تلقّي فلسفة الدِّين في الفكر العربيّ المعاصر


فئة :  حوارات

تلقّي فلسفة الدِّين في الفكر العربيّ المعاصر

 تلقّي فلسفة الدِّين في الفكر العربيّ المعاصر

حوار مع المفكر اللبناني الدكتور مشير باسيل عون

أجرى الحوار: محمد مستقيم

يعد الدكتور مشير باسيل عون من أبرز المفكرين اللبنانيين المعاصرين بالنظر إلى حضوره القوية في الساحة الثقافية عربيا وعالميا عبر دراسات وكتاباته الفكرية والنقدية ذات الخلفية الفلسفية المتينة. ولد الأستاذ مشير في بلدة الجديدة البقاعية سنة1964، ثم أمضى سنوات الطفولة والمراهقة في مدينة زحلة حيث أنهى دروسه التكميلية. بعد ذلك انتقل إلى إكليريكية القديس بولس في حريصا ليتم دروسه الثانوية وكذلك لدراسة الفلسفة واللاهوت في معهد القديس بولس مابين عامي 1972و1987، ثم انتقل إلى مدينة كان الفرنسية لإعداد أطروحة الدكتوراه حول "البوليس عند هيدجر"، حيث نوقشت الأطروحة سنة1994. وبعد إقامته مدة عامين في ألمانيا لقراءة نصوص هيدجر بالألمانية عاد إلى لبنان للتدريس الجامعي إلى اليوم، متفرغا لتدريس الهيرمينوطيقا (الفسارة الفلسفية) والفلسفة الألمانية.

من أبرز مؤلفات مشير عون: "أسس الفكر المسيحي 1979" "الفلسفة والدين: دراسات في الإلحاد المعاصر 2003" "أسس الحوار المسيحي الإسلامي المسيحي 2003" "الهيرمينوطيقا الفلسفية: تاريخ غربي لنظريات التأويل 2004". "هايدجر والفكر العربي 2015". "أهؤلاء هم اللبنانيون 2016" "الثورة الآتية 2020"

فيما يلي حوار معه حول أهم القضايا الفكرية الراهنة على رأسها فلسفة الدين وكيفية تلقيها من طرف الفكر العربي المعاصر.

محمد مستقيم: في تقديمكم الترجمة العربيّة لكتاب جان غريش العوسج الملتهب، ذكرتم أنّ المجتمعات العربيّة يعوزها اطّلاعٌ دقيقٌ أمينٌ على مكتسبات فلسفة الدِّين الغربيّة، باعتباركم أحد روّاد هذا الحقل الفلسفيّ المثير للجدل، إلى ماذا تُرجعون ذلك العوز في أفق الفكر العربيّ المعاصر؟

مشير باسيل عون: حين أتناول المجتمعات العربيّة، أدرك أنّ الفكر الفلسفيّ فيها لم يبلغ حدود الاعتناء اليوميّ الذي يختبره غيرُ مجتمعٍ من المجتمعات الغربيّة المعاصرة؛ فالقراءة ليست من اهتمامات الإنسان في المجتمعات العربيّة التي تئنّ أنينًا موجعًا في مجالات حقوق الإنسان والتربية والتنمية والبيئة والجماليّات الحياتيّة المحض. ومن ثمّ، لا يمكننا أن نقارن مستوى الاطّلاع في المجتمعات الغربيّة بمستوى الاطّلاع في المجتمعات العربيّة. فالأسباب تتجاوز مسألة فلسفة الدِّين. إنّه العطب البنيويّ الذي أصاب الحضارة العربيّة منذ عصر الانحطاط حتّى يومنا الحاضر. وما إسهامات النهضة العربيّة الأولى والنهضة العربيّة الثانية سوى اجتهادات فرديّة حميدة يستحقّ روّادُها كلَّ التقدير، بيد أنّ هذه الاجتهادات ظلّت أسيرة الدائرة الفكريّة النظريّة، ولم تقترن بفعل تاريخيّ اجتماعيّ سياسيّ تربويّ اقتصاديّ متكامل العناصر.

من الضروريّ، والحال هذه، أن يسأل المرء عن مصير الفكر التنويريّ في واقع المجتمعات العربيّة المعاصرة. إذا كان الناس لا يقرؤون، وإذا كانت الأنظمة لا تُطيق الوعي الفرديّ الحرّ النقديّ المتطلّب المجتهد، وإذا كانت الوضعيّة السياسيّة العربيّة متأزّمة في نطاق كلّ وطن عربيّ على حدة، وإذا كانت الثقافة العربيّة تعاني أشدّ ضروب التغرّب الذاتيّ، وإذا كانت العلاقات العربيّة-العربيّة والعربيّة-الغربيّة مصابةً بأخطر أسقام الالتواء الإيديولوجيّ، فكيف يمكننا الحديث عن اقتبال عربيّ معاصر لمكتسبات فلسفة الدِّين الغربيّة؟

قبل أن يستدخل الوعيُ العربيُّ المعاصرُ مكتسباتِ فلسفة الدِّين الغربيّة، ينبغي له أن يتصالح مع ذاته، ومع الحداثة، ومع المجتمعات الغربيّة؛ وذلك في جميع مستويات الوجود التاريخيّ المعاصر. غير أنّ الأحوال الناشطة لا تشير إلى إمكان مثل هذه المصالحة. فالعالم العربيّ تهيمن عليه أنظمةُ القمع الفكريّ الغليظ أو القمع الفكريّ اللطيف، والمجتمعات العربيّة تستغرقها الأصوليّاتُ الإسلاميّة على تنوّع تجلّياتها، والبيئات الثقافيّة العربيّة الأكادِيميّة وغير الأكادِيميّة تُربكها مشاكلُ الانسلاك الرضيّ في ركب الحضارة الكونيّة السائدة، ومن أبرز مقتضياتها تطوير اللغة العربيّة تطويرًا يتيح لها أن تعقل عقلًا صائبًا مضامين الفتوحات والاستكشافات، سواءٌ في حقول العلوم الوضعيّة أو في حقول العلوم الإنسانيّة. ثمّة مشكلةٌ أخرى تكابدها الأوساط الجامعيّة العربيّة المعاصرة، عنيتُ بها مشكلة مخاطبة الوعي الفرديّ والجماعيّ. فالمزاحمة على أشدّها بين الخطاب الفلسفيّ النقديّ الحرّ التنويريّ التعدّديّ المتطلّب، والخطاب الدِّينيّ الاعتقاديّ التسليميّ الوثوقيّ الإقصائيّ. لذلك كان على الجامعيّين العرب، إمّا أن يسايروا أهواء الناس، فيتخفّفون من تطلّب النظر الفلسفيّ ويطوّعون المقاصد الفلسفيّة النقديّة ويُخضعونها لاعتبارات المصالح الدِّينيّة والسياسيّة، وإمّا أن ينزووا وينعزلوا وينكفئوا في صوامع إنتاجهم الفلسفيّ النظريّ. أمّا إذا تجرّؤوا على تصريف التجريد النظريّ في مقاربات نقديّة اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة، فإنّ صيحة الحقّ تأخذهم لا محالة إلى محنة الانتباذ والاضطهاد والقتل.

قد يُفلح المرءُ، بعد عناء شديد، في تعريب الدراسة الفلسفيّة الغربيّة المنشأ هذه أو تلك، ولكنّ الفكر الذي تحمله المقولات المعرَّبة لا يمكن استنباته في البيئة الثقافيّة العربيّة من دون تحوّل عميق في الوعي والذهنيّة والتصوّر الإنسانيّ العربيّ العامّ. ما من دليل أشدّ برهنةً على صعوبة الاستنبات هذا من معاينة الاصطلاحات الثقافيّة المعاصرة التي تدور على ألسنة الناس في المجتمعات العربيّة. وحدها دراسات علم الاجتماع يمكنها أن تبيّن لنا أنّ معظم الكلمات المستحدثة التي استدخلها اللسان العربيّ في يوميّات الوجود التاريخيّ منذ مئة عام تنتمي، إمّا إلى قاموس المعلوماتيّة، وإمّا إلى قاموس الترفيهيّات التواصليّة التقنيّة، وإمّا إلى قاموس التشنّج والاحترار الأصوليّ الدِّينيّ. أمّا اصطلاحات التيّارات الفلسفيّة المعاصرة، ومنها على سبيل المثال الفِسارة الفلسفيّة (الهِرمِنوطيقا أو مبحث علم التفسير الفلسفيّ)، والفِنومِنولوجيا أو الفيمياء، والإبّيتسِمولوجيا ونظريّات تأصيل المعرفة، والفلسفات التحليليّة، فلا أثر لها على الإطلاق في الوعي العربيّ الفرديّ والجماعيّ المعاصر.

أمّا إذا نظر المرءُ في الإنتاج الفلسفيّ العربيّ المحض المحصور في الدوائر الأكادِميّة والمراكز الثقافيّة، فجلُّ المنشور منه ينطوي على اجتهادات تعريبيّة تكييفيّة تبييئيّة تحاول أن تستصفي من عمارات فلسفة الدِّين الغربيّة ما يمكنه أن يتحوّل إلى موضوع استفادة صالحة بنّاءة مُغنية في قرائن الاختبار الدِّينيّ العربيّ. حتّى في هذا الميدان، أخاف أن يكون الاستيعابُ منحرفًا بانحراف الخلفيّات الإيديولوجيّة السائدة، والاقتباسُ ملتويًا بالتواء المهارات اللغويّة الإدراكيّة، والاستدخالُ أو الهضمُ أو التبييءُ مشوَّهًا بتشوَّه المقاصد الغرَضيّة التي تهيمن على وعي معظم المثقّفين والمفكّرين والفلاسفة والعلماء. ندر في العالم العربيّ من تجرَّأ على إعلان الخلفيّة المعرفيّة الإبّيستِمولوجيّة الاعتقاديّة التي يستند إليها في بناء مذهبه الفلسفيّ، أو في صوغ حدسه الهادي، أو في استجلاء إسهامه المتفرّد. السائد الأغلب في تناول إسهامات الفلسفات الغربيّة أن ينبري الفيلسوف العربيّ المعاصر ليعلن على التوّ عن أصالة منهجه، وفرادة إسهامه، وتميّز عمارته. والحال أنّ الجميع يعلمون أنّ الأصالة الفلسفيّة تقترن بالمقام العالميّ الذي انتهت إليه الثقافة العربيّة في الزمن الراهن.

إذا ما استثنى المرءُ اللغة العربيّة والإسلام والذهنيّة العربيّة المنغرسة في قاع الوعي العربيّ، فإنّ سائر الاختبارات الثقافيّة العربيّة المعاصرة تأتينا من إسهامات العلوم الغربيّة الدخيلة، الوضعيّة منها والإنسانيّة. وعليه، فإنّ ما يمكن وصفه بالأصيل العربيّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلوم اللغة العربيّة، وعلوم الدِّين الإسلاميّ من كلام وفقه وتفسير وتصوّف، وحقول الإفصاح عن الذهنيّة العربيّة الخالصة في الأدب والشعر والفنّ. لا بدّ، والحال هذه، من الصدق الذاتيّ في تناول الخصوصيّة الفلسفيّة العربيّة التي تقيّد مسرى استدخال فلسفة الدِّين الغربيّة في أعماق الذات العربيّة. هي خصوصيّةٌ مجبولةٌ بمصائر الفكر الفلسفيّ الذي حُكم عليه بالإعدام في أواخر القرن الثاني عشر، من بعد أنّ تبيّن أنّ ورثة ابن رشد هم أصحاب الجرأة الفلسفيّة في المجتمعات الغربيّة الوسيطيّة الناهضة من كبوتها. أمّا إذا شاء المرءُ أن يستجلي الموقع الأصليّ لفلسفة الدِّين في فضاء التراث العربيّ الإسلاميّ، فلا يسعه إلّا أن يتناول العلوم الدِّينيّة الإسلاميّة التي هي أقرب الحقول إلى فلسفة الدِّين في مفهومها الغربيّ المعاصر. غير أنّ هذا القرب لا يعني أنّ العلوم الدِّينيّة هذه تستضيف استضافة الرحابة الخلفيّاتِ الإبّيستِمولوجيّة والفرضيّات المعرفيّة والمتطلّبات المنهجيّة والمقتضيات النقديّة التي تحملها فلسفة الدِّين الغربيّة المعاصرة.

محمد مستقيم: كذلك صنّفتم الفلاسفة العرب المعاصرين الذين تناولوا الدِّين إلى فئتَين؛ الأولى تجتهد في تناول الدِّين تناولًا فلسفيًّا منزّهًا عن أغراض المبايعة والتسليم التلقائيّ بالأصل الإلهيّ، والائتمار بمقولات الأنظومة الدِّينيّة، والثانية تتوسّل بالفلسفة وبالعلوم الإنسانيّة، لتأصيل الظاهرة الدِّينية من منظور تأويليّ دينيّ يفضي إلى تسويغ الأنظومة الدِّينيّة الممسكة بها. كيف يمكن تفسير هذا الابتعاد عن المقاربة الإبّيستِمولوجيّة لمسائل فلسفة الدِّين في أفق الثقافة العربيّة المعاصرة؟

مشير باسيل عون: لا يستطيع فلاسفة الدِّين العرب المعاصرون، على قلّتهم، أن ينعتقوا من هذَين السبيلَين. السبب في الأسر المعرفيّ هذا يعود إلى قرائن نشأة الفلسفة في الاجتماع العربيّ. لذلك قد يكون من المفيد الإعراض عن السرد التاريخيّ المحض والبحث الرصين في شروط انعدام فلسفة الدِّين في المجتمعات العربيّة الحديثة والمعاصرة. أعتقد أنّ تعسّر فلسفة الدِّين العربيّة يرتبط بمسألة أعمق جذورًا في الوعي العربيّ، ألا وهي مسألة الهويّة؛ فالدِّين له علاقةٌ بالهويّة في الثقافة العربيّة، لا بل قلْ إنّ الدِّين هو الهويّة في الوعي العربيّ حتّى إشعار آخر. ومن ثمّ، فإنّ الفلسفة التي تعتمد النظر النقديّ لا يمكنها أن تمسّ الهويّة الذاتيّة الجماعيّة. ربَّ قائل إنّ التاريخ له أيضًا ارتباطٌ بالهويّة. القول صحيحٌ. لذلك ما أبدع الفلاسفة العرب، ما خلا ابن خلدون في سرديّته الوسيطيّة، في صوغ فلسفة أصيلة تتناول التاريخ في غير ما يتناوله الوعي العربيّ الدِّينيّ السائد.

أعود إلى مسألة الهويّة، حين ينظر المرءُ في مآلات العلوم الإنسانيّة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، يدرك أنّ العرب لم يجرؤوا على تطوير علوم إنسانيّة عربيّة فذّة، إذ إنّ شرط الشروط في نشوء مثل هذه العلوم أن يحوّل الإنسان ذاتيّته إلى موضوع علميّ، نقديّ، هدميّ، بنائيّ، تغييريّ، طليعيّ. ما نشأت علومٌ إنسانيّةٌ، وفلسفة الدِّين واحدةٌ منها، في المجتمعات العربيّة الحديثة والمعاصرة؛ لأنّ موضوع هذه العلوم، أعني به الإنسان، غائبٌ غيابًا مأسَويًّا، ولأنّ العرب يستكرهون الخروج من ذاتيّتهم وعليها، ولو على سبيل الافتراض التطهيريّ، ويستقبحون كلّ مسٍّ بمقام الذات العربيّة المبجّلة. وعليه، فإنّ الشعوب التي لا تجرؤ على تحويل ذاتيّتها تحويلًا موقّتًا إلى موضوعِ استقصاء تحليليّ تفكيكيّ نقديّ لن يتسنّى لها أن تنشئ علومًا في الإنسان، أو أن تُسهم في تطوير علوم الإنسان الناشطة في أرجاء المسكونة.

لا ريب في أنّ مشكلة فلسفة الدِّين العربيّة المرتقب انبثاقُها تتعلّق بتصوّر مقام الدِّين في الوعي العربيّ. إذا كان الدِّين هو الهويّة العربيّة، فما من عربيّ يرتضي أن يزعزع أركان هويّته. غير أنّ هذه الزعزعة يمكن أن تأتي بالخلاص للاجتماع العربيّ برمّته؛ فهي زعزعةٌ خلاصيّةٌ على قدر ما تجعل الإنسان العربيّ يدرك مقام الدِّين إدراكًا سليمًا في وجدانه الذاتيّ. بيد أنّ الصعوبة الشديدة تنشأ من تعريف الدِّين في الثقافة العربيّة القديمة والوسيطيّة، حتّى ابن رشد عينه الذي يفتخر ورثتُه بعقلانيّته المستنيرة أخضع في فصل المقال مقاصدَ الفلسفة للنظر الحصريّ في أصل الموجودات ومبدأ الخلق، مفترضًا وجود الله البارئ الذي يمنح الكائنات القوامَ والماهيّة والطبيعة والمعنى والغاية. حقيقة الأمر أنّ ظاهرة الدِّين استولت عليها في الثقافة العربيّة علومُ الدِّين، في حين أنّ الدِّين تحرّر من سطوة العلوم اللاهوتيّة المسيحيّة في الفضاء الثقافيّ الغربيّ، منذ أواخر القرون الوسطى وفي مطالع النهضة الأُوروبّيّة والحداثة. لا عجب، والحال هذه، من أن يرشق أهلُ الكلام الإسلاميّ فلسفة الدِّين بالهرطقة والزندقة والإلحاد، إذ إنّ فلسفة الدِّين هذه في نظرهم إهانةٌ للدِّين، في حين أنّ فلسفة الدِّين في نظر الفلاسفة الملاحدة إنكارٌ لمقام الفلسفة.

ومن ثمّ، فإنّ العقل العربيّ الأدبيّ والكلاميّ والفلسفيّ لم يعرِّف الدِّين اختبارًا وجدانيًّا ذاتيًّا، ما خلا في بعض شطحات الصوفيّين الذين كانوا يُجزَون، تعنيفًا وصلبًا، بما اقترفوا من تجاوزٍ خطير وانحرافٍ فكريّ جسيم. من خصائص فلسفة الدِّين الغربيّة الحديثة والمعاصرة أنّها تناولت الدِّين في قرائن الاختبار الإنسانيّ التائق إلى المطلق المتسامي. فكان الانطلاق من واقع الوجدان المضطرب، الحائر، القلق، المرتبك، الساعي إلى تخطّي معطوبيّة الوجود ومحدوديّة التاريخ. ما عرف الفكر العربيّ الحديث فيلسوفًا ككانط نزع عن الدِّين برهانه الماورائيّ وعرَّفه ضرورةً من ضرورات العقل الأخلاقيّ وحسب؛ وفيلسوفًا كهيغل عرَّف الدِّين اختبارًا في صميم العقل يقوم مقام الوسط بين مسعى الفنّ ومسعى الفلسفة في طلب المطلق؛ وفيلسوفًا كشلايرماخر عرَّف الدِّين اختبارًا لسكنى المطلق في الوجدان الذاتيّ، وتوقًا مضطرمًا إلى اليقين الهادئ والسلام الكيانيّ. لن أذكر فلاسفة الدِّين الغربيّين المعاصرين اللاأدريّين أو الريبيّين أو المحايدين أو المرجئين أو الملحدين، وجميعهم أسهموا إسهامًا جليلًا في تطهير الدِّين المسيحيّ، في صيغته الغربيّة الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، من شوائب الغلوّ العقائديّ والانحراف السلطويّ والإسراف المؤسّساتيّ.

يعنيني في هذا المقام أن أستجلي أسباب تعسّر التعقّل الفلسفيّ العربيّ المعاصر في مسائل الدِّين والإيمان والاعتقاد. في مرتبة الصدارة يحلّ الواقع الثقافيّ العربيّ السائد الذي يحمل في لا وعيه الجماعيّ آثار الاستعلاء الحضاريّ من جهة، والمعانفة الاحترابيّة من جهة أخرى؛ ذلك بأنّ معظم المفكّرين العرب المعاصرين يعانون عوارض هذه المفارقة، إذ إنّهم ما فتئوا يتغنَّون بماضي الأمجاد العربيّة في العصور الذهبيّة التي انقضت، وما برحوا يستعْدون الغيريّات التي يعاينون فيها، على غير وجهِ حقّ، منافساتٍ حضاريّة وجوديّة إقصائيّة. من ناحية تصوّر الهويّة الذاتيّة، ما زال الوعي العربيّ يثق بأنّه يملك الدِّين الحقّ، وبأنّه ينجز الفعل الحضاريّ الأسمى، وبأنّه يختزن الاختبار الإنسانيّ الأثمن. أمّا من ناحية تصوّر الآخر، فإنّ الوعي الاستعلائيّ المضطرب هذا لا يني يستهجن كلّ ابتداع فكريّ غربيّ، ويستقبح كلّ استحداثٍ علميّ مربك، ويستكره كلّ اختبار وجوديّ مخالف. تبلغ به المغالاة حدودًا قصوى تجعله ينتفض انتفاضة غضبيّة عنفيّة أمام كلّ تحدّ حضاريّ، وكلّ استثارة فكريّة، وكلّ استفزاز سياسيّ.

والحال أنّ فلسفة الدِّين الغربيّة كسرت كلّ الحواجز، وتجاوزت كلّ المحظورات، وأباحت كلّ الممنوعات في نطاق استقصاء المعاني الإيمانيّة، والتحرّي عن المضامين العقائديّة، ومساءلة المرتكزات الأخلاقيّة في العبادات والمعاملات. ليس في فلسفة الدِّين الغربيّة المعاصرة من فقهٍ للاستدلال على الصراط المستقيم، وليس فيها من حرصٍ على مراعاة التراث الذاتيّ والهويّة الذاتيّة، وليس فيها من تشبّثٍ بثبات الأنظومة والنهج والاقتداء بالسلف. زد على ذلك أنّ العقل الفلسفيّ الغربيّ أضحى عقلًا فِساريًّا تأويليًّا (هرمنوطيقيًّا) يقيس اختبارات الوجود الإنسانيّ بمقياس الانفتاح الأقصى، والسماحة المطلقة، والنسبيّة الراسخة. وليس يفيدنا على الإطلاق أن نستنجد المذهبَ النقديّ الغربيّ الذي عرَّى العقل الغربيّ من ألبسته الإيديولوجيّة ومطامحه الاستعماريّة، وحجّتنا في ذلك أنّ مثل هذا العري البنيويّ دليلٌ على اعتلال هذا العقل وسقوطه. في يقيني أنّ النقديّة الغربيّة المطلقة دليلُ العافية العقليّة الغربيّة وبرهان الابتكاريّة الحضاريّة الفتّاحة.

أعود فأكرّر أنّ مفارقة الاستعلاء على الآخرين ومجابهتهم تفعل فعلها الرديء في اللاوعي العربيّ، فتمنعه من الانخراط في مسلك المعالجة الذاتيّة الجريئة الصادقة. لا قيام لفلسفة عربيّة معاصرة في الدِّين من دون معالجة هذه المفارقة الناشبة في صميم اللاوعي العربيّ، ومن دون تعزيز مقام الإنسان العربيّ الحرّ المسؤول، ومن دون مساءلة الخلفيّات المعرفيّة الإبّيستِمولوجيّة التي نهضت عليها العمارة الكلاميّة الإسلاميّة الوسيطيّة، ومن دون تحرير الاجتماع العربيّ من سلاسل التبعيّة والقهر والظلم والتخلّف. ليس لفلسفة الدِّين العربيّة المعاصرة أن تُبطل الإيمان من قلب الإنسان، بل يجب أن تعزّز فيه اختبار الإيمان الصحيح حتّى تراعي في بنائه النفسيّ حاجته الكيانيّة إلى استثمار طاقات وجدانه الغنيّ. فالإنسان العربيّ، شئنا أم أبينا، كائنٌ شعوريٌّ، وجدانيٌّ، عاطفيٌّ، إحساسيٌّ، مخياليٌّ، إفصاحيٌّ، تُفضي به داخليّتُه الغنّاء إلى عشق الماورائيّات والغيبيّات والإلهيّات والمعجزات والخوارق. لذلك لا أتصوّر زمنًا عربيًّا معاصرًا أو مقبِلًا تتقهقر فيه الممارسة الدِّينيّة الجماعيّة المنظورة على مثل ما تقهقرت في المجتمعات الغربيّة المعاصرة.

ما أتمنّاه للإنسان العربيّ وللمجتمعات العربيّة ينطوي على واقعيّة صريحة ترضى بالاستناد إلى الذهنيّة العربيّة الغيبيّة والاختبار الوجدانيّ الانفعاليّ الذي لا يمكن تغييره إلّا بتغيير الوجود العربيّ التاريخيّ برمّته. وهذا من المحال! تفرض علينا الفِسارة الإصلاحيّة والواقعيّة النقديّة والمنهجيّة التقابسيّة في فلسفة الدِّين العربيّة المقبِلة أن نرضى بإيمانيّة الإنسان العربيّ الوجدانيّة، ولكن من غير أن نُغرقه في سبات عقائديّ مستفحل. للإنسان العربيّ أن يختبر إيمانه من خلال إيحاءات تراثه النصّيّ، بيد أنّه من غير الجائز أن يتجمّد في هيئة اختباريّة واحدة، وأن يخضع خضوعًا أعمى لسلطان المؤسّسة الإفتائيّة التي يهيمن عليها رجال الدِّين. أقترح على فلسفة الدِّين العربيّة المقبِلة أن تبحث في مطاوي التراث الإيمانيّ الإسلاميّ، وهو الأغلب في المجتمعات العربيّة، عن طاقات التحرّر الوجدانيّ التي تساعد المؤمن على الابتهاج بمعاني التسليم الهنيّ من غير أن تُبطل فيه حسَّ النقد والتطلّب والتجاوز والتجديد والإبداع والمشاركة والتضامن والانفتاح على الغيريّات الاعتقاديّة المربكة.

وعلاوةً على ذلك، أفضّل أن تتناصر الجهود الفكريّة في ابتكار فلسفةٍ في الدِّين عربيّة المذاق والنكهة، تُعرض عمدًا عن التجريد النظريّ، ولاسيّما ذلك الذي يتحرّى عن تسويغ الوجود الإلهيّ أو نفيه، وتنصرف إلى معالجة الانعطابات الوجدانيّة التي تعطّل انبثاق الاختبار الإيمانيّ السليم الرضيّ. ومن ثمّ، فإنّي أنادي بفلسفةٍ عربيّةٍ وجدانيّةٍ عملانيّةٍ في الدِّين تهيّئ الإنسان العربيّ لاقتبال وعود المعنى الروحيّ في حياته من غير تصلّب أو تشنّج أو تعصّب أو إقصاء. عبثًا يحاول بعضُهم أن يحثّ الوجدان العربيّ على التشكيك في مُسلّمة الحقّ الإلهيّ الأسمى. تلك حقيقةٌ راسخةٌ في أذهان الناس لا يزعزعها أيُّ تفكّر نقديّ يروم الموضوعيّة والأمانة في استجلاء أصل الفرضيّة الغيبيّة. فالتديّن راسخٌ في وجدان الإنسان العربيّ. يبقى لنا أن نهذّبه من الغلوّ العقائديّ، ونشذّبه من أدران الهيمنة السياسيّة، ونطهّره من انحرافات السلطان الدِّينيّ، ونستثمره في تحرير الوجود العربيّ وإسعاد الاجتماع العربيّ وإغناء الوعي العربيّ حتّى تستطيع المجتمعات العربيّة أن تدخل في الحداثة دخولًا سليمًا ملائمًا واعدًا.

محمد مستقيم: من جانب آخر تعتبرون أن التديّن هو تعبيرٌ عن ميل متأصّل في الإنسان يخرجه من ذاته ليضعه في مواجهة الآخر. ومنه فكلّ إنسان متديّن في قرارة ذاته. أليس هذا الفهم للدِّين قريبًا من فكرة الإيمان الحرّ ذات الأصول الكانطيّة؟

مشير باسيل عون: من المنطقيّ أن يشعر الإنسان بتوقٍ عارمٍ في صميم وجدانه يستحثّه على طلب المعنى الأقصى في الوجود. فالتفكير عمليّةٌ ذهنيّةٌ متطلّبةٌ تدفع بالإنسان إلى تجاوز الظاهر من أجل اختبار الباطن المخفيّ، والغائب الماورائيّ، والمطلق الأشمل. إذا أراد المرءُ أن يدرك عمق المسعى الدِّينيّ في جميع الحضارات والمجتمعات، كان عليه أن يعترف بمثل هذا التوق الذي يستوطن وجدان الإنسان. قد يعتبره بعضُهم وهمًا أو خيالًا أو زيفًا في الواقع، بيد أنّ السلام الداخليّ الذي يفوز به الإنسان المؤمن يجعلنا نثق بثمار الاختبار الإيمانيّ الصحيح. لا شكّ في أنّ صوَر المطلق وهيئاته وتجسيماته تختلف من حضارة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر. فالمطلق يمكن أن يتجلّى في صورة الشخص الإلهيّ، أو في هيئة الطاقة الكونيّة المبثوثة في أرجاء الفضاء الفسيح، أو في سموّ المثال الذي يجذب الناس إليه من غير أن يفقد شيئًا من تعاليه، أو في محنة التجاوز التي تفرض على الإنسان أن يطلب على الدوام ما هو أبعد من الإنجاز المتحقّق. إنّها تمثّلاتٌ إطلاقيّةٌ متباينةٌ تُفصح كلُّها عن التوتّر الجدليّ الذي ينشط بين واقع الإنسان والمعنى الأقصى الذي يرنو إليه. كلّ حضارة تتصوّر التوتّر بحسب بيئتها واختبارها ومفاهيمها واصطلاحاتها. تارةً يتعزّز مقامُ الطرف الإنسانيّ في علاقة التوتّر هذه، فيبدأ المسرى عند اختبار التجاوز الأنتروبولوجيّ المحض. وتارةً أخرى، يتصدّر المقامَ الطرفُ المقابل، في إطلاقيّته الغيبيّة الماورائيّة المِتافيزيائيّة الإلهيّة، فتنطلق المبادرة من صميم الدائرة العلويّة التي تفيض على الواقع التاريخيّ رحمةً ورفقًا وحبًّا وافتداءً وخلاصًا.

في الحالَين كليهما يتميّز الاختبار الإيمانيّ من الاختبارات الأخرى بانفعاليّته الوجدانيّة الكثيفة، واقتضائيّته الوجوديّة البالغة، وشموليّته الكيانيّة القصوى. ذلك بأنّ اختبارات الإنسان الأخرى من حبّ وشراكة وصداقة وخيبة وإخفاق ونجاح وإبداع واختراع وتدبير إنّما يقتصر مجالُ أثرها على قطاع أو أكثر من قطاعات الوجود الإنسانيّ. أمّا اختبار المطلق، على تنوّع تجلّياته، فإنّه يصيب عمق الوجود الإنسانيّ، ويستنهض أقصى طاقات القرار الوجوديّ، ويستثمر أبعد إمكانات التحقّق الكيانيّ الفرديّ والجماعيّ. لذلك يصعب على الإنسان المؤمن، ولاسيّما في المجتمعات العربيّة، أن يناقش مسألة الإيمان مناقشة عقلانيّة حرّة منفتحة. إذا كانت فلسفة الدِّين تستلزم، في جانبٍ من جوانبها، مساءلة مثل العمق الوجوديّ الأقصى هذا، فإنّ الإنسان العربيّ المعاصر لا يمتلك الجرأة الكيانيّة، ولا الاستعداد الأدبيّ، ولا الاختمار الفكريّ، ولا الجهوزيّة المنهجيّة، ولا الآليّة المعرفيّة، من أجل الخوض السليم في معترك المباحثة الفلسفيّة الدقيقة هذه.

محمد مستقيم: الأستاذ مشير باسيل عون، ساهمتم في تأسيس وإدارة مركز الأبحاث للحوار الإسلاميّ المسيحيّ في لبنان (معهد الآباء البولُسيّين، حريصا، كسروان). كيف يستقيم الحوار بين الأديان في ظلّ الاعتقاد بامتلاك الحقيقة؟

مشير باسيل عون: أثناء إقامتي في ألمانيا، أسعفتني الأحوال بالتعرّف الشخصيّ إلى عالم الإسلاميّات الشهير اللبنانيّ عادل تيودور خوري، وهو شقيق الفيلسوف اللبنانيّ بولس الخوري الذي درستُ على يده تاريخ الفلسفة الغربيّة، ولاسيّما الأنطولوجيا والفِنومِنولوجيا. حين أنهيت أطروحة الدكتوراه وأبحاث ما بعد الدكتوراه في فرنسا وألمانيا، قفلتُ عائدًا إلى لبنان، حيث شجّعني المسؤولون في جمعيّة الآباء البولُسيّين (حريصا-كسروان، لبنان) التي كنت منتميًا إليها، وطلبوا منّي أن أخصّص قسطًا من أبحاثي لمعالجة مسائل التعدّديّة الدِّينيّة، وخصوصًا مسائل الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. فكان لا بدّ لي من أن أضع أبحاثي الفلسفيّة جانبًا، وأن أنصرف إلى استجلاء الحقل اللاهوتيّ الشديد التعقيد هذا، متسلّحًا بالثقافة اللاهوتيّة التي اكتسبتها طوال سنوات الدراسة الجامعيّة في معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت (حريصا-كسروان، لبنان)، ومتّكلًا على خبرة العلّامة عادل تيودور خوري وسنده الفكريّ والمعنويّ.

في أثناء السنوات التي أمضيتها في إدارة مركز الأبحاث في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ (C.E.R.D.I.C)، عكفتُ على استجلاء مسألة الحقيقة الدِّينيّة ومقامها في نطاق الأنظومة الفكريّة التي تبتنيها الأديان التوحيديّة الثلاثة. بفضل سلسلة الدراسات التي أنشأتها في صحبة البروفسّور خوري، وقد وضعنا لها عنوانًا جميلًا (المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون)، تسنّى لي أن أستطلع مواضع الإعضال المعرفيّ التي تعرقل مسرى الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. فتبيّن لي أن ادّعاء الحقّ في كلّ أنظومة لاهوتيّة ينطوي على مخاطر الإقصاء العنفيّ ما دام المؤمنون يُصرّون على فهم الحقيقة فهمًا خاطئًا. تنشأ المشكلة الحواريّة اللاهوتيّة من الالتباس المعرفيّ الأصليّ هذا. فالدِّين لا يستقيم إلّا إذا اختبر أهلُه قربَهم الشرعيّ من مصدر الحقّ، غير أنّ اختبار الحقّ الإلهيّ في كلّ ديانة على حدة لا يستتلي احتكار الحقيقة داخل الأنظومة الدِّينيّة عينها. من بعد أن صدرت الأجزاء الأولى من السلسلة الحواريّة في المكتبة البولُسيّة (جونيه، لبنان)، أدركتُ أنّ الجرأة اللاهوتيّة تقتضي الاعتراف بخللٍ جسيم في معرفيّات الحوار الدِّينيّ الأساسيّة. لذلك قرّرتُ أن أتجاوز الأدبيّات الحواريّة المسيحيّة الإسلاميّة الكلاسّيكيّة لكي أضع الإصبع على مسألة تصوّرات الإنسان وتصوّرات الحقيقة في الأديان. فإذا بي أخلص إلى الاستنتاج اللاهوتيّ الذي يميّز بين الحقّ الإلهيّ في ذاته والحقّ الإلهيّ في تجلّياته.

وبما أنّ المؤمن يحتاج إلى الشعور المطمئن الذي يجعله يثق بقربه من الحقّ الإلهيّ، ابتكرتُ اصطلاحًا لاهوتيًّا حواريًّا سمّيتُه الإطلاقيّة النسبيّة؛ ذلك بأنّ كلّ أنظومة دينيّة تختبر تجلّي الحقّ الإلهيّ في مسرى اختبارها الفرديّ والجماعيّ الأصليّ، إنّما ينبغي لها أن تعتصم بهذا الحقّ وأن تتناوله في إطلاقيّته الصريحة. غير أنّ هذه الإطلاقيّة يجب أن تظلّ مقترنةً بقرائن التجلّي وأسباب النزول وأحوال الاختبار التي صاحبت نشأة الدِّين وواكبته في زمنه الأصليّ الأوّل.

معنى هذا القول أنّ المسيحيّ يجب عليه أن يؤمن بإطلاقيّة الحقّ الإلهيّ في دينه المسيحيّ، وكذلك المسلم واليهوديّ وكلّ مؤمن صادق من أتباع الديانات الأخرى ينبغي له أن يؤمن بإطلاقيّة الحقّ الإلهيّ في نطاق دينه الخاصّ، بيد أنّ جميع ضروب الإطلاقيّة هذه إنّما تنتسب إلى اختبارات الزمان والتاريخ والثقافة والبيئة والناس في كلّ مجتمع على حدة. لذلك ينبغي أن تتّصف الإطلاقيّة بالنسبيّة. وما هذا الاتّصاف باستصغارٍ أو استهوانٍ أو استضعافٍ، بل هو عين الحقيقة التي لا يمكن أن تتجلّى كاملةً في هيئة تاريخيّة واحدة، أو أنظومة لاهوتيّة معيّنة، أو عمارة فكريّة محدّدة. على تعاقب الأيّام، استطعتُ أن أفصح عن هذا التصوّر في كتابي الذي عنونته النور والمصابيح. التعدّديّة الدِّينيّة في جرأة المساءلة اللاهوتيّة المسيحيّة (منشورات جامعة البلمند، طرابلس، لبنان، 2008).

بالاستناد إلى الحدس اللاهوتيّ الجريء هذا، تمكّنتُ من أن استجلي، في أبحاثي الفلسفيّة المتقدّمة، بُعدًا آخر من أبعاد التعدّديّة الدِّينيّة التي تتخطّى حدود الحواريّات المسيحيّة الإسلاميّة، ألا هو بُعد التأصيل الأنثروبولوجيّ الأقصى.

وعليه، تبيّن لي أنّ الأديان التوحيديّة الثلاثة تدّعي اختبار الحقّ الإلهيّ الأوحد، والفوز بالخلاص الأضمن، وامتلاك الدعوة الدِّينيّة الصحيحة الوحيدة. بيد أنّ المسيحيّة عالجت تجارب الاستعلائيّة والحصريّة والإقصائيّة في منتصف القرن العشرين، وانفتحت انفتاحًا رضيًّا على أديان المسكونة واختباراتها الإيمانيّة، مع أنّها ظلّت معتصمةً باختبار الخلاص الممنوح في شخص السيّد المسيح لجميع الذين يؤمنون به. فانتباذ الاستعلاء وإدانة الحصر وتجريم الإقصاء لا يمنع المؤمن من الابتهاج الوادع بحقائق إيمانه، وقد محّصها في أتّون الاختبار الإنسانيّ الأرحب. ومن ثمّ، شعرتُ أنّه من الضروريّ الذهاب مذهبًا أبعد من أجل تأصيل التعدّديّة الكونيّة تأصيلًا فلسفيًّا متينًا. فإذا بي أخرج بنظريّة الدوائر الثلاث. إذا أرادت الأديان أن تتخطّى معضلة ادّعاء الحقّ ادّعاءًا حصريّا استعلائيًّا إقصائيًّا، كان عليها أن تميّز في صميم الاختبار الإنسانيّ دوائرَ ثلاثًا من اعتلان الحقيقة وإنجازها في تضاعيف وجود الشعوب التاريخيّ.

الافتراض الأصليّ الذي يدعم نظريّتي يُبنى على تناول مسألة المطلق في غير ما تتناوله الأنظوماتُ الدينيّة الحريصة على ادّعاء الأحقّيّة والأعظميّة والإطلاقيّة والشموليّة والنهائيّة والقطعيّة. لا بدّ، في هذا السياق، من الاجتهاد في تغيير أنماط التعبير عن اختبار المعنى الإنسانيّ الأرحب الهادي. آن الأوان لأن يدرك الناسُ أنّ الوجود في صلب كينونته متنوّعُ الظهور، عصيٌّ على الأخذ العقليّ القاهر؛ وأنّ الحقيقة في صميم حركتها التاريخيّة متشعّبةُ التجلّيات، منيعةُ التحقّق التاريخيّ الضابط؛ وأنّ الانتماء الإنسانيّ في عمق معناه علائقيٌّ يشترط الغيريّة اشتراط الأصل المنشئ. ومن ثمّ، لا بدّ من الاعتراف بنسبيّة الاختبارات الإنسانيّة مهما أفلحت في تطلّب المطلق من كلّ شيء. بيد أنّ القول بالنسبيّة لا يعني الإعراض عن الإيمان الذاتيّ والاعتقاد الذاتيّ والانتماء الذاتيّ، بل يعني الاعتراف بانتساب كلّ انتماء ثقافيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ إلى ميدان الوجود المتنوّع الظهور وتجلّيات الحقيقة المتشعّبة المسالك. بالاستناد إلى الأصول الفلسفيّة هذه، تنهض عمارةٌ فكريّةٌ تستصوب التمييز بين ثلاث دوائر في طلب المعنى الإنسانيّ المطلق على تنوّع تسمياته.

الدائرة الأولى مشتركةٌ بين جميع الناس، وهي دائرة الاعتراف بحقوق الإنسان التي نجحت الشرعة العالميّة في استخراج خلاصتها الجوهريّة في إثر قرونٍ من المعاناة الإنسانيّة. وما من سبيل إلى تسالم الحضارات والمجتمعات إلّا بالتوافق على أحقّيّة هذه الشرعة. فالدائرة الأولى هي إذًا دائرة القيَم الإنسانيّة التي تقول بها شرعةُ حقوق الإنسان، ومن هذه القيَم المساواة والحرّيّة والعدل والإنصاف واحترام البيئة. فالجميع مكرهون على اعتناقها لئلّا تفنى الأرض. وهي دائرةٌ أجمعت أغلبُ الأمم على اعتناقها دستورًا فكريًّا هاديًا لمجتمعاتها. ومن ثمّ، فإنّ القيَم التي تنطوي عليها هذه الدائرة تلازم طبيعة الوجود الإنسانيّ، وتُستخرج توًّا من أصل الكرامة الإنسانيّة الذاتيّة من غير أن يُعوزها تأصيلٌ آخر قد يستنجد مقولاتِ النظر الماورائيّ الغيبيّ الدِّينيّ، ولو أنّ مثل هذا التأصيل ضروريٌّ حين يُستخرج من أصل الحياة المتدفّقة، فيُسهم في تدعيم وحدة المعنى الأقصى في الوجود. بما أنّ الناس مفطورون على إيثار الأنا الفرديّة والجماعيّة، وبما أنّ هذا الإيثار قد يتحوّل إلى أنانيّات متصارعة، فإنّ منطق هذه الشرعة يجيز للمجتمعات أن تستخدم شيئًا من الشدّة لحمل الناس على احترام هذه القيَم. ليست هذه الشدّة مرادفةً للعنف على وجه الإطلاق. وينبغي ألاّ تنقلب ضربًا مقنّعًا من ضروب العنف. فالقوّة التي تضبط الميثاقَ الاجتماعيّ هي من ضرورات الوجود الإنسانيّ الأولى.

وعليه، ينبغي لكلّ متّحد حضاريّ، مهما تنوّعت منابتُه ومصادرُه وتصوّراته وبناءاتُه، أن يعتصم بشرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي تختزن مختمر التصوّرات الإنسانيّة الرفيعة. في يقيني أنّ هذه الشرعة تنطوي على المبادئ والأصول والأسُس التي لا يستقيم من دونها الوجود الإنسانيّ، الفرديّ والجماعيّ. عنيتُ بها قيَم الحرّيّة والمساواة والعدل والأخوّة والتضامن. ينبغي لجميع البشر أن يعتصموا بهذه الدائرة وأن يلتزموا أصولَها التزامًا صريحًا من غير أن يُخضعوها لتأويلات أنظوماتهم الدِّينيّة والفكريّة. تتّسم هذه الدائرة بالإلزام المطلق، إذ إنّ الإنسانيّة لا تتحقّق بمعزل عن تحقّق هذه القيَم في معترك الوجود التاريخيّ. في هذا المقام، لا يجوز أن يبلغ صراع التأويلات في إدراك مضامين هذه القيَم حدودَ التنكّر للجواهر الأصليّة الناشبة في عمق قوامها. قد تختلف الأنظومات الدِّينيّة في تفسير قيمة الحرّيّة في هذا السياق أو ذاك. ومن ثمّ، فإنّ المناقشة ضروريّةٌ لاستجلاء أبعاد هذا التباين التأوليّ، بيد أنّ الاختلاف لا يجوز أن يُفضي إلى إنكار جوهر الحرّيّة.

تشتمل الدائرة الثانية على المثُل الروحيّة السامية التي تنادي بها الأديان التوحيديّة وسائر الأديان الآسيويّة الكبرى والروحانيّات الكونيّة، ومنها احترام هبة الحياة، والتناصح بالخير، والتغافر، والتآخي، والتراحم والتحابّ، والاستضافة، والتهذيب الخلقيّ الروحيّ، والتضحية وبذل الذات والإخلاء الذاتيّ في سبيل الآخرين. إنّها مثُلٌ روحيّةٌ لا تملك شرعةُ حقوق الإنسان العالميّة أن تنادي بها. ولكنّها لا تناقض الشرعة العالميّة، بل ترتقي بالإنسانيّة إلى مستوى الروحيّة الأخلاقيّة الرفيعة. لا ريب في أنّ جميع الأديان والأنظومات الثقافيّة العَلمانيّة تختزن قدرًا جليلًا من المثُل الروحيّة تتفاوت بتفاوت الاختبارات والبيئات والعمارات. غير أنّ الثابت في هذا كلّه هو قدرة هذه المثُل على إغناء الوجود الإنسانيّ والارتقاء به إلى أعالي القمم الكيانيّة.

من صلب رسالة أهل الأديان جميعًا أن يُقنعوا الآخرين بخير هذه المثُل الروحيّة بواسطة الحوار، وخصوصًا بواسطة المثل الصالح. فلا إكراه في ذلك على الإطلاق. ولكنّ الإنسانيّة تنتعش انتعاشًا عظيمًا بالمثُل الروحيّة العظيمة هذه. واليقين في شأن هذه الدائرة أنّ جوهر الوداعة في الأديان التوحيديّة يقتضي منها أن تنتصر للمثُل الروحيّة السنيّة هذه انتصارًا صريحًا كاملًا. ولا عجب، من ثمّ، أن تقترن صدقيّةُ الأديان التوحيديّة بأمانتها الذاتيّة لهذه المثُل وممارستها الفعليّة لما تقتضيه هذه المثُل من أتباع هذه الأديان. من أخطر الواجبات الروحيّة التي تقتضيها هذه المثُل أن يسارع أهلُ الأديان التوحيديّة إلى تجسيدها في حياتهم الفرديّة والجماعيّة قبل أن ينادوا بها للآخرين ويتشدّدوا في فرضها عليهم؛ ذلك بأنّ هذه الدائرة لا يمكن أن تتّصف إلّا بصفة التفضيل الاستحسانيّ.

أمّا الدائرة الثالثة، فهي دائرة الاعتناقات الإيمانيّة والتصوّرات اللاهوتيّة التي تحملها الأديان في استجلاء طبيعة المطلق، وقد حملته على معنى الكائن الإلهيّ المتعالي يطيب له أن يكشف عن ذاته كشفًا يهب الإنسانَ القدرةَ على بلوغ ملء الكيان وأصالة الانتعاش والسعادة. من الصياغات التي أنشأتها الأنظوماتُ الدِّينيّة الأقوالُ اللاهوتيّة التي تتّصل بتصوّر الجوهر الإلهيّ، والتوحيد والتثليث، ومكالمة الأنبياء، والتجسّد والفداء، والخلاص والهداية، والدينونة والسعادة الأبديّة، وافتراض السند الإلهيّ المؤيّد العباداتِ والمعاملات. جميع هذه الاعتناقات ينبغي أن تصونها الأديانُ لذاتها، فلا تجعلها مادّةً للتبشير القسريّ والتطبيق التاريخيّ القاهر؛ ذلك بأنّها تصوّراتٌ لا يختبرها على حقيقتها إلّا من انتمى إلى الدِّين من الداخل انتماءَ الاعتناق الحرّ، ومن اغتذى من روحانيّة الدِّين الذاتيّ هذا. لا يصحّ فيها أن يُطلِق عليها الناسُ صفة الحقّ أو الباطل، إذ إنّها من الغيبيّات التذوّقيّة، على غرار الجماليّات الفنّيّة الرفيعة المقام التي لا يجوز أن يقول الناسُ فيها قولَ التمييز والتصنيف المرتكز على مقولات الخطأ والصواب. ولا يجوز أن يحكم فيها العقلُ البشريّ إلّا في حال واحدة، عنيتُ بها الحال الشاذّة التي فيها تُعارض الاعتناقاتُ الإيمانيّة هذه معارضةً صريحة شرعةَ حقوق الإنسان، كأن يأتي كشفٌ إلهيّ يُبطل المساواة بين الناس أو يُلغي حرّيّة الإنسان الأصليّة.

من طبيعة هذه الدائرة أن تختصّ بها كلُّ ديانة على حدة، إذ إنّها تشتمل على التذوّقات اللاهوتيّة الماورائيّة الغيبيّة الصوفيّة التي تنفرد بها كلُّ أنظومة دينيّة وتعتبرها في أساس العمارة الدِّينيّة. يحقّ للأديان أن تعتصم بالتذوّقات اللاهوتيّة هذه من غير أن تُنزلها منزلة الحقيقة المطلقة المهيمنة على آفاق الوعي الإنسانيّ في جميع الحضارات، ومن غير أن تفرضها على الآخرين، ومن غير أن تعزلها عن سياقات نشوئها الثقافيّ والتاريخيّ. لذلك تتّصف بصفة الإيثار الحرّ. فإذا اعتمدت الحضارات على وجه العموم، والأديان على وجه الخصوص، مثل هذا التمييز، تهيّأ للناس المؤمنين أن يهنأوا بحياتهم مرّتين: مرّةً حين يُسرّون باختبارهم الإيمانيّ الذي ينعش كيانهم، ومرّةً أخرى حين يفرحون بإقبالهم إلى الآخرين يستكشفونهم عن مكانز اختبارهم الإيمانيّ المختلف. الشرط الوحيد في هذا كلّه أن يُقرّ الجميع بأحقّيّة الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان، مع ما تستتليه من تأويلات تاريخيّة تصاحب تطوّر الوعي الإنسانيّ في سياق التعدّديّة الكونيّة المتفوّرة.

ومن ثمّ، فإذا اعتصم أهلُ الأديان التوحيديّة بالتمييز الهادي هذا، استطاعوا أن يتجاوزوا محنة العنف الدِّينيّ، وبلغوا مرتبة عليا من النضج الإنسانيّ والمعرفيّ والروحيّ تخوّلهم أن يميّزوا في اختبار وعيهم الثقافيّ بين الدوائر الثلاث هذه من الاختبار الإنسانيّ، والاختبار الروحيّ، والاختبار اللاهوتيّ. معنى هذا التمييز أن يفصل المؤمنون بين دائرة القيَم الإنسانيّة، ودائرة المثُل الروحيّة، ودائرة التذوّقات الإيمانيّة اللاهوتيّة الصرف، بيد أنّ هذا الفصل لا يحمل معنى القطيعة المعرفيّة أو القطيعة الوجدانيّة أو القطيعة القيميّة، بل وظيفته النقديّة البنّاءة أن يُثبت فرادة الخصوصيّة الثقافيّة في الحضارات والمجتمعات التي تحتضن اختبارات الأديان التوحيديّة. توخّيًا للوضوح في مسألة هذه الدوائر، يمكن النظر إليها في ما تتضمّنه من حقائق متدرّجة في ارتقائها قد تبلغ بالإنسان المؤمن أعتاب الاختبار الإنسانيّ الأسمى.

يقيني في بناء النظريّة التعدّديّة الحواريّة هذه أنّ المساءلة الأشدّ إيلامًا للوعي الإيمانيّ، إنّما تصيب الدائرة الثالثة الخطيرة، إذ إنّ الناس يظنّون أنّ اختبار الكشف الإلهيّ الذي نشط في تاريخ وعيهم الدِّينيّ إنّما ينطوي على عين الحقّ لهم وللآخرين. والحال أنّ الحقائق الإيمانيّة الغيبيّة، إنّما هي تعبيرٌ عن تذوّق عرفانيّ صوفيّ توسَّل بتعابير الثقافة البشريّة المتاحة له في زمن من الأزمنة، وأفرغ فيها خلاصة اختباراته. بما أنّ الله جوهرٌ عصيٌّ على الإدراك يفترضه أهلُ الأديان في هيئة الكائن الأسمى المنعتق من التاريخ والمهيمن عليه في الاعتبار الوثوقيّ نفسه، فإنّ كلّ ما تقوله الأديان في هذا الجوهر، إنّما يقترن بما يتذوّقه أهلُ الأديان من حقيقة انكشاف هذا الجوهر الإلهيّ للوعي الإيمانيّ الفرديّ والجماعيّ.

في هذا الانكشاف قسطٌ من الحقيقة، إذ إنّ الحياة هي أصلُ جميع الكائنات والأشياء والموجودات، وقسطٌ من الإسقاط الثقافيّ الذاتيّ للجماعة المؤمنة حين يَنسب إليها منطقُ الإيمان التوحيديّ صفة الألوهة المتعالية. لا ضير إذا استمرّ الناس على الربط بين هذَين الوجهَين من اختبار فيض الحياة الوهّاب في الوجود، ولكن شرط ألّا يجعل أهلُ الأديان تذوّقَهم الكشفَ الإلهيَّ مقياسَ الاستقامة المطلقة في إدراك عمق الكون. ليس في التوسّع التأويليّ هذا من إنكار لوحدة الحياة ووحدة العالم ووحدة الحقّ، ولو أنّ الكون الفسيح ينطوي على أسرارٍ قد تفاجئ العقل الأرضيّ مفاجأةً جليلة.

في موازاة الدوائر الثلاث الحقوقيّة والروحيّة واللاهوتيّة، يمكن التمييز بين المقتضيات الفطريّة والمحسِّنات الارتقائيّة والمزيِّنات الإيثاريّة. فالحقوق فطريّة، والمثُل الروحيّة ارتقائيّة، والصياغات اللاهوتيّة مزيِّناتٌ جماليّةٌ. الواضح في مسألة التعدّديّة الكونيّة أنّ الاختلاف ينشأ من التباين في إدراك معاني الوجود الهادية، وقد تجلّت في دوائر أو طبقات ثلاث: دائرة المقتضيات الفطريّة التي تشتمل على القيَم الإنسانيّة الأصليّة، ودائرة المحسِّنات التفضيليّة الوجوديّة الارتقائيّة التي تحتوي على المثُل الروحيّة العليا، ودائرة المزيِّنات الإيثاريّة التي تنطوي على التذوّقات الصوفيّة اللاهوتيّة. أمّا الهويّة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، فتُبنى على قدر ما يلتزم الإنسانُ، في عمق كيانه، بناءَ إنسانيّته في سياق منفسحات الوجود الرحبة وملابساته المربكة. بيد أنّ البناء يُشيَّد بالتدرّج والتوقّل من طور إلى طور، ومن مرتبة إلى مرتبة، ومن طبقة إلى طبقة، ومن دائرة إلى دائرة. في مرتبة البناء الأولى، ينبغي للإنسان أن يلتزم مقتضيات الوجود الإنسانيّ الفطريّة (شرعة حقوق الإنسان). في مرتبة البناء الثانية، يُستحسن بالإنسان أن يجتهد في استلهام المثُل الروحيّة العليا (المحسِّنات الارتقائيّة). في مرتبة البناء الثالثة، يُسرّ الإنسان باختبار إطلالاتٍ في الكيان يدنو بها من عمق السرّ الكونيّ (المزِّينات التذوّقيّة الغيبيّة الجماليّة).

لا ريب في أنّ الاعتناقات الإنضاجيّة هذه ينبغي أن تتآزر منذ المرتبة الحقوقيّة الأولى؛ ذلك بأنّ الهويّة الإنسانيّة الأرضيّة واحدةٌ ثابتةٌ لا التباس فيها. الأصل فيها أن تتأسّس الكينونةُ الإنسانيّة على القيَم الإنسانيّة الكبرى المتواضع عليها في الشرعة العالميّة (الحياة والكرامة والحرّيّة والمساواة والعدل والحقوق والواجبات). لذلك كانت الدائرة الأولى إلزاميّة على الإطلاق. يستطيع الناس أن يعزّزوا نضجهم الكيانيّ، فينتقلوا إلى مرتبة أعلى تجعل الهويّة الإنسانيّة قابلةً الارتقاء في تأوّل المثُل العليا التي تُجمع عليها الأديان العظمى والروحانيّات الكبرى (التآخي والتضامن والتغافر والتراحم والتحابّ والاستضافة والبذل الذاتيّ والتضحية المجّانيّة والإخلاء الذاتيّ). وعلاوةً على ذلك، يستطيع الناس أن يختبروا ضروبًا أخرى من النضج الإنسانيّ حين يزيّنون الهويّة الإنسانيّة بالتذوّقات الصوفيّة اللاهوتيّة الحرّة التي تساعدهم على تحمّل مشقّات السرّ الوجوديّ الأخطر، سرّ الحياة والموت والألم والرغبة والتغرّب والشكّ والمساءلة والتضجّر والإحباط والمحدوديّة. في هذا المقام، يمكنهم أن يستندوا إلى التذوّقات المنبثقة من الاختبارات الدِّينيّة التي تستند إلى افتراض الكشف العلويّ يأتون إليه بالتسليم والتأييد على قدر ما يتبيّنون فيه استجابةً شاملةً لهمّهم الكيانيّ الأقصى.

خلاصة القول في استعراض عناصر هذه النظريّة أنّ قيَم شرعة حقوق الإنسان في الدائرة الأولى تضمن الحدّ الأدنى من بناء الهويّة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة؛ وأنّ المثُل الروحيّة في الدائرة الثانية تُضفي على هذا البناء سماتِ التألّق والرفعة والسموّ؛ وأنّ الاختبارات الإيمانيّة الحرّة والتذوّقات الصوفيّة الفريدة والتحسّسات اللاهوتيّة الخاصّة في الدائرة الثالثة تزيّن الوجود بكشوفات علويّة ينبغي صونُها داخل الاختبار الإيمانيّ الذاتيّ، وينبغي خصوصًا التحرّي النبيه الدائم عن ملابسات استدخالها في الأنظومة المعرفيّة. أمّا القاعدة الأساس في تدبّر هذا كلّه، فتقضي أوّلًا بأن يرفض الإنسانُ أن تختلف المجتمعات اختلافًا تأويليًّا هدّامًا في إلزاميّة شرعة حقوق الإنسان العالميّة، والحجّة في تسويغ مثل هذا الاختلاف ضرورةُ تكييف الشرعة وتبييئها وإخضاعها للدائرة الثالثة والدائرة الثانية.

الحقيقة أنّ الدائرة الثالثة والدائرة الثانية ينبغي أن تخضعا معرفيًّا وأنثروبولوجيًّا وأخلاقيًّا لمقتضيات حقوق الإنسان التي تنصّ عليها الشرعة. وتقضي ثانيًا أن يُشرَّع التنوّع التأويليّ في تفسير المثُل العليا وتذوّق الاعتناقات الإيمانيّة، وذلك بالاستناد إلى اختبارات الجماعات الإنسانيّة في نطاق البيئات الثقافيّة التي تحتضنها. فالإنسان يمكنه أن يكتفي بمرتبة أولى من النضج الإنسانيّ الحقوقيّ تضمنه له شرعة حقوق الإنسان. أمّا إذا اختلف الناس في تفسير مثال المحبّة، فليس في ذلك من ضرر على سلامة الوجود الإنسانيّ.

أعلم علمَ اليقين أنّ هذه النظريّة لا يقبلها أهلُ الأديان بيسر ورحابة صدر. ولكنّ الحراك الكونيّ الراهن يضطرّ الناس إلى تجاوز محنة التصارع الإيديولوجيّ بين الأنظومات الدِّينيّة، إذ إنّ المخاطر التي تحدق بالحياة الإنسانيّة على الأرض وفي الكون الفسيح تستوجب من النضج أعمقَه، ومن الحيلة أوسعَها، ومن الابتكار أجرأه حتّى ينهض الناسُ إلى كيفيّات جديدة من الاضطلاع الفطن بمسؤوليّات الزمن العلميّ المستفِزّ. من فضائل هذه النظريّة أنّها تراعي تصوّرات الحقّ في كلّ دين على حدة، ولكن من غير أن تجعل هذه التصوّرات سببًا في التصارع بين الأنظومات الدِّينيّة. فالنور واحدٌ، والمصابيح شتّى. ولكلّ مصباح أن يعكس نور الحقّ في مرآة اختباراته اللاهوتيّة الذاتيّة.

محمد مستقيم: تؤسّسون تصوّركم للعلمانيّة - بخاصّة في بلدكم لبنان- بتأكيد ضرورة فكّ الارتباط بين الدِّينيّ والسياسيّ من منطلق سلطة العقل العلمانيّة المحايدة وفي نسبّيتها التاريخيّة. كيف سيتمّ ذلك في ظلّ مجتمع طائفيّ؟

مشير باسيل عون: لا ريب في أنّ الوضعيّة اللبنانيّة من أشدّ الوضعيّات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة العربيّة تعقيدًا وعسرًا. يعلم أهلُ المغرب العربيّ أنّ المسيحيّة الساميّة المشرقيّة العربيّة ظلّت حيّةً في مجتمعات المشرق العربيّ، ولاسيّما في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر، بخلاف المسيحيّة التي كانت منتشرةً على ساحل الضفّة الجنوبيّة من البحر الأبيض المتوسّط، حيث تبدّلت الأحوال تبدّلًا جذريًّا، فورث الإسلام إرث الحضارة المسيحيّة في أوطان المغرب العربيّ. أمّا في أوطان المشرق العربيّ، فحافظت المسيحيّة على بعضٍ من الحضور والاستمرار، ولاسيّما في لبنان حيث هيّأت لها الأحوال السياسيّة أن تنعم بمسؤوليّات سياسيّة لم تُمنح إلّا للأفراد في الأوطان العربيّة الأخرى. المسيحيّة، بوصفها جماعةً ثقافيّةً اجتماعيّةً متميّزة، استطاعت في لبنان أن تُنشئ لذاتها حيثيّةً سياسيّةً ومقامًا ووظيفةً ودورًا وإسهامًا، فتحوّلت إلى هويّة سياسيّة فاعلة تشارك في تدبير شؤون المدينة الإنسانيّة في الوطن اللبنانيّ.

في صميم هذا التحوّل، ينبغي استجلاء أبعاد الإعضال السياسيّ الذي يضرب في أوصال الوطن اللبنانيّ. فالمسيحيون والمسلمون ارتضوا في مطالع القرن العشرين أن يتشاركوا في إدارة شؤون البلد تشاركًا منصفًا يستلهم وضعيّات التشارك في المجتمعات التعدّديّة. استندوا في البدء على اختبارات التشارك في إدارة جبل لبنان الذاتيّة تحت الحكم العثمانيّ وبإشراف القوى الغربيّة المقتدرة في ذلك الحين. غير أنّ التشاركيّة اللبنانيّة المسيحيّة الإسلاميّة اصطدمت منذ نشأتها بعوامل الانعطاب الذاتيّ وعوامل الاضطراب العربيّ والإقليميّ؛ ذلك بأنّ بناء المعيّة الإنسانيّة في تفاصيل الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لا يستقيم استقامةً مطمئنة حين يكون المجتمع واحدًا في تصوّراته الدِّينيّة والثقافيّة والمعرفيّة. فما بالك حين يختبر المجتمع انقسامًا خطيرًا في مستوى تصوّرات العالم والوجود والحياة بين أنظومتَين ثقافيّتَين متباينتَين في وجوه شتّى!

لذلك عانى اللبنانيّون معاناة المجتمعات التعدّديّة المعاصرة، واستطاعوا في أقلّ الأضرار أن يجتازوا معابر التأزّم الحادّ في المعيّة التشاركيّة المسيحيّة الإسلاميّة في حقول شتّى من التدبير السياسيّ. ولكن حين ثقلت عليهم وطأةُ التدخّلات الخارجيّة والأطماع الإقليميّة، وجدوا أنفسهم في صراع حادّ بين شرق وغرب، ومحور ومحور، وإيديولوجيا وإيديولوجيا. لن أدخل في تفاصيل التوتّرات السياسيّة التي ضربت الاجتماع اللبنانيّ منذ انفجار الصراع العربيّ الإسرائيليّ وهجرة الفلسطينيّين إلى لبنان، وتضخّم الإيديولوجيات العربيّة الناصريّة والبعثيّة، وتصارع المصالح الغربيّة الفرنسيّة والبريطانيّة والأمِريكيّة والسوفياتيّة (الروسيّة في ما بعد). يعنيني في هذا المقام أن أتطرّق إلى مسألة الحلّ الثقافيّ الذي اقترحته على اللبنانيّين في كتاباتي السياسيّة الأخيرة.

من بعد أن عاينتُ مبلغ الانسداد الوجوديّ في المعيّة اللبنانيّة، اقترحت على اللبنانيّين أن يجترحوا حلًّا طليعيًّا ينتهج سبيلَين متعاضدَين: السبيل الأوّل يقضي باعتماد العَلمانيّة الهنيّة أفقًا معرفيًّا محايدًا حاضنًا وفكرًا ناظمًا جامعًا، والثاني بتسويغ التنوّع في الوحدة أو الفِدراليّة التكامليّة. يعالج السبيل الأوّل المعيّة اللبنانيّة في عمقها الثقافيّ، في حين أنّ السبيل الثاني يعالجها في متطلّباتها السياسيّة التدبيريّة الإداريّة. أعني بالعَلمانيّة الهنيّة تصوّرًا فكريًّا يعتمد نظريّة الدوائر الثلاث، فيميّز بين الحقل الدِّينيّ والحقل السياسيّ في معترك الفضاء العموميّ اللبنانيّ. تنطوي صفة الهنيّة على إرادة صريحة في تعزيز المثُل الروحيّة في الدائرة الثانية والاغتناء بالتذوّقات اللاهوتيّة في الدائرة الثالثة، ولكن من غير أن تُفرَض المثُل والتذوّقات في نطاق التدبير الإداريّ المحض الذي يضطلع بانتظام الحياة اللبنانيّة في جميع المرافق العامّة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والبيئيّة. فإدارة الكهرباء لا تحتاج إلى مثال الإخلاء الذاتيّ الروحيّ ولا إلى اختبارات الكشف الإلهيّ! أمّا في القرارات الكيانيّة المصيريّة التي تتعلّق بالهويّة اللبنانيّة والاصطفاف اللبنانيّ والسياسة الخارجيّة اللبنانيّة، فيجب على اللبنانيّين أن يخضعوا لشرعة حقوق الإنسان، ولقرارات الأمم المتّحدة، ولتوجّهات جامعة الدول العربيّة.

ليس من المستحيل أن يستخرج المسيحيّون والمسلمون من معين تراثاتهم الدِّينيّة واجتهاداتهم اللاهوتيّة والكلاميّة عناصر التأييد الصريح يسوّغون بها إقبالَهم على انتهاج سبيل العَلمانيّة الهنيّة. يعلم الجميع أنّ المسيحيّة بلغت شوطًا بعيدًا في تسويغ العَلمانيّة، لاسيّما في اجتهادات المجمع الفاتيكانيّ الثاني ومجلس الكنائس العالميّ والمحفل الكنسيّ الأورثوذوكسيّ العامّ، في حين أنّ الإسلام ما فتئ يتردّد في هذا الشأن. والحال أنّ الزمن الحضاريّ المقبل يفرض على العقل الإسلاميّ أن يعيد النظر في مسألة الخلط بين المجال العموميّ والمجال الخصوصيّ. ليس الدِّين الإسلاميّ متعلّقًا بهيئة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة واحدة تضمن له اعتلانه التاريخيّ السليم. فالإيمان الحقّ هو الشعور الذاتيّ الذي يصيب وجدان الإنسان، ويجعله يحيا ويفكّر وينطق ويعمل بحسب إرشادات المثُل الروحيّة العليا التي يختزنها تراثُه الذاتيّ. ومن ثمّ، ليس على المسلم أن يُظهر للعالم أجمع أنّه مسلمٌ بالملبس والمأكل والمشرب والمسلك الإداريّ العامّ. الإسلام بالقلب قبل أن يكون بالمظهر! ومن القلب تنبجس القرارات الإنسانيّة الأخلاقيّة الرفيعة التي تزيّن موقع الإنسان المسلم في مرافق المجال العموميّ.

آن الأوان للإسلام المعاصر أن يختبر السكينة الروحيّة المنعشة والرقّة التعبيريّة المؤانِسة، فيفصل بين الصراعات الإيديولوجيّة التي تصيب الهويّة الجماعيّة في هذا الوطن المسلم أو ذاك، ومصائر الإيمان الذاتيّ والازدهار الروحيّ في وجدان الإنسان المسلم هذا أو ذاك. فكما أنّ المسيحيّين والبوذيّين والهندوس والعَلمانيّين والملحدين لا يلتئمون سياسيًّا في جامعة الدول المسيحيّة أو البوذيّة أو الهندوسيّة أو العَلمانيّة أو الإلحاديّة، كذلك يجب على المسلمين وعلى الأوطان التي يدين معظم أهلها بالإسلام دينَ القلب والوجدان والروح أن يكفّوا عن الالتئام في منتدى الدول الإسلاميّة والجامعة الإسلاميّة والمؤتمر الإسلاميّ.

حين يكفّ الإسلام عن الانخراط في متاهات السياسة العالميّة، ينقلب تيّارًا روحيًّا يحمل في تضاعيف مبانيه ضمّةً من المثُل الروحيّة والتذوّقات الصوفيّة اللاهوتيّة يمكن الناس أجمعين أن يستلهموها ويغتنوا بها ويقتدوا بها.

في هذا السياق، تصبح مشكلة المسلمين في البلدان الغربيّة، على سبيل المثال، مشكلةً اجتماعيّةً اقتصاديّةً تقنيّةً وحسب. فتكفّ عن أن تكون مشكلة المسلمين في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا أو بلجيكا. إنّها مشكلة الاندماج الاجتماعيّ الذي يتطلّب الانخراط الهنيّ في ذهنيّة المجتمعات الغربيّة المستقبِلة وثقافتها السياسيّة الإداريّة المحض. ما من أحد يطلب من مسلمي فرنسا أن يكفّوا عن إسلامهم الروحيّ ويرتدّوا إلى المسيحيّة أو أن يُلحدوا، بل الجميع يطلب منهم أن يكفّوا عن إسلامهم السياسيّ في هيئته القروسطيّة العتيقة، ويعتنقوا الثقافة الفرنسيّة في نطاق شرعة حقوق الإنسان ونطاق الإدارة والمجال العموميّ، أي أن يصبحوا فرنسيّين في المواطنة الثقافيّة الحقوقيّة بمحض الإرادة عينها التي دفعت بهم إلى قبول استضافة المجتمع الفرنسيّ.

ينطبق الأمر عينه على الواقع اللبنانيّ التعدّديّ. حين نشأ الوطن اللبنانيّ، لم يطلب أحدٌ من المسلمين أن يكفّوا عن إسلامهم الروحيّ، بل عن إسلامهم السياسيّ الذي يزيّن لبعضهم أنّ الاجتماع السياسيّ اللبنانيّ لا يستقيم إلّا إذا حُكِم حُكمًا إسلاميًّا محضًا. والحال أنّ المعيّة اللبنانيّة دفعت بكثير من اللبنانيّين المسلمين إلى إعادة التفكير في مقولة الإسلام السياسيّ، وألجأتهم إلى اجتهاد واعد في تسويغ المشاركة السليمة، بيد أنّ الاضطراب العربيّ والإقليميّ أضعف المعيّة الناشئة هذه، وأكره جميع اللبنانيّين على الاعتصام التشنّجيّ بمحاضنهم الطائفيّة. فتناسى الاجتماعُ اللبنانيّ محاسن العَلمانيّة الهنيّة وفضائلها.

هذا في السبيل الأوّل، سبيل العَلمانيّة الهنيّة. أمّا في السبيل الثاني، فإنّي أقترح أن يتّفق اللبنانيّون على اختلافاتهم الثقافيّة المنبثقة من صميم مذاهبهم الدِّينيّة التي أصبحت تعبّر عن هويّاتهم الجماعيّة. فاللبنانيّون المحايدون لا وجود لهم على الإطلاق. فإمّا هم مسيحيّون، وإمّا سنّة، وإمّا شيعة، وإمّا دروز، وإمّا منتفضون على هذه الانتماءات انتفاضًا لا يخوّلهم في الدستور اللبنانيّ أن يعبّروا عن ذواتهم تعبيرًا ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا منعتقًا من مقولات التصنيف الطائفيّ اللبنانيّ. وما الحديث عن الدولة المدنيّة سوى تضليل يهدف إلى استئثار الأكثريّة الدِّموغرافيّة بالسلطة اللبنانيّة عن طريق الانتخاب الأكثريّ. اجتنابًا للتأزّم الطائفيّ المرير، أقترح أن تنشأ في لبنان أربع مناطق مستقلّة إداريًّا، متّحدة فِدراليًّا، تضطلع بشؤونها الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والتنمويّة في مجالس محلّيّة تُنتخب انتخابًا مباشرًا وتُحاسب محاسبةً مباشرةً. حفاظًا على وحدة الكيان اللبنانيّ، تنشأ حكومةٌ فِدراليّة يتمثّل فيها مجالسُ المناطق الأربع، المسيحيّة والسنّيّة والشيعيّة والدرزيّة، تضطلع بالوزارات الاتّحاديّة التعاونيّة الأساسيّة، ألا وهي الخارجيّة والدفاع والماليّة، وتنسّق من غير إكراهٍ وإخضاعٍ شؤونَ الحكومات أو المجالس الإداريّة المحلّيّة في كلّ منطقة من المناطق الأربع.

في يقيني أنّ العَلمانيّة الهنيّة والفِدراليّة التكامليّة هما السبيلان الوحيدان اللذان يحرّران الوطن اللبنانيّ من توتّرات الداخل المهلكة واضطرابات الخارج الضاغطة. ليس على اللبنانيّين أن يتقاتلوا اليوم من أجل بلوغ النضج السياسيّ الذي يؤهّلهم لإدارة تنوّعهم الطائفيّ الفعليّ. وليس عليهم أن يُنكروا إنكارَ الهروب والتضليل أثرَ الواقع الطائفيّ هذا في انحراف البنية اللبنانيّة والإدارة اللبنانيّة والسويّة السياسيّة اللبنانيّة. ربَّ معترض يعترض على هذَين السبيلَين بحجّة صغر البلد، وتشابك الاجتماع اللبنانيّ، وعجز الذهنيّة العربيّة السياسيّة عن الاعتراف بالتعدّديّة الأصليّة التي نشأت عليها المجتمعات الإنسانيّة.

بيد أنّ هذا الاعتراض لا يُبطل واقع الانسداد في الوضعيّة اللبنانيّة الراهنة، ولا يجعل الاقتتال الدائم فضيلةً من فضائل الوجود اللبنانيّ، ولا يجمّل الحلول الوهميّة التضليليّة الأخرى؛ ذلك بأنّ التاريخ اللبنانيّ الحديث والمعاصر أثبت أنّ التنوّع اللبنانيّ جوهرةٌ نادرةٌ شديدةُ الانعطاب لا يجوز على الإطلاق التلاعب بها وتشويهها. فإمّا الحفاظ عليها في صورتها البهيّة، وإمّا إعدامُها إعدامًا قهريًّا. والتاريخ البشريّ حافلٌ بأحوال الإعدام البشعة التي تعرّضت لها المعيّات الإنسانيّة الهشّة.

في السياق عينه هذا، أعتقد أنّ المجتمعات العربيّة ينبغي لها أن تصون الاختبار اللبنانيّ التعدّديّ، إذ إنّ المنظوريّة السياسيّة المسيحيّة في النظام اللبنانيّ تمنح الاجتماع العربيّ فرصةً ذهبيّةً تجعله يحاور الغربَ المسيحيَّ الثقافة من خلال المسيحيّة اللبنانيّة، أي من داخل الاختبار العربيّ الأرحب. أعني بذلك أنّ هذه المسيحيّة تعبّر تعبيرًا مشرقيًّا عربيًّا عن خصوصيّة المسيحيّة الغربيّة اللاهوتيّة التي يحتاج العالم الإسلاميّ إلى مخاطبتها ومحاورتها ومناقشتها بمعزل عن التشنّجاب الصراعيّة والاستعماريّة والانتقاميّة التي تطبع علاقات الإسلام بالغرب بطابعها المأسَويّ؛ فالمسيحيّة اللبنانيّة تحمل في هويّتها التاريخيّة سماتٍ بارزةً من الانتماء إلى الثقافة العربيّة، وخصائصَ أساسيّة من الذاتيّة اللاهوتيّة المسيحيّة العالميّة. إذا أراد المسلمون أن ينجحوا في اختبار اندماجهم في البلدان الأُوروبّيّة، كان عليهم أن يتأمّلوا في إخفاقات المعيّة اللبنانيّة ونجاحاتها، وأن يتّعظوا بالخلاصات التي خرجت بها هذه المعيّة المتعثّرة. وإذا أرادوا أيضًا أن يدركوا عمق المطلب العَلمانيّ الذي تنادي به المجتمعاتُ الغربيّة، كان عليهم أن يتدبّروا الإرباك الوجوديّ الذي نزل بالجماعة المسيحيّة اللبنانيّة حين ألجأها التشنّج الإسلاميّ إلى المطالبة بتعليق الشراكة تعليقًا موقّتًا حتّى تعود كلُّ جماعة إلى ذاتها المضطربة، وتعالج أسباب التشنّج والتصلّب والإخفاق. إذا نجح المسلمون في تدبّر التعدّديّة اللبنانيّة في الانتظام السياسيّ العامّ، أمكنهم أن ينجحوا في تدبّر سبُل الاندماج الهنيّ في المجتمعات الأوُروبّيّة؛ ذلك بأنّ العقل الإسلاميّ اللبنانيّ الذي يأنف من العَلمانيّة الهنيّة في تدبّر الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ اللبنانيّ هو إلى الآن ابنُ العقل الإسلاميّ العالميّ الذي يستنكف من العَلمانيّة الغربيّة الإيجابيّة المعتدلة التي تحثّ المسلمين على الاندماج الثقافيّ في المجتمعات الغربيّة. فالمطلوب إذًا تحوّلٌ ثقافيٌّ عميقٌ في بنية العقل الإسلاميّ يهيّئه للانعتاق من تشنّجاته التاريخيّة، ويضعه في موضع المحاور المستعدّ لابتكار الاجتهادات الحضاريّة السلميّة المغنية الخليقة بإنجاح المعيّة الإنسانيّة في أرجاء المسكونة كلّها.

كلمتي الأخيرة في هذه المسألة، أنّ الإسلام استطاع في القرون الوسطى أن يتناول النموذج الإغريقيّ المعرفيّ (الإبّيستِمه القروسطيّة) السائد في غير خوف أو وجل، ويتفاعل معه تفاعلًا تفسيريًّا مثمرًا. فما الذي يمنعه اليوم من الانسلاك الجريء في النموذج المعرفيّ المعاصر، ولو أنّ عناصر التحدّي والاستفزاز هي على أشدّها في الزمن الراهن؟ فالمعرفيّات المعاصرة غير المعرفيّات القروسطيّة، تستلزم جرأةً عظيمةً على التفاعل، واستعدادًا جبّارًا من أجل التحوّل الذاتيّ. إنّها فرصة الحضارة الإنسانيّة في جميع روافدها. فهل يغتنمها الإسلام ويُلقي بنفسه في تفوّرها الخلّاق؟! آنذاك تستطيع المجتمعات التعدّديّة، والمجتمع اللبنانيّ جزءٌ منها، أن تهب العالم مثالًا جميلًا على المعايشة الواعدة.