تشريح الفوضى: نظرية الحروب الدولية الجديدة كأنطولوجيا للمجال الحقيقي

فئة :  مقالات

تشريح الفوضى: نظرية الحروب الدولية الجديدة  كأنطولوجيا للمجال الحقيقي

تشريح الفوضى: نظرية الحروب الدولية الجديدة

كأنطولوجيا للمجال الحقيقي

مُستخلص

يتحدى هذا المقال الأسس الإبستمولوجية التي يقوم عليها حقل دراسات الصراع، ويجادل بأن العجز المزمن عن فهم حروب عصرنا ليس أزمة بيانات، بل أزمة أنطولوجيا. تنطلق المقالة من فرضية أن "نظرية الحروب الدولية الجديدة" (NIWT) ليست مجرد "نظرية مدى متوسط" بالمعنى المنهجي لميرتون (1980)، بل هي في جوهرها أيضاً مشروعاً أنطولوجيًا يهدف إلى رسم خريطة "المجال الحقيقي" (The Real) للواقع، كما صاغه فيلسوف الواقعية النقدية روي باسكار (2008).

من خلال تفكيك "الخطأ المعرفي" (Epistemic Fallacy) الذي يساوي بين الواقع وما يمكن ملاحظته، يقدم هذا المقال NIWT ليس كنموذج تفسيري، بل كأنطولوجيا سببية. أي كخريطة للآليات السببية المولّدة (مثل ضعف الدولة كآلية تحرير، والعولمة كآلية تمكين، واقتصاديات الحرب كآلية استدامة ذاتية) التي تتفاعل في طبقات الواقع العميقة لتنتج ظاهرة "الحرب الدولية الجديدة". بالاشتباك مع مفهوم "التركيبات السببية" (Causal Configurations)، يُظهر المقال كيف أن NIWT لا تبحث عن "سبب" واحد، بل عن "التركيبة" أو "المركبات" الضرورية من الآليات التي تجعل هذه الحروب ممكنة.

وتخلص الدراسة إلى أن القوة الحقيقية لـ NIWT لا تكمن في قدرتها على التنبؤ بالأحداث، بل في قدرتها على جعل الفوضى الظاهرية لعالمنا مفهومة سببيًّا (causally intelligible)، مما يمثل نقلة نوعية في كيفية بناء النظرية في العلوم الاجتماعية، والانتقال من علم يصف الظلال إلى علم يسعى لتشريح مصادر الضوء.

 

المقدمة:

أزمة التفسير كأزمة أنطولوجية

في كهف أفلاطون الفكري الذي نسكنه كباحثين في العلوم الاجتماعية، غالبًا ما نخطئ في فهم طبيعة الظلال التي نراها على الجدار. نحن نصفها بدقة، نصنفها، ونبحث عن ارتباطات بين حركتها، ونبني نماذج معقدة للتنبؤ بالظل التالي. لكننا ننسى السؤال الأهم: ما هي الكيانات الحقيقية التي تتحرك خارج الكهف، وما هي طبيعة النار التي تلقي بظلالها تلك؟ إن العجز المتكرر للمجتمع الدولي والأكاديميا عن فهم أو توقع أو حتى احتواء الصراعات المشتعلة في السودان، وسوريا، واليمن، ومنطقة الساحل، ليس مجرد فشل سياسي أو استخباراتي. إنه، في جذره، عرض لأزمة أعمق: أزمة أنطولوجية في صميم العلوم الاجتماعية.

لقد اعتدنا، تحت تأثير إرث وضعي طويل، على مطاردة "الأحداث" والبحث عن ارتباطات إحصائية بين "المتغيرات" المرئية، معتقدين أن الحقيقة تكمن على سطح الواقع، في ما يمكن ملاحظته وقياسه. لقد ارتكبنا ما أسماه الفيلسوف روي باسكار "الخطأ المعرفي" (Epistemic Fallacy): اختزلنا سؤال الوجود (ما هو الواقع؟) في سؤال المعرفة (ماذا يمكننا أن نلاحظ؟).

يأتي هذا المقال ليجادل بأن "نظرية الحروب الدولية الجديدة" (NIWT)، التي تم تطويرها من قبل الباحث وفُصّلت في أعمال سابقة (الطاهر، 2025)، لا يمكن فهمها فهمًا كاملًا إذا حُصرت في قوالب منهجية جاهزة. فكما تم توضيحه في مقال سابق للباحث بعنوان: "نظرية الحروب الدولية الجديدة بوصفها نظرية مدى متوسط: اشتباك 'ميرتوني' لفهم 'فوضى' أيامنا الخانقة وظروفنا العسيرة" (الطاهر، 2025)، فإن تصنيف النظرية ضمن "نظريات المدى المتوسط" لميرتون (1980) هو تصنيف منهجي صحيح ومفيد، لكنه لا يستنفد كل أبعادها.

إن القوة الحقيقية لـ NIWT لا تكمن في كونها أداة منهجية فقط، بل في كونها مشروعًا أنطولوجيًا بالدرجة الأولى. إنها محاولة جريئة لرسم خريطة لطبقات الواقع الخفية، للكشف عن الآليات السببية الكامنة التي تولّد الفوضى التي نراها على السطح. الحجة المركزية لهذا المقال هي أن NIWT يجب أن تُقرأ على مستويين متكاملين:

  1. كمشروع أنطولوجي: يحدد الكيانات والبنى والآليات السببية الحقيقية التي تشكل "الواقع" الذي تنشأ فيه الصراعات المعاصرة.
  2. كمشروع نظري: يقترح فرضيات حول كيفية تفاعل هذه الآليات لتوليد ظاهرة "الحروب الدولية الجديدة".

هذا الطرح لا يهدف فقط إلى إعادة توصيف NIWT، بل إلى الدعوة لنقلة نوعية في كيفية بناء النظرية في حقلنا: من بناء نماذج ترصد الأحداث، إلى بناء أنطولوجيات تكشف الآليات. إنها دعوة للخروج من الكهف، وتوجيه أنظارنا نحو تشريح مصادر الضوء والكيانات التي تنتج الظلال التي حيرتنا طويلًا.

تهدف هذه المقالة إذن إلى تحقيق ثلاث غايات مترابطة:

  • تقديم نقد أنطولوجي للمقاربات السائدة في دراسات الصراع.
  • إعادة تأسيس NIWT كأنطولوجيا سببية بالاستناد إلى الواقعية النقدية.
  • البرهنة على القوة التفسيرية لهذه المقاربة من خلال تطبيقها على صراعات معاصرة.

1-    الواقعية النقدية كفلسفة تحريرية للعلم الاجتماعي

لفهم هذا الطرح الجذري، لا بد من الانطلاق من الأسس التحريرية التي قدمتها الواقعية النقدية. لم تكن فلسفة روي باسكار (1975، 2008) مجرد حل وسط بين الوضعية والتأويلية، بل كانت تفكيكًا عميقًا للأساس الفلسفي الذي قامت عليه العلوم الاجتماعية الحديثة. لقد حررتنا الواقعية النقدية من سجنين فكريين:

  • سجن "الواقعية الساذجة" (Naïve Realism) للوضعية التي تعتقد أن الواقع هو ما نراه.
  • سجن "المثالية" (Idealism) للتأويلية التي تعتقد أن الواقع هو ما نفكر فيه.

قدم باسكار بديلاً طبقيًا (Stratified) للواقع، يميز فيه بصرامة بين ثلاثة مجالات (باسكار، 2008):

  1. المجال التجريبي (The Empirical): هو مجال الملاحظات والخبرات. إنه عالم البيانات، الإحصاءات، المقابلات، والتقارير الإخبارية. إنه ما "نراه" من الواقع.
  2. المجال الفعلي (The Actual): هو مجال الأحداث والوقائع، سواء لوحظت أم لا. إنه عالم ما "يحدث" بالفعل، وهو أوسع من المجال التجريبي.
  3. المجال الحقيقي (The Real): وهو الطبقة الأعمق والأهم، والمنبع الذي تنشأ منه كل الظواهر. هذا المجال لا يحتوي على أحداث، بل على البنى (Structures) والآليات السببية المولّدة (Generative Mechanisms). هذه الآليات هي كيانات حقيقية تمتلك "قوى وميول سببية" (Causal Powers and Tendencies) كامنة، وهي التي تنتج الأحداث في المجال الفعلي.

يكمن جوهر الثورة الباسكارية في تأكيده أن السببية لا تقع في مستوى الأحداث (كما تفترض الوضعية الهيومية)، بل في مستوى الآليات. الأحداث لا تسبب أحداثًا أخرى بشكل مباشر؛ بل إن الآليات الكامنة في المجال الحقيقي هي التي تمتلك القدرة على توليد الأحداث التي نراها في المجال الفعلي. الجاذبية (كآلية) لا نراها، لكنها تمتلك قوة سببية حقيقية تنتج حدث سقوط التفاحة. إن الإصرار على البحث عن السببية في مستوى الارتباطات الإحصائية بين الأحداث المرئية هو ما أدى إلى "فقر التفسير" في العلوم الاجتماعية.

هذا التمييز يغير مهمة العلم بشكل جذري. فمهمة العالم الاجتماعي لم تعد البحث عن "قوانين" ثابتة تربط بين الأحداث، بل أصبحت مهمته هي تحديد الآليات السببية الكامنة، وفهم كيفية تفاعلها، وتحديد الظروف السياقية التي يتم فيها تفعيل أو تعطيل هذه الآليات. هذا هو التحرير الحقيقي الذي يقدمه هذا المقال كمدخل لفهم NIWT: الانتقال من علم يبحث عن الارتباطات السطحية، إلى علم يغوص في الأعماق بحثًا عن الآليات المولّدة.

جدول (1): مقارنة بين المنظور الوضعي والمنظور الواقعي النقدي

المفهوم

المنظور الوضعي (Empiricism)

المنظور الواقعي النقدي (Critical Realism)

طبيعة الواقع

مسطح (Flat)، يتكون من أحداث يمكن ملاحظتها.

طبقي (Stratified)، يتكون من مجالات (تجريبي، فعلي، حقيقي).

موقع السببية

في الارتباطات المنتظمة بين الأحداث (Humean Causality).

في القوى الكامنة للآليات في المجال الحقيقي.

مهمة العلم

البحث عن قوانين وعلاقات إحصائية بين المتغيرات.

تحديد الآليات السببية المولّدة وشروط تفعيلها.

التفسير

التفسير هو التنبؤ (Explanation is Prediction).

التفسير هو كشف الآلية التي أنتجت الظاهرة.

الأنطولوجيا

"أن تكون هو أن تكون مدرَكًا" (To be is to be perceived).

"أن تكون ليس بالضرورة أن تكون مدرَكًا".

2-NIWT كأنطولوجيا سببية: تشريح فرضيات النظرية كآليات كامنة

إذا طبقنا هذا المنطق التحريري، فإن NIWT لم تعد مجرد "نظرية"، بل هي "أنطولوجيا مقترحة" (A Proposed Ontology) للمجال الحقيقي الذي تجري فيه الصراعات المعاصرة. إن فرضياتها الست ليست مجرد "متغيرات" قابلة للقياس، بل هي توصيف لأهم الآليات السببية التي تسكن هذا المجال. إنها محاولة للإجابة عن سؤال أنطولوجي عميق: "ما الذي يجب أن يكون عليه الواقع حتى تكون حروب مثل حرب السودان ممكنة؟". في هذا الفصل، سنقوم بتشريح كل آلية، وربطها بفرضيتها المقابلة في NIWT، وتوضيح طبيعة قواها السببية الكامنة.

  1. آلية التحرير (The Liberation Mechanism) - ضعف الدولة: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية الأولى في NIWT. قوتها السببية لا "تسبب" الحرب بشكل مباشر، بل تكمن في تحرير الواقع من القيود التي كانت تفرضها الدولة السيادية (احتكار العنف، سيادة القانون). إنها تخلق "فراغًا أنطولوجيًا" أو "فضاءً ممكنًا" (Possibility Space) يسمح للآليات الأخرى بالظهور والتمدد. ضعف الدولة هو ذلك الباب المفتوح في النظام الدولي الذي يسمح للفوضى بالتدفق.
  2. آلية التمكين (The Enablement Mechanism) - العولمة: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية الثانية. قوتها السببية هي تمكين وتغذية الآليات الأخرى. هي لا تخلق الصراع، بل توفر له "الأوعية الدموية" التي تنقل الموارد الحيوية (الأموال، المقاتلين، الأيديولوجيات، التقنيات) التي بدونها لا يمكن للصراع أن يستمر وينمو على نطاق واسع.
  3. آلية إعادة التشكيل (The Reshaping Mechanism) - تآكل السيادة: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية الثالثة. قوتها السببية هي إعادة تشكيل قواعد اللعبة على المستوى الدولي، مما يجعل التدخل الخارجي والحرب بالوكالة ليسا استثناءً، بل حالة طبيعية وممكنة. هي تغير "بنية الفرص" للفاعلين الخارجيين، وتخفض تكلفة التدخل.
  4. آلية الفاعلية (The Agency Mechanism) - الفاعلون من غير الدول: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية الرابعة. هؤلاء ليسوا مجرد نتاج للآليات الأخرى، بل يمتلكون قوة سببية خاصة بهم، تتمثل في الفعل المتعمد (Intentional Action). هم "مُشغّلو" الآليات، الذين يدركون الفرص التي تتيحها البنى ويتصرفون بناءً عليها، وهم الجسر الذي يربط بين القوى الكامنة في البنى والأحداث الفعلية على الأرض.
  5. آلية التشغيل (The Operational Mechanism) - الاستراتيجيات الهجينة: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية الخامسة. قوتها السببية هي إدامة حالة الفوضى واللا حسم، مما يمنع الوصول إلى نتيجة عسكرية واضحة. هي السلاح المفضل في عالم تم فيه تحرير العنف من قيود الدولة، حيث يصبح الهدف ليس الانتصار، بل إدامة الصراع.
  6. آلية الاستدامة الذاتية (The Self-Reproduction Mechanism) - اقتصاديات الحرب: هذه الآلية هي الأساس الأنطولوجي للفرضية السادسة، وهي الأكثر ديناميكية. قوتها السببية تكمن في قدرتها على إعادة إنتاج نفسها. هي تبدأ كوسيلة لتمويل الحرب، لكنها سرعان ما تتحول إلى غاية في حد ذاتها، وتولد مصالح مادية قوية في استمرار حالة "اللا استقرار المربح" (Profitable Instability).

إن NIWT، بهذا الفهم، هي خريطة أولية للمجال الحقيقي، تحدد أهم الكيانات السببية التي تسكنه. إنها تقول لنا: "إذا أردت أن تفهم ظلال الحرب التي تراها، فعليك أن تفهم طبيعة هذه الآليات الست وكيفية تفاعلها".

3- من السبب الواحد إلى "المركبات السببية" المعقدة

إن أحد أهم انتقادات الواقعية النقدية للعلوم الاجتماعية التقليدية هو هوسها بالبحث عن "السبب" الواحد. الواقع الاجتماعي أكثر تعقيدًا، فالظواهر لا تنتجها آلية واحدة، بل "تركيبات سببية" (Causal Configurations)؛ أي تفاعل معقد بين آليات متعددة في سياق معين. هنا تكمن القوة التحليلية الفريدة لـ NIWT كأنطولوجيا سببية. هي لا تجادل بأن "ضعف الدولة" وحده يسبب الحرب، بل إن حجتها الضمنية هي أن "الحرب الدولية الجديدة" (كحدث) لا تظهر إلا عند وجود تركيبة سببية محددة من الآليات التي حددتها. تدعونا هذه المقالة إلى تحليل الصراعات ليس كبحث عن "الرصاصة السحرية" (The Magic Bullet)، بل كتحليل للتركيبة السببية الخاصة بكل حالة.

جدول (2): أمثلة على تركيبات سببية للحروب الدولية الجديدة

دراسة الحالة

التركيبة السببية المهيمنة (وصفة مقترحة)

شرح التركيبة

حرب السودان

(آلية التحرير + آلية الاستدامة الذاتية + آلية إعادة التشكيل)

انهيار الدولة الانتقالية (تحرير) خلق فراغًا، استغلته مصالح اقتصادية سياسية عميقة (استدامة ذاتية) مرتبطة بالذهب والموارد، وتم تمكين كل ذلك عبر تدخل إقليمي مباشر (إعادة تشكيل السيادة).

حرب سوريا

(آلية التحرير + آلية الفاعلية + آلية إعادة التشكيل + آلية التشغيل)

قمع الدولة الوحشي (تحرير جزئي) أدى إلى انفجار في عدد الفاعلين من غير الدول (فاعلية)، وتحول الصراع بسرعة إلى حرب بالوكالة إقليمية ودولية (إعادة تشكيل)، مع استخدام واسع للاستراتيجيات الهجينة (تشغيل).

صراعات الساحل

(آلية التحرير + آلية التمكين + آلية الاستدامة الذاتية)

ضعف الدولة المزمن (تحرير) في منطقة جغرافية شاسعة، مع وجود شبكات تهريب عابرة للحدود (تمكين)، خلق اقتصاد حرب يعتمد على التهريب والفدية والموارد (استدامة ذاتية).

حرب اليمن

(آلية التحرير + آلية الفاعلية + آلية إعادة التشكيل)

انهيار الدولة المركزية بعد ثورة 2011 (تحرير) سمح بصعود فاعلين أقوياء من غير الدول (الحوثيون، المليشيات المناوئة للحوثي) (فاعلية)، مما أدى إلى تدخل إقليمي واسع النطاق (إعادة تشكيل) حول الصراع إلى حرب بالوكالة مدمرة.

هذا التحول من التفكير السببي الخطي (Linear Causality) إلى التفكير السببي التكويني (Configurational Causal Thinking) هو نقلة نوعية يقدمها هذا المقال. إنه يجعلنا نتجاوز السؤال الساذج "ما هو سبب الحرب؟" أو "من أشعل الحرب؟" إلى السؤال الأكثر نضجًا وعمقًا: "ما هي التركيبة الضرورية والكافية من الآليات السببية التي جعلت هذه الحرب، بهذا الشكل المحدد، ممكنة في هذا السياق المحدد؟".

4- البرهان من الواقع - كيف تجعل الأنطولوجيا الفوضى مفهومة؟

إن قيمة أي أنطولوجيا مقترحة تكمن في قدرتها على جعل العالم الفوضوي مفهومًا سببيًّا (causally intelligible). عندما ننظر إلى الحرب في السودان من خلال عدسة NIWT كأنطولوجيا سببية، فإن الأحداث التي تبدو عشوائية ومتناقضة تبدأ في الانتظام ضمن منطق سببي عميق.

التحليل الأنطولوجي للأحداث الظاهرية في حرب السودان:

الحدث الظاهري (المجال التجريبي)

الفهم الأنطولوجي (كشف آليات المجال الحقيقي)

 

قائد "الدعم السريع" يظهر في خطاباته كوطني، بينما قواته تنهب وتدمر مؤسسات الدولة.

لا يوجد تناقض حقيقي. الخطاب السياسي ينتمي إلى "المجال التجريبي" وموجه للاستهلاك العام. أما الأفعال على الأرض، فتتبع منطق

"آلية الاستدامة الذاتية" (اقتصاديات الحرب) التي تعمل في "المجال الحقيقي". الفهم الأنطولوجي يكشف أننا نشاهد عمل آليتين مختلفتين في آن واحد.

قوى إقليمية تدعو لوقف إطلاق النار علنًا، وتدعم أطرافًا متمردة سرًا.

هذا ليس مجرد نفاق، بل هو تجلٍ لعمل

"آلية إعادة تشكيل السيادة". القوى الإقليمية لا تنتهك النظام، بل تمارس قواعد النظام الجديد الذي تشكل، حيث أصبحت السيادة سلعة قابلة للتداول والتدخل ليس استثناءً بل قاعدة.

تستمر الحرب لسنوات دون حسم عسكري واضح.

هذا ليس دليلًا على "توازن القوى"، بل هو النتيجة المنطقية لتفعيل

"آلية الاستراتيجيات الهجينة" و"آلية الاستدامة الذاتية". الهدف لم يعد الحسم العسكري، بل إدامة حالة الصراع نفسها لأنها أصبحت مربحة.

فشل الوساطات الدولية المتكررة رغم النوايا الحسنة المعلنة.

الوساطات غالبًا ما تتعامل مع "الأعراض" في المجال التجريبي (الدعوة لوقف إطلاق النار) وتتجاهل الآليات الكامنة. طالما أن

"آلية الاستدامة الذاتية" و"آلية إعادة التشكيل" تعملان بكامل قوتهما، فإن أي حل سطحي محكوم عليه بالفشل.

إن NIWT، كما هو موضح، لا "تتنبأ" بهذه الأحداث، بل توفر الإطار الأنطولوجي الذي يجعلها مفهومة ومنطقية ضمن سياقها. إنها تحول "الضجيج" (Noise) الذي نراه على شاشاتنا إلى "إشارة" (Signal) تكشف عن عمل الآليات الكامنة في الأعماق.

5- تحديات المقاربة الأنطولوجية وحوار مع النقاد

إن تبني منظور الواقعية النقدية، على الرغم من قوته التفسيرية، لا يخلو من تحديات منهجية وفلسفية يجب الاعتراف بها والتعامل معها بجدية. إن تجاهل هذه التحديات قد يحول المقاربة من أداة نقدية إلى عقيدة مغلقة.

  1. تحدي الإثبات التجريبي ومنهجية الاستدلال التراجعي:

○       النقد: بما أن الآليات السببية في "المجال الحقيقي" غير قابلة للملاحظة المباشرة، كيف يمكننا أن نثق في وجودها؟ يرى النقاد أن هذا قد يفتح الباب أمام التأملات النظرية غير القابلة للدحض.

○       الرد والدفاع: الرد يكمن في منهج "الاستدلال التراجعي" (Retroduction). على عكس الاستقراء (من الخاص إلى العام) والاستنباط (من العام إلى الخاص)، فإن الاستدلال التراجعي هو عملية استدلال على أفضل تفسير ممكن. نحن لا نثبت وجود الآلية مباشرة، بل نستدل على وجودها من خلال طرح السؤال: "ما الذي يجب أن يكون عليه الواقع لكي تكون الظواهر التي نرصدها (في المجالين الفعلي والتجريبي) ممكنة؟". على سبيل المثال، للاستدلال على "آلية اقتصاديات الحرب" في صراع ما، نقوم بجمع أدلة متنوعة (تقارير عن تهريب الموارد، شهادات عن شبكات المصالح، تحليل أنماط العنف غير المبررة استراتيجيًا) ونبرهن أن افتراض وجود هذه الآلية هو التفسير الأكثر تماسكًا وقدرة على ربط هذه الأدلة المتباينة.

  1. خطر التجريد المفرط وإهمال الفاعلية:

○       النقد: قد يؤدي التركيز على البنى والآليات العميقة إلى إهمال التفاصيل السياقية والفعل الإنساني (Agency) في كل حالة على حدة، وهو نقد يوجهه أحيانًا أصحاب التوجهات التأويلية.

○       الرد والدفاع: NIWT تتعامل مع هذا الخطر بشكل مباشر من خلال دمج "آلية الفاعلية" (الفاعلون من غير الدول) كجزء لا يتجزأ من الأنطولوجيا. الواقعية النقدية لا تلغي الفاعلية، بل تضعها في علاقة جدلية مع البنية. البنى (مثل ضعف الدولة) توفر الشروط المادية والإمكانيات، لكن الفاعلين هم من يقومون بتفعيلها وتشكيلها من خلال قراراتهم وأفعالهم المتعمدة. وبالتالي، فإن التحليل لا يهمل الفاعلين، بل يضع أفعالهم في سياقها البنيوي العميق.

  1. التحدي السياسي وصناعة السياسات:

○       النقد: كيف يمكن ترجمة فهم أنطولوجي عميق للآليات السببية إلى توصيات سياساتية عملية وقابلة للتنفيذ؟ قد تبدو هذه المقاربة "أكاديمية" أكثر من اللازم.

○       الرد والدفاع: القوة الحقيقية لهذه المقاربة تكمن في قدرتها على تحويل تركيز السياسات من معالجة الأعراض إلى معالجة الأسباب الجذرية. بدلاً من الاكتفاء بالدعوة لوقف إطلاق النار (معالجة حدث في المجال الفعلي)، يمكن للسياسات أن تستهدف الآليات الكامنة:

■       لمواجهة آلية الاستدامة الذاتية: تصميم عقوبات ذكية تستهدف شبكات اقتصاد الحرب.

■       لمواجهة آلية إعادة التشكيل: بناء تحالفات دبلوماسية ترفع تكلفة التدخل الخارجي.

■       لمواجهة آلية التحرير: الاستثمار في برامج بناء مؤسسات الدولة الشرعية.

المنظور الأنطولوجي لا يقدم حلولاً سحرية، ولكنه يوجه صانع السياسات للنظر إلى الأماكن الصحيحة. إن الاعتراف بهذه التحديات والرد عليها لا يضعف حجة المقال، بل يقويها، لأنه يضع NIWT في حوار نقدي مع حدودها، ويقدمها كبرنامج بحثي مفتوح وقابل للتطور، وليس كإجابة نهائية ومغلقة.

6- حوارات نظرية ومنهجية: تحديد موقع NIWT

لزيادة وضوح وقوة الحجة المقدمة، من الضروري وضع NIWT كأنطولوجيا سببية في حوار مباشر مع مفاهيم وأطر نظرية أخرى. هذا الفصل يهدف إلى تحديد موقع المقاربة بشكل دقيق، وتوضيح علاقتها بـ "نظرية المدى المتوسط"، وتمييزها عن المقاربات التفسيرية الأخرى.

6.1. NIWT كنظرية مدى متوسط وأنطولوجيا:

علاقة تكامل لا تناقض كما أُشير في المقدمة، تم توصيف NIWT في عمل سابق (الطاهر، 2025) بأنها "نظرية مدى متوسط" وفق فكر ميرتون. هذا التوصيف يظل صحيحًا ودقيقًا على المستوى المنهجي. فقصد ميرتون من نظريات المدى المتوسط هو بناء جسر بين الفرضيات الجزئية المحدودة والنظريات الكبرى الشاملة. NIWT تفعل ذلك بالضبط: هي ليست مجرد دراسة حالة لصراع واحد، وليست نظرية كبرى لكل أشكال العنف السياسي عبر التاريخ. إنها تركز على فئة محددة من الظواهر (الحروب الدولية الجديدة) وتقدم مجموعة من الفرضيات المترابطة لتفسيرها.

لكن السؤال الذي يطرحه هذا المقال هو: ما هي الطبيعة الفلسفية لهذه الفرضيات؟ هنا يأتي دور المنظور الأنطولوجي ليكمل الصورة. إن النظر إلى NIWT كأنطولوجيا لا يلغي كونها نظرية مدى متوسط، بل يعمّق فهمنا لها.

  • نظرية المدى المتوسط (المستوى المنهجي): تجيب على سؤال "ما هو نطاق النظرية؟". الجواب: هي تقع في المدى المتوسط.
  • الأنطولوجيا السببية (المستوى الفلسفي): تجيب عن سؤال "ماذا تفعل النظرية؟ وكيف تفسر؟". الجواب: هي لا تكتفي بربط متغيرات، بل تحدد الآليات السببية الكامنة في المجال الحقيقي.

إذن، العلاقة تكاملية: NIWT هي نظرية مدى متوسط (من حيث النطاق) تعمل من خلال تقديم أنطولوجيا سببية (من حيث آلية التفسير). هذا الفهم المزدوج يحرر النظرية من القراءة الوضعية السطحية ويمنحها عمقًا فلسفيًا وقوة تفسيرية أكبر.

6.2. التمييز عن المقاربات الأخرى:

ما الذي تضيفه NIWT؟ من المهم تمييز هذه المقاربة عن مدرستين رئيستين في دراسات الصراع:

  • مدرسة "الجشع ضد المظلومية" (Greed vs. Grievance): ركز هذا النقاش المهم (Keen, 2012) على دوافع الفاعلين (هل هي اقتصادية أم سياسية؟). NIWT تتجاوز هذا الثنائي. فمن منظورها، "الجشع" (اقتصاديات الحرب) ليس مجرد دافع، بل هو آلية استدامة ذاتية بنيوية. و"المظلومية" غالبًا ما تكون مرتبطة بـ آلية التحرير (ضعف الدولة وفشلها). NIWT لا تختار بينهما، بل تضعهما كآليات ضمن تركيبة سببية أوسع.
  • مدرسة "الحروب الجديدة" (New Wars School): قدمت ماري كالدور وآخرون رؤى مهمة حول تغير طبيعة الحروب. NIWT تتفق مع الكثير من ملاحظاتهم (مثل دور الفاعلين من غير الدول واقتصاديات الحرب)، لكنها تختلف في الأساس الفلسفي. فبينما تميل مدرسة "الحروب الجديدة" إلى الوصف الظاهراتي (phenomenological description)، تسعى NIWT إلى تقديم تفسير سببي عميق قائم على تحديد الآليات المولّدة. إنها تنتقل من "ماذا" تغير في الحروب إلى "لماذا" أصبح هذا التغيير ممكنًا من خلال الكشف عن البنى الكامنة.

بهذا المعنى، فإن NIWT لا تلغي المقاربات السابقة، بل تسعى إلى استيعابها في إطار أنطولوجي أكثر شمولاً وتماسكًا.

الخاتمة:

نحو علم اجتماع تاريخي نقدي للمجال الحقيقي

لقد حاول هذا المقال أن يقدم قراءة مختلفة ومبتكرة لـ "نظرية الحروب الدولية الجديدة". إنها ليست مجرد نظرية مدى متوسط أخرى في ترسانة الباحث، بل هي دعوة لإعادة التفكير في طبيعة المشروع النظري نفسه. إن تأصيل NIWT في الواقعية النقدية يضعها في طليعة ما يمكن أن نسميه "علم الاجتماع التاريخي النقدي للمجال الحقيقي". هذا التوجه لا يهدف إلى التخلي عن البحث التجريبي، بل إلى توجيهه وإعادة تعريفه. مهمة الباحث لم تعد جمع أكبر قدر من البيانات عن الظلال، بل استخدام تحليل الظلال بذكاء لاستنتاج شكل الكيانات التي تلقيها.

إن قوة NIWT الحقيقية لا تكمن في قدرتها على التنبؤ بالحدث التالي، بل في قدرتها على تفسير لماذا أصبحت أنماط معينة من الأحداث ممكنة ومتكررة في عصرنا. إن بناء أنطولوجيا سببية هو عمل طموح ومفتوح دائمًا على النقد والتطوير. إنه يمثل خروجًا عن منطقة الراحة المنهجية التي توفرها الوضعية، ويتطلب شجاعة فكرية للتعامل مع التعقيد والغموض. إنها دعوة للتحلي بهذه الشجاعة، وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وتشريح الفوضى بدلًا من الاكتفاء بوصفها. فقط عبر هذا الغوص العميق في "المجال الحقيقي" يمكننا أن نأمل في فهم، وربما تغيير، الواقع المضطرب الذي نعيش فيه.

 

 

المراجع المعتمدة:

  • باسكار، روي. (2008). نظرية واقعية للعلم (ترجمة جزئية). دراسات فلسفية 12(3)، 45-67.
  • دينرمارك، برنر وآخرون. (2010). شرح المجتمع: الواقعية النقدية في العلوم الاجتماعية (ترجمة محمد عبد الله). القاهرة: دار العين للنشر.
  • هيلد، ديفيد وآخرون. (2004). التحولات العالمية: السياسة والاقتصاد والثقافة (ترجمة سعيد الغانمي). القاهرة: المركز القومي للترجمة.
  • جاكسون، روبرت. (2002). الدول شبه المستقلة: السيادة والعلاقات الدولية والعالم الثالث (ترجمة مركز الخليج للأبحاث). دبي: مركز الخليج للأبحاث.
  • كراسنر، ستيفن. (2005). السيادة: النفاق المنظم (ترجمة محمد المرزوقي). بيروت: دار الكتاب العربي.
  • ميرتون، روبرت. (1980). النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية (ترجمة محمد الجوهري). القاهرة: دار المعارف.
  • روي، أوليفييه. (2012). الإسلام المعولم: البحث عن أمة جديدة (ترجمة مركز نماء). بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.
  • الطاهر، محمد مكي. (19 أغسطس 2025). "نظرية الحروب الدولية الجديدة بوصفها نظرية مدى متوسط: اشتباك 'ميرتوني' لفهم 'فوضى' أيامنا الخانقة وظروفنا العسيرة". المركز الديمقراطي العربي، برلين -ألمانيا.
  • الطاهر، محمد مكي. (2025، 18 يوليو). "الحروب المعاصرة: منظور جديد من السودان لفهم الصراعات في عالم متغير". أفروبوليسي.
  • العروي، عبد الله. (1981). مفهوم الأيديولوجيا. بيروت: المركز الثقافي العربي.
  • Archer, M., Bhaskar, R., Collier, A., Lawson, T., & Norrie, A. (Eds.). (1998). Critical Realism: Essential Readings. Routledge.
  • Bhaskar, R. (1975). A Realist Theory of Science. Brighton: The Harvester Press.
  • Bhaskar, R. (2008). A Realist Theory of Science (Routledge Classics ed.). London: Routledge.
  • Byman, D. L., & Pollack, K. M. (2001). Let Us Now Praise Great Men: Bringing the Statesman Back In. International Security, 25(4), 107-146.
  • Danermark, B., Ekström, M., Jakobsen, L., & Karlsson, J. C. (2002). Explaining Society: Critical Realism in the Social Sciences. London: Routledge.
  • Held, D., McGrew, A., Goldblatt, D., & Perraton, J. (1999). Global Transformations: Politics, Economics and Culture. Cambridge: Polity Press.
  • Jackson, R. H. (1990). Quasi-states: Sovereignty, International Relations and the Third World. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Jessop, B. (2001). Regulation theory and the crisis of capitalism. Edward Elgar.
  • Joseph, J., & Wight, C. (Eds.). (2010). Scientific realism and international relations. Palgrave Macmillan.
  • Keen, D. (2012). The Greed and Grievance in Civil War. London: International Alert.
  • Krasner, S. D. (1999). Sovereignty: Organized Hypocrisy. Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Kurki, M. (2008). Causation in International Relations: Reclaiming Causal Analysis. Cambridge University Press.
  • Merton, R. K. (1968). Social Theory and Social Structure. New York: Free Press.
  • Mumford, A. (2013). Proxy Warfare. Cambridge: Polity Press.
  • Ragin, C. C. (2008). Redesigning Social Inquiry: Fuzzy Sets and Beyond. Chicago: University of Chicago Press.
  • Sayer, A. (2000). Realism and Social Science. London: Sage Publications.
  • Wight, C. (2006). Agents, Structures and International Relations: Politics as Ontology. Cambridge University Press.


مقالات ذات صلة

المزيد