219

[28]- مولاى الحاج، 2005، ص 11- 297