أزمة الاستقرار في جنوب السودان: كيف تستفيد النخبة الحاكمة من ضعف الدولة
فئة : ترجمات
أزمة الاستقرار في جنوب السودان:
كيف تستفيد النخبة الحاكمة من ضعف الدولة[1]
ترجمة دعاء حسن
التقى رئيس جنوب السودان، سلفا كير، بالرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما في البيت الأبيض عام 2011 لمناقشة مستقبل الدولة المستقلة حديثًا. كان المسؤولون الجالسون إلى الطاولة متحمسين للاستماع إلى رؤيته بشأن الاستقرار السياسي في هذه الدولة الناشئة، لكن عندما سأله أوباما عن خطته، التفت كير إلى كبير مستشاريه طالبًا منه أن يجيب نيابة عنه.
في تقديري، لم يكن لدى كير آنذاك – ولا منذ ذلك الحين – أي رؤية أو خطة لتوحيد البلاد. ويستند هذا الرأي إلى عقود من البحث في شؤون جنوب السودان، وإلى خبرتي الميدانية. فأنا أستاذ للعلاقات الدولية ومؤلف كتاب عن سياسات جنوب السودان، كما عملت خبيرًا قطريًّا ضمن فريق التقييم التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في البلاد.
منذ استقلال جنوب السودان عام 2011، شرع سلفا كير في تمويل شبكة واسعة من المحسوبية، وعمد إلى إقصاء منافسيه السياسيين بإبقاء البلاد في دائرة التخلّف وإضعاف مؤسساتها. وعلى امتداد السنوات، استند إلى دعم حكومته وقاعدته القَبَليّة – وهو من قبيلة الدينكا – لترسيخ حالة عميقة من انعدام الثقة تجاه المعارضة.
تناولتُ هذه الديناميكية في دراسة حديثة عن أنماط الحكم في جنوب السودان، وانتهيتُ إلى أن قادة البلاد اعتمدوا أربع استراتيجيات رئيسة لاستغلال حالة عدم الاستقرار، وهي:
- تأجيل الانتخابات للتهرب من المساءلة.
- قمع أي قوى فاعلة، مثل منظمات المجتمع المدني، تسعى إلى توحيد الأمة وتحديث الدولة.
- تضخيم خطر التمرد من جانب الخصوم السياسيين لإدامة العنف وتأجيج المخاوف.
- والاعتماد على الصراعات الإقليمية كوسيلة للبقاء في السلطة.
نتيجةً لذلك، أصبح عدم الاستقرار والانقسام مكوّنًا رئيسًا في بنية النظام السياسي بالبلاد. إن هذه الحالة ساهمت في ترسيخ شبكات المحسوبية غير الرسمية، والحرب، والإنكار، إضافةً إلى ممارسات النخبة الحاكمة الفاسدة. وأتاح هذا الواقع للنخب تقويض منظومة العدالة، وإجهاض مساعي المصالحة بصورة منهجية. يبرز ذلك الحاجة الملحّة إلى تمكين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية من مساءلة قادة جنوب السودان، مع تمكين المجتمع المدني من تعزيز هذه المساءلة.
تاريخ قصير في دوامة الاضطراب
نال جنوب السودان استقلاله عن السودان في 9 يوليو/تموز 2011. لكن سرعان ما أدّى تصاعد انعدام الثقة بين النخب السياسية إلى اندلاع الحرب الأهلية ما بين عامي 2013 و2015، التي حصدت أرواح ما يقرب من 400 ألف شخص، وأجبرت نحو 2.3 مليون آخرين على الفرار إلى الدول المجاورة.
بضغط من الأمم المتحدة والولايات المتحدة، توصّل الطرفان المتحاربان إلى اتفاق سلام في أغسطس/آب 2015، غير أنّ التوترات سرعان ما تجدّدت في يوليو/تموز 2016، مما أشعل موجة جديدة من العنف. وفي عام 2018، وُقِّع اتفاق سلام آخر، لكنّه لم يُنفَّذ بالكامل؛ إذ سرعان ما كشفت الاضطرابات اللاحقة عن حجم الفساد المستشري في الدولة، وأدّت إلى تعطيل مسار تنفيذه.
يُعدّ جنوب السودان من أفقر دول إفريقيا، لكنه يُصنّف في الوقت ذاته من بين أكثر دول العالم فسادًا، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية. وأكد تقرير حديث صادر عن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان "لقد أسفر دوام الفساد الكبير، الذي تغذّيه حالة الإفلات التام من العقاب، عن أزمة إنسانية وحقوقية مدمّرة."
على الرغم من أنّ اتفاق السلام لعام 2018 أسفر عن تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، وجدد الآمال في إرساء الديمقراطية والاستقرار وسيادة القانون، فإنّه لم ينجح بعد في تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق ذلك. وعلى خلاف اتفاق 2015، الذي اقتصر على عدد محدود من الأطراف، شمل اتفاق 2018 طيفًا واسعًا من القوى السياسية على طاولة التفاوض، غير أنّ البلاد لم تُجرِ بعدُ أول انتخابات لها، ولم تُقرّ دستورًا دائمًا، ولم تدمج قواتها المسلحة، ولم تُنشئ محكمة لجرائم الحرب. وما تزال دولة هشّة تمزّقها أعمال العنف والاضطرابات.
وفي مثال حديث، شهد مارس/آذار 2025 اعتقال الرئيس سلفا كير لمنافسه الأبرز ونائبه السابق ريك مشار، بتهمة التآمر على الحكومة والتخطيط لتمرد. وبعد أشهر قليلة، في سبتمبر/أيلول، وُجّهت إليه تهمة الخيانة. وقد ظلت العلاقة بين كير ومشار متوترة منذ عام 2013، الأمر الذي أحبط جهود تنفيذ اتفاق السلام الذي أنهى الحرب بين أنصارهما.
الاستراتيجيات المستخدمة
أولاً: لجأ كير إلى استغلال حالة عدم الاستقرار لتأجيل تنفيذ الركائز الأساسية لاتفاق السلام لعام 2018. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024 أعلن إرجاء الانتخابات المنتظرة إلى عام 2026، مبرّرًا ذلك بأن الأوضاع المتوترة لا تسمح بإجراء اقتراع سلمي. لكن هذا التأجيل لم يؤدِّ إلى تهدئة العنف أو الاضطراب، بل أتاح لكير مزيدًا من الوقت للالتفاف على مساعي محاسبة النخب الحاكمة.
ثانيًا: استغلت الحكومة خطر عدم الاستقرار السياسي لتقويض مطالب العدالة والديمقراطية، وجعلت منه أداة لقمع المجتمع المدني وتبرير استبعاده من عملية السلام في عام 2018.
ثالثًا، يكرّس عدم الاستقرار حالةً من عدم اليقين السياسي، الأمر الذي يتيح للحكومة مجالًا لاستدعاء المخاوف من التمرد كلما دعت مصالحها إلى ذلك. وقد استُغلّت هذه المخاوف مرارًا وتكرارًا في صراع السلطة بين كير ومشار.
رابعًا: أسهم تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي في توسيع نطاق الحكم عبر إدارة الأزمات، لكنه عقّد المشهد في الوقت نفسه. فمن جهة، دفعت الصراعات المحيطة كير إلى تبني مواقف دبلوماسية لإدارة النزاعات في دول الجوار مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان. ومن جهة أخرى، انعكست تداعيات هذه الحروب سلبًا على جنوب السودان؛ إذ دفعت الحرب الأهلية في السودان البلاد إلى شفا تجدد العنف، كما أدى الانقطاع الأخير في خط أنابيب النفط الرابط بين البلدين إلى تقليص نحو 40% من عائدات النفط، وهو الشريان الحيوي لاقتصاد جنوب السودان.
الخطوات التالية
يُعَدّ البحث عن استراتيجية واضحة لانتقال القيادة خطوة أساسية لمستقبل جنوب السودان. وقد بدأ كير، الذي تدهورت صحته، باتخاذ بعض الخطوات في هذا الاتجاه؛ ففي فبراير/شباط 2025 عيّن مستشاره السابق والمقرّب منه ماليًا، بنيامين بول ميل، خليفةً معلنًا له. وبعدها بثلاثة أشهر، في مايو/أيار، أقال نائبَيه كول مانيانج جوك ودانيال أويت أكوت، اللذين كانا أبرز الأصوات المعارضة داخل الحكومة، ثم عيّن ابنته أدوت سلفا كير في منصب مبعوثة رئاسية رفيعة.
تجاوزت هذه القرارات الآليات المعمول بها داخل الحزب الحاكم لاختيار خليفة للرئيس، والتي تقتضي مناقشة المرشحين والتصويت عليهم. وقد زعم كير أن اتفاق السلام لعام 2018 يمنحه الحق في تعيين خليفته، غير أن الالتزام بالإجراءات الحزبية كان من شأنه أن يخفف حدة التوترات السياسية.
إن تجاوز ديناميات عدم الاستقرار يظل مشروطًا بالضغوط التي قد يفرضها المانحون الدوليون الرئيسيون على كير والنخب الحاكمة، إضافةً إلى استمرار دعمهم للمجتمع المدني، إلا أنّ هذه الإمكانية تبدو واهية في الوقت الراهن؛ فمع تصاعد الحرب الأهلية في السودان، وتراجع الدور الأمريكي عقب حلّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) التي خصصت نحو 16 مليون دولار كمساعدات لبرامج المجتمع المدني عام 2023، يبدو من غير المرجّح أن يشهد جنوب السودان الهش تحسّنًا في المستقبل القريب.
[1] - رابط المقال:
https://theconversation.com/south-sudan-is-unstable-how-a-weak-state-benefits-the-ruling-elite-265198






